العلاج النفسى الوجودى نظرية العلاج النفسى
تأليف: رولو ماى – إرفين يالوم
ترجمة: د. عادل مصطفي
ثمة قطاع كبير من المعالجين النفسيين يعتبرون أنفسهم ذوى توجه وجودى (أو إنساني). ومع ذلك فقلما نجد معالجا منهم قد تلقى تدريبا منهجيا منظما فى العلاج الوجودى. ولا غرو فالبرامج التدريبية الوجودية قليلة، محدودة الانتشار. ورغم كثرة الكتب الممتازة التى يضيء كل منها جانبا من جوانب الإطار المرجعى الوجودى (بركر 1973، بجنتال 1956، كويستنباوم 1978، ماى 1953 و 1977، ماى وآخرون 1958) إلا أن كتاب يالوم الذى وضعه سنة 1981 هو أول كتاب يقدم نظرة منهجية شاملة للمدخل العلاجى الوجودى.
وعندما تسأل المعالجين ذوى التوجه الوجودى عن علة تسميتهم لأنفسهم بهذا الاسم تفاجأ بأن مرد ذلك ليس لنظام علاجى محدد، بل بالأحرى لأسلوب وطريقة فى النظر إلى الكائن الإنسانى. فالعلاج الوجودى ليس نظاما علاجيا شاملا بل هو إطار مرجعى frame of reference نموذج إرشادي paradigm ننظر به إلى معاناة المريض ونتفهمها بطريقة خاصة.
ينطلق المعالجون من افتراضات أساسية تتعلق بمصادر الكرب الذى يعانية المريض ويفهمونه فهما إنسانيا لا فهما سلوكيا أو ميكانيكيا. وبوسعهم أن يستخدموا العديد من التقنيات المستخدمة فى المدارس الأخرى مادامت تتسق مع افتراضاتهم الوجودية وتحقق مواجهة إنسانية أصلية بين المريض والمعالج.
تستخدم الغالبية العظمى من المعالجين المتمرسين، بغض النظر عن انتمائهم لمدرسة أيديولوجية معينة، كثيرا من النظرات والتوجهات الوجودية. فما من معالج على سبيل المثال إلا ويدرك أن وعى المرء بمحدوديته وفنائه قد يحفز داخله نقلة كبرى فى منظور الرؤية. وما من معالج إلا ويدرك أن العلاقة هى التى تداوى وتشفى. وأن مأزق الاختيار يعذب المرضى. وأن المعالج يجب أن يحفز فى المريض إرادة الفعل. وأن أغلب المرضى مبتلون بافتقار حياتهم إلى المعنى.
من الصواب أيضا أن النظام الاعتقادى للمعالج يحدد لون المعطيات الإكلينيكية التى يجدها. فالحق أن المعالجين يلمحون للمرضي، بشكل خفى وربما لا شعوري، بما يتعين عليهم أن يقولوه أو يقدموه من مادة بعينها. فالمعالج اليونجى يعثر على أحلام يونجية. والمرضى الفرويديون يكتشفون ثيمات الخصاء والحصار (القلق) وحسد القضيب.
فلاشك أن النظام الإدراكى للمعالج يتأثر بنظامه الأيدولوجي، وأن المعالج ينضبط ويتهيأ بحيث يلتقط المادة التى يرغب فى التقاطها([1]). تلك قاعدة تنسحب بدورها على المدخل الوجودى. فما إن يضبط المعالج الوجودى جهازه الذهنى على القناة الصحيحة حتى يتحفه مرضاه بفيض مذهل من الهموم الناجمة عن صراعات وجودية.
ولا يختلف المدخل الوجودى اختلافا استراتيجيا كبيرا عن بقية العلاجات الدينامية. فالمعالج الوجودى يفترض أن المريض يعانى من القلق، وأن هذا القلق ناشيء من صراع وجودى ما، وأن هذا الصراع لاشعورى بدرجة ما، وأن المريض يتعامل مع القلق بعدد من ميكانزمات الدفاع الواهنة غير التكيفية، والتى قد تتيح له انفراجة مؤقتة من القلق، لكن لا تلبث فى النهاية أن تعوق قدرته على أن يحيا حياة مليئة مبدعة، وتتكشف عن أنها لم تمنحه إلا مزيدا من القلق الثانوى. وعلى المعالج أن يساعد المريض على أن يشرع فى برنامج استكشاف ذاتى يهدف إلى فهم الصراع الشعورى واللاشعوري، وأن يتعرف على ميكانزمات الدفاع الفاشلة ويكتشف تأثيرها المدمر، وأن يخفف القلق الثانوى بأن يصحح طرائقه المعطلة فى التعامل مع الذات ومع الآخرين، وأن يتبنى وسائل أخرى فى مغالبة القلق الأولى.
ورغم أن الاستراتيجية الأساسية للعلاج الوجودى تشابه غيرها من العلاجات الدينامية، إلا أن المحتوى فى الطرفين جد مختلف. كما أن العملية العلاجية مغايرة من جهات عديدة. فالطريقة المختلفة للمعالج الوجودى فى فهم المأزق الأساسى للمريض، لا شك تؤدى إلى اختلافات كثيرة فى خطة العلاج. من أمثلة ذلك أن تركيز نظرية الشخصية فى العلاج الوجودى على أعماق الخبرة الحالية ينأى بالمعالج عن إهدار وقت كبير فى مساعدة المريض على تذكر الماضي، ويجعله معنيا بفهم الموقف الحياتى الحالى للمريض والمخاوف اللاشعورية التى تتملكه فى الوقت الحاضر. ومن أمثلة هذه الفروق أيضا فرق خاص بالعلاقة العلاجية. فالمعالج الوجودى يسلم، شأن سواه من المعالجين الديناميين، بأن طبيعة العلاقة بين المعالج والمريض هى شيء أساسى فى كل عمل علاجى ناجح، إلا أن توكيده لا ينصب على الطرح transference ([2])بل على العلاقة كشيء بالغ الأهمية فى حد ذاته.
عملية العلاج النفسي:
الموت، الحرية، العزلة، اللامعنى.
لكل من هذه الهموم النهائية ultimate concerns متضمناته فى العملية العلاجية. فحين ننظر فى هم الحرية و متضمناته العلاجية العملية فى العلاج النفسي، تطالعنا المسئولية (وهى جزء لا يتجزأ من الحرية) كمفهوم عظيم الشأن عميق التأثير فى المدخل العلاجى للمعالج الوجودى.
يرى سارتر فى المسئولية معنى مساويا لمعنى التأليف authorship . فأن يكون المرء مسئولا يعنى أنه مؤلف حياته الخاصة ومبدع طرازها. ويؤمن المعالج الوجودى بأن كل مريض مسئول عما يحل به من كرب، ولا يدخر وسعا فى تنبيهه إلى هذه الحقيقة. فليست الجينات السيئة ولا الحظ العاثر هو الذى جعل المريض منبوذا ينفض عنه الآخرون ويسوءونه ويهملونه. ولن يكون هناك أمل فى التغيير مالم يدرك المرضى أنهم مسئولون عن اضطراباتهم الخاصة.
يجب على المعالج أن يقف على طرائق المريض فى تجنب المسؤلية، ويضع يده على شواهد تنصله ويبصره بها. و للمعالجين فى ذلك فنيات متعددة. فمنهم من يقاطع المريض كلما اشتم فى حديثه رائحة التنصل. فإذا قال المريض: “لا أستطيع”أن أفعل كذا، بادره المعالج : قل إنك “لن تفعل”هذا الشيء. ويبقى المرء غافلا عن دروره الإيجابى فى موقفه ما بقى يعتقد فى مقولة “لا أستطيع”. مثل هؤلاء المعالجين يحثون مرضاهم على أن يتولوا امتلاك مشاعرهم الخاصة وأقوالهم وأفعالهم. حتى لو كان قول المريض إنه فعل الشيء “لا شعوريا”فإن رد المعالج هو : “لا شعور من هذا؟!”. والقاعدة هنا واضحة: كلما ألفيت المريض يندب حاله… فتش عن المسئولية، وتقص كيف خلق بنفسه هذه الحال التى هو فيها.
من التقنيات المفيدة فى العلاج أن يحفظ المعالج الشكوى الأصلية للمريض فى ذهنه، ثم يقرنها فى الأوقات المناسبة بتصرفاته فى المشهد العلاجى. ولنأخذ مثالا بذلك المريض الذى جاء يلتمس العلاج بسبب شعوره بالوحدة والعزلة، فكان يسهب أثناء الجلسات ويفيض فى التعبير عن ازدرائه واحتقاره للآخرين. وكان متعنتا فى هذه الآراء، يبدى مقاومة كبيرة تجاه مناقشتتها ناهيك بتغييرها. فماذا كان من المعالج؟ كان يبرز له شكواه الأولى ويقرنها بسلوكه الآنى حتى تتبين له مسئوليته عن مأزقه الشخصى. وذلك بأن يذكره كلما أبدى احتقاره للآخرين: “وأنت تشكو الوحدة”.
وإذا كانت المسئولية جزءا من مكونات الحرية، فالإرادة جزء آخر. وقد تحدثنا آنفا عن فعل الإرادة willingوقلنا إنها تنقسم بدورها إلى مكونين أو مرحلتين: فعل الرغبة wishing وفعل القرار deciding. ولنبدأ ببحث الرغبة والدور الذى تلعبه فى المشهد الإنسانى. لننظر كم تتكرر المتوالية الحوارية الآتية بين المعالجين وبين المرضي:
- ماذا أفعل؟ ماذا أفعل؟
* وما الذى يحول بينك وبين أن تفعل ما تريد أن تفعله؟
- لكنى لا أعرف ما أريد أن أفعله. لو كنت أعرف ما كنت بحاجة إلى أن آتى إليك.
الواقع أن هؤلاء المرضى يعرفون ما يجب أن يفعلوه، وما يليق بهم أن يفعلوه، وما يتحتم عليهم أن يفعلوه. ولكنهم لا يخبرون فى داخلهم ما “يريدون”أن يفعلوه. إنهم يعانون عجزا شديدا فى الرغبة. وقد كان ماى يميل إلى الصراخ فى مثل هؤلاء: “ألا يوجد أى شيء تريده على الإطلاق؟”. وكثير من المعالجين يشاركونه هذا الميل. يعانى هؤلاء المرضى من مصاعب اجتماعية هائلة لأنهم ليس لهم آراء خاصة بهم، وليس لهم ميول ولا رغبات.
وكثيرا ما يكون العجز عن الرغبة مجرد جزء من اضطراب أكبر – هو العجز عن الشعور. ففى حالات كثيرة يكون الشطر الأكبر من المهمة العلاجية هو أن نساعد المرضى على إذابة الحواجز الوجدانية التى تعطل فيهم فعل الشعور، وهى مهمة علاجية تتسم بالبطء والكدح، وتتطلب من المعالج أن يكون صابرا مثابرا يستحث المريض بلا هوادة أن يشعر ويريد، ولا يمل من تكرار “ماذا تشعر؟”و “ماذا تريد؟”، مستكشفا مرار وتكرارا مصدر الانسداد الوجدانى وطبيعته، والمشاعر المحتبسة من ورائه.
بحاول بعض المعالجين أن يقوموا بتفجير العائق الوجدانى بجهود اختراقية درامية من قبيل الغمر الأنفعالى emotional flooding، والصرخة الأولية primal scream ، والعلاج الانفجارى implosion therapy، وعلاج الشعور المكثف intense feeling therapy، والعلاج الجشطلتى.
غير أن العجز عن الشعور والرغبة هو سمة شخصية غائرة وطبع مكين يتطلب وقتا ومثابرة علاجية لإحداث تغيير يدوم.
وقد يتخذ تجنب الرغبة صورا أخرى بالإضافة إلى تعطل الوجدان. فبعض الأفراد يتجنبون الرغبة عن طريق الكف عن التمييز بين الرغبات المختلفة والتصرف باندفاعية وفق جميع الرغبات. وعلى المعالج فى مثل هذه الحالات أن يساعد المريض على أن يقوم بشيء من التمييز الداخلى بين الرغبات ويضع لها أولويات. وعلى المريض أن يتعلم أن وجود رغبتين متنافرتين([3]) يحتم عليه أن يتخلى عن إحداهما. مثال ذلك أنه إذا كانت هناك رغبة فى علاقة حب حقيقى ذى معني، فلا مناص من التخلى عن مجموعة من الرغبات الصراعية البينشخصية من قبيل الرغبة فى الغزو أو القهر أو الإغواء أو الاستعباد.
القرار هو الجسر الواصل بين الرغبة والفعل. فبعض المرضى يظلون عاجزين عن الفعل رغم وجود الرغبة; ذلك لأنهم عاجزون عن اتخاذ القرار. ومن أعم الأسباب التى تجعل اتخاذ القرار أمرا عسيرا هو أن كل”نعم”فى الحياة تتضمن”لا”. كل اختيار ينطوى على نبذ. “التخلي”إذن هو فعل ملازم للقرار كظله. فكل قرار يتخذ يستوجب التخلى عن خيارات أخرى – وهى كثيرا ما تكون خيارات لن تتاح بعد ذلك أبدا.
وهناك صنف آخر من المرضى يعجزون عن اتخاذ القرار لأن القرارات الكبرى تكشف لهم إلى أى درجة هم يقومون بتشييد حياتهم الخاصة. بذلك يعد كل قرار مصيرى كبير بمثابة موقف حدى boundary situation بنفس الطريقة التى تكون بها رؤية الموت موقفا حديا.
يجب على المعالج أن يحض المرضى على أن يتخذوا القرارات، وأن يقدم لهم العون فى ذلك. ومن التوجهات المفيدة فى هذا الشأن أن يقوم المعالج بمساعدة المريض على أن يمحص الخيارات المتاحة، وأن يعى جيدا أن مهمة وضع الخيارات والانتقاء منها تقع على عاتقه هو لا على عاتق المعالج.
على الإنسان أن يمتلك مشاعره الخاصة. هكذا يعلم المعالج مرضاه كيما يجيدوا التواصل. وعلى الإنسان، بنفس الدرجة من الأهمية، أن يمتلك قراره الخاص. وبعض المرضى يتملكه الفزع حين يتأمل المتضمنات المختلفة لكل قرار يريد اتخاذه. إن”ماذا لو”تعذبه وتقض مضجعه:
. ماذا لو تركت وظيفتى ولم أتمكن من الحصول على وظيفة أخري؟
. ماذا لو تركت أطفالى بمفردهم فأصابهم مكروه؟
من المفيد فى أغلب الأحيان أن نطلب من المريض أن يتأمل السيناريو الكامل لكل”ماذا لو”على التوالي، وأن يتخيل حدوثها ويتتبع فى مخيلته كل عواقبها الممكنة، ويجرب عندئذ المشاعر المتولدة ويحللها.
والقاعدة العامة بصدد اتخاذ القرار هى أن مهمة المعالج ليست خلق القرار بل”تخليصه”. فهو لا يصنع للمريض قراره نيابة عنه، بل يزيل العوائق التى تعوق المريض عن اتخاذ القرار. ليس بمقدور المعالج أن ينقر للمريض زر القرار أو ينفث فيه روح العزيمة، ولكن بمقدوره أن يؤثر فى العوامل التى تتحكم فى إرادته. وما من أحد ولد بعجز خلقى عن أن يقرر، فالقدرة على صنع القرار كامنة فى المريض ولكن دونها عوائق. وما إن يساعده المعالج على إزالة هذه العوائق حتى ينتقل تلقائيا إلى وضع أكثر استقلالية، بنفس الطريقة التى تنمو بها الجوزة إلى شجرة بلوط على حد قول كارن هورنى.
