الأساس الأخلاقى للمجتمع
سامح سعيد عبود
تزاحمت فى رأسى الأفكار حينما شرعت فى الكتابة فى هذا الموضوع، وانتابتنى الحيرة من أين أبدأ، وكيف أعبر عما يجيش بنفسى وعقلي، ولعل هذه الحيرة ناجمة عن تعدد الدوافع وراء تفكيرى فى الكتابة عن الأخلاق، وهى مفهوم بحد ذاته ملتبس، فى حاجة للتعريف الدقيق قبل أن يصح لنا تناوله بالبحث، ولا أخفى عليك عزيزى القاريء أن هناك من الدوافع ما هو شخصى مما خبره الكاتب من تجارب عملية وتأملات وقراءات، فأنا وعلى ما يزيد عن عشرين عاما تلتصق بى صفة الاشتراكية العلمية، وهى صفة مقرونة فى عقول الكثيرين سواء من داخل أو خارج معكسر الاشتراكية العلمية نفسه بكل ما هو شرير وحقير ومتدن ومنحل وغير جدير بالثقة فى السلوك الاجتماعي، وخصوصا وأنا أحاول أن ألتزم قدر الإمكان وعن اقتناع لا يشوبه النفاق الاجتماعى بكل ما هو خير وشريف وراق فى سلوكى الاجتماعى مما يجعلنى أتوقع دائما أن يولينى الناس ثقتهم.
وعلى عكس تلك السمعة السيئة ليس للاشتراكيين العلميين فحسب، ولكل الخارجين عن الثقافة السائدة فى مصر، تلك الثقافة المتسمة بالضحالة الفكرية والجمود والمحافظة، والتى أفرزت تدينا شكليا يخفى انحطاطا سلوكيا وتدهورا أخلاقيا شديدى العمق، ومما يثير التأمل حقا أن المأثرة العبقرية لماركس وإنجلز باعتبارهما فيلسوفا الحركات الاشتراكية والثورات الأكثر أهمية خلال المائة وخمسين عاما الأخيرة، واللذان أنجزا أهم إنجاز فكرى وعلمى فى العلوم الاجتماعية فى القرن التاسع عشر، ما كان يمكن لهما أن ينجزا ما أنجزاه دون ما يمكن أن نطلق عليه تجاوزا تلازمهما مع عبقرية أخلاقية، أفرزت علاقات إنسانية (زواج وصداقة) غاية فى الرقي، ما كان يمكن بدونهما أن يتم هذا الإنجاز، فكان يمكن لعشر عبقرية ماركس ومواهبه وجهده، لا أن تحمى أسرته من شظف العيش وأولاده من الموت جوعا فقط بل والاستمتاع بكل متع الحياة الحيوانية وغير الحيوانية، وذلك بقليل من الانتهازية والنفاق.. الخ، وخصوصا وأن شقيق زوجته النبيلة الألمانية كان يعمل وزير داخلية بروسيا، وما الذى جعل تلك المرأة الجميلة والنبيلة والمترفة، لا تفعل ما كانت تفعله زوجة سقراط به، بل وأن تتحمل السكن هى وأولادها فى أحقر أحياء لندن منفية بعيدا عن بلادها، إلا إذا كان هناك ما يستوجب هذا التحمل من وجه نظرها، وهو واجب الوقوف بجوار شريك حياتها لتساعده فى إنجاز رسالته فى الحياة التى أختارها لنفسه، وما الذى جعل إنجلز يساعد هذا العبقرى وأسرته فى استكمال مهمته التاريخية، ويستمر فى مساعدة أسرته بعد وفاته ربما على حساب إنجازه هو نفسه فى الحياة، وكان باعتباره المسئول عن نشر ما لم ينشر من مؤلفات ماركس أن ينسب بعضها لنفسه إلا أنه لم يفعل، وخصوصا تلك التى أعدها للنشر، وكانت مجرد مسودات ومخطوطات لم يكن أحد قد أطلع عليها بعد. برغم أن الثلاثة لم يأملوا فى أى جزاء سواء فى الدنيا أو فى الأخرة عما كانوا يفعلون.
ما الذى جعل جيفارا يتنازل عن قمة السلطة طواعية، ليجرب النضال المسلح فى بوليفيا معرضا نفسه للموت، ولم يكن قد تجاوز الأربعين من عمره، وما الذى دفعه أصلا للاشتراك مع كاسترو فى قيادة الثورة الكوبية، وهو الطبيب الأرجنتينى سليل الأسرة البورجوازية الغنية والمنتسبة فى أحد أصولها للعائلة المالكة الأسبانية، والمصاب بالربو منذ طفولته، ضاربا ـ ولمرتين ـ عرض الحائط بكل مغريات الحياة من رفاهية وسلطة دون أمل فى حياة أخري، وإذا كان هذا هو حال الرموز الشهيرة، فقد عرفت الحركات الاشتراكية العلمية وعلى مدى المائتى عاما السابقة، وفى شتى بقاع الأرض بما فيها مصر، ملايين البشر التى تراوحت تضحياتهم من أجل ما آمنوا به، من الحرية إلى الحياة نفسها، فضلا عن الحرمان من متع الحياة حيوانية وغير حيوانية، ومارسوا كل ما هو خير وراق وشريف وجدير بالثقة فى سلوكهم الاجتماعى. واقترب بعضهم من القداسة، ونالوا احترام الأعداء قبل الرفاق.
فإذا كان الأمر أمر إشباع الاحتياجات الحيوانية اللصيقة بحيوانية الإنسان وحسب، باعتبارها المكسب الوحيد للفرد فى تلك الحياة وفق التفسير المبتذل للمادية، فما هو الدافع الذى دفع كل هؤلاء إلى مثل تلك التضحيات الغيرية المنافية للأنانية، إن لم تكن دوافع من الأخلاق الخيرة والراقية، ومن الإحساس بآلام الآخرين والرغبة فى مساعدتهم، ذلك الفعل المساوى لتجاوزهم مصالحهم الأنانية الضيقة التى ربما حققوها بالفعل المعاكس، بالاستغراق فى الأنانية والاغتراف من الملذات. وبالطبع هذا لا ينفى وجود دوافع أخرى ربما يكون بعضها غير سوى ومريض بل ومنحط أيضا غير أن هذا ليس موضوعنا الآن.
