بعض مراتب ومراحل الاستنارة الدينية الحديثة فى الإسلام (2 من 2)
رؤية إسلامية
د. أحمد صبحى منصور
ملخص ما سبق نشره:
فى مقدمة الجزء الأول من بحثه القيم عن “بعض مراتب الاستنارة الحديثة فى الإسلام” استعرض د. أحمد صبحى منصور بعض المفاهيم الأساسية اللازمة لليمييز بين مفهومى الدين والتدين، ثم تطرق إلى استعراض مدرسة الاستنارة الدينية، فى مصر وتونس فى القرن العشرين بادئا بشرح الأرضية التاريخية. ثم قدم شرحا لمنهج مدرسة التنوير المصرية مستعرضا منهج الإمام محمد عبده وخلفه الشيخ رشيد رضا مبينا كيف أن الأخير لم يكمل مسيرة الأول ، بل لعله عكسها فى أكثر من موضع.
كذلك استعرض الكاتب منهج الشيخ شلتوت وما بعده. كما استعرا منهج مدرسة التنوير التونسية بريادة الشيخ الطاهر ابن عاشور.
وكما قدم لنا موجزا عن منهج ابن عاشور فى التفسير والحديث، أبان لنا دور الشيخ خضر حسين كحلقة وصل نشطة بين المدرستين المصرية والتونسية.
وفى هذا الجزء الثانى يواصل إنارته وإضافاته التى تضعه فى مقام من يؤرخ لهم بإذن الله، وأكثر.
أثر الطبيعة التونسية وأثر الطبيعة المصرية:
بين ابن عاشور وشلتوت
على أنه لا يمكن إغفال عامل آخر كان له تأثيره على منهج ابن عاشور، وهو الطبيعة التونسية ذاتها التى نراها أكثر وضوحا لدى ابن عاشور منها عند صاحبه خضر حسين. وتتجلى هذه الطبيعة التونسية فى انحيازه لفقة المصلحة أو المصالح المرسلة، وتلك هى القراءة المقاصدية التى أشار إليها دكتور على الشابى عن منهج ابن عاشور فى التفسير.
إننا لا نرى هذا الوضوح فى الانحياز لفقه المصلحة لدى شلتوت، صحيح أنه (شلتوت) كان يتمتع بالمرونة والجرأة على الاجتهاد فى الإطار التقليدي، وصحيح أيضا أنه اضطر لمسايرة النظام الناصرى الاشتراكي، ولكنه ظل فى داخله أزهريا عريقا يكتم غيظه من إصدار عبد الناصر لقانون 103 المشهور لسنة 1961 والذى قضى بتطوير الأزهر أو تأميمه حسبما كان يتناقل الشيوخ وقتها. وعقلية مثل هذه لا تتيح للشيخ شلتوت الانحياز الى فقه المصلحة بنفس الدرجة الى كان عليها ابن عاشور التونسي.
وفى هذا المجال فإنه من الواضح أن شلتوت يقف بين الشيخين التونسيين ابن عاشور وخضر حسين. ومن الواضح أيضا أن العناصر التونسية داخل عقلية ابن عاشور كانت أشد تأثيرا منها عند خضر حسين وان كان حظ العناصر المصرية فى التطور لدى شلتوت معقولة وكافية. وهذا يدخل بنا على الاختلاف الكمى وليس النوعى بين قابلية التطور الفكرى لدى المدرستين المصرية والتونسية، وهى المقارنة التى كانت تتردد فى حديث الإمام محمد عبده فى تونس.
فالملاحظ أن مصر احتاجت الى حملة نابليون لكى تخرج من فكر العصور الوسطى إلى العصر الحديث، ولكن تونس القريبة جدا من قلب أوربا النابض لم تكن محتاجة لحمله عسكرية، لذا كانت مبادرة أحمد باى (1806 – 1859) بالإصلاح الذى بدأ عسكريا ثم امتد الى التعليم فى الزيتونة حين أصدر منشور (1842) كما أقام إصلاحا سياسيا بإصدار قانون أو “عهد الأمان” كأول وثيقة لحقوق الانسان فى البلاد الإسلامية، وقد وفق فيها بين الشرع الإسلامى والقانون الوضعي، وهذه الوثيقة هى التى أدت الى إصدار الدستور التونسى (1859م).
وفى هذا المناخ الإصلاحى المستنير (بذاته ومن داخله) نشأ وترعرع الطاهر ابن عاشور (1879 – 1973 م) ثم جاء لقاؤه وتأثره بالشيخ محمد عبده ليتحدد منهجه بين إصلاح واستنارة داخل الإطار التقليدى وجرأة فى الأخذ بفقه المصالح المرسلة بما يتمشى مع المواءمة بين ظاهر النصوص والانفتاح على الغرب الذى يجاور تونس ويكاد يلامس شواطئها.
اختلافها عن الطبيعة المصرية:
وبينما كانت هذه النظرة المتطورة أصيلة فى الطبيعة التونسية فإننا نجد اختلافا لدى المدرسة المصرية مبعثه الاقتراب الشديد من السعودية وتأثيرها النفطى والاقتصادى على الشيوخ فى الأزهر، وحاجتها الى جعل مصر عمقا استراتيجيا لها فى مواجهة الشيعة داخل وخارج المملكة. وهذا الاقتراب الجغرافى وتلك الحاجة السياسية السعودية أتاحت للنفوذ السعودى والفكر السلفى الانتشار والسيادة على العقلية المصرية، وفى نفس الوقت فإن سهولة الاتصال بالفكر الأوربى وإرساء الفكر الاشتراكى فى العهد الناصرى وخصومة الاشتراكيين للتوجهات الساداتية جعلت اليسار المصرى يقف خصما للتيار السلفى وطموحاته السياسية. وعلى صعيد المنهج الفكرى أدى ذلك الصراع السلفى اليسارى الى نتيجتين سيئتين الأولى تهميش اتجاهات فكرية أخرى مثل الصوفية والقرآنيين، و ما يعنيه ذلك من تأكيد الاستقطاب بين معسكرين فقط، الأصولى والعلماني، واجهاض محاولات الفكر القرآنى ومنهجيته فى الاصلاح والتنوير. والنتيجة الثانية هى اعتناق اليسار الإسلامى لفقه المصلحة ردا على تطرف الفكر السلفى المصرى فى الجمود والرجعية.
بعض ملامح الاستنارة الدينية بين المدرستين المصرية والتونسية
1) بعد التعرف على الأرضية التاريخية والمنهج العلمى لدى المدرستين نأتى لبعض تفصيلات الاستنارة فيهما. ولايتسع المجال هنا إلا للتعرض السريع لبعض عينات تتحدث عن الوسطية والاعتدال ولمحات أخرى عن نظرة المدرستين لقضايا المرأة وأهل الكتاب.
2) والمعروف لدى الفقهاء المتزمتين أن المرأة يجب تعليبها داخل الحجاب والنقاب، وإيداعها داخل البيت، ويتسلمها الزوج من أهلها “بضاعة مزجاة” يستعملها حيث يشاء داخل بيته، وبين بيت الأهل وبيت الزوج، ليس لها الخروج إلا مرتين، عند الزفاف وعند الموت!!
أما أهل الكتاب، فإذا كانوا معنا فهم أهل ذمة. ومهما يقال فى حقوقهم فهم فى نهاية الأمر مواطنون من الدرجة الثانية أو العاشرة. أما إذا كانوا خارج الحدود فهم غالبا – حربيون، ليس لهم إلا السيف أو الدخول فى الإسلام أو دفع الجزية إذا كان المسلمون أقوياء.
3) وتشريع القرآن يخالف ذلك كله، ولكن فهم تشريع القرآن يعنى أن تتدبر القرآن وتقرأه بمنهج قرآني، أى أن تقرأ القرآن بمفاهيم القرآن ومصطلحات القرآن ولغة القرآن وليس بمفاهيم التراث ومصطلحاته ولغته وأيضا من خلال فهم منهج القرآن فى التشريع.. وذلك موضوع شرحه يطول.
4) ومقدار الاستنارة لدى شيوخ المدرستين مرهون بمدى اقترابهم من ذلك المنهج القرآنى وبمقدار الابتعاد عن روايات التراث. فكل التعصب والتطرف ومفاهيم العصور الوسطى تجدها فى التراث، فهو أصدق ما يعبر عن تلك العصور، بينما يؤكد المنهج القرآنى صلاحية التشريع القرآنى لكل زمان ومكان.