القرار حتم لا مفر منه.
والمرء فى كل لحظة يصنع قرارات حتى دون أن يفضى إلى نفسه بذلك.
هذه حقيقة على المعالج أن يعين مرضاه على استيعابها. وأن يساعدهم على تبين الطريقة التى يصنعون بها قراراتهم. فكثير من المرضى يتخذون قراراتهم بطريقة سلبية، بأن يتركوا لغيرهم أن يقرر بالنيابة عنهم. مثال ذلك أن ينهى الشخص علاقة غير مرضية بأن يتصرف لاشعوريا بطريقة تحمل الآخر على اتخاذ قرار الهجر. فى مثل هذه الحالات تكون المحصلة النهائية (وهى انحلال العلاقة) قد أنجزت. غير أن هذه الطريقة قد توقع المريض فى مضاعفات سلبية كثيرة، ولا يجنى من ورائها إلا تدعيم إحساسه بالعجز وقلة الحيلة، ويظل يشعر أنه كائن تحدث له الأشياء وتتقاذفه الظروف، بدلا من أن يحس أنه واضع دستور حياته وصانع مواقفها. من ذلك يتبين لنا أن”الأسلوب”الذى يتخذ به المرء قرارا ما قد لايقل أهمية عن”محتوي”ذلك القرار ويبقى أن القرار الإيجابى المباديء هو الذى يعزز قبول المرء لذاته واعتداده بقدرته وملكاته.
آليات العلاج النفسي:
خير وسيلة نفهم بها آليات المدخل الوجودى هو أن نتأمل الفعالية العلاجية الكامنة فى بعض الهموم النهائية.
الموت والعلاج النفسي:
يلعب مفهوم الموت دورا هاما فى العلاج النفسى. وذلك بطريقتين مختلفتين:
الأولى : حين يقع للإنسان وعى زائد بفنائه وتناهيه، ناجم عن مواجهة شخصية مع الموت، فقد يحدث له ذلك تحولا حاسما فى منظور رؤيته للحياة ويؤدى به إلى تغير الشخصية.
الثانية : الموت مصدر أولى للقلق. ولهذا المفهوم متضمنات هامة وعديدة تتصل بالعلاج.
الموت بوصفه موقفا حديا
الموقف الحدى boundary situation هو نوع من الخبرة الملحة التى تقذف بالفرد فى مواجهة مباشرة مع موقف وجودى معين. ولعل مواجهة المرء لموته الشخصى هو أشد المواقف الحدية وأبلغها شأنا. فمثل هذه المواجهة لها من القوة ما يحدث تحولا جسيما فى الطريقة التى يعيش بها المرء فى العالم. وهناك أمثلة لا تحصى على هذا المبدأ سواء من الأدب الرفيع أو من الممارسة الإكلينيكية مع مرضى المراحل المتأخرة.
وقد سجل يالوم عددا من حالات التغير الشخصى الكبير الذى كان يحدث لمرضى السرطان وهم يواجهون موتهم الخاص. كان بعضهم يصرح أنه تعلم ببساطة أن”الوجود لا يمكن أن يسوف”، وأنهم لم يعودوا يرجئون الحياة إلى زمن لاحق فى المستقبل. لقد أدرك هؤلاء المرضى أن المرء لايمكنه أن يعيش بحق إلا فى الحاضر. وهذا بالتحديد هو ما يغيب على المريض العصابي; فهو إما مسكون بهواجس الماضى أو مرعوب بتوقعات المستقبل.
إن مواجهة المرء لأحد المواقف الحدية لتحثه على أن يحصى النعم التى بين يديه، وأن يفتح عينيه من جديد على كل ماهو طبيعى من حوله: حقائق الحياة الأولية.. تبدل المواسم.. الرؤية والاستماع واللمس والحب.كم من خبرات غالية فى الحياة تفوتها علينا همومنا التافهة وانشغالنا بما لا نملك وخوفنا على وضعنا وهيبتنا.
يتفجع كثير من مرضى المراحل المتأخرة عندما يعاينون نموا شخصيا نابعا من مواجهتهم للموت، ولسان حالهم يقول: “كم هى مأساة أن نكون بحاجة إلى أن ننتظر كل هذا العمر وأن ينهش السرطان جسدنا كيما نتعلم هذه الحقائق البسيطة”.
تلك رسالة فوق العادة موجهة إلى المعالجين. بوسع المعالج أن يستمد منها فعالية كبيرة ليساعد المرضى اليوميين (الذين لا يعانون مرضا جسميا) على أن يزيدوا وعيهم بالموت قبل الأوان المعتاد. وقد استخدم بعض المعالجين سعيا إلى هذا الهدف تمارين منظمة كى يواجهوا الفرد بموته الشخصى. ويسجل التراث السيكولوجى كثيرا من ورش العمل الخاصة بوعى الموت. وبعض قادة العلاج الجمعى يبدأون خبرة جماعية مختصرة بأن يطلبوا من الأعضاء أن يكتبوا نقش ضريحهم الخاص أو نعيهم الخاص. أو يقدمون تخيلات موجهة يتخيل فيها أعضاء الجماعة موتهم الخاص وجنازتهم. وقد قدم معمل التدريب القومى خبرة”جماعة دورة الحياة”، وفيها يقضى المشاركون وقتا وهم يعيشون ويتحدثون ويلبسون على طريقة المسنين. ويقوم هؤلاء بزيارة مقبرة محلية، ويقومون أيضا بتخيل احتضارهم وتخيل موتهم وجنازتهم.
على أن كثيرا من المعالجين لا يعتقدون فى ضرورة هذه المواجهات المصطنعة بالموت ولا ينصحون بها. بل يحاولون فى المقابل أن يساعدوا مرضاهم على أن يعاينوا مظاهر الفناء والموت الداخلة فى نسيج الحياة اليومية ذاتها.
هناك دلائل واضحة على قلق الموت فى كل علاج نفسى لو التفت إليها المعالج المريض كما ينبغى. فما من مريض إلا ويعانى من ضرب من الفقدان.. فقدان الوالدين، الأصدقاء، الرفاق. الأحلام أيضا يراودها قلق الموت; فكل كابوس هو حلم بقلق الموت لم يتم حبكه. كل ما يحيط بنا يذكر بالموت: عظامنا ما تلبث أن تصر وتصرف كالبوابة العتيقة، بقع الشيخوخة تنبث فى جلدنا، نذهب إلى حفلات قدامى الخريجين فيروعنا كيف كبر الجميع وشاخوا، أطفالنا يكبرون، دورة الحياة تطوقنا.
تسنح للمرء فرصة كبرى لمواجهة الموت عندما يجرب وفاة أحد الأقربين. وقد اقتصر تركيز التراث السيكولوجى التقليدى على جانبين من عمل الحزن grief work الفقدان، ثم عملية حل التناقض الوجدانى ambivalence الذى يضاعف وجع الحزن. غير أن هناك بعدا ثالثا يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار : ذلك أن وفاة شخص قريب منا تجعلنا نواجه موتنا الشخصى. هذا بطبيعة الحال ما كان يعنيه جون دون فى أبياته الشهيرة :
ومن ثم إياك أن تبعث لتستخبر لمن تقرع الأجراس ([4])
إنها تقرع لك
تختلف نغمة الحزن اختلافا كبيرا بحسب علاقتنا بالفقيد ودرجة قرابتنا له. فوفاة أحد الوالدين تواجهنا بهشاشتنا وقلة منعتنا: إذا كان والدانا لم ينقذا نفسيهما فمن ذا الذى ينقذنا؟ كأننا بوفاة الوالدين قد خلى بيننا وبين القبر، وصرنا نحن أنفسنا الحاجز المتبقى بين أولادنا وبين الموت.
أما وفاة الزوج أو الزوجة فيغلب أن تثير الخوف من العزلة الوجودية فحين نفقد الرفيق الألصق بنا يزداد وعينا بأننا معشر البشر مهما حاولنا أن نتقارب وننصهر ونذرع الوجود مثنى مثني، ستبقى هناك وحدة أساسية صميمية علينا أن نكابدها. يروى يالوم عن واحد من مرضاه هذا الحلم الذى رآه فى الليلة التى علم فيها أن زوجته مصابة بسرطان متأخر :
”كنت أعيش فى المنزل القديم، المنزل الذى أهل بالعائلة لثلاثة أجيال متتالية. كان هناك مسخ فرانكشتينى يطاردنى فى أرجاء المنزل. كنت خائفا مرتاعا. كان المنزل متداعيا خربا، لافتاته متكسرة، وسقفه يرشح بالماء. الماء المرتشح غمر أمى (كانت والدة المريض قد توفيت قبل ستة أشهر). تعاركت مع المسخ. كان لدى عدد من الأسلحة، اخترت أحدها وهو مقوس النصل ذو مقبض، يشبه المنجل. شرطت المسخ بهذا السلاح ورميت به من السطح فهوى على الرصيف ممددا بلا حراك. لكنه مالبث أن نهض مرة ثانية وعاد يطاردنى خلال المنزل.”
كان أول تداعيات هذا الحلم فى ذهن المريض: “أعرف أننى قد شارفت النهاية”. من ذلك يتبين بوضوح أن موت زوجته الوشيك قد ذكره أن حياته هى أيضا فانية متناهية، وكذلك جسده (الذى يرمز له فى الحلم بالمنزل المتداعي). وقد كان المريض فى طفولته يراوده كثيرا هذا المسخ الذى عاد إليه فى هذا الكابوس.
يتفنن الأطفال فى التعامل مع قلق الموت. ومن أكثر طرائفهم شيوعا فى هذا الشأن أن يجسدوا الموت فيصوروه كمخلوق متناه.. مسخ أو رمال([5]) أو بعبع وما إلى ذلك. صحيح أن ذلك مفزع جدا للأطفال، غير أنه أقل فزعا من الحقيقة – حقيقة أنهم يحملون فى داخلهم جرثومة موتهم. فإذا كان الموت ناسوتا ماثلا هناك فربما أمكن مراوغته أو خداعه أو تهدئته.
تتيح معالم الحياة الإنسانية فرصة أخرى للمعالج لتبصرة المريض بالحقائق الوجودية للحياة. فحتى المعالم الحياتية البسيطة مثل أعياد الميلاد أو الذكرى السنوية لا تخلو من فعالية علاجية. إنها مظاهر انقضاء ودلائل فوات هى أدعى إلى الألم والحزن (ومن ثم نتناولها كثيرا برد الفعل المعكوس reaction formation مناسبات للبهجة والاحتفال.
وتعد الأحداث الحياتية الكبرى من قبيل تهدد المهنة أو المرض الشديد أو التقاعد أو تكريس علاقة أو فسخ علاقة، كلها مواقف حدية هامة، وكلها تتيح فرصا لزيادة وعينا بالموت إنها تجارب مؤلمة فى أغلب الأحيان بحيث تحمل المعالجين على التركيز الكلى على إزالة الألم. غير أنهم إذ يفعلون ذلك يفوتون فرصا ثمينة للعمل العلاجى العميق لا تستح إلا فى مثل هذه اللحظات.
الموت كمصدر أولى للقلق:
الخوف من الموت هو مصدر أولى للقلق ومنبع أم. فهو يبدأ فى مرحلة مبكرة من الحياة، ويلعب دورا كبيرا فى تشكيل بنيه الشخصية. ويظل طوال العمر يولد القلق الذى يؤدى بدوره إلى الألم الظاهر وإلى تكوين الدفاعات النفسية الباطنة. غير أننا يجب أن نعلم أن قلق الموت رغم شموليته واتساع آثاره يقبع فى المستويات الأعمق من وجودنا، وأنه يكبت بشدة، ونادرا ما نجربه بمعناه الكامل، وقلما يظهر بوضوح فى الصورة الإكلينيكية. ومن ثم فهو قلما يصبح موضوعا صريحا فى جلسات العلاج، وبخاصة العلاج القصير الأمد. إلا أننا لا نعدم من المرضى من هو مغمور بهذا الصنف من القلق بشكل صريح منذ بداية العلاج. فهناك كثير من المواقف الحياتية التى تدهم المريض بقلق الموت بحيث لا يجد المعالج بدا من تناوله. أما فى سياق العلاج المكثف الطويل الأمد فإن قلق الموت يتبدى دائما بشكل سافر ويفرض نفسه على العمل العلاجى.
القلق فى الإطار الوجودى وثيق الصلة بالجياة ولصيق بالوجود، بحيث ينأى بمفهومه عن مفهوم القلق فى أى إطار مرجعى آخر. فالطريف أن المعالج الوجودى لا يعمد إلى استصال القلق! (اللهم إلا الدرجات الزائدة المعطلة منه). فالحياة لا يمكن أن تعاش بلا قلق (ولا الموت يمكن أن يواجه بلا قلق). إن مهمة المعالج، كما يذكرنا ماي، هى أن يخفض القلق إلى مستويات محتملة، لكى لا يلبث أن يوظفه ويستخدمه استخداما بناءا كمرشد ودليل ووسيلة يزيد بها وعى المريض وحيويته.
ثمة حقيقة هامة يجب أن نحفظها جيدا : فرغم أن قلق الموت قد لا يكون داخلا فى الحوار العلاجى بشكل صريح، فإن وجود نظرية فى القلق مبنية على الوعى بالموت، قد تمد المعالج بإطار مرجعى أو نظام تفسيرى يعزز تأثيره ويرفع كفاءته بدرجة كبيرة. فكل من المعالج والمريض يريد أن يسلك الأحداث فى تسلسل مترابط. وما إن يتسنى ذلك حتى يغمر المعالج شعور بالتحكم والتمكن يسمح له بتنظيم المادة الإكلينيكية. إن ثقة المعالج بنفسه وشعوره بالتمكن سيعزز ولا شك ثقة المريض فى العملية العلاجية – وهو شرط ضرورى للعلاج. زد على ذلك أن النظام الاعتقادى للمعالج كثيرا ما يساعد على إبقاء المريض والمعالج لصيقتين ملتئمين فيما تنمو وتزدهر الأداة الحقيقة للتغيير.. ألا وهى العلاقة العلاجية.
إن النظام الاعتقادى للمعالج يمده بنسق معين يتيح له أن يعرف ماذا يريد أن يستكشف بحيث لا يصبح المريض مرتبكا مشوشا. وهو إن كان لا ينتهى إلى تفسيرات صريحة كاملة للجذور اللاشعورية لمشكلة المريض، إلا أنه قد يثبت، بحذق وتوقيت مناسب، تعليقات تمس المكنون اللاشعورى للمريض، وتجعله يشعر بأن هناك من يفهمه.
العزلة الوجودية والعلاج النفسي:
يكتشف المرضى فى العلاج النفسى أن العلاقات الشخصية قد تخفف وطأة العزلة ولكنها لا يمكن أن تمحوها. ويتعلم المرضى الذين يمارسون النمو فى العلاج النفسى مردود الألفة وحدودها أيضا! أى ما لايمكن أن يأخذوه من الاخرين.
إنها لخطوة كبرى فى العلاج النفسى أن نحث المرضى أن يتجهوا مباشرة إلى العزلة الوجودية ولا يراوغوها. وأن ينغمدوا ببسالة فى مشاعر الوحدة والتيه. إن الذين يفتقرون فى حياتهم إلى خبرات الألفة الحقة والعلاقة الأصيلة هم العاجزون بخاصة عن تحمل العزلة. وقد أثبت أوتو ويل أن المراهقين الذين ينشأون فى أسر تعهدتهم بالحب والمساندة يكونون أقدر على تركها وتحمل البعد والوحدة إذا ما أزف وقت الانفصال عنها فى مقتبل الشباب.