وقد عرفت بعض هؤلاء القديسين، كما عرفت من بين الاشتراكيين العلميين من هم أقرب إلى الشياطين، وفى الحقيقة فإن العلاقة بين الاشتراكية العلمية وبين سلوك أى من القديسين أو الشياطين من بين المنتسبين إليها، ضعيفة إلى حد كبير، فهى كونها تراث نظرى ومثالى ومجرد، شأنها فى ذلك شأن غيرها من الأديان والفلسفات والعلوم والفنون والأفكار، تتحول فى عقول البشر وممارستهم إلى تنوعات هائلة ومتفاوته، واقعية وملموسة، فالنص الواحد يتحول إلى نصوص مختلفة بعدد من قرأوه طالما تفاوت البشر فى درجات فهمهم وتأويلاتهم وظروفهم المختلفة. ومن ثم يتأثرون بما يقرءون على نحو مختلف.
وعموما فالبشر كأفراد لا يسلكون وفق ما يؤمنوا به من أفكار ونظريات فقط، والتى تقوم بدور التبرير والتفسير والسند النظرى فحسب، بل يسلكون بناء على مجموعة كبيرة من المؤثرات منها المؤثرات البيولوجية كالعوامل الوراثية والنشاط الهرمونى والكيميائى والعصبى فى الجسم، ومستوى الصحة البدنية والنفسية بل ومستوى التغذية.. الخ، والمؤثرات البيئية من أسرة وتعليم وثقافة وطبيعة شخصية وخبرات عملية.. الخ. وهو الأمر الذى يفسر لنا لماذا نجد داخل كل مجموعة بشرية قومية أو دينية أو سياسية أو عرقية أو ثقافية.. الخ كل التنويعات الممكنة من البشر، الأشرار والأخيار وما بينهما من درجات، وكيف أن الفرد الإنسانى نفسه ليس نمطا ثابتا عبر تاريخه فهو عرضة للتغيرات والتذبذب ما بين الأقطاب المختلفة طالما كان عرضة للتأثر بالمؤثرات المختلفة التى تدفعه لهذا السلوك أو ذاك.
إلا أن ما دفعنى بقوة للكتابة أيضا فى هذا الموضوعة هو أن البعض من أعداء الاشتراكية العلمية وفى إطار هجومهم عليها، وبعض المنتسبين لها وفى إطار تبرير تحللهم الأخلاقى وانفلاتهم السلوكي، يفهمون موضوع الأخلاق ويفسرونه كما ورد على لسان أحد أبطال رائعة ديستويفسكى “الأخوة كرامازوف” “إذا لم يكن الله موجودا فكل شيء مباح” والمرء لا يمكنه أن يعترض على ما أورده ديستويفسكى فى حدود فهمه لأهم رواية لروائى هو واحد من أعظم من كتبوا الرواية عبر العالم، وعبر تاريخ الأدب عموما، إلا أنه لا يصح تعميم ما قاله الكاتب على لسان إيفان كرامازوف فى الرواية، وأتخاذه أساسا لفهم موضوع معقد كالأخلاق فى علاقتها بموضوع معقد أيضا كالدين. أما الحقيقة الغائبة عن البعض فهى أن ديستويفسكى كان يصور حالة قطاع من الثوريين والمثقفين الروس المعروفين بالعدميين، والذين انتشروا فى روسيا القيصرية من أربعينات إلى ثمانينات القرن التاسع عشر قبل تكون الحركة الاشتراكية العلمية فى روسيا، وهم لا علاقة لهم بالموقف الاشتراكى العلمى من الأخلاق أو من الدين. فالعدمية تيار فكرى واجتماعى وسياسى يولى الأهمية القصوى للهدم بصرف النظر عن نتائج ما بعد الهدم، وهو من ثم يركز على وسائل الهدم أكثر مما يركز على وسائل البناء، والعدمية كفلسفة تتساوى لديها كافة القيم والأوضاع إلا الوضع الراهن والقيم الراهنة المستوجبين للهدم بأى وسيلة. ومن ثم فالحدود لديها ضائعة بين الثورى والمجرم، وبين الحرية والفوضي، وبين العلم والخرافة، وبين القبح والجمال.. الخ، وهى تنكر المعايير والقيم الإنسانية العليا، الأمر الذى يفرقها بوضوح عن موقف الاشتراكية العلمية.
بعد هذه المقدمة الطويلة آن لنا أن نفهم طبيعة الأخلاق:
الأخلاق هى سلوك اجتماعى لا يمكن تصوره دون وجود سابق للمجتمع عليها، فالفرد المنعزل عن المجتمع لا يمكنه – وإن رغب – أن يمارس أخلاقيات ما، ولا أن يجول بخاطره أى معنى أخلاقى دون دخوله فى علاقة اجتماعية، إلا أنه، وبمجرد دخوله تلك العلاقة، عليه أن يسلك على نحو يضمن استمرار هذه العلاقة، ومن ثم فالأخلاق ضرورة اجتماعية، موجودة فى كل العلاقات الاجتماعية، حتى فى التشكيلات الإجرامية والخارجة عن القانون، والتى لا يمكن أن تستمر لو لم يلتزم أفرادها فيما بينهم بنسق أخلاقى وسلوكى معين يضمن استمرارها فى العمل الإجرامى كجماعة منظمة، وبدون هذا الإلتزام لن يمكن لها الاستمرار والنجاح.
والأخلاق يصعب تعريفها بدقة كونها ظاهرة اجتماعية، وهى شأن كل الظواهر الاجتماعية تتشابك مع غيرها من الظواهر الاجتماعية أو الإنسانية الأخرى بل والطبيعية كذلك.