من ملامح الوسطية والتسامح عند محمد عبده:
1) من الصعب تتبع هذا الباب فى فكر الإمام أو حتى فى مواقفه، ولكن نكتفى بالإشارة الى بعض عينات من تفسير المنار ومن كتاب الإسلام بين العلم والمدنية.
2) فى الكتاب الأخير يجعل الأصل الثامن من أصول الإسلام “الجمع بين مصالح الدنيا والآخرة” وهو عنوان يوحى بالقصد والاعتدال والتوازان بين الدنيا والآخرة، وبين الدين والدنيا، ولكنه جاء بكلام عجيب يرعب الفقيه السلفى فى عصرنا، فعن “الصحة ” يقول “الحياة فى الإسلام مـقدمة على الدين” وهى عبارة خطيرة لا يدرك خطورتها إلا من يعرف سادية الفقه السلفى وحبه الشديد لسفك الدماء فى مقابل الحرص الشديد فى تشريع القرآن على الحياه وحرمة النفس الزكية. ولكن يعنينا هنا أن محمد عبده يخلط بذكاء بين الوسطية والتسامح، ونراه يتعرض للرخص والتيسير فى الصوم والوضوء والغسل والصلاة والزينة والطيبات وفى الاقتصاد، وفى نهى القرآن عن الغلو فى الدين، ويقول “فترى أن الإسلام لم يبخس الحواس حقها كما أنه هيأ الروح لبلوغ كمالها” ويرى أهمية الجمع بين التمتع بالحياة الدنيا والرغبة فى نعيم الآخرة، ويقرن ذلك بالعمل الصالح الذى لا يجعله مقتصرا على العبادة بل يشمل العلم والتقدم والرفعة (الإسلام بين العلم والمدنية 119 وما بعدها).
3) ومن تفسير الأمام فى المنار نأخذ عينات آخري.
فى تعليقه على قوله تعالى “وكذلك جعلناكم أمة وسطا” يرى محمد عبده أن الوسط هو العدل والخيار، لأن الزيادة على المطلوب فى الأمر إفراط والنقص عنه تفريط وتقصير، وكل من الإفراط والتفريط ميل عن الاستقامة، فهو شر ومذموم ثم يقول أن الإسلام قد جمع بين الحقين، حق الروح وحق الجسد، فكأنه قال: جعلناكم أمة وسطا تعرفون الحقين وتبلغون الكمالين; لتكونوا شهداء بالحق على الناس، الذين اهتموا بالجسم وفرطوا فى الدين، والروحانيين الذين أفرطوا وكانوا من الغالين. (المنار: 4/2: 5) ومن المتوقع أن ينفعل الشيخ الطاهر ابن عاشور بهذا الوجه السمح لشيخه الإمام محمد عبده.
من ملامح الوسطية والتسامح عند الشيخ الطاهر ابن عاشور:
1) فى كتابه “أصول النظام الاجتماعى فى الإسلام” لابن عاشور تعرض للوسطية أو الاعتدال وللسماحة. ونراه فى موضوع الوسطية والاعتدال يبنى ويفرع ويفصل فى رأى الامام محمد عبده دون أن يشير إليه صراحة مكتفيا بقوله “لقد تصفحت كلام فلاسفتنا وأساتذتهم.. فكانت خلاصة أبحاثهم.. أن قوام الصفات الفاضلة والفطرة السليمة هو الاعتدال فى الامور وأن النزوع إلى طرفى الغلو والتقصير أو الافراط والتفريط إنما ينشأ عن إنحراف فى الفطرة..”
وقد يقال أن الشيخ الطاهر قد كتب هذا الكلام وفى ذهنه عبارة أرسطو المشهورة أن الفضيلة وسط بين رذيلتين (فالشجاعة وسط بين رذيلتى التهور والجبن، والكرم وسط بين الإسراف والشح) ولكن الواضح فى سياق حديث ابن عاشور أنه يقترب أكثر من شيخه محمد عبده، حين يرى أن الاعتدال هو الكمال وهو إعطاء كل شيء حقه من غير زيادة ولا نقص، وهو ينشأ عن معرفة حقائق الأشياء، أى الحكمة المشار إليها فى القرآن. ويقرن الإعتدال بالتوسط، بعد أن نبهنا إلى صلة الإعتدال بالعدل، ويجعل التوسط من أوصاف الإسلام الثابتة مستدلا بقوله تعالى “وكذلك جعلناكم أمة وسطا”
2) إلا أن الشيخ الطاهر تفنن وأبدع فى شرح التوسط والإعتدال لغويا ونفسيا واجتماعيا.
يقول (كأنه يقوم بتشريح المتطرفين فى عصرنا نفسيا واجتماعيا) أن الغلو فى الغالب يبتكره أصحاب الطموح إلى السيادة أو القيادة، وذلك بالتظاهر بالمقدرة ولابهار الأتباع والأعوان لينقادوا لهم. وهذا الغلو أو الإفراط (أو التطرف) يقابله تفريط وتقصير، وهو من شيم الأتباع المنقادين، أهل النفوس الضئيلة.
وبعد هذا التفسير السيكولوجى النفسى يتوقف الشيخ مع معنى الوسط، ولا يكتفى بما يقال عن الوسط بأنه العدل ولكنه يرجع الى اشتقاقات اللغة ودروبها لنعرف أن معنى الوسط هو الشيء المتوسط بين شيئين، ولأنه اسم قبل أن يكون وصفا فقد استوى فى الوصف به الواحد والجمع والمذكر والمؤنث لأنه بمنزلة المصدر وأعرق منه فى الجمود، ولذلك جرى وصفه فى آيه ” وكذلك جعلناكم أمة وسطا” للأمة بدون علامة تأنيث، واستشهد بشعر زهير القائل:
هم وسط يرضى الأنام بحكمهم إذا نزلت إحدى الليالى بمعظم.
معنى “وسط” هنا عدول حكماء. وذلك معنى قوله تعالى “قال أوسطهم” أى أعلمهم وأعدلهم. وبعد هذا الفيض اللغوى الأدبى يدخل ابن عاشور فى ذم التطرف مستشهدا بقوله تعالى “قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين” فالتكلف هو تجاوز الحد كما تشعر به مادة التفعل.
3) وكما مزج محمد عبده بين التوسط والتسامح، نرى ابن عاشور يقرر أن السماحة وسط بين الشدة والتساهل، وكعادته فى التأصيل اللغوى يقرر أن لفظ السماحة أرشق لفظ يدل على هذا المعني، ويؤكد هذا الاتجاه بمرويات الأحاديث. وبنفس المرويات بربط السماحة بالتيسير المعتدل أو بيسر الإسلام، ويؤكد ذلك بآيات القرآن “يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر” ويقرر أن استقراء الشريعة يدل على أن التيسير أصل فى تشريع الإسلام، وقال إن السماحة أكمل وصف لاطمئنان النفس وأعون على قبول الهدى والإرشاد، ثم أن لها أثرا فى سرعة انتشار الشريعة وطول دوامها، كما أن الشدة فى بعض الأديان تجعل الناس ينصرفون عنها أو يفرطون فى تأدية مناسكها، فاذا أرغمهم سلطان جائر على تأدية تلك المناسك فان ذلك يصل بهم إلى الشقاء ويجعلهم يتصفون بأسوأ الخصال، ثم يعود لتأكيد صلة السماحة بأحكام الإسلام مستشهدا بقوله تعالى “فمن اضطر غير باع ولا عاد فلا إثم عليه” وبحديث “إن الله يحب أن تؤتى رخصه..” والقاعدة الفقهية القائلة “المشقة تجلب التيسر”
4) ثم يعود ابن عاشور فى نفس الكتاب للحديث عن “التسامح” بعد أن تحدث عن “السماحة “. وبملكته اللغوية الفريدة يضع مفهوم التسامح أى إبداء السماحة القوية لأن صيغة التفاعل هنا ليس لها جانبان، فيتعين أن يكون المراد بها المبالغة فى الفعل مثل قولك “عافاك الله”، وقد فضل مصطلح “التسامح ” على مصطلح “التساهل” الذى يؤذن بقلة تمسك المسلم بدينه، ويرى أن مصطلح التسامح يعنى التسامح مع المخالفين للمسلين فى الدين، ويناقش الاتهام الموجه للمسلمين بعدم التسامح ويرى أنه رد فعل لتعصب الآخرين واستغلالهم لتسامح المسلمين إلا أنه لا يتوقف كثيرا مع هذا الرأى ويأخذ فى تحليل فضيلة التسامح من وجهة نظره، فالمتدين الذى يحب دينه يجعله ذلك الحب متعصبا لدينه ضد الأديان الأخرى وأصحابها انطلاقا من كون الدين – فى تاريخ البشر – جامعة مانعة، واستشهد بما كان يفعله الغالب من فرض دينه على المغلوب وبإيذاء قريش للنبى محمد (ص) وأصحابه. وأما الإسلام فقد جعل الدين جامعة عظمى لأصحابه، إلا إنه لم يجعل تلك الجامعة سببا للاعتداء على الآخرين، إذ جعل التسامح أصلا من أصوله، ويؤكد أن التسامح الإسلامى وليد إصلاح التفكير ومكارم الأخلاق، وهما من أصول النظام الاجتماعى فى الإسلام. فالفكر الصحيح الصالح يؤدى إلى العقيدة الحقة الموثوق فيها والتى لا يخشى عليها من العقائد الأخرى ولا تحتاج إلى دفاع أو تأويل أو تعصب فى هذا السبيل، بعكس العقائد الهشة والزائفة التى لا تقوى أمام الحجة، ولا تستطيع أن تصمد إلا متكأة على تعصب أصحابها ودفاعهم عنها. وفى نفس الوقت فإن كرم الأخلاق يؤدى بصاحبه إلى سعة الصدر فى التعامل مع المخالفين. واستشهد بآيات القرآن التى تعزز من ثقة المؤمن فى دينه، وتأمر بحسن التعامل مع المخالفين فى الرأي، وانتهى من ذلك الى أن التسامح أشهر مميزات الإسلام وأنه من النعم التى أنعم الله تعالى بها على أعدائه وبها كان الإسلام رحمة للعالمين.
