للتذكرة والتصحيح
وجبات التدريب السريع
فى “سوبر ماركت” المؤتمرات العلمية
مثل كل ما هو عصرى شائع (إستهلاكى إعلامى سريع براق) تتواتر المؤتمرات فى كل علم وحول كل قضية، وقد سبق أن كتبت هذه المجلة وغيرها فى ذلك.
ولن أعود لمناقشة هذه القضية من جديد، ولن أعمم رأيى على كل ما هو مؤتمرات، فلا بد أن هناك مؤتمرات ومؤتمرات، لذلك سوف أكتفى بالإشارة إلى المؤتمرات الطبية، أو بالتحديد الطبنفسية، فى حدود ما أشارك فيه وما يبلغنى لا أكثر. ثم إننى لا أريد أن أنتقد أو أعارض موقف الزملاء المهتمين (جدا) بمثل هذا النشاط مهما كان ما يمثله لى سلبيا أو غير متفق مع مزاجى الشخصي، فقبل كل شيء وبعد كل شيء، فإن لهذه المؤتمرات قيمة اجتماعية ناجحة ومفيدة بكل المقاييس، على الرغم من أننى لا أشارك فيها إلا ضد مقاومة هائلة، وفى كل مرة بعد أن أنجح فى التغلب على مقاومتى بما يسمح لى أن أحضر بعض المراسم والجلسات، فى كل مرة أكتشف خطئى الجسيم، لأننى أعود بعد كل مؤتمر وقد لقيت من الزملاء والناس كل ترحيب وتقدير، ففى هذه المؤتمرات – على الرغم مما قلت ومما سوف أنبه إليه – ألتقى بأصدقاء قدامي، وطلبة لى أصبحوا أساتذة وروادا ورؤساء، كما نلتقى بالخواجات (أحيانا) فنجد أنهم فى غاية الدماثة و”التفويت “، يقولون على أغلب ما نتفوه به، (أو لا نتفوه به ) أنه “رائع” “رائع”، “ممتاز”، “غير معقول” ،”أهكذا ؟” يا “سلام”، فيصدق بعضنا، ويرضى بعضنا، ويتحفظ أقلنا، ونمضى جميعا سعداء باللقاءات الخاطفة، والقبل الهامسة أو العالية الصوت، والأحضان السريعة أحيانا والضاغطة أحيانا، والبوفيهات المفتوحة، والطلبات الخاصة من قائمة خاصة لخاصة الخاصة، ولا يخلو الأمر من مشاحنات هنا، واختلافات هناك، حول إسم وضع قبل إسم، أو إسم نزل ببنط أكبر من بنط، أو موعد محاضرة وضعت فى وقت الغداء، أو وقت الصلاة !!، وشركات الدواء فى أسعد حال، وقد أوقفت رجالها يدعون - بكل الابتسام الموصى به من قبل النظام العالمى كشرط أساسى لتوحيد نظام السوق على مستوى العالم !!!- يدعونا هؤلاء المبتسمون إلى حضور الجلسات الخاصة بأدويتهم الحديثة جدا، الساحرة جدا، التى ستنهى كل شيء -حتى التفكير فى حقيقة مزاياها- بأسرع مما يتصور أى مختص، ولا أستطيع أن أطرد صورا من “الليلة الكبيرة ” لصلاح جاهين وسيد مكاوي، ورجال شركات الأدوية يدعون الزملاء الأفاضل أنه” طب يالله تعالي” وأنا أكاد أرد ” لا ياعم سعيدة، دى البدلة جديدة “، فإذا لم أستطع الاعتذار لأننى أستاذهم جدا، وأضطررت لأن أدخل، فإنى أنتظر حتى يطفئوا الأنوار ثم أهمس لجارى الذى يشاركنى مثل ما أنا فيه أنه “يالله بنا نخرج يا مسعد، نخرج على سهوة، نخرج على سهوة”.
لا، لن أكتب فى كل هذا، فقد كتبت فيه من قبل، من أول خطورة تصور أن مثل هذه المؤتمرات ليس لها وظيفة أخرى غير السفر “البللوشي;، والنشاط الاجتماعي، حتى صدور التوصيات الرائعة، بضرورة العمل – نتيجة للأبحاث المعروضة والمناقشات الفياضة – على تعديل الكون، وتوصية أخرى تقول إن علينا أن نكون أكثر إنسانية (أحسن عيب) وتوصية ثالثة توصى بضرورة زيادة الاهتمام بالمريض – يا حبة عيني- والحفاظ على حقوق جميع صنف أيها واحد..إلخ
نعم، لن أكتب فى كل هذا، وسوف أكتفى بتصحيح بعض المفاهيم حول مثل هذه المؤتمرات، مع بعض التفصيل حول مزاعم دورات التدريب (قوام قوام) فى هذه الظروف (جدا)، وأطرح بعض التحفظات والملاحظات - وخاصة فيما يخص الأصغر فالأصغر – على الوجه التالى:
أولا: كثرت المؤتمرات المحلية والقومية والعالمية حتى أصبحت عبئا على من يفرغون وقتهم حقيقة وفعلا لعمل علمى جاد منتظم.