بينما يجد الذين نشأوا فى أسر معذبة مفككة صعوبة كبيرة فى ترك الأسرة. ربما يبتدر إلى توقعنا أن هؤلاء المعذبين أجدر بهم أن يهللوا ويبتهجوا إذ يستشرقون مرحلة التحرر والانعتاق من مثل هذه الأسر. ولكن العكس هو ما يحدث. فكلما ساءت الأسرة واضطربت كلما تعذر على الأبناء تركها. لكأن هؤلاء الأبناء لم تحسن الأسرة تجهيزهم للانفصال ومن ثم فهم يتشبثون بها كدريئة تقيهم ألم العزلة والقلق.
يجد كثير من المرضى صعوبة هائلة فى قضاء الوقت بمفردهم. وهم بالتالى ينظمون برنامج حياتهم بحيث يقصون أى وقت للوحدة. ومن المشاكل الجسيمة التى تتبع ذلك أنهم يستميتون فى التماس ضروب معينة من العلاقات. إنهم بطريقة أو بأخرى لا يرتبطون بالشخص الآخر بعلاقة أصيلة ولا يكنون له حبا حقيقا، بل يستعملون الآخرين لكى يتجنبوا بعض الألم المصاحب للعزلة. وعلى المعالج أن يجد طريقة يساعد بها المرض على مواجهة الوحدة بتدرج مناسب وفى ظل نظام من الدعم والمساندة ملائم لذلك المريض. وينصح بعض المعالجين مرضاهم فى مرحلة متقدمة من العلاج بأن يلزموا أنفسهم بفترات من الوحدة، أو يصفون لهم جرعات زمنية من العزلة يفرضونها على أنفسهم فرضا، ويرصدون أثناءها أفكارهم ومشاعرهم ويسجلونها.
اللامعنى والعلاج النفسي:
لكى يتمكن المعالجون من تناول اللامعنى بكفاءة واقتدار، يجب عليهم أولا أن يزيدوا حساسيتهم لهذا الموضوع.. أن يصغوا بطريقة مختلفة.. أن يصبحوا على وعى ودراية بأهمية المعنى فى حياة الأفراد. قد تكون هذه المشكلة غير محورية عند بعض المرضى. ولكن هناك من المرضى من يكون إحساسهم باللامعنى عميقا غامرا. وقد قدر يونج
يوما أن أكثر من ثلاثين بالمائة من مرضاه يطلبون العلاج بسبب إحساسهم بخلو حياتهم من المعني([6]).
يجب أن يرهف المعالج حسه لالتقاط البؤرة الإجمالية والوجهة العامة لحياة المريض. هل هذا المريض يتجاوز نفسه ويتناول باهتمامه أشياء تتخطى ذاته؟ أو أنه منغمس بكليته فى روتين الحياة اليومية لا يعدو اهتمامه أن يبقى حيا؟ يروى يالوم (1981) أنه كان يعالج كثيرا من الشبان المنغمسين فى أسلوب حياة العزاب بكاليفورنيا، والذى يتميز إلى حد كبير بالحسية والصخب الجنسى والسعى إلى الوضع المرمرق والأهداف المادية. يذكر يالوم أن علاجة قلما كان يفيد مالم يتمكن من إقناع المريض أن يركز على شيء ما يتجاوز هذه الأهداف.
بمجرد أن ينجح المعالج فى أن يزيد حساسية مرضاه لهذه المسائل، يستطيع أن يعينهم على أن يركزوا على قيم تتجاوز أنفسهم. يستطيع مثلا أن يبدأ فى سؤال المريض عن أنظمته الاعتقادية، ويتقصى بعمق مسألة حبه لشخص آخر، ويستعلم عن آماله و أهدافه البعيدة المدى ويستكشف اهتماماته ومساعيه الإبداعية.
يقول فيكتور فرانكل، وهو خير من عرف للمعنى أهميته فى السيكوباثولوجيا المعاصرة : “السعادة تأتى ولا يؤتى بها”.
فكلما التمسنا الإشباع الذاتى عن عمد وقصد، كلما رواغنا وأفلت منا، ولكن كلما حققنا معنى يتجاوز ذاتنا كلما واتتنا السعادة عن رضا وطيب خاطر. ويرى فرانكل أن هذا يعنى أن بعض المرضى يجب أن نحثهم على أن يصرفوا نظرهم عن أنفسهم. وهو ما يسميه فرانكل خفض التفكر dereflection.
يجب أن يجد المعالجون طريقة تنمى فى مرضاهم شيئا من الشغف بالآخرين والاهتمام بهم. ولعل العلاج الجمعى أنسب وسط يمكن أن تتم فيه هذه المحاولة. لنضرب مثلا بالمرضى النرجسيين المنغمسين بذاتهم. إن الأسلوب الذى به يأخذون دون أن يعطوا يصبح ساطع الوضوح فى العلاج الجمعى. فى مثل هذه الحالات يجمل بالمعالج أن يزيد ميل الفرد وقدرته على أن يشارك الاخرين وجداناتهم بأن يطلب من المرضى من حين لآخر أن يحدسوا بما يشعر به الاخرون إبان التقلبات المختلفة فى مسيرة الجماعة.
ويبقى الحل الأمثل لمشكلة اللامعنى هو المشاركة. فالمشاركة المخلصة فى أى نشاط من أنشطة الحياة التى لا تحصى يعزز احتمال أن يسلك الفرد أحداث حياته فى شكل متسق ما. أن تجد بيتا، أن تتهم بأفراد آخرين، أن تهتم ببعض الأفكار والمشروعات، أن تبحث، أن تبدع، أن تبنى. لكل هذه الأشياء ولغيرها من صور المشاركة جزاء مضاعف. فهى تثرى حياة الفرد داخليا، وتذهب عنه الضيق والكرب الناجم عما يمطره به الوجود من معطيات خام متشظية لا ينتظمها شكل ولا يأتلفها معنى.
يجب أن يتناول المعالج مسألة المشاركة بنفس التوجه الموقفى الذى يستخدمه بشأن الرغبة. فليس بمقدور المعالج أن يخلق المشاركة أو يبث فى المريض روح المشاركة، ولاهذا بالشيء الضرورى. فالحق أن الرغبة فى المشاركة فى الحياة هى دائما كامنة بالمريض وما على المعالج إلا أن يزيل من دونها العوائق، فيشرع فى استكشاف ماذا يمنع المريض من أن يحب شخصا آخر؟ لماذا لا يجد رضا وإشباعا فى علاقته مع الاخرين؟ لماذا لا يجد إشباعا فى عمله؟ ماذا يصده عن أن يبحث عن عمل على مقاس مواهبه واهتماماته؟ أو أن يجد بعض الجوانب السارة فى عمله الحالي؟ لماذا أهمل السعى الإبداعى والكدح الدينى والأهداف المتجاوزة لذاته؟
تطبيقات
فى كثير من الأحيان تكون طبيعة الموقف العلاجى هى التى تملى المدخل العلاجى الأنسب لها. وهى قاعدة تنسحب بدورها على العلاج الوجودى. وعلى المعالج فى كل برنامج علاجى أن يحدد أهدافه المرجوة وفق ما يقتضيه الموقف العلاجى. ففى الحالات الحادة، على سبيل المثال، حيث يقيم المريض فى المستشفى أسبوعا أو اثنين، تكون غاية المعالج هى التدخل السريع لتخفيف الأعراض وإعادة المريض إلى مستوى أدائه السابق على الأزمة. ومن غير الواقعى وغير المناسب فى هذا المقام أن يطمح المعالج إلى غايات أبعد أو أهداف أعمق (كأن يزيد وعى المريض بالصراعات الوجودية).
أما فى المواقف التى لا يقنع فيها المريض بإزالة الأعراض بل يصبو إلى تحقيق مزيد من النمو الشخصي، فإن المدخل الوجودى يكون خيارا مفيدا. ويعد المدخل الوجودى الدقيق بأهدافه الطموحه هو أنسب المداخل فى العلاج الطويل الأمد. بل إن العلاجت القصيرة الأمد لا تستغنى فى أغلب الأحيان عن بعض العناصر الوجودية من مثل التأكيد على المسئولية، والقرار، والمواجهة الأصيلة بين المعالج والمريض، وعمل الحزن… وما إلى ذلك.
وتصبح الحاجة إلى المدخل الوجودى ماسة حين يكون المريض مواجها لأحد المواقف الحدية: كأن يكون فى مواجهة مع الموت، أو فى مواجهة قرار مصيري، أو حين تلقى به الظروف فى عزلة مفاجئة، أو حين يمر بمعالم حياتية تمثل نقاط تحول كبرى وانتقالا من مرحلة حياتية إلى مرحلة جديدة (مثل ترك الأبناء بيت العائلة، ومثل التقاعد، والفشل المهني، والانفصال الزوجى والطلاق والمرض الجسيم). غير أن الأمر لا يقتصر على هذه الأزمات الوجودية الصريحة ; ففى كل برنامج علاجي، كما أشرنا آنفا، هناك أدلة وافرة على معاناة المرضى من كروب ناجمة عن صراعات وجودية لا يفطن لها إلا معالج وجودى اتسعت مداركه وتهيأ توجهه الموقفى لالتقاط مثل هذه المعطيات.
ولا يصح العمل العلاجى على هذه المستويات الأعمق إلا بقرار يشترك كل من المعالج والمريض فى اتخاده.
التقييم Evaluation ([7])
تقييم العلاج النفسى مهمته دائما. وكقاعدة عامة:
كلما كان المدخل والأهداف العلاجية أكثر تحددا واقتصارا كلما كانت النتائج أسمح بالقياس وأيسر فى التقييم. فبمقدور المرء أحيانا أن يقيس زوال الأعراض وتغير السلوك الظاهر بدقة كبيرة. ولكن العلاجيات الأكثر طموحا والتى تستهدف من الفرد الطبقات الأعمق من نمط وجوده فى العالم، هى علاجات تتأبى على القياس وتند عن التكميم quantification وفيما يلى عرض موجز لحالتين أوردهما يالوم (1981) تتمثل فيهما مشاكل التقييم بجلاء ووضوح.
الأولى امرأة فى السادسة والأربعين ترافق أصغر أبنائها الأربعة إلى المطار حيث يرحل عنها إلى الجامعة. لقد قضت هذه المرأة أعوامها الستة والعشرين الأخيرة تربى أبناءها وتتوق إلى هذا اليوم. لا أعباء بعد الان ولا مكابدة من أجل الاخرين، ولا إلحاح طهى ولا تجهيز ملابس.. أخيرا أصبحت حرة.
غير أنها لم تكد تودع ولدها حتى بدأت تنشج بحرقة على غير توقع. وفى طريقها من المطار إلى البيت غشيتها رعدة عميقة أخذت بمجامع جسدها. حدثت نفسها: “هذا أمر طبيعى.. إنه جزع الفراق.. فراق واحد من أعز الأحبة.”غير أن الأمر كان أكبر من ذلك بكثير. فسرعان ما تحولت الرعدة إلى قلق دام لا يشفى ولا يندمل. واستشارت معالجا شخص حالتها تشخيصا شائعا: “متلازمة العش الفارغ” empty nest syndrome. طبيعى أن تكون قلقة. وكيف لا وقد أسست ثقتها واعتبارها طيلة سنوات على أدائها كأم، وفجأة فقدت هذا الأساس وتغير برنامج يومها المألوف وشكل حياتها المعتاد؟ كان هذا تشخيص المعالج الذى مد إليها يد العون.وشيئا فشيئا، وبمساعدة الفاليوم والعلاج التدعيمى وجماعة التدريب على تأكيد الذات وعدد من الدراسات الحرة، ورفيق أو اثنين، وعمل تطوعى نصف وقتى… انخفضت الرعدة إلى رعشة خفيفة ما لبثت أن زالت تماما. وعادت صاحبتنا إلى سكينتها الماضية وتكيفها السابق.
وتصادف أن تكون هذه المريضة جزءا من مشروع بحث علمى عن العلاج النفسى. فطبقت عليها القياسات النفسية المتعلقة بالنتائج العلاجية. ويمكن أن نصف نتائج علاجها بأنها كانت ممتازة على جميع المقاييس المستخدمة – مقياس قوائم الأعراض، تقييم المشكلة المستهدفة، مقياس اعتبار الذات….. واضح أنها حققت تحسنا عظيما.
رغم كل ذلك، يمكننا أن نقول بكل الثقة إننا نعتبر هذه الحالة واحدة من الحالات التى فاتتها الفرصة العلاجية الحقيقة، ونعتبر هذا العلاج واحدا من العلاجات التى أخطأت المرمي!
ولننعم النظر فى حالة مريضة أخرى تمر بنفس الموقف الحياتى ونفس الظروف والملابسات على نحو يكاد يكون صورة طبق الأصل. فى هذه الحالة الثانية عمد المعالج، وكان ذا توجه وجودي، إلى تعزيز الرعدة لا تخديرها. كانت هذه المريضة تمر بما أسماه كيركجارد “القلق الإبداعي”. وقد شاء كل من المعالج والمريضة أن يدعا القلق يقودهما إلى أصقاع هامة للبحث والاستقصاء. حقا كانت هذه المريضة تعانى من متلازمة العش الفارغ ومن مشاكل اعتبار الذات، وكانت تحب ولدها وإن كانت أيضا تحسده على الفرص الحياتية التى لم تتح لها أبدا، وبطبيعة الحال كانت تشعر بالذنب إزاء هذه الوجدانات الوضعية.
لم يكن هذا المعالج يقنع بالحل اليسير فيدبر لها طرقا تساعدها على ملء وقتها الشاغر بل انطلق فى استكشاف لمعنى الخوف من العش الفارغ. لقد كانت دائما تتوق إلى الحرية فما بالها الآن فزعة منها؟ ما السبب؟
شاء حس الطالع أن يضع فى يد المعالج هذا الحلم الذى أضاء له معنى الرعدة. روت المريضة أنها رأت فى المنام أنها تمسك بشريحة فوتوغرافية مقاس 35 ميلليمترا تصور ولدها وهو يتلاعب بالكرات كالحاوى ويتشقلب كالبهلوان. وجعلت تتأمل الشريحة ببساطة وحسن نية. إلا أنها كانت صورة غير عادية ; إذ كانت تبرز الحركة. لقد شهدت ولدها فى أوضاع حركية عديدة فى نفس الوقت. وفى تحليل الحلم كانت تداعياتها الذهنية تدور حول ثيمة الوقت.. الزمن. كانت الصورة تقبض على الزمن والحركة وتؤطرهما. كانت تحفظ كل شيء حيا ولكنها توقف كل شيء أيضا وتثبته. كانت تجمد الحياة. “الزمن يتحرك”، قالت، ولا سبيل إلى إيقافه.. لم أرد جون أن يكبر.. سواء أردت ذلك أم لم أرد فالوقت يتحرك.. يتحرك بالنسبة لجون ويتحرك بالنسبة لى أيضا”.