5) ويصل الشيخ ابن عاشور فى تحليله الى أن للتسامح الإسلامى أسسا راسخة، ترتكز على قاعدة فكرية نفسية هى أن الاختلاف الفكرى طبيعة بشرية وسنة الله فى خلقه، وينبغى التعامل معه على هذا الأساس. وإذا كان الإسلام قد دعا إلى الوحدة الدينية، إلا إنه لم يدع أتباعه إلى مناوأة غير المسلمين، بل دعا إلى حسن التعامل معهم. ولذلك فإن التسامح الإسلامى يظهر فى مواطن يعتاد التعصب أن يشتد فيها. فالعادة أن التعصب الدينى يشتعل فى المعاملات الناشئة عن التخالف الدينى مثل المشاكسات فى الهند عندنا يذبح المسلمون البقرة التى يعبدها الهندوس، كما ينشأ فى المعاملات الدنيوية، وما تؤدى إليه منه مشاحنات وتنافس سرعان ما تتحول بالتعصب الدينى إلى أزمات وكوارث.
وعن المظهر الأول الذى يتحول فى الإسلام الى تسامح، استشهد الشيخ بقوله تعالى “ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم..” وبحديث “لا تخيرونى على موسي..” وعن المظهر الثانى استشهد بقوله تعالى “ووصينا الانسان بوالديه حسنا، وإن جاهداك على أن تشرك بى ماليس لك به علم فلا تطعهما” واستشهد بإباحة المصاهرة مع أهل الكتاب، ومعاملة الصحبة والبر والقسط مع الذين لم يقاتلوا المسلمين فى دينهم ولم يخرجوهم من ديارهم.
وفى النهاية عزز رأيه بشواهد تاريخية من تسامح المسلمين مع غير المسلمين من نصاري، مجوس وأقباط وصائبة، وكيف أسهم هؤلاء فى الحركة العلمية وكيف شاركهم المسلمون فى أعيادهم، وهى نماذج انفردت بها الحضارة الإسلامية. (أصول النظام الاجتماعى فى الإسلام: 23 وما بعدها، 226 وما بعدها).
ملامح الوسطية والتسامح عند الشيخ شلتوت
1) يسير الشيخ شلتوت فى كتابه “من توجيهات الإسلام” على نفس النسق الذى سار عليه شيخه الإمام محمد عبده فى كتابه “الإسلام بين العلم والمدنية” فالشيخ شلتوت تحت عنوان “يسر الدين وسماحته” يتحدث عن اعتدال الإسلام “فى مصادرة الحقة” وابتعاده عن الإفراط والتفريط. ثم يؤكد من خلال الآيات القرآنية على الأساس العام للتشريعات، وهو اليسر لا العسر ورفع الحرج وعدم تكليف النفس إلا وسعها، ثم يسير مع التشريعات الجزئية فى الاعتقاد والعبادات وما فيها من رخص (جمع رخصة)، ورفع للمشقة فى الصوم والطهارة والصلاة.
2) ثم يعود الشيخ إلى التوسع فى الموضوع تحت عنوان “الروحية المهذبة: لا تبتل ولا تكالب على الدنيا” ليتحدث عن منهج الإسلام فى تكوين الفرد، وهو نفس الموضوع الذى انشغل به الطاهر ابن عاشور فى كتابه “أصول النظام الاجتماعى فى الإسلام” وتقترب المسافة بين الشيخين حين يتحدث شلتوت عن تكوين الفرد المسلم على أساسين: تحديد علاقته بالدنيا وإحياء شعوره بالوحدة الإيمانية والوحدة الوطنية الخاصة والوحدة الإنسانية العامة. وعن تحديد علاقة المسلم بالدنيا يناقش الشيخ شلتوت أعداء الدنيا من الزهاد، ليؤكد لهم أن الرهبانية تعطيل لأسرار الله تعالى فى الإنسان والكون، كما يناقش المتكالبين على الدنيا بأدلة قرآنية وتاريخية واجتماعية. ثم يشير إلى عناية الإسلام بتهذيب الروح بالفكر والذكر والمزاوجة بين حظوظ الجسم والروح، ثم يهاجم الذين يحرمون الطيبات كما يهاجم الذين يخرجون عن الاعتدال فى التمتع بزينه الحياة (من توجيهات الإسلام: 21، 116ـ 135).
3) وعكست فتاوى الشيخ شلتوت جانبا من هذا التوسط والاعتدال والتيسير، فقد أكد فى الفتاوى أن مصافحة المرأة لا تنقض الوضوء تأسيسا على أن معنى الملامسة هو المخالطة الجنسية وعلى أن الآية تختم بالتيسير وعدم المشقة والحرج. كما أفتى بصحة الصلاة بالبرنيطة أو القبعة التى يرتديها الغربيون. وأكد عدم تحريم سوى الأربعة أطعمة المذكورة فى القرآن (الميتة،الدم، لحم الخنزير، ما أهـل بغير الله به) ورأى أن الأحاديث التى اعتمد عليها الفقهاء فى تحريم أشياء آخرى ليس دليلا كافيا للتحريم، وقد تفيد الكراهة، ولكن لا تفيد التحريم. وعن صبغ الشعر وما أثير عن تحريمه، رأى الشيخ شلتوت أنه من الشئون البشرية التى لا يحتمها أو يمنعها الدين، وأنهى بذلك الاشتباكات والتضارب بين الأحادث وتحت عنوان “الشريعة تـنـظـم الغريزة” ناقش حكم الشرع فى الغناء والموسيقي، وبعد استعراض تاريخى واجتماعى وفقهي، انتهى إلى أن الأصل هو الحلال فى سماع الموسيقي، وأن التحريم فيه عارض أى إذا اسـتعين به على محرم، ثم ختم حديثه بالتحذير من الإفتاء الجزافى فى التحليل والتحريم.
وبنفس المنهج سار الشيخ مع ختان الأنثي، فأشار إلى تاريخه والصراع الفقهى بشأنه وأفتى فى النهاية بأن الختان لا يخضع لنص منقول وإنما يخضع لقاعدة شرعية عامة، وهى أن إيلام الحى لا يجوز شرعا إلا لمصالح تعود عليه وتربو على الألم الذى يلحقه، وعليه فهو يرى أن ختان الأنثى ليس هناك ما يدعو اليه أو يحتمه لا شرعا ولا خلقا ولا طـبا. وحتى ندرك أهمية هذه الفتوى منذ نصف قرن تقريبا، علينا أن نتذكر فتوى سامة أعلنها شيخ الأزهر السابق جاد الحق وهى إعلان الحرب المسلحة على كل من يمنع ختان الأنثي، وذلك إثر الجدال الذى احتدم فى مصر منذ سنوات حول مشروعية الختان. (راجع الفتاوى للشيخ شلتوت: 78 -، 357،82 -، 379 -، 304-، 306 -).