وباديء ذى بدء يمكن أن نعرف الأخلاق بطريقتين: أما بإسنادها إلى القيمة المسماة بالخير فقط، أى الأخلاق بالمعنى الإيجابى وحده وهو تعريف قاصر وإن كان شائعا، وهو لا يشمل الأخلاق بالمعنى السلبى أيضا التى ترتبط بالقيمة المسماة بالشر، وهذا لا يعنى بالطبع التسليم بوجود قيمتين مثاليتين مجردتين ومطلقتين باسمى الخير والشر سابقتين على الوجود الاجتماعى نفسه، إلا أن الغرض من هذا الربط، هو مجرد الاتفاق على أن المقصود بالأخلاق محل البحث هى الطريقة التى يسلك بها الناس فيما بينهم سواء رأينا أنها شريرة أو خيرة، سلبية أو إيجابية، ضارة أو مفيدة، منحطة أو راقية… الخ.
يمكن أن نقرر أن الأخلاق لها طبيعة مزدوجة، فهى نسبية فى الواقع الاجتماعى العينى والملموس، ومطلقة فى الوعى الاجتماعى النظرى والمجرد فى نفس الوقت.
أما من ناحية كونها نسبية، فهى سلوك اجتماعى مرتبط بالتشكيلة الاجتماعية الإقتصادية، فالطريقة التى ينتج بها الناس احتياجاتهم المادية تؤثر على الطريقة التى يسلكون بها فيما بينهم. وعلى القيم والمعايير الاجتماعية المختلفة، التى تجعلهم يستهجنون سلوكا ما، ويقبلون آخر، ويشجعون على ثالث، ومن ثم فكل تشكيلة اجتماعية اقتصادية لها ما يلائمها من أنماط للسلوك الاجتماعى. ففى المجتمعات التى لا تعرف الملكية الخاصة تختفى السرقة أما عن الأمانة فهى لا تعرف معنى لعدم السرقة واحترام الملكية الخاصة، وإن كانت تتجسد فى أشكال أخرى للسلوك، كما يتغير سلم القيم السلوكية من نظام اجتماعى لآخر، ففى المجتمعات الإقطاعية عموما تكون قيمة التماسك الاجتماعى للأفراد المنتمين لجماعة ما ـ الأسرة أو الحى أو القرية أو الطائفة المهنية ـ أعلى من كثير من القيم الأخري، أما فى المجتمعات الرأسمالية فتصبح قيمة الحرية الفردية أعلى من قيم التماسك الاجتماعى لأى جماعة عدا الدولة نفسها التى ينتمى إليها الفرد. وفى المجتمعات البدائية كان قتل المسنين والمرضى والعجزة قيمة أخلاقية مستحبة من أجل الحفاظ على قدرة العشيرة البدائية على الاستمرار فى الوجود، الأمر الذى تستهجنه المجتمعات المتحضرة القادرة على خلق فائض من الإنتاج يكفى لحياة هؤلاء دون أن يهددوا وجود المجتمع. بل أصبح تبجيل المسنين، والعطف على الضعفاء والمرضى والعجزة ومساعدتهم قيمة إنسانية عليا.
كما تختلف الانماط الأخلاقية ويختلف سلم المعايير القيمية داخل نفس التشكيلة الاجتماعية الإقتصادية متعددة الطبقات من طبقة اجتماعية لطبقة أخري، فقيم من يملكون غير قيم من لا يملكون، وإذا كان على العبيد والأقنان الطاعة والخنوع للسادة مما يورثهم الجبن والنفاق والسلبية، فإن مما يشين السادة عموما تلك الطاعة وذاك الخنوع، وما يستتبعهم من نتائج.
وتتغير القيم والمعايير الاجتماعية فى أى مجتمع فى حالات عدم الاستقرار كالحروب والثورات والكوارث الطبيعية والتعرض للغزو الخارجي، فيزداد معدل التماسك الاجتماعى وتزداد معدلات الممارسات الغيرية، أما فى أحوال الاستقرار فيتقلص معدل التماسك الاجتماعي، وتزداد معدلات السلوكيات الأنانية، كما يؤثر النظام السياسى فى سلوكيات الأفراد، ففى النظم الديمقراطية يتصف الأفراد عموما بالإيجابية والصراحة على عكس سلبية الناس ونفاقهم فى ظلال النظم الديكتاتورية.
والفرد الإنسانى لا يسلك فى الحياة فقط وفق انتمائه الاجتماعى والطبقى وأنما وفق مجموعة أخرى إضافية من المؤثرات الطبيعية والفسيولوجية والاجتماعية والثقافية، وعموما فالبشر تتحكم فيهم فى النهاية غرائزهم وعواطفهم النابعة من فرديتهم جنبا إلى جنب مع القيم والمثل العليا النابعة من اجتماعيتهم، وقد يتغلب أحيانا جانب على الجانب الآخر، إلا أنهما يتلازمان طول الوقت، فلم ولن يوجد البشر الذين سيظل تحكمهم مثلهم العليا إلى النهاية، أو تحكمهم فحسب غرائزهم، وعواطفهم كل لحظة.
كما تتجلى نسبية الأخلاق أيضا، فى ارتباطها بأطراف العلاقة الاجتماعية التى جرى بينها السلوك الأخلاقي، فما يكون شرا وسلبا وانحطاطا وضارا لطرف قد يكون خيرا وإيجابا ورقيا ومفيدا للطرف الآخر، كما أن السلوك نفسه يختلف وضعه فى سلم القيم وفق الزمان والمكان والسياق الذى تم فيهما.
ولكل الأسباب السابقة تتميز الأخلاق على المستويين النظرى والعملى بالنسبية، إلا أن هذا لا ينفى عنها الطابع المطلق أيضا، فطوال التاريخ البشرى وبسبب الوظيفة الاجتماعية العامة للأخلاق فى الحفاظ على البنية الاجتماعية، أخذت تنمو وتتطور ما يمكن ن نسميها بالأنا العليا للبشرية المكونة من المثل والقيم العليا المتفق عليها تحت أى ظروف، تلك التى نطلق عليها الضمير الإنسانى الذى يدفعنا للأمانة وينفرنا من الخيانة، الذى نتألم بسببه مما يحيق بالغير من عذاب وقتل واغتصاب حتى ولو كان ذلك مجرد مشهد تمثيلى أو مجرد خبر فى الصحف، والذى يحاسبنا على الكذب والاضرار بالآخرين أو أى خطأ أقترفناه، ما يجعلنا نخجل من أنفسنا أو نفخر، ما يسعدنا بالراحة، ويشقينا بالعذاب، من إذا نام فى عقولنا أتاح لنا فرصة ارتكاب الآثام، وإذا استيقظ حاسبنا على كل ما أقترفناه.