التناهى.. الفناء..هو موضوع هذا الحلم. لقد وضع لها تناهيها فى بؤرة واضحة. وبدلا من أن تهرع إلى شغل الوقت بشتى التلهيات فقد تعلمت أن تعرف للوقت قيمته وتقدره حق قدره كما لم تفعل من قبل. لقد دخلت فى النطاق الذى وصفه هيدجر بالوجود الأصيل authentic being وأخذها الدهش لا للطريقة التى توجد بها الأشياء بل بالأحرى لوجود الأشياء على الإطلاق.. الوجود ذاته.
يستطيع المرء أن يبرهن بالحجة على أن المريضة الثانية قد أفادت من العلاج أكثر مما أفادت المريضة الأولى. ولكن من غير المتاح أن يثبت هذه النتيجة بأى مقياس معيارى للمآل. لعل المريضة الثانية قد بقى لها من القلق أكثر مما بقى للمريضة الأولى. ولكن القلق جزء من الوجود، ولن يتسنى لأى فرد آخذ فى النمو والإبداع أن يتحرر منه أبدا.
العلاج:
يجد العلاج الوجودى مجاله ويصول صولته فى المشهد العلاجى الفردى بالدرجة الأساس. غير أن كثيرا من التيمات والبصائر الوجودية قد تطبق بنجاح فى كافة المواقف العلاجية الآخرى بما فيها العلاج الجمعى والعلاج الأسرى وعلاج الأزواج وغيرها.
ويخطى مفهوم المسئولية على وجه الخصوص بقابلية واسعة للتطبيق، فهو عماد العملية العلاجية الجمعية. يقوم العلاج الجمعى أساسا على العلاج البينشخصى. فالشكل الجمعى هو المضمار المثالى لاختبار شتى صور السلوك اللاتكيفى وتصحيحها. ولكن تيمة المسئولية تبقى دائما أساسا وطيدا لكثير من العمل البينشخصى. ولنتفحص على سبيل المثال هذا التتابع الذى يحاول خلاله المعالجون الجمعيون، بشكل صريح أو ضمني، أن يوجهوا مرضاهم:
1 – يتعرف المرضى كيف ينظر الآخرون إلى سلوكهم (يتعلم المرضى خلال التغذية المرتجعة feed-back من باقى أعضاء الجماعة أن يروا أنفسهم بعيون الآخرين).
2 – يتعرف المرضى كيف يؤثر سلوكهم على شعور الآخرين (خلال مشاركة الأعضاء بعضهم بعضا استجاباتهم الوجدانية الشخصية).
3 – يتعرف المرضى كيف يشكل سلوكهم آراء الاخرين فيهم (يتعلم الأعضاء عن طريق مشاركة مشاعر هنا والآن أن الآخرين يكونون آراء معينة عنهم وفق سلوكهم).
4 – يتعرف المرضى كيف يؤثر سلوكهم فى آرائهم عن أنفسهم (فالمعلومات المحصلة من الخطوات الثلاث الأولى تؤدى بالمريض إلى صياغة تقييمات معينة عن نفسه).
تبدأ كل خطوة من هذه الخطوات الأربع كما نرى بسلوك المرضى ذاته. ذلك السلوك الذى يؤكد دورهم فى تشكيل العلاقات البينشخصية. والنقطة الأخيرة فى هذا التتابع هى أن أعضاء الجماعة يبدأون فى استيعاب أنهم مسئولون عن الطريقة التى يعاملهم بها الآخرون، بل أيضا عن الطريقة التى يقيمون بها أنفسهم.
هذه إحدى الجوانب الرائعة للعلاج الجمعي: كل الأعضاء يولدون معا.. ينطلقون من خط بداية واحد. كل عضو يفرغ لنفسه مكانا فى الجماعة ويضع لهذا المكان شكله الخاص. بذلك يكون كل عضو مسئولا عن الوضع البينشخصى الذى أفرغه لنفسه فى الجماعة (وبالتالى فى الحياة أيضا)(ذ[8]) العمل العلاجى الجمعى إذن لا يتيح للأفراد فحسب أن يغيروا أسلوب علاقتهم ببعضهم البعض، بل يكشف لهم أيضا بقوة ووضوح إلى أى حد كانوا هم أنفسهم مساهمين فى خلق مأزقهم الحياتى الخاص – وهو كما نرى ميكانزم علاجى وجودى واضح.
وكثيرا ما يستخدم المعالج مشاعره الخاصة لكى يستبين مدى إسهام المريض فى خلق مأزقه الحياتى الخاص. ولنضرب لذلك المثال التالى :
هذه مريضة بالاكتئاب فى الثامنة والأربعين من عمرها، كانت تشكو بمرارة سوء معاملة الأبناء لها. كان أبناؤها لا يحفلون برأيها، وكانوا يضجرون منها، وحين يحزب أمر يتوجهون بحديثهم إلى أبيهم.
عندما أرهف المعالج انتباهه إلى أحاسيسه تجاه هذه المريضة تبين فى صوتها نبرة ناحبة تهيب به ألا يأخذ كلامها مأخذ الجد، وأن ينظر إليها كطفلة بشكل ما وقد أفضى إليها بهذه المشاعر فعاد عليها ذلك بفائدة عظيمة، وبدأت تفطن إلى طفولية سلوكها فى مجالات كثيرة، وتدرك كيف أن أبناءها كانوا يعاملونها بالضبط كما كانت تطلب هى أن تعامل (تطلب ذلك ضمنا خلال نجيب صوتها وأعذارها القائمة على الضعف واكتئابها ومسكنتها).
كثيرا ما يواجه المعالجون حالات مرضى مصابين بهلع بسب أزمة قرار يمرون بها. يصف يالوم (1981) طريقة علاجية لتناول مثل هذا الموقف. تتمثل الخطة الأساسية للمعالج فى كشف النقاب عن المتضمنات الوجودية للقرار وتقييمها. كانت مريضة يالوم أرملة فى السادسة والستين من عمرها. جاءت تلتمس العلاج إذ كانت حائرة مكروبة بسبب أزمة قرار. كان لديها منزل صيفى تريد بيعه ولكنها عاجزة عن اتخاذ قرار البيع. كان هذا المنزل يبعد مائة وخمسين ميلا عن محل إقامتها الدائم. وكان يتطلب عناية دائمة وانتباها مستمرا لرعاية الحديقة والصيانة والحماية، مما يشكل عبئا كبيرا على امرأة واهنة مسنة. وكان للاعتبارات المالية دخل أيضا فى هذا القرار. وقد سألت كثيرا من الماليين والعقاريين أن يقدموا لها العون فى اتخاذ الرأى.
شرع المعالج والمريضة يستكشفان كثيرا من العوامل الداخلة فى القرار ثم أمعنا فى الاستكشاف إلى عمق أكبر. وفى الحال بزغ عدد من الأمور المؤلمة: كان زوجها قد توفى قبل عام وكانت ما تزال فى حداد عليه. وكان المنزل مايزال يغنى بحضوره، والأدراج والخزانات تعج بممتلكاته الشخصية. كان قرار بيع المنزل يستلزم قرارا آخر بأن تستوعب المرأة حقيقة أن زوجها لن يعود أبدا. وثمة عامل آخر هو القيمة الترفيهية للمنزل. لقد طالما أسمته فندقها لأنها كانت تستضيف فيها دائما أعدادا كبيرة من الناس. كانت السيدة تعتبر المنزل هو ورقتها الرابحة، وقد بدأت تداخلها شكوك كبيرة فيما إذا كان أحد سوف يظل يزورها دون إغراء عقارها الجميل. كان قرار البيع إذن يطوى داخله امتحانا لإخلاص أصدقائها وولائهم، ومجازفة قد تورث الوحدة والعزلة. وكان هناك سبب بعد يتمركز على مأساة حياتها الكبري; فقد كانت هذه السيدة بتراء لا أبناء لها. وقد طالما تخيلت العقار ينتقل إلى أولادها وأولاد أولادها. إلا أنها كانت الورقة الأخيرة ونهاية الخط. بذلك يكون قرار بيع المنزل بمثابة اعتراف بفشل مشروعها الأكبر للخلود الرمزى. لقد استخدم المعالج قرار بيع المنزل كنقطة انطلاق إلى هذه المسائل الأعمق وتمكن فى النهاية أن يساعد هذه السيدة على أن تندب زوجها ونفسها وأولادها الذين لم يولدوا.
ما إن يتم التناول الاستيعابى للمعانى الأعمق لقرار ما حتى ينزلق القرار بذاته بتلقائية ويسر. وفى حالة مريضتنا هذه فقد استطاعت بعد حوالى اثنتى عشرة جلسة أن تتخذ قرار البيع دون جهد.
إدارة العلاقة العلاجية:
العلاج الوجودى هو نموذج إرشادى paradigm أو إطار مرجعى frame of reference وليس تنظيما ذا قواعد محددة المعالم. وهذا ما يجعل ترتيبات الممارسة اليومية الخاصة به شيئا يصعب تحديده. فهى تتباين تباينا كبيرا وتتوقف على انتماء المعالج الأيديولوجى والتنظيمى.
يسعى المعالجون ذوو التوجه الوجودى لتحقيق علاقات مع مرضاهم تتسم بالصدق والمكاشفة المتبادلة. وهم وفق ذلك ينظمون المشهد العلاجى. فلا مناضد تقف بين المريضة والمعالج. ولا حوائط مغطاة بشهادات توحى بالسلطة. يتخاطب المعالج والمريض بندية وبالاسم الأول لكليهما. يحاول المعالج جهده أن يخفض الغموض والسرية فى العملية العلاجية، ويجيب على الأسئلة بصراحة وتمام – لا أن يبقى جامدا فى محاولة لإثارة التحريفات الطرحية.
تؤدى العلاقة بين المعالج والمريض وظائف مركزية كثيرة فى العلاج فهى مثلا تساعد المريض على أن يجلو علاقاته الأخرى ويخلصها من الشوائب. فجميع المرضى تقريبا يحرفون جانبا من علاقتهم بمعالجهم. وبوسع لمعالج، إذ يمتح من معرفته بنفسه وخبرته برأى الآخرين فيه، أن يساعد المريض على أن يميز بين الواقع والتحريف.
هناك أيضا فائدة كامنة فيما ينهجه المدخل الوجودى من دفع المريض إلى إقامة علاقة حقيقية مع المعالج (كنقيض لعلاقة الطرح). فما إن يصبح المريض قادرا على أن يقيم علاقة عميقة بالمعالج حتى يكون ذلك شهادة على أنه قد تغير. إنه ليتعلم أن إمكانية الحب تكمن داخله، وتعوده مشاعر كانت هاجعة فيه. ولا ضير أن تكون صلته بالمعالج عابرة مؤقتة; فخبرة الألفة هى خبرة باقية لا يمكن أن تسلب أو تنتزع، فهى تبقى فى عالمه الداخلى كنقطة مرجعية دائمة وعلامة تذكره بقدرته على الاقتراب الحميم، وقابليته للود والألفة.
إن لقاء حميما مع معالج هو خبرة تحمل للمريض مالا تحمله علاقاته بسائر الناس. فالمعالج أولا هو شخص يكن له المريض احتراما خاصا. والمعالج ثانيا، وهو الأهم، هو شخص (ربما الوحيد) يعرف المريض معرفة حقة.. يعرفه كما هو بالفعل، فأن تفضى إلى شخص بأدق أسرارك وأفحش أفكارك وأخفى أحزانك وتفاهاتك وأهوائك ثم تبقى مقبولا من جانبه – تلك خبرة إيجابية إلى أقصى حد.
ثمة خلاف كبير حول طبيعة العلاقة المثالية التى ينبغى أن تكون عليها علاقة المعالج والمريض. فالمعالج لا يخلو عالمه من غضاضة ليس منها بد : إن مفاهيم مثل : جلسات مدتها خمسون دقيقة، كذا جنيها فى الساعة، الدفع عند طرف ثالث، لاشك غير مريحة ولا تتسق مع تصورنا المعتاد للعلاقة الراعية الأصيلة. زد على ذلك أن علاقة المعالج – المريض تفتقر تماما إلى صفة التبادلية; فالمريض هو الذى يذهب إلى المعالج طلبا للعون بينما المعالج لا يذهب إلى المريض.
يؤكد جميع المفكرين الوجوديين من أمثال إريك فروم([9]) وإبراهام ماسلو ومارتن بيوبر أن العناية الحقيقية بشخص آخر تعنى أن نهتم بنمو هذا الآخر وأن نحيى فيه شيئا ما. إن مبرر وجود المعالج هو أن يكون”قابلة”midwife يولد فى المريض تلك الحياة التى لم يعشها بعد. ويستخدم بيوبر مصطلح”البسط”Unfolding بوصفه السبيل التى يجب أن يسلكها كل من المعلم والمعالج. ويعنى البسط أن يرفع المرء النقاب عما كان هناك طيلة الوقت. ويعج مصطلح”البسط”بتضمينات ثرية ويقف على نقيض تام من أهداف المعالجين من المدارس الآخرى (مثل إعادة البناء، فض الإشراط، التشكيل السلوكي، الوالدية المعادة). يساعد المعالج مريضه على أن ينبسط بواسطة التلاقى.. التواصل الوجودى. فالمعالج ليس مشكلا ولا موجها، بل هو على حد قول سكوين”كاشف إمكانيات”Possibilitator
ربما يكون أهم المفهومات قاطبة فى وصف علاقة المعالج – المريض هو ما أسماه رولو ماى وآخرون (1958) بالمواكبة أو الحضور presence فالمعالج يجب أن يواكب المريض وأن يسعى نحو علاقة أصيلة به. وحتى لو كان المعالج يقضى معه ساعة واحدة كل أسبوع فإن من الأهمية بمكان أن يكون المعالج”هناك”طيلة هذه الساعة..أن يكون حضوره تاما مليئا، ومشاركته مركزة مكثفة. أما إذا أخذه السأم والضجر والغفلة عن مريضه، أو كان يترقب انتهاء الساعة بصبر نافد، فإنه يفشل بنفس الدرجة فى أن يمد المريض بالعلاقة التى هو فى أمس الحاجة إليها.
مثال من حالة مرضية.
حالة طلاق بسيطة
إنها حالة أحد العلماء، وهو فى الخمسين من عمره، وسنسميه ديفيد. كان متزوجا طوال سبعة وعشرين عاما. وقد قرر حديثا أن ينفصل عن زوجته. تقدم ديفيد للعلاج بسبب القلق الذى كان يساوره وهو يترقب مواجهة زوجته بهذا القرار.
يعد هذا الموقف من أوجه عديدة سيناريو نموذجيا لأزمة منتصف العمر. كان للمريض ولدان أتما تعليمهما وتخرج أصغرهما توا فى الجامعة. كان الأبناء من وجهة نظره هم العنصر الوحيد الذى بربطه بزوجته، وها قد أصبحوا فى كامل النضج والاعتماد على النفس، ولم يعد هناك ما يبرر استمرار الزواج. يروى ديفيد أنه لم يكن قط قانعا بزواجه طوال هذه السنوات. وقد سبق له أن ترك زوجته ثلاث مرات، ولكنه سرعان ما كان يعود إلى بيته بعد أيام قليلة خزيان منكسرا. وانتهى إلى قناعة أن زواجه على رداءته وسوئه كان أهون على كل حال من حياة الوحدة.