ثانيا: أصبح تمويل المؤتمرات -خاصة الطبية – رضينا أم لم نرض أمرا مشبوها أو على أحسن الفروض، عطاء مشروطا، (مع عدم الالـتزام بالإعلان عن أنه مشروط بماذا؟)
ثالثا: ما يدور فى المؤتمرات من مناقشات أقل بكثير مما يلقى فيه من محاضرات (أحيانا يكون الوقت المسموح به لمناقشة ثمانية أبحاث ألقيت فى جلسة واحدة هو عشر دقائق أو عشرين !!!)
رابعا: زاد فى الأيام الأخيرة نشاط مواز ومكمل لجلسات المؤتمرات التى يلقى فيها أبحاث، وهذه النشاطات تتنوع ما بين ما يسمى “ورشة عمل”، وما يسمى “برنامج تدريب”وما يسمي”حلقة نقاش”، ولن أتوقف إلا عند ما يصل الطبيب الأصغر، وهو الأحوج للتدريب، من مفاهيم خاطئة، وقشور معطلة، وهو يخطر من أساتذته ومثله العليا أنه سوف يتدرب على “العلاج النفسى المعرفي”(مثلا) فى أربع ساعات وسط عشرات المتدربين (!!) أو أنه سيتدرب على كتابة تقرير فى الطب النفسى الشرعى خلال ساعتين، أو أنه سيتدرب على إعطاء جلسات الكهرباء خلال ساعة، وهكذا، ويحضر، ويشاهد، وقد يؤدي، وقد يتدرب، ثم إذا به يأخذ شهادة تثبت أنه تدرب على هذه المهارة أو تلك فى المؤتمر الذى عقد فى المكان الفلانى فى التاريخ العلاني
ومن المناسب أن نتذكر أيضا (فيما يخص الأصغر فالأصغر) ما يلى:
(1) لا يحضرهذه المؤتمرات كثير من صغار الأطباء نتيجة لضيق ذات اليد (أحيانا أحسن، وأحيانا أسوأ، حسب).
(2) يعزف عن حضورها أصلا فريق آخر من صغار الأطباء نتيجة لموقف نقدى مسبق، ويكون فى ذلك متأثرا بواحد مثلى يقول مثل هذا الكلام الآن (ليس دائما موقفا سحيحا).
(3) من يحضر منهم هذه الجلسة أو تلك عادة يحضر لأستاذه المفضل الذى يكون قد سمعه ألف مرة، أو لأستاذ أجنبى يكون قد قرأ كتابه، وقد يلتقط معلومة هنا أو هناك، فلا يكاد يستزيد شيئا جديدا فعلا.
(4) يتصور كثير من الأطباء الأصغر أن ما يقال فى هذه المؤتمرات هو علم أكثر مصداقية مما يحصل عليه فى المراجع أو الدوريات أو الأدبيات، وهذا كله لا أساس له من الصحة.
(5) يصبح تدريجيا – وبدرجة أقل شعورية - حضور المؤتمرات هدفا فى ذاته، وبالتالى يصبح النشر هدفا فى ذاته، وخاصة وقد اتبعت سنة جديدة تضيف ساعات حضور مثل هذه المؤتمرات إلى المتطلبات اللازمة للترقي، أو للحصول على وظيفة، أو لإثبات عدد من الساعات فيما يسمى برامج التعليم المستمر، وكأن مجرد حضور المؤتمر هو دليل على تعلم مستمر
(6) تختلط على الزميل الأصغر مفاهيم التدريب، فمتطلبات التدرييب التى يتعلمها أى صاحب حرفة هى: (ا) الوقت الكافى (ب) التجربة القابلة للخطأ فالتصحيح (جـ) الإشراف اللصيق والمستمر (ء) القدوة القادرة على السماح بالتقمص المرحلى (هـ) المتابعة المتأنية. وذلك كله باعتبار الطب فن اللأم وليس تطبيق جدول ضرب التنفيذ الآلى التعليمات جامدة، إذن فلا تدريب على أى مهارة طبية حقيقية يمكن أن يتم فى أقل من ثلاثة شهور، وهناك من التدريبات التى تحتاج إلى عدة سنوات، فكيف نناقض أنفسنا هكذا ونحن ندعى التدريب هكذا فى بضع ساعات، ونعطى بعد ذلك شهادات تقول بهذا؟
خلاصة القول الذى نريد أن نعرضه فى محاولة التصحيح الآن يقول:
إن المؤتمرات (العلمية) نشاط اجتماعى (أساسا) يتم فى مناسبة علمية، وهى مفيدة فى لقاء الذين باعدت بينهم الأيام، وكذلك فى الحفاظ على الدفء الإنساني، والائتناس بالمشاركة فى نفس المنطقة المليئة بمشاكل متشابهة أو متقاربة، ولكنها أبدا ليست نشاطا علميا فى ذاتها، كما أنها ليست المصدر ألأهم فى الحصول على المعلومات العلمية، وأخطر من كل ذلك فهى ليست المجال للتدريب بالمعنى الحقيقى للتدريب بأى حال من الأحوال.