عن الفصام … والوجدان
د. على حسن
فيما يخص تعريف الفصام ومحاولة ربط أصل الأعراض بمفهوم المرض يكاد الدليل المصرى لتشخيص الأمراض النفسية أن يكون الوحيد (المعاصر) الذى غامر بهذا العرض لمرض الفصام ولكن هذا العرض كان موجزا ومكثفا ومرتكزا على مفاهيم فى علم السيكوباثولجي. مما يثير نفس المشكلة المشار إليها فى مقال العدد السابق للدكتور الرخاوى عن مشاكل تشخيص وتصنيف الأمراض النفسية، لأن معظم من يمارسون المهنة لا يتفقون على قناعتهم بمدارس علم السيكوباثولوجي، فهم يمارسون المهنة بمفاهيم الأعراض والأدوية المناسبة لهذه الأعراض (بالخبرة – والمذاكرة – وشطارة شركات الدعاية للأدوية) وقليلون هم الذين يمارسون العلاج النفسى بعد تدريب يشمل الإطار النظرى والمهارات – و غالبا ما يرددون مفاهيم وعبارات حفظوها فى المراحل الأولية للتدريب حين لا يجدون ما يفعلونه مع المريض وللمريض بعد استهلاك ماحفظوه من مهارات أولية.
وهذا الغياب الشديد لعلم السيكوباثولجى فى التشخيص والعلاج ومجال البحث العلمى الطبى عموما دفعنى إلى أن أتخيل الطبيب النفسى فى مجتمعاتنا العربية على الأخص وهو يعترف تحت تأثير حقن مخدر تنفيثى (مثل الإنترافال ) بأن كل الأمراض النفسية تنتج عن مس من الجن حيث إن هذا المفهوم على الأقل قد تربى عليه وعايشه طويلا قبل أن يسمع عن فرويد الذى ربما لم يسمع عنه إلا بعد التخرج أثناء الإعداد للدراسات العليا.
هذه المقدمة برصد الحال، ليست للسخرية والنقد والشجب بقدر ما هى مجرد رصد للأحوال.
وبداية نشكر أستاذنا (الخوجة والأسطى كما يحب أن يقدم نفسه) لفتح باب الحوار فى المشكلة “حتى لا ننسي” كما يقول.
ثم أنتقل بعد ذلك إلى موضوع المقال: “الفصام والوجدان”، فأحاول أن أقدم فرضا يربط بين الوجدان كأصل كلى جوهرى للوجود البشري، وبين الفصام وفى ذلك أقول:
1- إن دلالات كلمة الوجدان (العربية) تتجاوز الكلمات الإنجليزية الثلاث Mood Emotion-Affect على الرغم من أن كلمة الوجدان قد استعملت ترجمة لأى من هذه الكلمات الإنجليزية فى مواقع مختلفة وخاصة فيما يتعلق بالتشخيص، فإنى أرى أن الوجدان “هو ما نولد به مستعدا ودافعا للعلاقة بالعالم والآخر، وهو طاقة دافعة موجهة (ولعله ما يفتقده الطفل المصاب بـالذاتوية الرضيعية infantile autism حيث تنعدم الرغبة فى أى علاقة حتى مع الأم، فهو (الوجدان) أساس الوعى والقوة الدافعة للإدراك والتفكير فى مراحل النمو.
2- إنه لا يجب قصر حالات اضطراب الوجدان على القلق والهوس والاكتئاب والمخاوف، فعلى الرغم من أنها أساسا تصف مظاهر لاضطراب الوجدان إلا أنه يصاحب ذلك دائما أعراض اضطراب الإدراك والتفكير مما يتناسب مع الحالة الوجدانية المضطربة، وعلى ذلك فأرى أنه يجب أن يتسع مفهوم اضطراب الوجدان ليشمل تعطيل الوجدان – الوجدان الهش – ضمور الوجدان وغيرها.
وتحضرنى -قياسا- حالة من الأمراض العصبية وهى حالة أتاكسيا ataxia حيث يضمر المخيخ عن ضبط الحركة ويغلب أن يبدأ هذا المرض فى سن مبكرة (15 سنة) مثلما يحدث فى أسوأ حالات الفصام وهو نوع الفصام الهيبفرينى (التفسخي) الذى يبدأ عادة فى سن مماثل.