كان السبب الأساسى لتعاسته الزوجية هو الملل. لقد التقى بزوجته وهو فى السابعة عشرة من عمره، فى وقت كان فيه عديم الثقة بنفسه، خاصة فى علاقته بالنساء. كانت زوجته أول امرأة فى حياته تبدى اهتماما به. ينحدر ديفيد (وكذلك زوجته) من عائلة من الطبقة الكادحة. كان موهوبا ذهنيا بدرجة غير عادية، وأول فرد من عائلته يلتحق بالجامعة. فاز ديفيد بمنحة دراسية بإحدى الكليات النظرية، وحصل على درجتين من الدراسات العليا. وانطلق فى سيرة بحثية أكاديمية بارزة. لم تكن زوجة ديفيد موهوبة ذهنيا، ولم تشأ أن تلتحق بالجامعة. وكانت تعمل فى السنوات الأولى من الزواج لتسانده ماديا أثناء دراسته العليا.
كانت الزوجة مكبة معظم الوقت على رعاية الأبناء، بينما كان ديفيد يواصل مسيرته المهنية بشدة وعرامة. كان دائم الملل من صحبتها ودائم الإحساس بخواء علاقتهما الزوجية. فهى فى رأيه متواضعة الذهن للغاية ومحدودة الآفاق، بحيث يبرم من الانفراد بها ويتحرج أن يقدمها لأصدقائه. كان يحس أنه يتحول وينمو بلا توقف بينما هى تزداد على الأيام تصلبا وجمودا وعجزا عن تقبل الأفكار الجديدة.
ويتم السيناريو المعهود لرجل فى أزمة منتصف العمر ينشد الطلاق، بظهور المرأة الأخرى – كانت امرأة ذكية جذابة مفعمة بالحيوية تصغره بخمسة عشر عاما.
كان علاج ديفيد طويلا معقدا برزت أثناءه تيمات وجودية عديدة.
من هذه التيمات تيمة”المسئولية”فقد كانت المسئولية مسألة على جانب كبير من الأهمية فى قراره ترك زوجته. هناك أولا المعنى الأخلاقى للمسئولية. إن زوجته، بعد كل شيء، هى التى أولدته أولاده وربتهم، ودعمته ماديا خلال دراسته العليا. أما باعتبار السن فهو الآن بالمقارنة بزوجته يعد أكثر رواجا بكثير فهو أقدر منها كثيرا على كسب العيش. وهو لايزال من الوجهة البيولوجية قادرا على إنجاب أطفال وتنشئتهم. السؤال إذن : ما هى مسئولية ديفيد الأخلاقية تجاه زوجته؟
كان لدى ديفيد حس أخلاقى عال كفيل أن يعذبه بقية عمره بهذا السؤال. وكان لابد لهذا السؤال أن يطرح أثناء العلاج ويمحص. ومن ثم كان لابد للمعالج أن يواجه ديفيد صراحة بموضوع المسئولية الأخلاقية أثناء عملية صنع القرار. كانت أفضل طريقة للتعامل مع هذا الكرب التوقعى هو ألا يدخر ديفيد وسعا فى محاولة تحسين أوضاعه الزوجية، وبالتالى إنقاذ زواجه.
التحم المفهوم الوجودى للمسئولية بعملية إنقاذ الزواج هذه وبدأ المعالج يمحص مدى مسئولية ديفيد عن فشل الزواج; فإلى أى حد كان ديفيد مسئولا عن حياة زوجته وشكل وجودها معه؟ لم يكن خافيا على المعالج ما يتمتع به ديفيد من بديهة حاضرة وخاطر سريع رشيق. بل لعل المعالج نفسه كان يحس بشيء من التهيب إزاء عقل ديفيد وبشيء من الخشية من أن ينتقده ديفيد أو يدينه فإلى أى حد كان ديفيد انتقاديا مدينا؟ أليس من المحتمل أن هذا الرجل هو الذى سحق زوجته وأخمد جذوتها؟ وأنه كان بإمكانه أن يساعدها على أن تزيد حصيلتها من المرونة والتلقائية والوعى بالذات؟
قام المعالج أيضا بمساعدة ديفيد على استقصاء مسألة أخرى على جانب عظيم من الأهمية: هل كان زواج ديفيد مجرد رمز لشيء آخر هو هو مصدر الكرب فى حياته؟ هل كان يعلق على شماعة الزواج خيبات تنتمى إلى بقاع أخرى من حياته؟ ما إن بدأ ديفيد يبحث هذه المسألة حتى قاده البحث إلى قلب الديناميات الأزلية لأزمة منتصف العمر. فقد روى ديفيد حلما مهد الطريق إلى بعض الديناميات الهامة:
”كان لدى مشكلة بخصوص تميع الأرض بالقرب من حمام السباحة عندى. جون (صديق كان يشارف الموت بالسرطان) يغوص فى الأرض. كأنما هى رمال متحركة. أخذت أثقب أسفل الرمال المتحركة بحفار ضخم. كنت أتوقع أن أجد نوعا من الفراغ تحت الأرض، ولكن بدلا من ذلك وجدت لوحا من الأسمنت على بعد خمسة إلى ستة أقدام إلى أسفل وجدت على اللوح إيصالا نقديا بموجبه دفع لى أحد الأشخاص مبلغ 501 دولار. كنت فى الحلم قلقا جدا من أمر هذا الإيصال; لأن المبلغ كان أكبر بكثير مما يحق أن يكون.”
من أهم الموضوعات التى يدور حولها هذا الحلم موضوع الموت و الشيخوخة. فهناك أولا مسألة هذا الصديق المصاب بالسرطان. حاول ديفيد أن يعثر على صديقه باستخدام مثقاب ضخم. أحس ديفيد فى الحلم شعورا بالتحكم والقوة أثناء عملية الحفر. بدا واضحا أن الحفار رمز قضيبي، وأتاح ذلك استقصاء مفيدا للجانب الجنسي، كان ديفيد دائما مدفوعا جنسيا، وقد أوضح الحلم كيف أنه كان يستخدم الجنس (وبخاصة مع امرأة شابة) كوسيلة يتغلب بها على الشيخوخة والموت. وأخيرا يفاجأ باللوح الأسمنت (الذى يثير تداعيات المشرحة والقبور وأحجار القبور).
وقد أدهشته الصور الرقمية فى الحلم (فاللوح كان على عمق خمسة إلى ستة أقدام، والإيصال كان بخمسمائة وواحد دولار بالضبط). وقد قدم ديفيد فى تداعياته ملاحظة مثيرة: هى أن عمره خمسون عاما وأن ليلة الحلم كانت ليلة ميلاده الحادى والخمسين. ورغم أنه لم يكن مشغولا بعمره على مستوى الشعور، فقد كشف الحلم أنه كان مهموما على مستوى اللاشعور بكونه قد تجاوز الخمسين فإلى جانب اللوح الذى كان على عمق خمسة إلى ستة أقدام، والإيصال الذى تجاوز الخمسمائة دولار توا، كان هناك أيضا قلقه البالغ فى الحلم من ضخامة المبلغ الذى يحمله الإيصال. لقد كان ديفيد ينكر علو سنه على مستوى الشعور. وكان موقفه الغالب هو أنه ينمو ويتوسع بسرعة كبيرة، وأنه أوفر صحة من أى وقت مضي، وأنه جعل حديثا يجرى عشرة أميال كل يوم. أما عن مسيرته المهنية فقد كان يعتبر نفسه فى مرحلة نمو سريع وأنه مشرف على تحقيق كشف علمى اختراقى كبير.
فإذا كانت أزمة ديفيد الكبرى نابعة من وعيه المتنامى بشيخوخته واضمحلاله، إذن يكون تعجيله بالانفصال عن زوجته بمثابة رمية خاطئة أو محاولة لحل مشكلة غير المشكلة الحقيقية. هذا ما جعل المعالج يدفع ديفيد إلى استقصاء دقيق لمشاعره تجاه شيخوخته وفنائه. فلم يكن بد من الإحاطة التامة بهذه الأمور قبل أن يكون بوسعه تقدير الحجم الفعلى لمصاعبة الزوجية. وقد قام المعالج والمريض باستقصاء هذه المسائل شهورا عديدة، حاول ديفيد خلالها أن يكون أكثر صدقا وإخلاصا من ذى قبل فى معاملة زوجته. كما استعان هو وزوجته بمعالج زواجى لعدة أشهر.
بعد أن اتخذ ديفيد هذه الخطوات واستنفد هذه الوسائل، قرر هو وزوجته أن لا سبيل إلى إنقاذ الزواج، فانفصلا بالفعل. كانت الأشهر التى أعقبت الانفصال شديدة الصعوبة. وقد أمده المعالج بالطبع بالمساندة اللازمة خلال هذه المدة، ولكنه لم يحاول أن يحمل ديفيد على إزالة قلقه، بل حاول بالأحرى أن يساعده على أن يوظف القلق بشكل بناء. كان ديفيد أميل إلى التعجيل بزواج ثان، بينما ظل المعالج مصرا على أن يتريث ديفيد وينظر بعين الاعتبار إلى مسألة خوفه من العزلة، ذلك الخوف الذى كان يرده إلى زوجتة عقب كل انفصال سابق. أصبح يتعين على ديفيد الآن أن يتثبت من أن الخوف ليس هو دافعه إلى التعجيل بزواج ثان.
كان صعبا على ديفيد أن يأبه بهذه النصيحة. فقد كان يحس بعاطفة حب جارفة تجاه المرأة الجديدة فى حياته. إن حالة كون الإنسان”فى حب”هى إحدى الخبرات العظيمة فى الحياة. غير أنها فى الموقف العلاجى تطرح مشكلات كثيرة. فكثيرا ما يكون الانجذاب للحب الرومانسى من القوة بحيث يكتسح أمامه أشد الجهود العلاجية وأكثرها هديا وحصافة. لقد وجد ديفيد أن رفيقته الجديدة امرأة مثالية، وأن ليس له امرأة سواها. وكان يحاول جهده أن يقضى معها كل وقته. فقد كان فى وجودها يحس بحالة من النعمة الموصولة : تتلاشى فيها كل جوانب”الأنا”المنعزلة ولا تبقى إلا حالة مباركة من”النحن”.
أما الشيء الذى حمل ديفيد فى النهاية على أن يجد فى العلاج، فهو أن صاحبته الجديدة بدأت تتخوف بعض الشيء من عنف ضمته. عندئذ فقط بدأ ديفيد يلتفت إلى خوفه البالغ من الوحدة ورغبته الانعكاسية فى الاتحاد بامرأة. وشرع فى برنامج لخفض الحساسية للوحدة. فكان يراقب مشاعره ويدونها فى مفكرة يومية ويتناولها فى جلسات العلاج بجد ومثابرة. دون ديفيد مثلا أن أيام الأحد كانت أصعب الأيام على الإطلاق. كان جدول ديفيد المهنى مزدحما لأقصى درجة، فلم يكن لديه أية مصاعب طوال الأسبوع. أما عطلة الأحد فكانت يوم الفزع الأكبر. لقد بدأ يعى أن جزءا من هذا القلق كان مرده أن عليه يوم الأحد أن يرعى نفسه ويعتنى بشئونه. فإذا أراد أن يفعل شيئا فعليه هو أن يجدول هذا النشاط. فهو لم يعد الآن يتكئ إلى ما كانت تعمله له زوجته. اكتشف ديفيد أن من أهم وظائف الطقوس فى الثقافات المختلفة والجدولة المزدحمة فى حياته الخاصة هو إخفاء الفراغ والخواء وانعدام أى بنية أونظام أو أرضية من تحت المرء.([10])
أدت هذه الملاحظات بديفيد خلال الجلسات العلاجية إلى أن يرى ويجابه حاجته إلى أن يرعى ويحمى. وظلت مخاوف العزلة والحرية تتخطفه شهورا عديدة. ولكنه تعلم شيئا فشيئا كيف يكون وحيدا فى العالم، وماذا يعنى أن يكون مسئولا عن وجوده الخاص. باختصار، تعلم ديفيد أن يكون هو أمه وأباه – وهو دائما هدف من أهم الأهداف العلاجية فى العلاج النفسى.
خلاصة
ينظر العلاج الوجودى إلى المريض كشخص مباشر موجود، وليس كمركب من الدوافع والنماذج البدئية والارتباط الشرطى. صحيح أن للشخص دوافع غريزية وتاريخا، ولكنها غير داخلة فى العلاج الوجودى إلا بصفتها أجزاء أو جوانب لكائن إنسانى يفكر ويشعر ويكافح.. كائن له صراعاته الفريدة وله آماله ومخاوفه وعلاقاته. يؤكد العلاج الوجودى أن القلق السوى والشعور بالذنب كلاهما موجود فى كل حياة إنسانية، ولا يلزمنا أن نغير بالعلاج إلا الصور العصابية منهما. ولن يكون بمقدور الشخص أن يتحرر من القلق والذنب العصابيين ما لم يميز القلق والذنب السويين فى نفس الوقت.
أما الانتقاد القديم للعلاج الوجودى كعلاج مغرق فى الفلسفة، فقد بدأ يخف منذ أدرك الناس أن كل علاج نفسى فعل لا يخلو من متضمنات فلسفية.
يهتم العلاج الوجودى بخبرة الوجود أو خبرة”أنا موجود”، وبالثقافة (العالم) التى يعيش فيها المريض، ودلالة الزمن وأهميته، وذلك الجانب من الوعى الذى يقال له”العلو”أو”التجاوز”transcendence.
يؤكد العلاج الوجودى على الأهمية الكبرى لفعل”الحضور”Presence وفعل المواجهة encounter من جانب المعالج. وقد تمثل ذلك فى فيلم”الناس العاديون”حيث كانت الصفة الرئيسية للمعالج هى حضوره المواكب بإزاء عدوانية أحد المراهقين.
وقد وضع كارل ياسبرز، وهو طبيب نفسى صار فيما بعد فيلسوفا وجوديا، يده على أهمية الحضور وخطورة افتقاده:
”كم فوتنا على أنفسنا من فرص للفهم، لأننا فى لحظة حاسمة فريدة، ورغم كل ما نختزنه من معرفة، كنا نفتقد تلك الفضيلة البسيطة: فضيلة الحضور الانسانى المليء”.
إن هذا الحضور هو ما يريدنا العلاج الوجودى أن ننميه.
كانت الغاية المحورية لمؤسسى العلاج الوجودى هو أن تؤثر مفاهيمهم ومرتكزاتهم فى جميع المدارس العلاجية، وقد كان.
يتجلى عمق الأفكار الوجودية فيما يطلق عليه”العصاب الوجودي”existential neurosis ويشير العصاب الوجودى إلى حالة الشخص الذى يشعر أن حياته لا معنى لها. وما يزال هذا العصاب يرى بشكل متزايد فى المرضى من جميع المدارس العلاجية. كان فرويد فى سنوات تكوينه لا يكاد يعاين إلا حالات هستريا. أما الآن فتقرر جميع المدارس العلاجية أن مرضاها قلما يكونون من الهستيريين، ولكنهم مصابون فى الأغلب الأعم بما نسميه بعصاب الشخصية أو الطبع character neurosis الذى هو صورة أخرى من صور العصاب الوجودى.
ينظر العلاج الوجودى إلى المريض دائما فى سياق ثقافته الخاصة. فمعظم مشاكل البشر الآن هى الوحدة، والعزلة، والاغتراب.
إن عصرنا الحاضر هو عصر تفسخ الأعراف التاريخية والثقافية، الحب والزواج، الأسرة، العقائد الموروثة، وهلم جرا. هذا التفسخ هو الذى جعل العلاج النفسى فى القرن العشرين يزدهر وينتشر بجميع أنواعه. الناس تصرخ طلبا للعون بسبب مشكلاتهم التى يخطئها الحصر. بذلك تشير كل التوقعات إلى أن التوكيد الوجودى على مختلف جوانب العالم (البيئة، والعالم الاجتماعي، والعالم الذاتي) ستزداد أهمية على مر الأيام. ويتنبأ الجميع أن المدخل الوجودى فى العلاج سيكون له عندئذ السهم الوافر والاستخدام الأوسع.