ذاك الضمير برغم نموه وتطوره المتزايد لدى البشر عبر التاريخ، يتميز بالتثبيت المستمر لمجموعة من القيم والمثل العليا يتزايد ما يتفرع عنها من قيم ومثل ويرتقي، فسيظل البشر يستنكفون الكذب وخيانة الأمانة والطمع والجبن والنفاق، وإن مارسوا أيا منهما فعلا، وسيظلون يحبذون الصدق والأمانة والقناعة والشجاعة والصراحة، وأن عجزوا عن ممارسة أيا منهما واقعا، مهما تغيرت التشكيلات الاجتماعية الاقتصادية.
فعبر التاريخ البشرى كان هناك انفصال نسبى ما بين المتفق عليه والمعلن عنه نظريا، والذى يمثل هذا الضمير الاجتماعى السالف ذكره فى لحظات تطوره المختلفة، وبين ما يمارسه البشر فى حياتهم الواقعية، والذين يتفاوتون فى درجة الالتزام به،وتلوينه بشتى التفسيرات والتبريرات مما أكسب السلوك الإنسانى عموما درجات أعلى من التعقد، فيندر وجود الكاذب الذى يفخر بكذبه، وأنما يتكاثر من يبررونه لأنفسهم وأحيانا للآخرين.
يبقى أن نعرف أن الأنساق الأخلاقية تتفاوت فيما بينها ما بين ما نعتبره ثانوى وجوهري، وبين ما هو مجرد عادة أو تقليد، وما هو أكثر عمومية من ذلك، وخلال عمليات التغير الاجتماعى يهجر البشر سلوكيات ليتبنوا سلوكيات أخري، ويرضون بسلوكيات كانوا قبل ذلك يستنكروها أو العكس. وخلال ذلك أيضا يتحول ما كان ثانويا إلى ما هو أساسي، كما يحدث العكس أيضا: فقد يتحول الأساسى إلى ثانوى.
والآن ما هى العلاقة ما بين الأخلاق وكل من الدين والقانون؟
تتداخل وتتفاعل الأخلاق كشكل من أشكال الوعى الاجتماعى بأشكال أخرى من الوعى الاجتماعي، مما يزيد من تعقدها ونسبيتها وغموضها. إلا أن العلاقة بين الأخلاق وكل من الدين والقانون باعتبارهم يشكلون آليات الضبط والجبر الاجتماعيين، تجدر الإشارة إليهما فى هذا المقال.
فكل الأديان سواء السماوية التى تتضمن الإيمان بالله إلها واحد أحدا، والتى يعتنقها أقل من نصف سكان الأرض بقليل، أو الأديان غير السماوية المستندة أساسا لفلسفات وثقافات مختلفة ولا تعرف الله كجزء من عقيدتها، والتى يعتنقها أغلب الجزء الآخر، كلها تتضمن أنساقا أخلاقية محددة وتدعو أتباعها لاتباع سلوكيات معينة، واعدة إياهم فى هذه الحالة بالجزاء الحسن، محذرة هؤلاء إذا اتبعوا سلوكيات أخرى بسوء العاقبة. وسواء أكان هذا الجزء حسنا أم سيئا، فى الحياة الدنيا أم بعد الموت، فهو أمر تشترك فيه كل الأديان. إلا أن هذه الأنساق المختلفة فيما بينها فى التفاصيل، قد لا تتفق فى الكثير من عناصرها مع درجة التطور التى وصل إليها ما أطلقنا عليه الضمير الإنسانى العام، فالوصايا العشر الموجهة لليهود، يلتزم اليهود بها فيما بينهم فقط، أما مع غير اليهود فالأمر مختلف، فلا يصح ليهودى أن يسرق يهودى فى حين يصح وفق الشريعة اليهودية أن يسرق من غير اليهودي، وقس على ذلك كل الوصايا الأخرى. ولا تحرم بعض الأديان أن لم تحض فعلا على غزو أراضى الآخرين من التابعين للأديان الأخرى وأسترقاقهم واستحلال أموالهم وفرض سيادتهم عليهم، مما يتنافى والتطور البشرى الحالى فى مستوى القيم، وهناك من الأديان ما يحرم إيذاء أى كائن حى فى حين لا تحرم أديان أخرى العنف مع البشر إن لم تعتبره قربة لما يعبده أتباعها. إلا أن هذا لايعنى أن الأنساق الأخلاقية المرتبطة بالأديان لا تتوافق فى كثير من الأحيان مع درجة هذا التطور.. وقد شكل الدين دائما أحد الآليات الاجتماعية للردع والجبر الاجتماعيين وللحفاظ على إلتزام البشر بنسق قيمى وأخلاقى معين يحفظ للمجتمع وجوده واستقراره، كما ساعدت الأديان فى كثير من المراحل التاريخية على استبدال الأنساق الاجتماعية السائدة بأنساق أخرى أكثر تقدما وتطورا، إلا أن هذا لا ينفى أن الأديان أيضا قد تشكل عائقا ثقافيا أمام التطور الاجتماعى بما تتضمنه من أنساق قيمية متخلفة.
خلاصة القول إن كلا من الدين والأخلاق متداخلان فى علاقات متشابكة،إلا أن هذا لا يعنى تطابقهما وتلازمهما. وخصوصا أن الأنساق السلوكية فى الأديان تتضمن أوامر ونواهى عن سلوكيات هى أقرب للعادات والتقاليد الجماعية والفردية لا ترتبط بالأخلاق كضرورة اجتماعية ونسق من القيم.