وأستعمل تعبير “الوجدان الهش” لهذه الحالة التى تشير إلى فقد القدرة على تحمل ودفع النمو فى فترة المراهقة وما بعد ذلك فيتفكك الكيان الكلى للشخص، وتتفكك معه كل الوظائف العقلية.
ألا يمكن تصور أن الوجدان – بالمعنى الكلى الذى أوردته- هو المعطوب الأساسى فى الفصام وليس خلله مجرد عرض له؟
3- الأعراض الذهانية التى قد تصاحب الاكتئاب والهوس، ألا تنبهنا إلى أن اضطراب الوجدان يفرز أعراضا فصامية تكاد تكون هى نفس أعراض الفصام من هلاوس وضلالات، وفقد البصيرة ولكن مع مآل أفضل للمرض.
4- إن بعض حالات الفصام لا تتحسن إلا بجلسات الصدمات الكهربائية – وهى التى سميت أخيرا جلسات إعادة تنظيم إيقاع المخ- ألا يمكن تفسير ذلك بقدرة هذه الجلسات على ترميم الوجدان أو حمايته أو شحنه فى أفضل الأحوال؟ فالمعروف والثابت أن هذا النوع من العلاج إنما يعالج اضطرابات الوجدان ولم يثبت أنه مضاد للذهان ولكننا نستعمله مع مضادات الذهان فى حالات الفصام التى لم تستجب لعلاج العقاقير المضادة للذهان وحدها.
وفى كثير من حالات الفصام التى تعالج بهذه الجلسات يحدث تحسن ما، وكأن وصول هذا النوع من العلاج للوجدان قد هيأ ظروفا أفضل لفاعلية جرعات أقل من مضادات الذهان، ولكن لأن الوجدان المعطوب العليل فى الفصام لا يستجيب للعلاج بجلسات العلاج بالصدمات الكهربية مثلما تستجيب حالات الهوس والاكتئاب فيبدو أن إصابة الوجدان مختلفة كيفا وليس كما فى حالات الفصام اللهم إلا الفصام الكاتاتونى والبارنوى والوجدانى أحيانا.
5- إن اعتبار الوجدان مجرد حالة مزاجية تذكرنا بمدرسة فى علم النفس اعتبرت اللسان عضو التفكير لمجرد أن التفكير لايتجلى إلا بحركة اللسان، وهذا اختزال ينافى ما ذهبنا إليه من أن الوجدان هو بصمة الشخصية – كما أظن- وطابعها، والقوة الدافعة لها، وهو مذاق الوعى والإدراك وهو بطابعه وجذوره سابق للغة وحتى بعد استعمال اللغة يظل غامضا ومفجرا لها، ويظل هذا الجدل مصدرا للإبداع فى محاولة اللغة اليائسة والمستحيلة لاستبعاد الوجدان وما يثيره، ويظل الفن هو الوسيلة المعذبة والمحيطة دائما بالصراع بين الوجدان والوسائل الفنية الساعية لاحتوائه.
6- إن الفصام الوجدانى (وهو المرض المحدد تصنيفيا بين الفصام وأعراض الوجدان) يبدو وكأنه الحل الجدلى بين الفصام بما له من وجدانية خاصة وحالات اضطراب الوجدان المعروفة
7- دائما ما يعرف الفصام بتفكك وتناثر الذات ويذكر اضطراب الوجدان ضمن أعراض الفصام وهو الاضطراب الأساسى ففى الفصام يصاب الوجدان كطاقة متدفقة فى الذات فتحدث أعراض الفصام على تنوع أنواعه، وكأن الفصام إنما يعكس فشل الوجدان فى الحفاظ على تماسك الذات متوحدة على تناقضاتها، كما يكون غياب البصيرة بسبب ضياع الذات وبصمتها الوجدانية.
خاتمة:
أرى أن كل ما سبق ذكره يؤكده ضرورة الحوار رصدا للأحوال ومحاولة للوصول لمفهوم يتفق عليه، حتى لا نظل مثل الجزر المنعزلة عن بعضها البعض، وهو ما يحذر منه الأستاذ (الخوجة – الأسطى – كما يحب) برجاء مواصلة الحوار حول إدماج الأعراض بعلم السيكوباثولوجى إستكمالا لمحاولة مصرية بدأت بدليل تشخيص الأمراض النفسية المصرى ويجب أن تسمتر وتواكب.