يوما أن أكثر من ثلاثين بالمائة من مرضاه يطلبون العلاج بسبب إحساسهم بخلو حياتهم من المعني*.
يجب أن يرهف المعالج حسه لالتقاط البؤرة الإجمالية والوجهة العامة لحياة المريض. هل هذا المريض يتجاوز نفسه ويتناول باهتمامه أشياء تتخطى ذاته؟ أو أنه منغمس بكليته فى روتين الحياة اليومية لا يعدو اهتمامه أن يبقى حيا؟ يروى يالوم (1981) أنه كان يعالج كثيرا من الشبان المنغمسين فى أسلوب حياة العزاب بكاليفورنيا، والذى يتميز إلى حد كبير بالحسية والصخب الجنسى والسعى إلى الوضع المرمرق والأهداف المادية. يذكر يالوم أن علاجة قلما كان يفيد مالم يتمكن من إقناع المريض أن يركز على شيء ما يتجاوز هذه الأهداف.
بمجرد أن ينجح المعالج فى أن يزيد حساسية مرضاه لهذه المسائل، يستطيع أن يعينهم على أن يركزوا على قيم تتجاوز أنفسهم. يستطيع مثلا أن يبدأ فى سؤال المريض عن أنظمته الاعتقادية، ويتقصى بعمق مسألة حبه لشخص آخر، ويستعلم عن آماله و أهدافه البعيدة المدى ويستكشف اهتماماته ومساعيه الإبداعية.
يقول فيكتور فرانكل، وهو خير من عرف للمعنى أهميته فى السيكوباثولوجيا المعاصرة : “السعادة تأتى ولا يؤتى بها”.
فكلما التمسنا الإشباع الذاتى عن عمد وقصد، كلما رواغنا وأفلت منا، ولكن كلما حققنا معنى يتجاوز ذاتنا كلما واتتنا السعادة عن رضا وطيب خاطر. ويرى فرانكل أن هذا يعنى أن بعض المرضى يجب أن نحثهم على أن يصرفوا نظرهم عن أنفسهم. وهو ما يسميه فرانكل خفض التفكر dereflection.
يجب أن يجد المعالجون طريقة تنمى فى مرضاهم شيئا من الشغف بالآخرين والاهتمام بهم. ولعل العلاج الجمعى أنسب وسط يمكن أن تتم فيه هذه المحاولة. لنضرب مثلا بالمرضى النرجسيين المنغمسين بذاتهم. إن الأسلوب الذى به يأخذون دون أن يعطوا يصبح ساطع الوضوح فى العلاج الجمعى. فى مثل هذه الحالات يجمل بالمعالج أن يزيد ميل الفرد وقدرته على أن يشارك الاخرين وجداناتهم بأن يطلب من المرضى من حين لآخر أن يحدسوا بما يشعر به الاخرون إبان التقلبات المختلفة فى مسيرة الجماعة.
ويبقى الحل الأمثل لمشكلة اللامعنى هو المشاركة. فالمشاركة المخلصة فى أى نشاط من أنشطة الحياة التى لا تحصى يعزز احتمال أن يسلك الفرد أحداث حياته فى شكل متسق ما. أن تجد بيتا، أن تتهم بأفراد آخرين، أن تهتم ببعض الأفكار والمشروعات، أن تبحث، أن تبدع، أن تبنى. لكل هذه الأشياء ولغيرها من صور المشاركة جزاء مضاعف. فهى تثرى حياة الفرد داخليا، وتذهب عنه الضيق والكرب الناجم عما يمطره به الوجود من معطيات خام متشظية لا ينتظمها شكل ولا يأتلفها معنى.
يجب أن يتناول المعالج مسألة المشاركة بنفس التوجه الموقفى الذى يستخدمه بشأن الرغبة. فليس بمقدور المعالج أن يخلق المشاركة أو يبث فى المريض روح المشاركة، ولاهذا بالشيء الضرورى. فالحق أن الرغبة فى المشاركة فى الحياة هى دائما كامنة بالمريض وما على المعالج إلا أن يزيل من دونها العوائق، فيشرع فى استكشاف ماذا يمنع المريض من أن يحب شخصا آخر؟ لماذا لا يجد رضا وإشباعا فى علاقته مع الاخرين؟ لماذا لا يجد إشباعا فى عمله؟ ماذا يصده عن أن يبحث عن عمل على مقاس مواهبه واهتماماته؟ أو أن يجد بعض الجوانب السارة فى عمله الحالي؟ لماذا أهمل السعى الإبداعى والكدح الدينى والأهداف المتجاوزة لذاته؟
تطبيقات:
فى كثير من الأحيان تكون طبيعة الموقف العلاجى هى التى تملى المدخل العلاجى الأنسب لها. وهى قاعدة تنسحب بدورها على العلاج الوجودى. وعلى المعالج فى كل برنامج علاجى أن يحدد أهدافه المرجوة وفق ما يقتضيه الموقف العلاجى. ففى الحالات الحادة، على سبيل المثال، حيث يقيم المريض فى المستشفى أسبوعا أو اثنين، تكون غاية المعالج هى التدخل السريع لتخفيف الأعراض وإعادة المريض إلى مستوى أدائه السابق على الأزمة. ومن غير الواقعى وغير المناسب فى هذا المقام أن يطمح المعالج إلى غايات أبعد أو أهداف أعمق (كأن يزيد وعى المريض بالصراعات الوجودية).
أما فى المواقف التى لا يقنع فيها المريض بإزالة الأعراض بل يصبو إلى تحقيق مزيد من النمو الشخصي، فإن المدخل الوجودى يكون خيارا مفيدا. ويعد المدخل الوجودى الدقيق بأهدافه الطموحه هو أنسب المداخل فى العلاج الطويل الأمد. بل إن العلاجت القصيرة الأمد لا تستغنى فى أغلب الأحيان عن بعض العناصر الوجودية من مثل التأكيد على المسئولية، والقرار، والمواجهة الأصيلة بين المعالج والمريض، وعمل الحزن… وما إلى ذلك.
وتصبح الحاجة إلى المدخل الوجودى ماسة حين يكون المريض مواجها لأحد المواقف الحدية: كأن يكون فى مواجهة مع الموت، أو فى مواجهة قرار مصيري، أو حين تلقى به الظروف فى عزلة مفاجئة، أو حين يمر بمعالم حياتية تمثل نقاط تحول كبرى وانتقالا من مرحلة حياتية إلى مرحلة جديدة (مثل ترك الأبناء بيت العائلة، ومثل التقاعد، والفشل المهني، والانفصال الزوجى والطلاق والمرض الجسيم). غير أن الأمر لا يقتصر على هذه الأزمات الوجودية الصريحة ; ففى كل برنامج علاجي، كما أشرنا آنفا، هناك أدلة وافرة على معاناة المرضى من كروب ناجمة عن صراعات وجودية لا يفطن لها إلا معالج وجودى اتسعت مداركه وتهيأ توجهه الموقفى لالتقاط مثل هذه المعطيات.
ولا يصح العمل العلاجى على هذه المستويات الأعمق إلا بقرار يشترك كل من المعالج والمريض فى اتخاده.
التقييم Evaluation *
تقييم العلاج النفسى مهمته دائما. وكقاعدة عامة:
كلما كان المدخل والأهداف العلاجية أكثر تحددا واقتصارا كلما كانت النتائج أسمح بالقياس وأيسر فى التقييم. فبمقدور المرء أحيانا أن يقيس زوال الأعراض وتغير السلوك الظاهر بدقة كبيرة. ولكن العلاجيات الأكثر طموحا والتى تستهدف من الفرد الطبقات الأعمق من نمط وجوده فى العالم، هى علاجات تتأبى على القياس وتند عن التكميم quantification وفيما يلى عرض موجز لحالتين أوردهما يالوم (1981) تتمثل فيهما مشاكل التقييم بجلاء ووضوح.
الأولى امرأة فى السادسة والأربعين ترافق أصغر أبنائها الأربعة إلى المطار حيث يرحل عنها إلى الجامعة. لقد قضت هذه المرأة أعوامها الستة والعشرين الأخيرة تربى أبناءها وتتوق إلى هذا اليوم. لا أعباء بعد الان ولا مكابدة من أجل الاخرين، ولا إلحاح طهى ولا تجهيز ملابس.. أخيرا أصبحت حرة.
غير أنها لم تكد تودع ولدها حتى بدأت تنشج بحرقة على غير توقع. وفى طريقها من المطار إلى البيت غشيتها رعدة عميقة أخذت بمجامع جسدها. حدثت نفسها: “هذا أمر طبيعى.. إنه جزع الفراق.. فراق واحد من أعز الأحبة.”غير أن الأمر كان أكبر من ذلك بكثير. فسرعان ما تحولت الرعدة إلى قلق دام لا يشفى ولا يندمل. واستشارت معالجا شخص حالتها تشخيصا شائعا: “متلازمة العش الفارغ” empty nest syndrome. طبيعى أن تكون قلقة. وكيف لا وقد أسست ثقتها واعتبارها طيلة سنوات على أدائها كأم، وفجأة فقدت هذا الأساس وتغير برنامج يومها المألوف وشكل حياتها المعتاد؟ كان هذا تشخيص المعالج الذى مد إليها يد العون.وشيئا فشيئا، وبمساعدة الفاليوم والعلاج التدعيمى وجماعة التدريب على تأكيد الذات وعدد من الدراسات الحرة، ورفيق أو اثنين، وعمل تطوعى نصف وقتى… انخفضت الرعدة إلى رعشة خفيفة ما لبثت أن زالت تماما. وعادت صاحبتنا إلى سكينتها الماضية وتكيفها السابق.
وتصادف أن تكون هذه المريضة جزءا من مشروع بحث علمى عن العلاج النفسى. فطبقت عليها القياسات النفسية المتعلقة بالنتائج العلاجية. ويمكن أن نصف نتائج علاجها بأنها كانت ممتازة على جميع المقاييس المستخدمة – مقياس قوائم الأعراض، تقييم المشكلة المستهدفة، مقياس اعتبار الذات….. واضح أنها حققت تحسنا عظيما.
رغم كل ذلك، يمكننا أن نقول بكل الثقة إننا نعتبر هذه الحالة واحدة من الحالات التى فاتتها الفرصة العلاجية الحقيقة، ونعتبر هذا العلاج واحدا من العلاجات التى أخطأت المرمي!
ولننعم النظر فى حالة مريضة أخرى تمر بنفس الموقف الحياتى ونفس الظروف والملابسات على نحو يكاد يكون صورة طبق الأصل. فى هذه الحالة الثانية عمد المعالج، وكان ذا توجه وجودي، إلى تعزيز الرعدة لا تخديرها. كانت هذه المريضة تمر بما أسماه كيركجارد “القلق الإبداعي”. وقد شاء كل من المعالج والمريضة أن يدعا القلق يقودهما إلى أصقاع هامة للبحث والاستقصاء. حقا كانت هذه المريضة تعانى من متلازمة العش الفارغ ومن مشاكل اعتبار الذات، وكانت تحب ولدها وإن كانت أيضا تحسده على الفرص الحياتية التى لم تتح لها أبدا، وبطبيعة الحال كانت تشعر بالذنب إزاء هذه الوجدانات الوضعية.
لم يكن هذا المعالج يقنع بالحل اليسير فيدبر لها طرقا تساعدها على ملء وقتها الشاغر بل انطلق فى استكشاف لمعنى الخوف من العش الفارغ. لقد كانت دائما تتوق إلى الحرية فما بالها الآن فزعة منها؟ ما السبب؟
شاء حس الطالع أن يضع فى يد المعالج هذا الحلم الذى أضاء له معنى الرعدة. روت المريضة أنها رأت فى المنام أنها تمسك بشريحة فوتوغرافية مقاس 35 ميلليمترا تصور ولدها وهو يتلاعب بالكرات كالحاوى ويتشقلب كالبهلوان. وجعلت تتأمل الشريحة ببساطة وحسن نية. إلا أنها كانت صورة غير عادية ; إذ كانت تبرز الحركة. لقد شهدت ولدها فى أوضاع حركية عديدة فى نفس الوقت. وفى تحليل الحلم كانت تداعياتها الذهنية تدور حول ثيمة الوقت.. الزمن. كانت الصورة تقبض على الزمن والحركة وتؤطرهما. كانت تحفظ كل شيء حيا ولكنها توقف كل شيء أيضا وتثبته. كانت تجمد الحياة. “الزمن يتحرك”، قالت، ولا سبيل إلى إيقافه.. لم أرد جون أن يكبر.. سواء أردت ذلك أم لم أرد فالوقت يتحرك.. يتحرك بالنسبة لجون ويتحرك بالنسبة لى أيضا”.
التناهى.. الفناء..هو موضوع هذا الحلم. لقد وضع لها تناهيها فى بؤرة واضحة. وبدلا من أن تهرع إلى شغل الوقت بشتى التلهيات فقد تعلمت أن تعرف للوقت قيمته وتقدره حق قدره كما لم تفعل من قبل. لقد دخلت فى النطاق الذى وصفه هيدجر بالوجود الأصيل authentic being وأخذها الدهش لا للطريقة التى توجد بها الأشياء بل بالأحرى لوجود الأشياء على الإطلاق.. الوجود ذاته.
يستطيع المرء أن يبرهن بالحجة على أن المريضة الثانية قد أفادت من العلاج أكثر مما أفادت المريضة الأولى. ولكن من غير المتاح أن يثبت هذه النتيجة بأى مقياس معيارى للمآل. لعل المريضة الثانية قد بقى لها من القلق أكثر مما بقى للمريضة الأولى. ولكن القلق جزء من الوجود، ولن يتسنى لأى فرد آخذ فى النمو والإبداع أن يتحرر منه أبدا.
العلاج
يجد العلاج الوجودى مجاله ويصول صولته فى المشهد العلاجى الفردى بالدرجة الأساس. غير أن كثيرا من التيمات والبصائر الوجودية قد تطبق بنجاح فى كافة المواقف العلاجية الآخرى بما فيها العلاج الجمعى والعلاج الأسرى وعلاج الأزواج وغيرها.
ويخطى مفهوم المسئولية على وجه الخصوص بقابلية واسعة للتطبيق، فهو عماد العملية العلاجية الجمعية. يقوم العلاج الجمعى أساسا على العلاج البينشخصى. فالشكل الجمعى هو المضمار المثالى لاختبار شتى صور السلوك اللاتكيفى وتصحيحها. ولكن تيمة المسئولية تبقى دائما أساسا وطيدا لكثير من العمل البينشخصى. ولنتفحص على سبيل المثال هذا التتابع الذى يحاول خلاله المعالجون الجمعيون، بشكل صريح أو ضمني، أن يوجهوا مرضاهم:
1 – يتعرف المرضى كيف ينظر الآخرون إلى سلوكهم (يتعلم المرضى خلال التغذية المرتجعة feed-back من باقى أعضاء الجماعة أن يروا أنفسهم بعيون الآخرين).
2 – يتعرف المرضى كيف يؤثر سلوكهم على شعور الآخرين (خلال مشاركة الأعضاء بعضهم بعضا استجاباتهم الوجدانية الشخصية).
3 – يتعرف المرضى كيف يشكل سلوكهم آراء الاخرين فيهم (يتعلم الأعضاء عن طريق مشاركة مشاعر هنا والآن أن الآخرين يكونون آراء معينة عنهم وفق سلوكهم).