قضايا المرأة:
نصيب المرأة من الفقة السلفى نفسه يزيد على النصف، أى يزيد على نسبتها فى المجتمع. وهذا يعكس لديهم نوعا من الاختلال الفكرى لا محل لمناقشة مظاهره وأسبابه الان، ولكنها إشارة تؤكد الحجم الهائل لقضايا المرأة واضطرارنا إلى الاكتفاء بعينات منها فى فقه شيوخ الاستنارة بين مصر وتونس.
محمدعبده وقضية المساواة بين المرأة والرجل:
فى التعليق على قوله تعالى “ولهن مثل الذى عليهن بالمعروف”
1) قال الإمام محمد عبده أنها قاعدة كلية ناطقة بأن المرأة مساوية للرجل فى جميع الحقوق إلا أمرا واحدا عبر عنه بقوله “وللرجال عليهن درجة” وقال إن المراد أن الحقوق بينهما متبادلة وأنهما أكفاء، فهما متماثلان فى الحقوق والأعمال كما أنهما متماثلان فى الذات والإحساس والشعور والعقل، أى أن كلا منهما بشر تام له عقل يتفكر فى مـصـالـحـة وقلب يحب ما يلائمه، فليس من العدل أن يتحكم أحد الصنفين بالآخر ويتخذه عبدأ، ولاسيما بعد عقد الزوجية.. وقال محمد عبده: هذه الدرجة التى رفع النساء إليها لم يرفعهن إليها دين سابق، بل لم تصل إليها أمة من الأمم قبل الإسلام وبعده. وهذه الأمم الأوربية التى حفزتها حضارتها على المبالغة فى تكريم النساء واحترامهن وتعليمهن، لا تزال دون هذه الدرجة التى رفع الإسلام النساء اليها. ولا تزال قوانين بعضها تمنع المرأة من حق التصرف فى مالها بدون إذن زوجها، ومع ذلك فإن أولئك الافرنج يفخرون علينا فى إعلان شأن النساء..
2) ويؤكد محمد عبده على المساواة أيضا فى تعليقه على قوله تعالى “فاستجاب لهم ربهم أنى لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أثنى بعضكم من بعض” ويرى أنه لا فارق بين المرأة والرجل فى البشرية ولا تفاضل بينهما إلا بالأعمال وكرر نفس اللفتة عن سبق الإسلام للأوروبيين وأشار الإمام إلى أن الله تعالى لم يكتف بربط الجزاء بالعمل حتى أوضح أن العمل هو الذى يستحقون به ماطلبوا من تكفير السيئات ودخول الجنة فقال “فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم…” (المنار: 250،4،297،2).
قضية المساواة عند الشيخ ابن عاشور
1) إلا أن الشيخ ابن عاشور قد أخذ الخيط من شيخه محمد عبده ليؤكد المساواة بطريقته اللغوية المتفردة، إذ فطن من الآية الكريمة إلى أن صيغ التذكير تشمل النساء، فبعد أن ذكر أنه لا يضيع عمل عامل منهم من ذكر أو انثى جاء بتوجيه الخطاب للجميع بقوله “فالذين هاجروا ” فمع أنه الذين يقصد بها الذكور إلا أن الخطاب هنا يشمل النساء، وذلك أكبر دليل على المساواة.
2) والواقع أن المنهج القرآنى هنا يعطى الكثير مما يؤكد المساواة بين الرجال والنساء فى التشريع وفى الطبيعة البشرية. فكلمة “زوج” فى القرآن يطلقها القرآن على الرجل والمرأة، والسياق هو الذى يحدد المقصود بل أن كلمة زوجة لم تأت مطلقا فى القرآن. كذلك كلمة “أباؤكم ” فى أية الميراث وغيرها تفيد الرجل والمرأة معا، ومثلها الوالدين والإحسان إليها، تفيد الاثنين معا، وعلى سبيل المساواة فالمرأة أب ووالد، بالمساواة مع الرجل الأب والوالد.
كما أن المنهج القرآنى ينبذ من البداية تلك الروايات (الصحيحة) التى تجعل المرأة ناقصة عقل ودين وأنها تكفر العشير، وأنها خلقت من ضلع أعوج ويظل على عوجه حتى لو كسرته، وأنها فى الشؤم كالدار والفرش وكلها فى البخاري، وتعبر عن ثقافة العصور الوسطى وتعصبها للرجل ضد المرأة
3) ونعود للشيخ ابن عاشور وهو يقيم بحثا رائعا عن المساواة من حيث المعنى اللغوي، وتقيدها فى الشريعة وفى الطبيعة البشرية، وكيف تظهر فى إطار الأخوة الإسلامية وفى تلقى الشريعة والتكليف وكيف تظهر فى تساوى الخلقة البشرية إلا إذا جد مانع، وموانع المساواة عوارض تقتضى إلغاء حكم المساواة لظهور مصلحة راجحة فى ذلك الإلغاء، وهذه العوارض تنبه إلى أن إجراء المساواة ليس فى صالح العدالة، وقد تكون هذه العوارض دائمة وقد تكون مؤقتة، وجعل من العوارض عدم مساواة غير المسلم من أهل الذمة للمسلم فى بعض الحقوق مثل ولاية المناصب الدينية وفى إرث قريبه المسلم، وفى القصاص له من المسلم وفى قول الشهادة، وعدم مساواة العبد بالحر فى الحدود.. وقسم العوارض المانعة فى المساواة إلى أقسام، موانع جبلية أى طبيعية وشرعية واجتماعية وسياسية.
ومن الموانع الجبلية الطبيعية منع مساواة المرأة للرجل فيما لا تستطيع أن تساويه فيه بموجب الخلقة مثل إمارة الجيش والخلافة عند جميع المسلمين، ومثل القضاء والإمامة وقتال العدو عند جمهور علماء المسلمين، ومثل منع مساواة الرجل للمرأة فى حق كفالة الأبناء الصغار وفى حق النفقة لكون الرجل هو المكتسب للعائلة.. وهذه الموانع قد تتعلق بالأصناف تعلقا ذاتيا كضعف الأنوثة عن تحمل بعض الأعمال الشاقة (أصول النظام الاجتماعى فى الإسلام: 97 -، 143 -)
قضية زينة المرأة بين محمد عبده وابن عاشور:
1) يرى الدكتور على الشابى أن زينه المرأة المشكوفة عند الشيخ ابن عاشور زينتان، زينه خلـقية وهى الوجه والكفان أو نصف الذراع والقدمان والشعر وزينه مصطنعة كالحلى والكحل والخضاب واللباس الفاخر، أى الزينة التى لا تؤدى إلى التبرج.
أما محمود شمام فقد أورد بعض آراء الفقهاء السلفيين فى زينة المرأة، ومنعهم من ارتداء المرأة للشعر المستعار اعتمادا على التفسير المشهور لقوله تعالى “فليغيرن خلق الله” وعلى حديث لعن الواشمات والمستوشمات أو المتوسمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن، المغيرات خلق الله”
ثم جاء بآراء الشيخ الطاهر ابن عاشور فى أن المراد بقوله تعالى “ولآمرنهم فليغيرين خلق الله”، التعريض بما كانت تفعله أهل الجاهلية، وليس من تغيير خلق الله التصرف فى المخلوقات بما أذن الله فيه ولا ما يدخل فى معنى الحسن مثل حلق الشعر وتقليم الأظافر وثقب آذان النساء لوضع الأقراط والحلي. وبالنسبة للأحاديث التى تلعن الواصلات للشعر والمتنمصات للحسن، فالغرض منه النهى عن سمات كانت العواهر يتخذنها فى ذلك العهد، أو من سمات المشركات وقتها، وإلا لو فرضنا هذا منهيا عنه لما بلغ النهى الى حد لعن فاعلات ذلك وهن مسلمات محصنات، واستنتج محمود شمام من ذلك أن الشيخ ابن عاشور أفتى بجواز لبس الباروكه وماشابهها وتزجيج الحواجب وتكحيل العيون، لأن هذه الأمور يقصد بها الآن الزينة وليس تغيير خلق الله ولا تبديله. وبرأيه أن المشكلة بذلك قد تم حلها. ومعلوم أن المشكلة هنا هى تفسير سلفي، وأحاديث منسوبة للنبي، وقد تم إبطال مفعولهما مع الحفاظ عليهما لتنفجر كقنبلة موقوتة فى بلاد أخرى غير تونس (راجع: سلسلة أفاق إسلامية رقم (9): 45، 77 – 80).