إستجابة التحرير لدعوة الحوار:
شكرا سيدي([1])، وإليك بعض التعقيبات والملاحظات التى قد تغرى آخرين بالإسهام بدورهم فى المسألة – يا حبذا من واقع الممارسة – والدعوة عامة (لعل وعسى )
أولا: أما أن لفظ “الوجدان” بحضوره اللغوى المتعدد التجلى والدلالات فى اللسان العربى هو أصل أشمل من كل هذه الألفاظ الإنجليزية فهذا وارد، وهام، ويبدو أنه يثبت من جهة: ثراء اللغة العربية، كما يثبت من جهة أخرى أن اللغة ونبضها ومضامينها ودلالاتها يمكن أن تعتبر مصدرا لفهم السيكوباثولجى فى ثقافة بذاتها، ومن ثم فهم الإنسان عامة مع تجلياته المختلفة فى السياقات المختلفة، وأقتطف لك مراجعة سابقة لحركية لفظ “وجدان” فى اللغة العربية كما استلهمتها فى بحث سابق
……..ولفظ “وجدان” هو مصدر من فعل “وجد” (بفتح الجيم وكسرها) ويختلف مفهوم مشتقات هذا الفعل واستعمالاتها باختلاف رسمه، وتشكيله، وحرف الجر الملحق به، ثم السياق الوارد فيه.فهو يتضمن أبعادا متعددة فى مجالات مختلفة، لكنها متداخلة بالضرورة:
1- ففى مجال ما هو انفعال/ عاطفة، نجد أنه قد يعني:(1) الحزن: وجد فى الحزن وجدا، وتوجد لفلان: حزن له، وبدون حرف جر: أنا أجد وجدا: وذل; فى الحزن.كما يعنى (ب) الغضب: وجد عليه (فى الغضب)، فى الحديث: إنى سائلك فلا تجد علي. كذلك يعني(جـ) الحب: وجد به وجدا،فى الحب، وله بها وجد: وهو المحبة: وأيضا (د) الكراهية: أوجده على الأمر: أكرهه.
2- وفيما يتعلق بمعنى المعرفة والتبين: نجد أنه يستعمل عادة بلا حرف جر: وجد زيادا ذا الحفاظ، “ووجدك عائلا فأغني”، وقريب من هذا معنى العثور علي، أو الحصول علي: أوجده الشئ جعله يجده: خلاف عدم.
3- ولكن ثمة معنى يتعلق بالإبداع والخلق: أوجده الله: أنشأه من غير سابق مثال، وهو أقرب إلى الوجود بما هو ضد العدم، وجد: خلاف العدم.
4- ويمتد المعنى إلى ما يتضمن ما هو أكثر عيانية فيما يتعلق بالإشارة إلي: السعة، والكثرة، والبسط، ومن ذلك: أوجده الله: استغنى غنى لا فقر بعده، ثم الوجد السعة “أسكنوهم من حيث سكنتم من وجدكم”، وأخيرا فالوجد: منقع الماء.