4 – يتعرف المرضى كيف يؤثر سلوكهم فى آرائهم عن أنفسهم (فالمعلومات المحصلة من الخطوات الثلاث الأولى تؤدى بالمريض إلى صياغة تقييمات معينة عن نفسه).
تبدأ كل خطوة من هذه الخطوات الأربع كما نرى بسلوك المرضى ذاته. ذلك السلوك الذى يؤكد دورهم فى تشكيل العلاقات البينشخصية. والنقطة الأخيرة فى هذا التتابع هى أن أعضاء الجماعة يبدأون فى استيعاب أنهم مسئولون عن الطريقة التى يعاملهم بها الآخرون، بل أيضا عن الطريقة التى يقيمون بها أنفسهم.
هذه إحدى الجوانب الرائعة للعلاج الجمعي: كل الأعضاء يولدون معا.. ينطلقون من خط بداية واحد. كل عضو يفرغ لنفسه مكانا فى الجماعة ويضع لهذا المكان شكله الخاص. بذلك يكون كل عضو مسئولا عن الوضع البينشخصى الذى أفرغه لنفسه فى الجماعة (وبالتالى فى الحياة أيضا)* العمل العلاجى الجمعى إذن لا يتيح للأفراد فحسب أن يغيروا أسلوب علاقتهم ببعضهم البعض، بل يكشف لهم أيضا بقوة ووضوح إلى أى حد كانوا هم أنفسهم مساهمين فى خلق مأزقهم الحياتى الخاص – وهو كما نرى ميكانزم علاجى وجودى واضح.
وكثيرا ما يستخدم المعالج مشاعره الخاصة لكى يستبين مدى إسهام المريض فى خلق مأزقه الحياتى الخاص. ولنضرب لذلك المثال التالى :
هذه مريضة بالاكتئاب فى الثامنة والأربعين من عمرها، كانت تشكو بمرارة سوء معاملة الأبناء لها. كان أبناؤها لا يحفلون برأيها، وكانوا يضجرون منها، وحين يحزب أمر يتوجهون بحديثهم إلى أبيهم.
عندما أرهف المعالج انتباهه إلى أحاسيسه تجاه هذه المريضة تبين فى صوتها نبرة ناحبة تهيب به ألا يأخذ كلامها مأخذ الجد، وأن ينظر إليها كطفلة بشكل ما وقد أفضى إليها بهذه المشاعر فعاد عليها ذلك بفائدة عظيمة، وبدأت تفطن إلى طفولية سلوكها فى مجالات كثيرة، وتدرك كيف أن أبناءها كانوا يعاملونها بالضبط كما كانت تطلب هى أن تعامل (تطلب ذلك ضمنا خلال نجيب صوتها وأعذارها القائمة على الضعف واكتئابها ومسكنتها).
كثيرا ما يواجه المعالجون حالات مرضى مصابين بهلع بسب أزمة قرار يمرون بها. يصف يالوم (1981) طريقة علاجية لتناول مثل هذا الموقف. تتمثل الخطة الأساسية للمعالج فى كشف النقاب عن المتضمنات الوجودية للقرار وتقييمها. كانت مريضة يالوم أرملة فى السادسة والستين من عمرها. جاءت تلتمس العلاج إذ كانت حائرة مكروبة بسبب أزمة قرار. كان لديها منزل صيفى تريد بيعه ولكنها عاجزة عن اتخاذ قرار البيع. كان هذا المنزل يبعد مائة وخمسين ميلا عن محل إقامتها الدائم. وكان يتطلب عناية دائمة وانتباها مستمرا لرعاية الحديقة والصيانة والحماية، مما يشكل عبئا كبيرا على امرأة واهنة مسنة. وكان للاعتبارات المالية دخل أيضا فى هذا القرار. وقد سألت كثيرا من الماليين والعقاريين أن يقدموا لها العون فى اتخاذ الرأى.
شرع المعالج والمريضة يستكشفان كثيرا من العوامل الداخلة فى القرار ثم أمعنا فى الاستكشاف إلى عمق أكبر. وفى الحال بزغ عدد من الأمور المؤلمة: كان زوجها قد توفى قبل عام وكانت ما تزال فى حداد عليه. وكان المنزل مايزال يغنى بحضوره، والأدراج والخزانات تعج بممتلكاته الشخصية. كان قرار بيع المنزل يستلزم قرارا آخر بأن تستوعب المرأة حقيقة أن زوجها لن يعود أبدا. وثمة عامل آخر هو القيمة الترفيهية للمنزل. لقد طالما أسمته فندقها لأنها كانت تستضيف فيها دائما أعدادا كبيرة من الناس. كانت السيدة تعتبر المنزل هو ورقتها الرابحة، وقد بدأت تداخلها شكوك كبيرة فيما إذا كان أحد سوف يظل يزورها دون إغراء عقارها الجميل. كان قرار البيع إذن يطوى داخله امتحانا لإخلاص أصدقائها وولائهم، ومجازفة قد تورث الوحدة والعزلة. وكان هناك سبب بعد يتمركز على مأساة حياتها الكبري; فقد كانت هذه السيدة بتراء لا أبناء لها. وقد طالما تخيلت العقار ينتقل إلى أولادها وأولاد أولادها. إلا أنها كانت الورقة الأخيرة ونهاية الخط. بذلك يكون قرار بيع المنزل بمثابة اعتراف بفشل مشروعها الأكبر للخلود الرمزى. لقد استخدم المعالج قرار بيع المنزل كنقطة انطلاق إلى هذه المسائل الأعمق وتمكن فى النهاية أن يساعد هذه السيدة على أن تندب زوجها ونفسها وأولادها الذين لم يولدوا.
ما إن يتم التناول الاستيعابى للمعانى الأعمق لقرار ما حتى ينزلق القرار بذاته بتلقائية ويسر. وفى حالة مريضتنا هذه فقد استطاعت بعد حوالى اثنتى عشرة جلسة أن تتخذ قرار البيع دون جهد.
إدارة العلاقة العلاجية
العلاج الوجودى هو نموذج إرشادى paradigm أو إطار مرجعى frame of reference وليس تنظيما ذا قواعد محددة المعالم. وهذا ما يجعل ترتيبات الممارسة اليومية الخاصة به شيئا يصعب تحديده. فهى تتباين تباينا كبيرا وتتوقف على انتماء المعالج الأيديولوجى والتنظيمى.
يسعى المعالجون ذوو التوجه الوجودى لتحقيق علاقات مع مرضاهم تتسم بالصدق والمكاشفة المتبادلة. وهم وفق ذلك ينظمون المشهد العلاجى. فلا مناضد تقف بين المريضة والمعالج. ولا حوائط مغطاة بشهادات توحى بالسلطة. يتخاطب المعالج والمريض بندية وبالاسم الأول لكليهما. يحاول المعالج جهده أن يخفض الغموض والسرية فى العملية العلاجية، ويجيب على الأسئلة بصراحة وتمام – لا أن يبقى جامدا فى محاولة لإثارة التحريفات الطرحية.
تؤدى العلاقة بين المعالج والمريض وظائف مركزية كثيرة فى العلاج فهى مثلا تساعد المريض على أن يجلو علاقاته الأخرى ويخلصها من الشوائب. فجميع المرضى تقريبا يحرفون جانبا من علاقتهم بمعالجهم. وبوسع لمعالج، إذ يمتح من معرفته بنفسه وخبرته برأى الآخرين فيه، أن يساعد المريض على أن يميز بين الواقع والتحريف.
هناك أيضا فائدة كامنة فيما ينهجه المدخل الوجودى من دفع المريض إلى إقامة علاقة حقيقية مع المعالج (كنقيض لعلاقة الطرح). فما إن يصبح المريض قادرا على أن يقيم علاقة عميقة بالمعالج حتى يكون ذلك شهادة على أنه قد تغير. إنه ليتعلم أن إمكانية الحب تكمن داخله، وتعوده مشاعر كانت هاجعة فيه. ولا ضير أن تكون صلته بالمعالج عابرة مؤقتة; فخبرة الألفة هى خبرة باقية لا يمكن أن تسلب أو تنتزع، فهى تبقى فى عالمه الداخلى كنقطة مرجعية دائمة وعلامة تذكره بقدرته على الاقتراب الحميم، وقابليته للود والألفة.
إن لقاء حميما مع معالج هو خبرة تحمل للمريض مالا تحمله علاقاته بسائر الناس. فالمعالج أولا هو شخص يكن له المريض احتراما خاصا. والمعالج ثانيا، وهو الأهم، هو شخص (ربما الوحيد) يعرف المريض معرفة حقة.. يعرفه كما هو بالفعل، فأن تفضى إلى شخص بأدق أسرارك وأفحش أفكارك وأخفى أحزانك وتفاهاتك وأهوائك ثم تبقى مقبولا من جانبه – تلك خبرة إيجابية إلى أقصى حد.
ثمة خلاف كبير حول طبيعة العلاقة المثالية التى ينبغى أن تكون عليها علاقة المعالج والمريض. فالمعالج لا يخلو عالمه من غضاضة ليس منها بد : إن مفاهيم مثل : جلسات مدتها خمسون دقيقة، كذا جنيها فى الساعة، الدفع عند طرف ثالث، لاشك غير مريحة ولا تتسق مع تصورنا المعتاد للعلاقة الراعية الأصيلة. زد على ذلك أن علاقة المعالج – المريض تفتقر تماما إلى صفة التبادلية; فالمريض هو الذى يذهب إلى المعالج طلبا للعون بينما المعالج لا يذهب إلى المريض.
يؤكد جميع المفكرين الوجوديين من أمثال إريك فروم* وإبراهام ماسلو ومارتن بيوبر أن العناية الحقيقية بشخص آخر تعنى أن نهتم بنمو هذا الآخر وأن نحيى فيه شيئا ما. إن مبرر وجود المعالج هو أن يكون”قابلة”midwife يولد فى المريض تلك الحياة التى لم يعشها بعد. ويستخدم بيوبر مصطلح”البسط”Unfolding بوصفه السبيل التى يجب أن يسلكها كل من المعلم والمعالج. ويعنى البسط أن يرفع المرء النقاب عما كان هناك طيلة الوقت. ويعج مصطلح”البسط”بتضمينات ثرية ويقف على نقيض تام من أهداف المعالجين من المدارس الآخرى (مثل إعادة البناء، فض الإشراط، التشكيل السلوكي، الوالدية المعادة). يساعد المعالج مريضه على أن ينبسط بواسطة التلاقى.. التواصل الوجودى. فالمعالج ليس مشكلا ولا موجها، بل هو على حد قول سكوين”كاشف إمكانيات”Possibilitator
ربما يكون أهم المفهومات قاطبة فى وصف علاقة المعالج – المريض هو ما أسماه رولو ماى وآخرون (1958) بالمواكبة أو الحضور presence فالمعالج يجب أن يواكب المريض وأن يسعى نحو علاقة أصيلة به. وحتى لو كان المعالج يقضى معه ساعة واحدة كل أسبوع فإن من الأهمية بمكان أن يكون المعالج”هناك”طيلة هذه الساعة..أن يكون حضوره تاما مليئا، ومشاركته مركزة مكثفة. أما إذا أخذه السأم والضجر والغفلة عن مريضه، أو كان يترقب انتهاء الساعة بصبر نافد، فإنه يفشل بنفس الدرجة فى أن يمد المريض بالعلاقة التى هو فى أمس الحاجة إليها.
مثال من حالة مرضية.
حالة طلاق بسيطة
إنها حالة أحد العلماء، وهو فى الخمسين من عمره، وسنسميه ديفيد. كان متزوجا طوال سبعة وعشرين عاما. وقد قرر حديثا أن ينفصل عن زوجته. تقدم ديفيد للعلاج بسبب القلق الذى كان يساوره وهو يترقب مواجهة زوجته بهذا القرار.
يعد هذا الموقف من أوجه عديدة سيناريو نموذجيا لأزمة منتصف العمر. كان للمريض ولدان أتما تعليمهما وتخرج أصغرهما توا فى الجامعة. كان الأبناء من وجهة نظره هم العنصر الوحيد الذى بربطه بزوجته، وها قد أصبحوا فى كامل النضج والاعتماد على النفس، ولم يعد هناك ما يبرر استمرار الزواج. يروى ديفيد أنه لم يكن قط قانعا بزواجه طوال هذه السنوات. وقد سبق له أن ترك زوجته ثلاث مرات، ولكنه سرعان ما كان يعود إلى بيته بعد أيام قليلة خزيان منكسرا. وانتهى إلى قناعة أن زواجه على رداءته وسوئه كان أهون على كل حال من حياة الوحدة.
كان السبب الأساسى لتعاسته الزوجية هو الملل. لقد التقى بزوجته وهو فى السابعة عشرة من عمره، فى وقت كان فيه عديم الثقة بنفسه، خاصة فى علاقته بالنساء. كانت زوجته أول امرأة فى حياته تبدى اهتماما به. ينحدر ديفيد (وكذلك زوجته) من عائلة من الطبقة الكادحة. كان موهوبا ذهنيا بدرجة غير عادية، وأول فرد من عائلته يلتحق بالجامعة. فاز ديفيد بمنحة دراسية بإحدى الكليات النظرية، وحصل على درجتين من الدراسات العليا. وانطلق فى سيرة بحثية أكاديمية بارزة. لم تكن زوجة ديفيد موهوبة ذهنيا، ولم تشأ أن تلتحق بالجامعة. وكانت تعمل فى السنوات الأولى من الزواج لتسانده ماديا أثناء دراسته العليا.
كانت الزوجة مكبة معظم الوقت على رعاية الأبناء، بينما كان ديفيد يواصل مسيرته المهنية بشدة وعرامة. كان دائم الملل من صحبتها ودائم الإحساس بخواء علاقتهما الزوجية. فهى فى رأيه متواضعة الذهن للغاية ومحدودة الآفاق، بحيث يبرم من الانفراد بها ويتحرج أن يقدمها لأصدقائه. كان يحس أنه يتحول وينمو بلا توقف بينما هى تزداد على الأيام تصلبا وجمودا وعجزا عن تقبل الأفكار الجديدة.
ويتم السيناريو المعهود لرجل فى أزمة منتصف العمر ينشد الطلاق، بظهور المرأة الأخرى – كانت امرأة ذكية جذابة مفعمة بالحيوية تصغره بخمسة عشر عاما.
كان علاج ديفيد طويلا معقدا برزت أثناءه تيمات وجودية عديدة.
من هذه التيمات تيمة”المسئولية”فقد كانت المسئولية مسألة على جانب كبير من الأهمية فى قراره ترك زوجته. هناك أولا المعنى الأخلاقى للمسئولية. إن زوجته، بعد كل شيء، هى التى أولدته أولاده وربتهم، ودعمته ماديا خلال دراسته العليا. أما باعتبار السن فهو الآن بالمقارنة بزوجته يعد أكثر رواجا بكثير فهو أقدر منها كثيرا على كسب العيش. وهو لايزال من الوجهة البيولوجية قادرا على إنجاب أطفال وتنشئتهم. السؤال إذن : ما هى مسئولية ديفيد الأخلاقية تجاه زوجته؟
كان لدى ديفيد حس أخلاقى عال كفيل أن يعذبه بقية عمره بهذا السؤال. وكان لابد لهذا السؤال أن يطرح أثناء العلاج ويمحص. ومن ثم كان لابد للمعالج أن يواجه ديفيد صراحة بموضوع المسئولية الأخلاقية أثناء عملية صنع القرار. كانت أفضل طريقة للتعامل مع هذا الكرب التوقعى هو ألا يدخر ديفيد وسعا فى محاولة تحسين أوضاعه الزوجية، وبالتالى إنقاذ زواجه.