2) والواقع أن الإمام محمد عبده كان أقرب إلى المنهج القرآنى هنا من تلميذه ابن عاشور، ففى تعليقه على مقالة الشيطان لله تعالى عن بنى آدم “ولآمرنهم فليغيرن خلق الله” قال: إن المراد بتغيير خلق الله هو تغيير دينه، أى تغيير الفطرة الإنسانية، فالإنسان قد فطره الله تعالى على طلب الحق والإستدلال بما يظهر له من الدليل على أنه الحق والخير (المنار: 35،5).
والواقع أن الإمام محمد عبده تجاهل هنا الإشارة لحديث لعن الواصلات والمتفلجات.. والعجيب أن تلميذه رشيد رضا سار على منواله، وإن كان ما نقله عن الإمام مضطربا إلى حد ما.
3) والمنهج القرآنى كفيل بتوضيح القضية فى بساطة شديدة، فلكى نفهم المعنى القرآنى لكلمة “ولآمرنهم فليغيرن خلق الله” يرجع الى قوله تعالى “فأقم وجهك للدين حنيفا، فطرة الله التى فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم” الروم 30، فالحنيفية أو إقامة الدين لله تعالى أو إخلاص القلب والوجه لله تعالي، كل ذلك هو الفطرة التى فطر الله تعالى الناس عليها، ولا يمكن تبديل هذه الفطرة لأنه لا تبديل لخلق الله. وذلك لأن التبديل يعنى إحلال شيء مناقض لشيء آخر، كقوله تعالى “يوم تـبدل الأرض غير الأرض، والسموات” إبراهيم 48، وكقوله تعالى “ثم بدل حسنا بعد سوء” النمل 11، “ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة” الأعراف 95، “وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا” النور 55.
وعليه فلا يمكن تبديل فطرة الله فى خلق الله، بأن يتحول اخلاص العقيدة لله إلى شيء آخر هو النقيض، مثل إنكار الألوهيه لله تعالى أو إنكار وجوده.. وحتى فرعون إمام الكفرة حين إدركه الغرق أسرع يعلن إسلامه وأنه لا إله إلا الله. والشيطان لا يستطيع ” تبديل ” الفطرة إلى كفر مطلق، ولكن يستطيع “تغيير الفطرة” أو “تغيير الخلق” إلى جعل الألوهية شركة بين الله تعالى وآلهه أخرى مزعومه، ولذلك قال الشيطان “ولآمرنهم فليغيرن خلق الله” أى تغيير الفطرة من التوحيد الخالص أو الحنفية الخالصة إلى الشرك والكفر. وبالمناسبة فإن الكفر فى مصطلحات القرآن ومفاهيمه يعنى تغطيه النظرة السليمة بالاعتقاد فى آلهة أخرى مع الله لأن كفر بمعنى غطي. ولذلك يقترن لفظا الكفر والشرك فى آيات القرآن ويحتوى الكفر على إيمان بالله تعالي، ولكنه إيمان ناقص، حيث يتضمن تقديسا لله تعالى ولغيره.
وماقلناه باختصار فى هذا الموضوع يجعل نسق الآية بعيدا عن مفهوم التغيير بالباروكة أو بالزينة، ويؤكد أن منهج التراث هو اعطاء تفسيرات متأثرة بعصرها وأصحابها، ثم جعلها تفسيرات مأثورة، وتأكيد قدسيتها ومصداقيتها بأحاديث مفتراة لم يعرفها عصر النبى عليه السلام.
قضية تعدد الزوجات بين محمد عبده وابن عاشور:
1 – يرى محمد عبده فى المنار أن تعدد الزوجات جاء فى سياق الكلام عن اليتامي، وعند الخوف من عدم العدل فلابد من الالتزام بواحدة فقط، وقال إن الخوف من العدل يصدق بالظن أو بالشك فيه بل يصدق بتوهمه أيضا. ويؤكد الإمام على أن إباحة تعدد الزوجات فى الإسلام أمر مضيق فيه أشد التضييق كأنه ضرورة من الضرورات التى تباح لمحتاجها بشرط الثقة بإقامة العدل، وبعد هذه الفتوى الفقهية يتحدث محمد عبده كمصلح اجتماعى فيقول إنه لا يمكن أن تصلح أمة من الأمم فشا فيها تعدد الزوجات لأن البيت الذى فيه زوجتان لزوج واحد لاتستقيم له حال ولا يقوم له نظام، بل يتعاون الرجل مع زوجاته على إفساد البيت، كأن كل واحد منهم عدو للآخر ثم يجيء الأولاد بعضهم لبعض عدو، فمفسدة تعدد الزوجات تنتقل من الأفراد الى البيوت ثم إلى الأمة وخلص الإمام إلى أن اشتراط العدل بين الزوجات، وهو شرط صعب تحقيقه يعنى النهى عن التعدد (المنار 4/ 285- 287).
2 – وقد لاحظ الدكتور على الشامى تأثر الشيخ الطاهر أن عاشور برأى محمد عبده فى تضييق التعدد إلى درجة المنع، ونقل عن “التحرير والتنوير ” وصف واقع المجتمعات الإسلامية الذى عرف شيوع التعدد، كما نقل عنه صعوبة العدل وما يترتب على ذلك من اختلال نظام العائلة وعقوق الزوجات والأبناء وذلك ما أسهب فيه الإمام محمد عبده فى المنار.
إلا أن الجديد والجريء الذى جاء به ابن عاشور هو الإشارة إلى أن لولى الأمر أن يمنع المباح إذا خيف وقوع الضرر والفساد، ولكن الدكتور على الشابى يرى أن هذه الجرأة مستوحاة من حديث محمد عبده الاجتماعى عن اختلال المجتمع إذا فشا فيه تعدد الزوجات، مما يجعل من مسئولية ولى الأمر درء المفاسد، وذلك ما أكده بالتفصيل محمود شمام (سلسلة آفاق إسلامية (9) 41 -، 80)
قضية ضرب المرأة بين محمد عبده وابن عاشور:
1) فى تعليقه على قوله تعالى “واللاتى تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن فى المضاجع واضربوهن، فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا إن الله كان عليا كبيرا” النساء: 34 يرى الإمام محمد عبده إن مشروعية ضرب النساء ليست بالأمر المستنكر فى العقل أو فى الفطرة بحيث يحتاج إلى التأويل، فهو أمر يحتاج إليه فى حال فساد البيئة وغلبة الاخلاق الفاسدة، وإنما يباح للرجل إذا رأى أن رجوع المرأة عن نشوزها يتوقف عليه. أما إذا صلحت البيئة وصار النساء يعقلن النصيحة ويستجبن للوعظ أو يزدجرن بالهجر فيجب الاستغناء عن الضرب فلكل حال حكم يناسبها فى الشرع، ونحن مأمورون على كل حال بالرفق بالنساء واجتناب ظلمهن وإمساكهن بمعروف أو تسريحهن بإحسان وإذا أطاعت المرأة بواحدة من هذه الخصال التأديبيه فلا تبغوا بتجاوزها إلى غيرها، أما القانتات المطيعات فلا سبيل عليهن حتى فى الوعظ والنصح – وقوله سبحانة وتعالي: “إن الله كان عليا كبيرا” يعنى أن سلطانه عليكم فوق سلطانكم على نسائكم، فإذا بغيتم عليهن، عاقبكم. وجاء هذا النهى عن البغى حتى لا يحس الرجل فى نفسه بالاستعلاء على زوجته، فذكره الله تعالى بعلوه وكبريائه ليتعظ ويخشى ويتقى الله فيها وفى النهاية يقول الإمام: واعلموا أن الرجال الذين يحاولون بظلم النساء أن يكونوا سادة فى بيوتهم، إنما يلدون عبيدا لغيرهم، يعنى أن أولادهم يتربون على ذل الظلم فيكونون كالعبيد الأذلاء لمن يحتاجون إلى المعيشة معهم. (المنار 5، 62 – 63).