فإذا كان لفظ الوجدان يمكن أن يحمل كل تلك المعانى فكيف نرضى أن نقصره -حتى كمصطلح علمي- على استعمال محدود، حتى لو جاء من المجمع اللغوى الذى أفتى أن اللفظ يعنى اصطلاحيا: أولا: كل إحساس أولى باللذة أو الألم، وثانيا: (يدل) على ضرب من الحالات النفسية من حيث تأثرها باللذة أو الألم فى مقابل أخرى تمتاز بالإدراك والمعرفة – وما جاء من أن هذا هو الاستعمال فى الفلسفة لا يستبعد الاستعمال ذاته فيما يسمى بعلم النفس.فإذا انتبهنا إلى المحاذير التى قدمناها. . . راعنا تصور الآثار التى يمكن أن تترتب على هذا الاستعمال الضيق، (لو اكتفينا بالترجمة السطحية أو التعريف المختزل) الذى حتما سيبعد لفظ الوجدان بكل إيحاءاته السابقة وشموله المترامى عن أى معنى سوى هذا التعريف الخامل، فهو (لفظ الوجدان) سينفصل- بذلك – عما هو نبض إنسانى أعقد تركيبا وأشمل إحاطة، وأعلى ولافا، ثم هو (الوجدان) سوف يتناول كأداة معرفية أسبق عن، وأحد مما يسمى تفكيرا (تجريديا)، ثم أين يذهب تاريخ اللفظ وتوجهاته المعقدة المتضفرة فى ذات اللفظ بين الدفع العاطفى المختلف الاتجاه، وبين الإبداع من العدم مغاغا بالقدرة المعرفية المدركة إدراكا سبقيا متصلا بالسعة والقوة والرأى والطمأنينة؟؟، ألا يبدو كل هذا من حركة اللفظ كما تجلت لنا مما سجلته بضعة معاجم؟ فما بالك بتاريخه الحقيقى حتى تضمن ذلك، أفلا يشير ذلك إلى أننا لو رضينا بالاستعمال الأحدث للفظ الوجدان بهذه الصورة المختزلة فإننا نتنكر لحقيقة اللفظ وتاريخه؟ إذ نحن نبتعد حتما عن الظاهرة التى نشأ أصلا مواكبا لها فى محاولة احتوائها أو الدلالة عليها – ولا يحتج محاور بأن الاستعمال الأدبى والعام شيء، فى حين أن الاستعمال الفلسفى والعلمى آخر، لأنه إذا جاز هذا الفصل التام فى العلوم البحتة، فهو لا يجوز إطلاقه فى العلوم الانسانية، والنفسية خاصة، ثم إننا بهذا الاختزال إنما نلصق لفظا عريقا كلافتة على ظاهرة لم نتبين معالمها أصلا، بدلا من أن نستلهمه ما ينبغى أن نبحث فيه، لأن اللفظ إذ نشأ وتطور، إنما نشأ وهو يلامس ظاهرة، ثم هو يحاول احتواءها، فيكشف ويكتشف تعدد وجوهها، وثراء عطائها، فيتحرك فى سياقات متعددة ومتنوعة، ثم يلحق به حرف مساعد، أو تسبقه أداة موضحة، فيقترب ويبتعد، ويجتهد لاحتواء مضمون مناسب لما يريد وصفه، ثم يعجز- عادة فتفيض عن حدوده تولدات الظاهرة الأرحب، فيلاحقها باستعمال جديد، أو يساعده لفظ جديد، وهكذا.
ثانيا: إن فصل الأمراض باعتبار أن هذا اضطراب أساسى فى التفكير، وذاك اضطراب أساسى فى الوجدان وهكذا، هو فصل تقريبى تماما، وهو اضطرار بغرض الشرح والتقسيم، وليس بغرض الاستبعاد المختزل، فلم يقل أحد إن الفصام ليس اضطرابا وجدانيا، وإنما الذى اضطرت إليه ميكانيكية التقسيم هو أن تقصر الاضطرابات الوجدانية على قطبى الهوس والاكتئاب، وطبعا أنت تعرف سيدى أن القلق بكل أنواعه ( من قلق عام متماوج، إلى نوبات الهلع، إلى الرهابات المختلفة ) كل ذلك لا يدرج تحت فئة الاضطرابات الوجدانية، وإنما تحت ما كان يسمى “العصاب” قديما، ثم ما يسمى اضطرابات التكيف حديثا، فهل يعنى هذا أن هذه الاضطرابات ليست وجدانية لمجرد أنها لم توضع تحت فئة رئيسية إسمها “اضطرابات الوجدان” ؟ الأمر ليس كذلك ؟ أبدا، المسألة مسألة اتفاق تقريبى مرحلى لا أكثر ولا أقل.