التحم المفهوم الوجودى للمسئولية بعملية إنقاذ الزواج هذه وبدأ المعالج يمحص مدى مسئولية ديفيد عن فشل الزواج; فإلى أى حد كان ديفيد مسئولا عن حياة زوجته وشكل وجودها معه؟ لم يكن خافيا على المعالج ما يتمتع به ديفيد من بديهة حاضرة وخاطر سريع رشيق. بل لعل المعالج نفسه كان يحس بشيء من التهيب إزاء عقل ديفيد وبشيء من الخشية من أن ينتقده ديفيد أو يدينه فإلى أى حد كان ديفيد انتقاديا مدينا؟ أليس من المحتمل أن هذا الرجل هو الذى سحق زوجته وأخمد جذوتها؟ وأنه كان بإمكانه أن يساعدها على أن تزيد حصيلتها من المرونة والتلقائية والوعى بالذات؟
قام المعالج أيضا بمساعدة ديفيد على استقصاء مسألة أخرى على جانب عظيم من الأهمية: هل كان زواج ديفيد مجرد رمز لشيء آخر هو هو مصدر الكرب فى حياته؟ هل كان يعلق على شماعة الزواج خيبات تنتمى إلى بقاع أخرى من حياته؟ ما إن بدأ ديفيد يبحث هذه المسألة حتى قاده البحث إلى قلب الديناميات الأزلية لأزمة منتصف العمر. فقد روى ديفيد حلما مهد الطريق إلى بعض الديناميات الهامة:
”كان لدى مشكلة بخصوص تميع الأرض بالقرب من حمام السباحة عندى. جون (صديق كان يشارف الموت بالسرطان) يغوص فى الأرض. كأنما هى رمال متحركة. أخذت أثقب أسفل الرمال المتحركة بحفار ضخم. كنت أتوقع أن أجد نوعا من الفراغ تحت الأرض، ولكن بدلا من ذلك وجدت لوحا من الأسمنت على بعد خمسة إلى ستة أقدام إلى أسفل وجدت على اللوح إيصالا نقديا بموجبه دفع لى أحد الأشخاص مبلغ 501 دولار. كنت فى الحلم قلقا جدا من أمر هذا الإيصال; لأن المبلغ كان أكبر بكثير مما يحق أن يكون.”
من أهم الموضوعات التى يدور حولها هذا الحلم موضوع الموت و الشيخوخة. فهناك أولا مسألة هذا الصديق المصاب بالسرطان. حاول ديفيد أن يعثر على صديقه باستخدام مثقاب ضخم. أحس ديفيد فى الحلم شعورا بالتحكم والقوة أثناء عملية الحفر. بدا واضحا أن الحفار رمز قضيبي، وأتاح ذلك استقصاء مفيدا للجانب الجنسي، كان ديفيد دائما مدفوعا جنسيا، وقد أوضح الحلم كيف أنه كان يستخدم الجنس (وبخاصة مع امرأة شابة) كوسيلة يتغلب بها على الشيخوخة والموت. وأخيرا يفاجأ باللوح الأسمنت (الذى يثير تداعيات المشرحة والقبور وأحجار القبور).
وقد أدهشته الصور الرقمية فى الحلم (فاللوح كان على عمق خمسة إلى ستة أقدام، والإيصال كان بخمسمائة وواحد دولار بالضبط). وقد قدم ديفيد فى تداعياته ملاحظة مثيرة: هى أن عمره خمسون عاما وأن ليلة الحلم كانت ليلة ميلاده الحادى والخمسين. ورغم أنه لم يكن مشغولا بعمره على مستوى الشعور، فقد كشف الحلم أنه كان مهموما على مستوى اللاشعور بكونه قد تجاوز الخمسين فإلى جانب اللوح الذى كان على عمق خمسة إلى ستة أقدام، والإيصال الذى تجاوز الخمسمائة دولار توا، كان هناك أيضا قلقه البالغ فى الحلم من ضخامة المبلغ الذى يحمله الإيصال. لقد كان ديفيد ينكر علو سنه على مستوى الشعور. وكان موقفه الغالب هو أنه ينمو ويتوسع بسرعة كبيرة، وأنه أوفر صحة من أى وقت مضي، وأنه جعل حديثا يجرى عشرة أميال كل يوم. أما عن مسيرته المهنية فقد كان يعتبر نفسه فى مرحلة نمو سريع وأنه مشرف على تحقيق كشف علمى اختراقى كبير.
فإذا كانت أزمة ديفيد الكبرى نابعة من وعيه المتنامى بشيخوخته واضمحلاله، إذن يكون تعجيله بالانفصال عن زوجته بمثابة رمية خاطئة أو محاولة لحل مشكلة غير المشكلة الحقيقية. هذا ما جعل المعالج يدفع ديفيد إلى استقصاء دقيق لمشاعره تجاه شيخوخته وفنائه. فلم يكن بد من الإحاطة التامة بهذه الأمور قبل أن يكون بوسعه تقدير الحجم الفعلى لمصاعبة الزوجية. وقد قام المعالج والمريض باستقصاء هذه المسائل شهورا عديدة، حاول ديفيد خلالها أن يكون أكثر صدقا وإخلاصا من ذى قبل فى معاملة زوجته. كما استعان هو وزوجته بمعالج زواجى لعدة أشهر.
بعد أن اتخذ ديفيد هذه الخطوات واستنفد هذه الوسائل، قرر هو وزوجته أن لا سبيل إلى إنقاذ الزواج، فانفصلا بالفعل. كانت الأشهر التى أعقبت الانفصال شديدة الصعوبة. وقد أمده المعالج بالطبع بالمساندة اللازمة خلال هذه المدة، ولكنه لم يحاول أن يحمل ديفيد على إزالة قلقه، بل حاول بالأحرى أن يساعده على أن يوظف القلق بشكل بناء. كان ديفيد أميل إلى التعجيل بزواج ثان، بينما ظل المعالج مصرا على أن يتريث ديفيد وينظر بعين الاعتبار إلى مسألة خوفه من العزلة، ذلك الخوف الذى كان يرده إلى زوجتة عقب كل انفصال سابق. أصبح يتعين على ديفيد الآن أن يتثبت من أن الخوف ليس هو دافعه إلى التعجيل بزواج ثان.
كان صعبا على ديفيد أن يأبه بهذه النصيحة. فقد كان يحس بعاطفة حب جارفة تجاه المرأة الجديدة فى حياته. إن حالة كون الإنسان”فى حب”هى إحدى الخبرات العظيمة فى الحياة. غير أنها فى الموقف العلاجى تطرح مشكلات كثيرة. فكثيرا ما يكون الانجذاب للحب الرومانسى من القوة بحيث يكتسح أمامه أشد الجهود العلاجية وأكثرها هديا وحصافة. لقد وجد ديفيد أن رفيقته الجديدة امرأة مثالية، وأن ليس له امرأة سواها. وكان يحاول جهده أن يقضى معها كل وقته. فقد كان فى وجودها يحس بحالة من النعمة الموصولة : تتلاشى فيها كل جوانب”الأنا”المنعزلة ولا تبقى إلا حالة مباركة من”النحن”.
أما الشيء الذى حمل ديفيد فى النهاية على أن يجد فى العلاج، فهو أن صاحبته الجديدة بدأت تتخوف بعض الشيء من عنف ضمته. عندئذ فقط بدأ ديفيد يلتفت إلى خوفه البالغ من الوحدة ورغبته الانعكاسية فى الاتحاد بامرأة. وشرع فى برنامج لخفض الحساسية للوحدة. فكان يراقب مشاعره ويدونها فى مفكرة يومية ويتناولها فى جلسات العلاج بجد ومثابرة. دون ديفيد مثلا أن أيام الأحد كانت أصعب الأيام على الإطلاق. كان جدول ديفيد المهنى مزدحما لأقصى درجة، فلم يكن لديه أية مصاعب طوال الأسبوع. أما عطلة الأحد فكانت يوم الفزع الأكبر. لقد بدأ يعى أن جزءا من هذا القلق كان مرده أن عليه يوم الأحد أن يرعى نفسه ويعتنى بشئونه. فإذا أراد أن يفعل شيئا فعليه هو أن يجدول هذا النشاط. فهو لم يعد الآن يتكئ إلى ما كانت تعمله له زوجته. اكتشف ديفيد أن من أهم وظائف الطقوس فى الثقافات المختلفة والجدولة المزدحمة فى حياته الخاصة هو إخفاء الفراغ والخواء وانعدام أى بنية أونظام أو أرضية من تحت المرء.*
أدت هذه الملاحظات بديفيد خلال الجلسات العلاجية إلى أن يرى ويجابه حاجته إلى أن يرعى ويحمى. وظلت مخاوف العزلة والحرية تتخطفه شهورا عديدة. ولكنه تعلم شيئا فشيئا كيف يكون وحيدا فى العالم، وماذا يعنى أن يكون مسئولا عن وجوده الخاص. باختصار، تعلم ديفيد أن يكون هو أمه وأباه – وهو دائما هدف من أهم الأهداف العلاجية فى العلاج النفسى.
خلاصة
ينظر العلاج الوجودى إلى المريض كشخص مباشر موجود، وليس كمركب من الدوافع والنماذج البدئية والارتباط الشرطى. صحيح أن للشخص دوافع غريزية وتاريخا، ولكنها غير داخلة فى العلاج الوجودى إلا بصفتها أجزاء أو جوانب لكائن إنسانى يفكر ويشعر ويكافح.. كائن له صراعاته الفريدة وله آماله ومخاوفه وعلاقاته. يؤكد العلاج الوجودى أن القلق السوى والشعور بالذنب كلاهما موجود فى كل حياة إنسانية، ولا يلزمنا أن نغير بالعلاج إلا الصور العصابية منهما. ولن يكون بمقدور الشخص أن يتحرر من القلق والذنب العصابيين ما لم يميز القلق والذنب السويين فى نفس الوقت.
أما الانتقاد القديم للعلاج الوجودى كعلاج مغرق فى الفلسفة، فقد بدأ يخف منذ أدرك الناس أن كل علاج نفسى فعل لا يخلو من متضمنات فلسفية.
يهتم العلاج الوجودى بخبرة الوجود أو خبرة”أنا موجود”، وبالثقافة (العالم) التى يعيش فيها المريض، ودلالة الزمن وأهميته، وذلك الجانب من الوعى الذى يقال له”العلو”أو”التجاوز”transcendence.
يؤكد العلاج الوجودى على الأهمية الكبرى لفعل”الحضور”Presence وفعل المواجهة encounter من جانب المعالج. وقد تمثل ذلك فى فيلم”الناس العاديون”حيث كانت الصفة الرئيسية للمعالج هى حضوره المواكب بإزاء عدوانية أحد المراهقين.
وقد وضع كارل ياسبرز، وهو طبيب نفسى صار فيما بعد فيلسوفا وجوديا، يده على أهمية الحضور وخطورة افتقاده:
”كم فوتنا على أنفسنا من فرص للفهم، لأننا فى لحظة حاسمة فريدة، ورغم كل ما نختزنه من معرفة، كنا نفتقد تلك الفضيلة البسيطة: فضيلة الحضور الانسانى المليء”.
إن هذا الحضور هو ما يريدنا العلاج الوجودى أن ننميه.
كانت الغاية المحورية لمؤسسى العلاج الوجودى هو أن تؤثر مفاهيمهم ومرتكزاتهم فى جميع المدارس العلاجية، وقد كان.
يتجلى عمق الأفكار الوجودية فيما يطلق عليه”العصاب الوجودي”existential neurosis ويشير العصاب الوجودى إلى حالة الشخص الذى يشعر أن حياته لا معنى لها. وما يزال هذا العصاب يرى بشكل متزايد فى المرضى من جميع المدارس العلاجية. كان فرويد فى سنوات تكوينه لا يكاد يعاين إلا حالات هستريا. أما الآن فتقرر جميع المدارس العلاجية أن مرضاها قلما يكونون من الهستيريين، ولكنهم مصابون فى الأغلب الأعم بما نسميه بعصاب الشخصية أو الطبع character neurosis الذى هو صورة أخرى من صور العصاب الوجودى.
ينظر العلاج الوجودى إلى المريض دائما فى سياق ثقافته الخاصة. فمعظم مشاكل البشر الآن هى الوحدة، والعزلة، والاغتراب.
إن عصرنا الحاضر هو عصر تفسخ الأعراف التاريخية والثقافية، الحب والزواج، الأسرة، العقائد الموروثة، وهلم جرا. هذا التفسخ هو الذى جعل العلاج النفسى فى القرن العشرين يزدهر وينتشر بجميع أنواعه. الناس تصرخ طلبا للعون بسبب مشكلاتهم التى يخطئها الحصر. بذلك تشير كل التوقعات إلى أن التوكيد الوجودى على مختلف جوانب العالم (البيئة، والعالم الاجتماعي، والعالم الذاتي) ستزداد أهمية على مر الأيام. ويتنبأ الجميع أن المدخل الوجودى فى العلاج سيكون له عندئذ السهم الوافر والاستخدام الأوسع.
[1] – نضيف هنا . . والتى يقدر أصلا على رؤيتها ! فالحق أننا لا نرى من العالم إلا بقدر ما تسمح لنا نماذجنا الذهنية أن نرى “المترجم”.
[2] – هو ظاهرة انتقال الانفعال من الوالدين (أو الشخصيات الهامة فى حياة المريض المبكرة) إلى المعالج. وهى ظاهرة ذات مدلولات تشخيصية وعلاجية هامة ومحورية فى التحليل النفسى “المترجم”.
[3] – حرفياً : تستبعد إحداهما الأخرى Mutually exclusive المترجم.
[4] – حرفياً : من أجل من يدق الجرس ؟ (أى لوحات من) “المترجم”.
[5] – رجل تزعم الأسطورة أنه يوقع النعاس فى عيون الأطفال بذر الرمل فيها. ” المترجم”
[6] – ارتفعت النسبة فى دراسة مسحية احصائية قام بها تلامذة فيكتور فرانكل إلى 55% “المترجم”
[7] – أعلم أن الصواب اللغوى “التقفويم “، ولكنها لفظة تزاحمها معانٍ أخرى جهيرة هامة. لذا آثرت الخطأ المبين على الصواب المتبس وأظن أن المجتمع قد أجاز كلمة “تقييم” لنفس السبب ” المترجم”
[8] – حرفيا: وبالأنالوجى (أى المماثلة) فى الحياة أيضا.
[9] – لايخلو اتجاه فروم من مسحة وجودية، وإن كان ينتمى بالمعنى الأتم إلى المرسة البيشخصية، أو الفرويدية الجديدة . “المترجم”
[10] – هناك لون من العصاب الوجودى يسمى عصاب يوم الأحد Sunday neurosis أى عصاب يوم العطلة الأسبوعى. وهو من علامات الفراغ الوجودى وتمثلاته وهو صنف من الغم والاكتئاب يداهم الأشخاص مع العطلة الأسبوعية حيث تنحسر مشاغل الأسبوع المزدحمة وتليهات العمل وينحسر معها الغطاء عن خوائهم الداخلى ويصيرون على وعى حاد بما ينقص حياتهم من مضمون. “المترجم”