أما رأى الشيخ ابن عاشور فقد حلله الدكتور على الشابى فقال: إنه فسر الأية تفسيرا كشف عن منزع اجتهادى عز نظيره، إذ اتفق مع رأى عطاء فى أن ضرب الزوج امرأته أمر أباحه (أى لا يفيد الوجوب) واعتبره يقضى بعدم ضرب الزوج امرأته، واعتبر الضمير فى قوله تعالي: “تخافون ” متجها أيضا إلى ولاة الأمور لأن تطبيق الأحكام من اختصاصهم، وقد وضع الشيخ هذه المسألة فى إطارها الزمنى وفى سياقها الاجتماعي، إذ كان أهل البدو فى العصور الوسطى لايعدون ضرب المرأة اعتداء، بينما يعتبره أهل الحضر اعتداء، وقد خلص الشيخ إلى ربط هذه المسألة بأصل قواعد التشريع التى لا تسمح لأحد بأن يقضى لنفسه لولا الضرورة، ومن ثم انتهى إلى القول بأنه يجوز لولى الأمرأن يعلن أن من ضرب امرأته عوقب، كى لايتفاقم أمر الإضرار بالأزواج (سلسلة آفاق إسلامية (9): 46 – 47).
والواضح هنا أن الشيخ الطاهر قد تجاوز المدى الذى وصل إليه الإمام محمد عبده، فالإمام اجتهد فى إطار النص، أما الشيخ فقد وضع النص فى إطار زمنى وسياق اجتماعي، مع ربطه بقواعد التشريع الفقهي، ليصل فى النهاية إلى منع الزوج من ضرب زوجته، وحق ولى الأمر فى عقوبة الزوج إلى فعل ذلك.
2) والمنهج القرآنى – عندنا – يقف بين هذا وذاك بين الإمام والشيخ ونوضحه سريعا فى هذه القضية، فالتشريع القرآنى يتكون من “أحكام تشريعيه” (أوامر ونواهي) وهذه الأحكام التشريعية تسير فى إطار “قواعد تشريعية ” وهذه القواعد التشريعية بدورها تسعى لتحقيق غايات ومقاصد تشريعية.
والمقصد التشريعى فى أحكام الأسرة هو حفظ كيانها ورعايتها. ولذلك كانت أغلب تشريعات القرآن الاجتماعى تسعى لبناء الأسرة والحفاظ عليها، ذلك أنه إذا كان الفرد هو الخلية الأولى فى المجتمع الغربي، فإن الأسرة هى الخلية الأولى فى المجتمع الإسلامى والشرقي. وكان المقصد التشريعى للقرآن هو حفظ كيان هذه اللبنة الأولى فى بنيان المجتمع حفظا لكيان المجتمع ذاته.
ومن خلال هذا المقصد التشريعى جاءت القاعدة التشريعية فى التعامل بين الزوجين فى قوله تعالي: “وعاشروهن بالمعروف، فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا” النساء 19، ومن خلال هذه القاعدة التشريعية تجرى الأحكام التشريعية فى إصلاح الشقاق إذا أتى من المرأة أو إذا أتى من الرجل أو إذا أتى منهما معا، ونفهم معنى قوامة الرجل على المرأة وشروطها (سورة النساء: 128،35،34)، وعليه فضرب المرأة وارد إذا كان هو السبيل الوحيد لمنعها من النشوز الذى يهدد بتحطيم أسرتها ومستقبلها، وفى إطار معاشرة زوجها لها بالمعروف، بحيث لا يكون هو الآخر ناشزا عليها، ونشوز الزوج فى مفهوم القرآن يعنى مجرد إعراضه عنها وعدم اهتمامه بها.
أما عن تدخل المجتمع ممثلا فى السلطة فقد حدد القرآن له طريقين، إذا أرادت الزوجة افتداء نفسها بالتطليق من الزوج (البقرة 229) أو إذا حدث نشوز متبادل بين الزوجين قد يؤدى إلى تحطيم الأسرة (النساء 128)، مع ملاحظة أن قوامة الزوج تعنى قدرته على حماية الزوجة والإنفاق عليها، وإلا فلا قوامة له عليها، وبالتالى فإذا كانت لها العصمة وتنفق على نفسها فليس له قوامة عليها، وبالتالى ليس له أن يستطيل عليها بالضرب أو بغيره. والعصمة من حق المرأة إذا أرادت وإذا رضى الزوج لأن الزواج عقد يتم بالتراضى بين الطرفين وتصبح بنوده شريعة المتعاقدين.
5) شلتوت وقضايا المرأة:
للشيخ شلتوت كتاب “القرآن والمرأة” واستعراضه يخرج بنا عن المطلوب. ولكنه فى كتابه “من توجيهات الإسلام”، عقد فصلا عن شئون المرأة أكد فيه مبدأ الطبيعة الواحدة بين الرجل والمرأة، ومساواتها بالرجل، وعرض للمرأة فى القصص القرآنى مع تحليل رائع لشخصيات النساء فى قصص الأنبياء، مع تنوع أدوارهن، خصوصا ملكة سبأ، وانتهى من ذلك إلى أهمية تثقيف المرأة، ثم عرض لتاريخ المرأة فى عهد النبوة المحمدية، ومبايعة النبى للنساء. (من توجيهات الإسلام 204 -).
فى الموقف من غير المسلمين:
هنا أم المشاكل، وبداية الاختلاف بين تشريع الإسلام فى القرآن وتشريعات المسلمين فى التراث. ويرجع السبب هنا إلى السياسة ونظام الحكم الذى أصبح عضوضا وراثيا ملكيا مستبدا، أى أصبح يحمل ملامح الدولة فى العصور الوسطى وكشأن الاستغلال الدينى فى ذلك الوقت، كان اختراع التشريع ليلائم سياسة هذه الدول وليسبغ عليها مشروعية.
وقد تكلف المصلحون المستنيرون من أمرهم عسرا، وهم يحاولون الاقتراب من تشريعات القرآن فى التعامل مع الآخر، وهذه الصعوية مردها إلى أنهم كانوا يفهمون الآيات بمصطلحات التراث ورواياته، فأبرزوا من تسامح الإسلام أشياء وغابت عنهم أغلب الأشياء. ونعرض لبعض ما أبرزوه ولبعض ما غاب عنهم أن يبرزوه.
رؤية الإمام محمد عبده:
فى البداية يقرر الإمام أن الأصل الثالث من أصول الإسلام هو البعد عن التكفير، صحيح أن حديثه قد انصب أساسا على التعامل بين المسلمين، ولكن المستفاد منه عمومية التعامل بهذا الأصل، لأنه أصل من أصول الإسلام، وعليه فينبغى أن نبتعد عن تكفير غير المسلم، وإن كان ذلك مستحقا لتوضيح وتأكيد أكبر من الإمام. ولكن سكوته عنه أعطى الفرصة لتلميذه السلفى كى يبالغ فى تكفير خصومه.
إلا أن محمد عبده جعل الأصل السادس من أصول الإسلام حماية الدعوة من الفتنة، لأن القتل ليس من طبيعة الإسلام، بل فى طبيعته العفو والمسامحة، ولكن القتال فيه لرد اعتداء المعتدين على الحق وأهله إلى أن يأمن شرهم، ولم يكن ذلك للإكراه على الدين ولا للانتقام من مخالفيه، ولذلك كان المسلمون فى الفتوحات لا يجبرون البلاد المفتوحة على اعتناق الإسلام.
ثم جعل الإمام الأصل السابع من أصول الإسلام مودة المخالفين فى العقيدة وذلك بالمصاهرة حيث أباح الإسلام للمسلم أن يتزوج من الكتابية دون تفريق بين الزوجة المسلمة والكتابية فى الحقوق، وما تؤدى إليه المصاهرة من اختلاط وتشابك ومودة وقربى بين المسلمين والكتابيين (الإسلام بين العلم والمدنية 106 -،113 -، 117-)
إلا أن الإمام محمد عبده اقترب أكثر من المنهج القرآنى حين أدرك معنى الفتنة التى جاءت فى سياق تشريع القتال “والفتنة أشد من القتل، وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة “البقرة 193،191 فرأى أن الفتنة هنا تعنى الاضطهاد فى الدين. وهذا صحيح، وعليه فقد اقترب من فهم المقصد التشريعى للقتال فى الإسلام، وهو انه لتقرير الحرية الدينية، ولمنع الاضطهاد فى الدين.