وكما يشتبك الدين والأخلاق يشتبك القانون، فالقانون هو آلية من آليات المجتمع للحفاظ على استقراره، وهو يتضمن أيضا نسقا أخلاقيا محددا، يبيح أنواعا من السلوك الاجتماعى ويجرم أخري، وينظم ثالثة، إلا أن القانون يستند إلى السلطة الاجتماعية القادرة على وضع قواعده وإلزام المواطنين بها، وفق آليات العقاب التى تقوم بها السلطة، وليس بناء على سلطة الضمير كما فى الأخلاق، أو على سلطة الثواب والعقاب الآخرويين كما فى الدين، وتتفاوت القوانين فيما تجرمه أو تنظمه من السلوكيات الاجتماعية، من حيث مدى اقترابها أو بعدها مما أطلقنا عليه الضمير الإنسانى العام، فقد تنظم بعض القوانين البغاء وقد تجرمه أخري، وقد تعترف بعض القوانين بالرق أو تجرمه بعضها، وقد تأخذ نظم قانونية بتعذيب المتهمين وانتزاع الاعترافات قسرا منهم، وقد تجرم قوانين أخرى هذا التعذيب ولا تعترف بنتائجه وهكذا. ومن ثم فالعلاقة بين القانون والأخلاق علاقة تشابك وتداخل، وليست علاقة تطابق ولزوم.
ويشكل كل من الأخلاق والدين والقانون، آليات الضبط والجبر الاجتماعيين، من أجل الحفاظ على البنية الاجتماعية واستقرارها، إلا أن تأثيرهم على سلوك الأفراد فى المجتمع، ثانوى ومساعد ونسبي، فالضمير أو الأنا العليا ليست متساوية القوة والتأثير عند كل الأفراد، لأسباب بيولوجية وثقافية ونفسية خاصة بكل فرد على حدة، فتتفاوت ضمائر البشر ما بين النوم والإفاقة، ومن ثم تتفاوت سلوكياتهم الاجتماعية، وبرغم الأديان المختلفة التى عرفتها البشرية فإن إعتقاد البشر فى العقاب والثواب الآخرويين أو الدينويين لم يردع البشر عن ارتكاب الآثام والذنوب والخطايا المختلفة، والقوانين برغم عقوباتها القاسية أحيانا لم تمنع الناس من ارتكاب الجرائم رغم علمهم بما قد يلحق بهم من عقوبات تمس حريتهم وحياتهم.
أما العنصر الأساسى والحاسم والحاكم فى التأثير على سلوكيات البشر فهو البنية الاجتماعية الاقتصادية السياسية التى يدخلون فيها، باعتبار التأثير الشامل لهذه البنية على مجمل العناصر الداخلة فيها. ففى المجتمعات التنافسية القائمة على التملك والأستحواذ الفرديين لابد وأن نتوقع أنانية البشر وفرديتهم، وعلى العكس ففى المجتمعات التعاونية القائمة على الانتفاع الجماعى لابد، وأن نتوقع غيرية البشر وجماعيتهم.
الأساس الأخلاقى للرأسمالية:
تتزايد الشكوى شفاهة وكتابة مما أصاب البشر من تدهور أخلاقى وسلوكي، كما يتمادى الحديث عن اطراد هذا التدهور العام، فالماضى أفضل من الحاضر، والأباء أفضل من الأبناء. وعلى العموم فكل هذه الشكاوى مطلقة على علاتها لأسباب أيديولوجية ونفسية وسياسية، والغريب أن نفس هذه الشكاوى المختلفة تواجدت عبركل التاريخ البشرى المكتوب، وفى كل مكان، فيما تركه نفس الأسلاف الذين نقدسهم من أثار وتراث وينعون فيها أيضا ما آل إليه البشر من سوء الأحوال الأخلاقية، وذلك دون أساس من البحث العلمى السبيل الوحيد الذى يمكن أن يثبت لنا صحة هذا الزعم من عدمه أولا، ومدى هذا التدهور إن وجد ثانيا، أو على العكس فقد يثبت لنا أن البشر قد حققوا تطورا فى أنساقهم الأخلاقية، وأنهم أفضل من أجدادهم وآبائهم، بمعنى أنهم أكثر شرفا ورقيا وخيرا.. الخ، ثالثا، وحيث أن معلوماتنا فى هذا الشأن لن تكون دقيقة بأى حال فلن يمكنا الحكم بشأن هذه القضية إلا فى إطار أن البشر ومنذ فجر تاريخهم يتطورون ككل إلى ما هو أفضل عموما، وذلك بمقارنة الأنساق الأخلاقية المعلنة لمختلف المجتمعات، والأوضاع الاجتماعية والأخلاقية للبشر عبر التاريخ من خلال ما خلفوه وراءهم من آثار وتراث.
أما ما يمكنا فعله هنا فحسب، فهو أن نتناول بالدراسة النسق الأخلاقى للرأسمالية باعتبارها التشكيلة الاجتماعية الإقتصادية السائدة الآن عبر الكوكب بأسره، والتى تشكل الأساس المادى للحضارة الرأسمالية ذات الطابع العالمى المتزايد العمق والاتساع منذ نحو خمسمائة عام. والتى أخذت فى السنوات القليلة طابع الهيمنة الشاملة للرأسمالية الأمريكية الأكثر قوة.