ثالثا: اقترحت سالفا أن يكون هناك بعد مستقل يلحق بكل تشخيص يصف المرض بأنه وجدانى أم غير وجداني، بمعنى أننى اقترحت أن ما يمكن أن يصنف على أنه اضطراب ذو بعد وجدانى هو كل ما صاحبه سمات دالة على استمرار النبض الحيوي، والتواصل البشري، والنشاط التركيبى (كصفات لاحقة للتشخيص الوصفى السلوكي)، وأن كل ما هو غير وجدانى هو المنطفئ الرمادى المتخثر الهابط الهامد المستتب، وحين قدمت هذا المفهوم بالإنجليزية لم أجد بها لفظا يستوعب ما قصدت إليه فصممت على أن أسمى قطبى هذا البعد التشخيصى باسمه العربى مكتوبا بالحروف اللاتينية، ونشر كذلك: هكذاWIGDANIC-NON WIGDANIC وعلى ذلك يمكن أن يكون هناك اكتئاب وجداني، وهو الاكتئاب الحى الكلى المتألم الخجول اللائم نفسه، واكتئاب غير وجدانى (لا يوجد تناقض) وهو الاكتئاب النعاب اللزج الطفيلى المعتمد، وكذلك يوجد وسواس وجدانى وآخر غير وجدانى وهكذا.
رابعا: لا أحسب أنه يخفى عليك أن ثمة اتفاق بيننا على جذرية وأصولية ما هو “وجدان”، فى نفس الوقت الذى نختلف فيه حول استعمال لفظ “اضطراب وجداني، واضطراب غير وجداني، وكذا سمة وجدانية وسمة غير وجدانية، فالوجدان أصل شامل، نعم وكل الاضطرابات النفسية بما فى ذلك الفصام فيها درجة ما من اضطراب الوجدان، وأيضا فيها نوع من خلل الوجدان. نعم وبالتالى وجب التنويه أننى باستعمال سمة لاحقة تصف مرضا بذاته على أنه “غير وجداني”، لا أعنى أنه لا يوجد فيه اضطراب وجدان، وإنما أعنى أنه لا يصاحبه سمات وجدانية حيوية دالة
خامسا:إننى أتفق معك على أن الوجدان عامل كلى جذرى قبل اللغة وقبل السلوك الظاهر التجزيئي، وقد تصورت أنه العامل المسئول عن “الواحدية ‘ Oneness بمعنى أن الإنسان يكون “واحدا” فى لحظة بذاتها، وبالتالي، فإن اختفاء أو ضعف هذه القوة الضامة (الوجدان) هوالسبب وراء التفسخ الفصامي، ويصبح مجرد وجود اضطرابات وجدانية مع الفصام ليس هو الدليل الأول على أهمية الوجدان كأساس فى الفصام.
سادسا: علينا أن نحسن ترجمة ما جاء فى النظريات السابقة من مفاهيم ومصطلحات يمكن أن تكون المقابل لما ما أسميته أنت (وأنا) الوجدان، (باعتباره القوة الأساسية الدافعية التكاملية الضامة) ذلك أن كثيرا من المدارس الفلسفية والنفسية قد أشارت إلى مثل ذلك، ولكن بألفاظ أخرى وفى سياقات أخري، خذ مثلا “القوة الحيوية ‘ alan vital عند برجسون، والليبيدو Libidoعند فرويد (دون جنسنته اختزالا)، بل وحتى ما سمى الفكرة المحورية، التى رغم كلمة فكرة هى قوة جوهرية أساسية ضامة وتكاملية أيضا، إذ تحقق كلا من “الواحدية” وضبط “التوجه”، والتى اعتبرت اختفاءها أو ضعفها هو الأساس فى الفصام عامة، والفصام التفسخى بوجه خاص.
ولمزيد من الشرح أقول لك إننى أحيانا أشبه هذا العامل المنظم الضام بالمجال المغناطيسى القادر على جمع كل جزيئات الحديد فى نطاق جذبه المتناغم، فإذا حدث أن فقد هذا المجال مغنطته لسبب أو لآخر، فلك أن تتصور كيف تتناثر كل الجزيئات والقطع التى كانت متجمعة ومنتظمة بسبب قوته المعناطيسية، وأحيانا أشرح لطلبتى هذا الأمر بتصور وضع مغناطيس قوى تحت لوحة فوقها نشارة حديد، قتتجمع النشارة وتتقارب وتتماسك وقد تصنع وحدة تشكليلية ذات معنى دال على مدى المجال ثم أقول لهم هب أنكم سحبتم هذا المغناطيس من تحت اللوحه غير الممغنطة أصلا، فإن الترتيب يظل كما هو طالما اللوحة لم تهز، لكن لو حدثت أى هزة مهما صغرت، فإن نشارة الحديد سوف تتناثر وتتباعد وتتفسخ إلى غير رجعة، وهذا التشبيه ربما ذكرنى به تعبيرك “الوجدان الهش”، فترجمته -من هذاالمنطلق- إلى الوجدان الذى فقد قوته الضامة (الممغنطة -يا ويلنا لو ترجم البعض هذا إلى التنيوم المغناطيسي).