رؤية الطاهر ابن عاشور:
فى المصادر القليلة التى معنا بعض إشارات فى هذا الموضوع تنبيء عن فكر متقدم مستنير للطاهر ابن عاشور. ومن ذلك ما يذكره محمود شمام من شرح ابن عاشور لحديث “لا تخيرونى على موسي” على أساس أنه مظهر من تسامح الإسلام مع أهل الكتاب وقمعا لباب الخصومة الدينية معهم، فاليهودى ظل على يهوديته فى دولة الإسلام، ولم يلزمه الإسلام بتغيير دينه واعتقاده، والعلماء يقولون أن أهل الكتاب لايعاقبون على ما يقولونه من أصل دينهم. وبعض هذه المعانى تردد فى كلام الشيخ فى حديثه عن التسامح مع أهل الكتاب فى “أصول النظام الاجتماعى فى الإسلام”.
وفى هذا الكتاب عرض الشيخ تفسيره التاريخى للغزوات فى عهد النبى عليه السلام مستشهدا بالقرآن الكريم وبعض روايات الحديث والسيرة، وكيف كان تكوين الجيش الإسلامى وقتها. ثم كيف تطور الجهاد إلى فتوحات فى الشام والعراق. وقرر أن ذلك كله كان دفاعا عن الحوزة وتأمينا للمسلمين ودينهم.
وقد يكون ذلك التفسير التاريخى للشيخ عاديا سبق إليه كثيرون،إلا أنه سبق الكثيرين فى الإشارة إلى حقيقة قرآنية تاريخية لم يلحظها كثيرون، وذلك فى معرض تعليقه على قوله تعالى “ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا: الحج 40” فقد لاحظ أن الدفاع عن بيوت العبادة لغير المسلمين دفاع عن الحق. والمعنى المقصود تأمين بيوت العبادة لغير المسلمين داخل الدولة الإسلامية، وهذا المعنى قل من التفت إليه من المسلمين على مستوى السياسة وعلى مستوى الفقه والثقافة، إذ أن ثقافة العصور الوسطى القائمة على التعصب الدينى داخل بلاد المسلمين وخارجها كانت تستهدف بيوت العبادة للآخرين بالمقت والكراهية، ولذلك لا نعجب من الجدل الفقهى الذى كان يزايد على منع أو هدم الكنائس فى البلاد التى فتحها المسلمون (عن مؤلفات ابن عاشور يراجع أصول النظام الاجتماعى فى الإسلام 216 – 2207، بالإضافة إلى ندوة سلسلة آفاق إسلامية الشيخ عاشور (9): 59، 356).
رؤية محمود شلتوت:
نلمس هنا بعض التراجع فى بعض القضايا.
فالمصاهرة بزواج الكتابية والذى احتفل به الإمام محمد عبده، نجد الشيخ شلتوت يناقشه على طريقته الخاصة فى عرض آراء الفقهاء ثم يخلص إلى رأيه وهو أنه إذا ضعف الرجل المسلم فالواجب منعه من الزواج بالكتابية، وأنه ينبغى تقييد ذلك أو منعه، هذا مع أنه فى ” التوجيهات ” أشار إلى دعوة الإسلام إلى البر بغير المسلمين من المسالمين، وقال إن المبدأ العام فى معامله أهل الكتاب هو المساواة بينهم وبين المسلمين وإعانتهم فى النكبات وإباحة التعاون معهم ومصاهرتهم، وهو هنا يتفق مع شيخه الإمام محمد عبده الذى استدل بنص أيه “لاينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم فى الدين..” على دور المصاهرة فى دعم الترابط بين المسلمين والنصاري. (عن الشيخ شلتوت، يراجع: من توجهات الإسلام 93، الفتاوى 252)
وهذا التراجع لدى الشيخ شلتوت استمر بعده إلى أن أصبحت الفتنة الطائفية تهدد مستقبل مصر، خصوصا بعد استشراء الفكر السلفى واضطهاده للنصارى المصريين، ومع سيادة ثقافة التطرف والإرهاب فإن خطرا هائلا يهدد مستقبل مصر ووحدتها الوطنية. وليس هناك من سبيل إلا بمواجهة ذلك الفكر السلفى بالمنهج القرآنى الذى يوضح الأمور بصورة قاطعة.
وقفة مع المنهج القرآنى فى التعامل مع غير المسلمين:
بعيدا عن روايات التراث وفتاويه ومصطلحاته فإن القرآن فيه الرؤية الواضحة، ولكن هذه الرؤية تحتاج إلى من يقرأ القرآن ويفهمه بلغته ومصطلحاته، مع فقه قواعده التشريعية.
وقد قلنا أن التعامل مع غير المسلمين هو أم المشاكل وبداية الاختلاف بين تشريع القرآن وتشريع المسلمين فى التراث. وذلك لأن البداية تكمن فى تعريف المسلم والمؤمن والمشرك والكافر طبقا لمفهوم القرآن واختلاف ذلك عن مفاهيم التراث. حيث تمت صياغة التراث فى أاحضان نظم سياسية قامت بتوجيه الثقافة بما يخدم أغراضها.
وباختصار شديد نقول من خلال المنهج القرآنى ومفاهيمه أن المؤمن له مفهومان، تبعا لعلاقه المؤمن بربه أو علاقته بالناس: “آمن بـ ” تأتى فى القرآن بمعنى اعتقد وآمن، أى فى التعامل مع الله، وحينئذ ينبغى أن يكون الإيمان بالله تعالى كاملا. أما “آمن لـ ” فتأتى فى القرآن بمعنى وثق واطمأن وأصبح مأمون الجانب، أى فى التعامل مع الناس . وورد الأسلوبان كثيرا فى القرآن، حيث أن الأمن هو أصل كلمة الايمان، واجتمع الاستعمالان معا فى قوله تعالى عن النبى ” يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين، التوبة 61 ” فالنبى يؤمن بالله إيمانا كاملا ، وذلك فى التعامل مع الله، أما فى تعامله مع المؤمنيين فإنه يثق بهم ويطمئن لهم، وهذا هو مفهوم المؤمن فى القرآن. إذا حقق الإيمان بالله كاملا وحقق الأمن مع الناس، استحق الأمن فى الآخرة كما تردد ذلك فى آى القرآن العظيم.
ولكن الإيمان بالمفهوم القلبى فى التعامل مع الله تعالى مرجعه إلى الله تعالى يوم القيامة، وليس لأى بشر حتى النبى أن يحكم على ذلك. وعشرات الآيات القرآنية ترجع الحكم فى العقائد إلى الله تعالى يوم القيامة، وعلى ذلك فإن كل انسان مأمون الجانب لا يعتدى على أحد يأمنه الناس ويأمن الناس يكون مؤمنا فى التعامل البشري، حتى لو كان بوذيا أو هندوسيا. أما عقيدته وفكرته عن ربه فمرجعها إلى الله تعالى يوم الدين الذى سيفصل فيه رب العزة فى كل ما يتعلق بعلاقة البشر بالدين.
ونفس الحال فى المسلم فالمسلم له مفهومان، أحدهما فى التعامل مع الله تعالى والآخر فى التعامل مع الناس.
المسلم فى التعامل مع الله تعالى هو إسلام الوجه والقلب والجوارح إلى الله تعالى (الأنعام 162:163) والحكم على ذلك مرجعه إلى الله تعالى يوم القيامة وليس لأحد من البشر أن يحكم على ما فى القلوب من إخلاص أو رياء أو نفاق. أما مفهوم المسلم فى التعامل مع الناس، فهو السلام أو أن يسلم الناس من يده ولسانه، فالمسلم هو المسالم المأمون الجانب، وهذا أمر يحكم الناس فيه وعليه، وتشريعات الإسلام فى العقوبات نزلت لمعاقبة المعتدى على حقوق غيره فى الحياة والمال والعرض.. وليس فى عقوبات التشريع الإسلامى إلا حفظ حقوق الأفراد، أما حقوق الله تعالى فليس عليها عقوبة دنيوية أو “حدود ” بمفهوم التراث. وقد اخترعوا ” حد الردة ” لأغراض سياسية فى العصر العباسى كما أوضحنا ذلك فى كتابنا ” حد الردة: دراسة أصولية تاريخية “.