يتأسس النسق الأخلاقى العام للرأسمالية على قاعدة الفردية وما يرتبط بها من ذاتية وأنانية، ومن ثم تحطم كل أشكال التماسك الاجتماعى التى عرفتها المجتمعات الإقطاعية، والتى كانت تقيد الفردية وتوابعها بجماعية الانتماء وأولويته على مصلحة الفرد لصالح جماعة ما: الأسرة، الحي، المهنة، الحرفة.. الخ. فالرأسمالية تفترض لوجودها مجتمعا من الأفراد الأحرار المتنافسين الذين يلتقون عبر علاقات السوق ليتبادلوا ما يملكونه من سلع مختلفة مادية ومعنوية مصنعة أو خام، بما فيها قوة العمل نفسها باعتبارها سلعة، وتفترض الرأسمالية أن هؤلاء الأفراد فى حالتهم الفردية تلك متساوون تماما وفق القانون، وأنهم على علم بمصالحهم التى تجعلهم يدخلون فى صفقات تبادل سلعى وخدمى مختلفة عبر السوق الحر، وأنهم عبر ذلك عليهم تحقيق أكبر قدر ممكن من المنفعة الذاتية لأنفسهم، وتحقيق أكبر قدر ممكن من اللذة عبر استهلاك أفضل السلع المعروضة فى السوق، دون التفات للآخرين ممن يشاركونهم علاقات السوق الرأسمالي، الأمر الذى تزعم معه الأيديولوجية الليبرالية أنه سيعود فى النهاية بالنفع على كل أفراد المجتمع وجماعاته، طالما يتنافسون، ويحققون نجاحهم كل وفق قدراته وإمكانياته، ومن ثم يحققون المصلحة العامة للمجتمع والدولة عبر سعى كل المواطنين للنجاح الفردى فى منافسة لا ترحم وسباق لا ينتهى من أجل إنتاج لا يمكن أن يتوقف للسلع التى يتم تداولها فى السوق، مما يستدعى دائما إلهاب ظهور المستهلكين لكى يستهلكوا ما هم فى حاجة إليه وما هم فى غير حاجة إليه، الأمر الذى يتحدد بمقدار نجاحهم فى المنافسة، ويشكل معيار سعادتهم فى الحياة، ومعيار تقييمهم للبشر، التى تتحدد قيمتهم بما يستهلكونه وبما يمكن أن يستهلكوه. هذا هو المعيار الحاكم فى النسق الأخلاقى للرأسمالية عموما والأكثر ارتباطا بها كنمط للإنتاج. والذى تتأسس عليه كافة العلاقات الاجتماعية فى المجتمع الرأسمالى.
لاشك أن هذا النسق له انعكاساته السلبية والإيجابية، الضارة والمفيدة على مستوى الصحة النفسية للأفراد، وصحة العلاقات الاجتماعية، ومن ثم الممارسات السلوكية للبشر.
فقد حررت الرأسمالية الأفراد مما كان يكبلهم من قيود تعوق امكانيتهم، ونجاحهم الفردي، وجعلتهم أكثر شجاعة ومبادرة وصراحة وإيجابية، إلا أنها حولت كل منهم لمجرد شيء أو موضوع أو وسيلة أو أداة للآخر، وحولت الجميع لمجرد أرقام فى حسابات المكسب والخسارة، ومن ثم فقد تحولت العلاقات الإنسانية إلى علاقات سوقية عموما، وتحولت لصراعات وصفقات لا تنتهى بين البشر من أجل الفوز بأكبر قدر من غنائم السوق وسلعة تحت وهم تحقيق سعادة سطحية غير مشبعة نفسيا، فالشبق الاستهلاكى الذى تثيره الرأسمالية يزيد الاحساس المستمر بالحرمان والاحتياج برغم كل ما يتم استهلاكه من لذات، أما الإشباع الحقيقى فلن يكون إلا حين يتطابق الاستهلاك مع الضرورة الفعلية، وهو ما يتناقض مع منطق السوق الرأسمالى المرتبط بتحقيق الربح عبر التوسع المستمر فى الإنتاج.
فالمتسابقون يجرون فى مضمارلا ينتهى بالنسبة لكل منهم إلا بخروجه من السباق، بالانسحاق أو الموت أو الإنسحاب أو الجنون أوالمرض النفسي، وعند من يدركون تلك الحقيقة، فالحياة على مثل هذا النحو السوقى المبتذل عبث لا معنى له ولا يستحق كل هذا العناء. فحتى وفق حساب المكسب والخسارة، فأن ما يخسره البشر من قيم ومثل ودفء إنسانى ومشاعر جميلة وراحة نفس وذهن واحترام الذات لنفسها ولمن تحبهم وحبهم لها، والحرية الحقيقية والحياة الطليقة من العبودية، والإمتلاك الفعلى للحياة الشخصية بعيدا عما يقيدها من علاقات السوق ونمط التملك، لقاء ما يتم اكتسابه من سلع وخدمات سيوضح فى الحساب الختامى كم الخسارة الفادحة التى حاقت بهم مهما بلغ ما أكتسبوه.
وفى المجتمع الرأسمالى يقع الجميع فى الاغتراب، فالعامل يبيع قوة عمله وقدرا من حريته ووقته وإرادته من أجل إنتاج سلع لا يرغب فى إنتاجها، ومن أجل سوق لا يعرفه، وفى ظروف عمل لا يملك السيطرة عليها، والرأسمالى تستعبده ملكيته، وتحرمه من الحرية والأمن، وتشعل لديه الخوف من الخسارة ومن الفشل فى السباق، وبرغم أن ما يملكه يستعبده إلا أن أخشى ما يخشاه أن يخسره، ويفقد من أجل كل هذا ما سبق وأشرنا إليه.
هذا هو النقد الاشتراكى العلمى للنسق الأخلاقى للرأسمالية، وكان ماركس قد تناول فى الفصل الأول من كتاب رأس مال ما أطلق عليه “وثنية” السلعة أى تحولها لصنم هو الاله المعبود فى دين السوق الرأسمالي، والذى من أجله يقدم البشر القرابين من حريتهم وسعادتهم وجهدهم وأغلى ما يملكوه، والسلع آلهه مخادعة من أجلها تقدم ما تطلبه من قرابين متوهما لحظتها بأنك إذا تملكت أحدها نلت السعادة، وأشبعت الرغبة، وإذا ما أصبحت فى حوزتك واستهلكتها أحسست بجوع لصنم آخر، بعد أن تأكدت أن الصنم الذى سار فى حوذتك لم يكن يستحق ما دفعته من أجله من قرابين، وأنه لم يعد يشبع لك رغبة، وأنه ليس كما كنت تتخيله قبل امتلاكه، والأخطر أن امتلاكه أورثك القلق والخوف من أن تفقده من الحاسدين والطامعين فيما تملكه. والقرابين المقدمة من أجل السلع وإن كانت مجرد نقود بشكل مباشر، فقد دفعت من أجلها عمرك وحريتك وجهدك وعقلك، وفقدت بسببها الكثير من أسباب السعادة الصحية والإشباع الحقيقى. وتبلغ المأساة ذروتها حين تتحول السلعة من الصنم المعبود إلى مجرد نفاية بالاستعمال والاعتياد، ترغب فى التخلص منها بعد كل ما دفعته من أجلها، وعبئا ترغب فى التخلص منه بعد ما كنت تظنها الكفيلة بإسعادك ومنذ هذه اللحظة أصبحت تسلك مثل العبيد، فلست مجرد عبدا للضرورة بل درويشا لآله السوق، ذبت فيه وأصبحت لا تتميز عما يملكك وتملكه سواء أكان مجرد سلعة أو رأسمال أو مجرد قوة عمل.
وإزاء كل تداعيات هذا النمط فى الحياة تتكون شتى أشكال التمرد الفردى والاجتماعى من الحركات الدينية الأصولية أو الجديدة إلى الحركات الهيبية والوجودية إلى الحركات الثورية المعادية للرأسمالية.
وإذن ما هو الأساس الأخلاقى للاشتراكية؟
يتأسس النسق الأخلاقى للاشتراكية على قاعدة الجماعية، وما يرتبط بها من غيرية وموضوعية، إلا أنها ليست جماعية المقهورين كما فى المجتمعات ما قبل الرأسمالية، وإنما جماعية الأفراد الأحرار المتعاونين طوعا فيما بينهم من أجل اشباع احتياجاتهم المختلفة الفردية والجماعية، وهم حين يجتمعون على هذا النمط التعاونى الحر، يكف كل منهم على التعامل مع الآخرين كأشياء أو موضوعات أو أدوات أو وسائل لإشباع رغباته على حسابهم أو مجرد أرقام فى دفتر المكسب والخسارة، وإنما كبشر أحرار ومتساوين وغير خاضعين للقهر والاستغلال. ومن ثم تحل قيم التعاون والتضامن والتكافل بين أعضاء المجتمع محل قيم التنافس والصراع، ويتحرر البشر من عبودية التملك والسلع بتحول هدف الإنتاج من تحقيق الربح عبر فروق القيم التبادلية للسلع فى السوق إلى إشباع الاحتياجات الاستعمالية فقط. وهذا افتراض قائم على أن سعادة الإنسان تتحدد بمقدار تحرره وسيطرته الفعلية على مقدرات وجوده الإنساني، وبشرط أن قيمته الاجتماعية تتحدد بما يؤديه من عمل وما يملكه من قدرات متحررة من الطابع السلعي، بمعنى أن تتحرر قوة عمله من كونها سلعة، هذا هو ما بشرت به الاشتراكية العلمية بصرف النظر عما تم باسمها خلال القرن العشرين لظروف لا مجال لذكرها فى هذا المجال.
ولما كان الهدف من الاشتراكية هو تحرير البشر من كل ما يعيق ممارستهم للمثل العليا الإنسانية، عبر تشكيلة اجتماعية اقتصادية وتنظيم سياسى للمجتمع يسمح بذلك، فإن على الاشتراكيين أن يتمسكوا بهذه المثل العليا، ففاقد الشيء لا يعطيه ولا يمكن لمجرم ومنحل ووغد أن يقنع أحد – إلا المعتوهين – أنه يناضل من أجل تحريرهم من القهر والاستغلال أو يقنعهم بهذا النضال، وهو يمارس فعليا هذا القهر وذاك الاستغلال مهما كانت المبررات. ولا يمكنه حتى ولو خدعهم أن يحقق فعلا ما يعد الناس به. بسبب العلاقة التلازمية بين الغاية والوسيلة. فالغاية تبرر الوسيلة إذا كانت من طبيعتها، ولا تبررها طالما كانت من طبيعتين مختلفتين.
نعود إلى بداية المقال كى نختمه، لماذا هذه السمعة السيئة التى تتمتع بها الاشتراكية العلمية وسائر الخارجين عن المألوف والتقليدى فى مصر؟ وهى فى رأيى وبحكم تجربتى الشخصية تهمة مبالغ فيها بشكل كبير بالقياس إلى سمعة ما هو شائع عن غير الاشتراكيين العلميين وأشباههم.
جزء من المسألة يرجع لثلاث عوامل من خارج الحركة الاشتراكية العلمية هي:
أولا: الدعاية المضادة والمكثفة ضد الاشتراكية العلمية باعتبارها أخطر حركة معادية للرأسمالية تهدد وجودها ذاته، ولازالت برغم النكسة المؤقتة التى تعرضت لها.
ثانيا: الطريقة الساذجة التى يفكر بها الناس فتجعلهم يطابقون بين الدين والأخلاق الجيدة، واللاتدين والأخلاق السيئة رغم عدم صحة هذا التطابق وذاك التلازم، فضلا عن التعميم الساذج للتجارب الشخصية والذى يتردد بين الناس بلا ترو، فيتحول إلى ما يشبه الحقائق العلمية، فإذا صادف أحدهم أن تعامل مع أحد الاشتراكيين العلميين سيء الخلق فأنه يعمم التجربة لتشمل كل الاشتراكيين العلميين، مثل رجل خانته أمرأة فتتحول كل النساء إلى خائنات فى نظره، وهو أمر راجع إلى صبيانية التفكير وبدائيته، الذى يجعلنا دائمى النزوع للتعميم واصدار الأحكام المطلقة، ووضع الناس فى فئات جامدة، وهذه النزعة يقع فيها المثقفون مثلهم فى ذلك مثل عامة الناس، والغريب أن ما يتم ترديده عفويا، يصبح مع الوقت كبديهية لا تستوجب البرهان العلمي، ونظل نرددها بلا وعى ونبنى على أساسها المواقف.
ثالثا: إن الاشتراكيين العلميين فى حقيقتهم أبناء البنية الرأسمالية ولوعادوها نظريا فإنه سيصعب عليهم التحرر الكامل من تأثيرها ومن تأثير الثقافة والوعى السائد حتى ولو هاجموه بالنقد، وهم إن استطاعوا بشكل نسبى تجاوزه. فكيف يستطيعون التحرر من ديانة السوق وقيمه وأخلاقه، وهم أسرى البنية التى تفرزها.