ومفهوم الذين أمنوا والذين كفروا والمشركون والفاسقون.. الخ حين تأتى فى تشريعات القرآن يقصد بها التعامل البشري، فالذين أمنوا أى الذين اختاروا الأمن والأمان، الذين اجتمعوا حول النبى محمد كانوا من المستضعفين الذين اختاروا الأمن والأمان، وكان منهم ذوو شأن وجاه، ولكن اختاروا أيضا طريق الأمن والسلام، لذلك يقول تعالى لهم ” يا أيها الذين آمـنوا آمـنوا امنوا بالله ورسوله والكتاب الذى نزل على رسوله والكتاب الذى أنـزل من قبل” النساء 136 أى بعد أن حققوا الايمان بمفهوم الأمن والأمان عليهم أن يحققوه بمفهوم الاعتقاد.
وفى المقابل فإن المشركين والذين كفروا هم فى تشريع القرآن فى التعامل البشرى أولئك الذين يعتدون على المؤمنين المسالين الذين لا يعتدون على أحد، والسبب واضح. إن تطبيق الناس للشرع ينبغى أن يكون فى إطار قدرتهم على التطبيق. وليس فى قدرة النبى نفسه أن يعلم خفايا القلوب، فقد كان لا يعرف بعض المنافقين الذين يعيشون إلى جانبه وقد مردوا على النفاق (التوبة 101) فإذا كان النبى لا يعرف خفايا القلوب فغيره أولي، ولذلك فإن الحكم على الناس بالشرك يرتبط فى تشريع القرآن بالاعتداء، وذلك فى موضوعات التعامل البشري، وقد قلنا إن التعامل مع الله تعالى مرجعه إلى الله تعالى يوم القيامه حسبما أكدت عشرات الآيات القرآنية.
وهذا يدخل بنا على ناحية أخري، وهى وجود نوعين من الخطاب فى القرآن الكريم فيما يتعلق بغير المسلمين، وهذا يختص فى موضوع العقائد والتعامل معه جل وعلا. فمن حقه تعالى أن يقول ” لقد كفر الذين قالوا أن الله هو المسيح ابن مريم: المائدة 17 ” لأن تلك قضية تخصه جل وعلا، فهذا خطابه لنفر من خلقه أخطأوا فى حقه وموعدهم معه ليحاسبهم على ذلك الافتراء. ولكن الله تعالى يأمرنا أن يكون لنا خطاب مختلف معهم، وذلك بأن نجادلهم بالتى هى أحسن، وأن نقول لهم آمنا بالذى أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلاهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون (العنكبوت 46). والدليل الأكبر على ذلك فى الأمر بالمباهلة الذى نزل للنبى أساسا ولنا من بعده. فبعد أن أوضح الله تعالى قصة عيسى وحقيقته البشرية قال للنبى محمد “الحق من ربك فلا تكن من الممترين” ثم جاءت الآية التالية بتشريع المباهلة، فإذا جاء نفر من النصارى للنبى يجادلونه فى موضوع ألوهية المسيح بعد أن أنزل الله تعالى الحق للنبى فليس للنبى أن يتهمهم بالكفر، ولكن يدعوهم إلى المباهلة، يجمع كل فريق من المسلمين والنصارى أبنائهم ونسائهم، ثم يبتهل كل فريق بأن يجعل لعنة الله على الكاذبين (آل عمران-61).
والواضح أن هذا التشريع القرآنى غريب فى دنيا التعامل الواقعي. والأغرب منه حين نتعرف على لمحة سريعة عن تشريع القتال فى القرآن.
فقد قلنا أن تشريعات القرآن هى أحكام وتفصيلات تشريعية تخضع لقواعد تشريعية، والقواعد التشريعية تخدم هدفا أو مقصدا تشريعيا، ومن الخطأ أن نخلط بين هذا وذاك.
فالأوامر والأحكام التشريعية جاءت كثيرا تأمر بالقتال، ولكن تقرنة بالقاعدة التشريعية وهى أن يكون القتال للدفاع ورد الاعتداء بمثله كقوله تعالى “وقاتلوا فى سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين”… “فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله: البقرة 190، 194” وفى هذا الإطار أيضا يأتى المقصد التشريعى من القتال، وهو أن يكون بهدف منع الفتنة فى الدين أو منع الاضطهاد فى الدين، أو أن يكون الدين لله تعالي، أى مرجعه لله تعالى يحكم على الناس بشأنه يوم القيامة، وحتى تكون لله تعالى الحجة على البشر فلابد أن يتمتع أولئك البشر فى الدنيا بحرية الإعتقاد، وألا يكون هناك اضطهاد فى الدين، وذلك معنى قوله تعالى “وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله” البقرة .193
وعليه فالقتال هنا دفاعى ضد اعتداء المشركين الكافرين.
والمشركون الكافرون هم المعتدون الظالمون مهما كانت عقائدهم ومبراتهم وتأويلاتهم وشعاراتهم، ينطبق ذلك على مشركى قريش كما ينطبق على الإرهابيين فى عصرنا.
والمسلمون المسالمون هم أولئك الآمنون الذين لا يرفعون سلاحا، مهما كانت عقائدهم وطقوسهم وينطبق ذلك على كل المسالمين من كل الديانات والمذاهب..
وهنا يتفق تشريع القتال فى الإسلام مع مفهوم المسلم والمؤمن والمشرك والكافر فى مصطلحات القرآن ولكى تبقى بعض نقاط الإتصال الآخرى نشير إليها سريعا.
فالمؤمنون الذين تجمعوا حول النبى طلبا للسلام والمسالمة كانوا يكرهون الحرب مع إنها السبيل الوحيد أمامهم للبقاء حتى لا يفنيهم المشركون، ولذلك قال تعالى لهم “كـتـب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم، وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم” البقرة 216 ومع ذلك فإن بعضهم احتج على الله تعالى حين فرض عليهم القتال وطلب تأخير الأمر بالقتال فقال تعالى “ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيدكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة، فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية، وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال، لولا أخرتنا إلى أجل قريب؟: النساء 77” ولذلك فرض الله تعالى على النبى أن يحرض المؤمنين المحبين للسلام أن يقاتلوا، فقال “يا أيها النبى حرض المؤمنين على القتال: الانفال” 65 وقال له “وحرض المؤمنين عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا” النساء 84.
ومع ذلك فقد كان بعضهم يتقاعس عند الحرب، فقبيل غزوة بدر – خلافا لما ترويه السيرة- كان فريق من المؤمنين يكرهون الاشتباك مع العدو ويجادلون النبى فى الحق الواضح، وحين تحتم عليهم القتال كانوا كأنهم يساقون إلى الموت وهم ينظرون (الانفال: 6،5) وتلك أولى غزوات النبي، ولكن الوضع لم يختلف مع أخر غزوة وهى ذات العسرة وفيها يخاطب الله تعالى المؤمنين قائلا “يا أيها الذين آمنوا مالكم إذا قيل لكم انفروا فى سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض”؟… التوبة 38.
والمستفاد من تلك الأوامر التشريعية تأكيد المفهوم القرآنى لمعنى الذين آمنوا أى الذين اختاروا الأمن والسلام، وآثره بعضهم حتى عندما يكون القتال واجبا للدفاع وخوفا من الإبادة والاستئصال.
ومثل آخر من الأوامر التشريعية يؤكد المفهوم القرآنى لكلمة المؤمن وأنه فى المأمون الجانب بغض النظر عن عقيدته ودينه.. فالله تعالى يقول “وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ” أى غير معقول أن يقتل المؤمن المسالم المأمون الجانب رجلا مؤمنا مسالما مثله إلا على سبيل الخطأ. ثم وضحت الآية تشريع الدية فى ذلك القتل الخطأ. وجاءت الآية التالية بأقسى عقوبة فى الآخرة لمن يقتل مؤمنا متعمدا وهى الخلود فى جهنم والعذاب العظيم والغضب من الله ولعنته. ثم جاءت الآية التالية تحدد ماهية ذلك المؤمن الذى يستحق قاتله كل ذلك العذاب واللعنة، يقول الله تعالى “يا أيها الذين أمنوا إذا اضربتم فى سبيل الله فتبيوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا: النساء 94” فالمؤمن هو أى إنسان مسالم أو ألقى السلام. وحين الاشتباك الحربى يجب على المؤمنيين حقن دماء ذلك المؤمن المسالم حتى لو كان فى معسكر الأعداء وكل ما هو مطلوب منه أن يقول: السلام عليكم وقتل ذلك المسالم يستحق كل ذلك العذاب وتلك اللعنة والخلود فى النار.
وهذا هو الإسلام دين السلام لكل الناس الذى أنزله رب العالمين رحمة للعالمين..