الجزء الآخر للمسألة يرجع إلى الاشتراكيين العلميين أنفسهم كحركة وكأفراد ومنها العوامل الآتية:
أولا: التفسير المبتذل والعدمى للمادية لدى بعضهم الذى يتشبث به البعض ليبرر تمرده الاجتماعي، وانحلاله الخلقي، فيستخدم الرطانة الثورية كى يخفى بمهارة كل ما يفعله البورجوازى من سلوك عفن ومنحط، فيتعامل الرجل منهم مع المرأة كمجرد وسيلة للمتعة، ويقهرها ويستغلها تحت الغطاء الثورى الكاذب المسمى الحرية الشخصية، كما تتعامل هى معه بنفس المنطق النفعي، وباعتبارها العنصر الأضعف اجتماعيا فى العلاقة، حتى تصبح ضحيتها الأساسية: مما يصيبها بقدر من المرارة أحيانا أو المزيد من الانحدار أحيانا أخرى وخصوصا فى المجتمعات التى تولى أهمية خاصة ومحورية للسلوك الجنسى فى سلم القيم الأخلاقية.
ويسرق البعض أو ينصب محتجا بعدم قدسية الملكية الخاصة، برغم أن المجتمعات الشيوعية نفسها لم ولن تخلو من ملكية المقتنيات الشخصية على نحو خاص، وفى الحقيقة أن أيديولوجية التمرد وممارستها لاتحمل فى حقيقتها تحريرا حقيقيا للبشر، فالذى يتمرد على المجتمع ويتعاطى المخدرات، وغيرها من المكيفات التى تصيب بالادمان أو تضر بالصحة، ينزلق إلى عبودية المخدر والكيف، ويفقد حريته الحقيقية وهو يبحث عنها، وهو فى النهاية يصبح عبدا للتمرد فى حد ذاته، ويعجز عن التغيير الفعلى للمجتمع.
ثانيا: عدم تحررهم من النسق الأخلاقى البورجوازي، وعجزهم عن تجاوز هذا النمط من الحياة أحيانا وبالتالى يصبح سلوكهم فى الحياة نموذجا للتناقض بين المعلن عنه نظريا والممارس واقعيا مما يفقدهم المصداقية.
ثالثا: كونهم يسلكون أحيانا وفى إطار السلوك الجنسى بشكل خاص ما يختلف عن النسق الأخلاقى المعلن للمجتمع برغم أن سلوكهم لا يختلف فى الواقع عن غير الاشتراكيين العلميين، سوى أن الآخريين يمارسونه سرا ويرفضونه علنا فى حين أن الاشتراكيين العلميين يبررونه ولا يجدون فيما يفعلون خطأ يستوجب السرية والرفض، مما يصدم الحس التقليدى والوعى المحافظ السائد.
رابعا: عدم الاهتمام الفعلى بالجوانب الأخلاقية والتربوية والثقافية فى الحركة مما يتيح الفرصة للمرضى نفسيا والمشوهين سلوكيا والجهلاء والحمقى والمتمردين اجتماعيا فضلا عن الانتهازيين والآفاقيين من كل شاكلة ونوع أن يملئوا صفوف الحركة.
وإذا كانت هذه عوامل عامة فهناك عوامل خاصة بالحركة الاشتراكية العلمية المصرية، وما يمكن أن يتشابه معها من حركات، فالحركة المصرية لم تعرف أبدا الجماهيرية إلا فى لحظات تاريخية محدودة جدا وفى أوساط الطلاب والمهنيين والمثقفيين أساسا، وبمناسبات المد الوطنى التى تجذب مثل تلك الفئات، مما أكسبها الطابع القومى وأورثها تناقضها المميت، وأفقدها طابعها المميز كحركة تحرر إنسانى تقوم من بين ما تقوم عليه على نقدالنسق الأخلاقى البورجوازي، وخصوصا أنهم تبنوا الاشتراكية العلمية بقدر كبير من الانتقائية، يلبى ما يحتاجونه فعليا منها، فهناك من شاء أن يحولها لمجرد أيديولوجية قومية جذرية، فى إطار الصراع القومى التحرري، وفى إطار الصراع مع الأصولية الدينية والقوى المحافظة، وهناك من حولها كمبرر للتمرد على القيم الاجتماعية السائدة بجوانبها المحافظة، لعجزهم عن التبنى الصريح للعدمية أو الهيبية أو الفوضوية الصريحة.
ونظرا لتدنى جماهيرتهم فقد ظهرت بينهم أخلاقيات القبيلة المنعزلة عن الواقع والمتمردة عليه، وكان أهم آثارعدم الجماهيرية تلك، هو حرصهم على أن لا يفقدوا أيا منهم، فمارسوا التدليل الليبرالى فيما بينهم حتى يحافظوا على العدد المحدود من التقلص. أما الجماهيرية الواسعة فكانت ستسمح بالاختيار والفرز، كما أن النشاط السياسى والاجتماعى سيولد من السلوكيات الغيرية ما من شأنه عدم إتاحة الفرصة إلا للعناصر الجادة أن تبرز على السطح، فى حين أن عزلة الجيتو تزيد من حدة السلوكيات الأنانية.
وأخيرا فإنى أرى أن العقود القليلة المقبلة ومع تزايد معدلات التهميش سيواجة العالم من ضمن ما سيواجه من احتمالات، زيادة حركات احتجاج جماعية فى مواجهة نمط الحياة البورجوازى ونسقه الأخلاقي، تلك الحركات التى مازالت تحمل الطابع الرجعى فى معظم الأحوال، مما يستلزم وجود بديل تقدمى وتحرري، لا يستهدف العودة للماضى قبل الرأسمالى ولا يستلهم رؤى السلف، ولا يتبنى معاداة التنوير والعقلانية والتحررية، ولا يستعبد الإنسان بقيود جديدة بقدر ما يحرره من القيود والأوهام، وهو ما أعتقد أن قوى التقدم والتحرر قادرة على أن تقدمه شرط أن تفهم أهميته.