سابعا: استشهاداتك فعلى الرغم مما بها من منطق سليم عامة; إلا أنك استشهدت بلغة أضعف من فرضك بكثير، بل وبعيدة عنه، فالوجدان الذى تحدثت عنه فى فرضك ليست له علاقة مباشرة بأعراض اضطراب الوجدان كما شاعت هذه التسمية التى قصرتها على تصنيفات الهوس والاكتئاب، الوجدان الذى وصلنى من فرضك يمكن أن يشمل أنواعا من التفكير المنتظم، وأيضا الإرادة الضامة القادرة (كما ذكرت حالا فى شرح ما هو فكرة محورية )، ولكنى ألتمس لك العذر حين أتصورك تحاول أن تقنع من لا يعرف إلا هذا المستوى السلوكى لاضطرابات الوجدان، بإثبات وجود اضطرابات وجدانية فى الفصام، أو فى الذهان عامة، ثم لماذا فصلت بين الاضطرابات الوجدانية والذهان من حيث المبدأ، مع أن التقسيم الفرعى للاضطرابات الوجدانية يشمل أنواعا وجدانية من الذهان حتما.
ثامنا: إن استعمال علاج تنظيم إيقاع الدماغ (الجلسات الكهربية) لم يعد يرتبط بالاضطراب الوجداني، بل بالحالة التى وصل إليها تعدد نقاط الانبعاث التنظيمية، وكيف أننا نستعمل هذا العلاج لتعود الغلبة لمستوى المخ الأحدث القادر على القيادة على أرض الواقع، وبالتالى يصبح الاستشهاد بالاستجابة لهذا العلاج كدليل على اضطراب الوجدان استشهادا محدودا تماما.
تاسعا: إن المشكلة الأساسية التى بدأت بها حوارك، وهى إهمال السيكوباثولوجيا لحساب الوصف التجزيئي، ليس لها حل سريع إلا أن تتغير طرق التدريب، وهذا لن يحدث إلا إذا تغيرت عولمة التفكير لحساب شركات الدواء، لكنه أمل لا ينبغى أن نتنازل عنه مهما طال الزمن، صحيح أنه يبتعد كل يوم أكثر فأكثر بعد إغارة التصنيفات التجزيئية، والنظريات الميكانيكية الكيميائية الخادمة لأصحاب المصلحة من قادة النظام العالمى الجديد الذى يشمل ويبرر كلا من هذا وذاك، ومع كل ذلك فأنا على يقين من أن الزمن فى صالحنا، لأن كل هذا الذى طغى له عمر افتراضى محدود، لأنه يشيئ الإنسان، ويقفز قوق إشكالة وجوده الحقيقية، وبالتالى هو فكر ليس له إلا أن ينقرض، اللهم إلا إذا انقرض الإنسان قبله ( فالانقراض هو المصير الحتمى لأى خلل تطوري، سواء كان فكرا أم جنسا حيويا)
وأخيرا: فإن المحاولة المتواضعة التى تمت فى الدليل المصرى الذى تفضلت وأشرت إليه فى مقدمة مقالك، قد ووريت التراب على الرغم من كل محاولات غرف الإنعاش فى كليات طب: قصر العينى والمنصورة والإسكندرية سابقا، ولا أمل فى إحيائها أو إحياء هذا الدليل، وكل ما أحاوله الآن هو أن أقترح إضافة بعد “ثقافى مصري/عربي” على التشخيصات الواردة فى الدليل العالمى العاشر، بعدا قد يحوى قدرا من السيكوباثولوجيا، كما قد يحوى ملامح لما هو نحن، أعنى ثقافتنا الخاصة المتميزة، إن أمكن (وبينى وبينك: يبدو أنه لن يمكن، لكننا سنواصل، نحن وراءنا ماذا ؟)
[1] – نظرا لحرصنا الشديد على نشر هذا الرأى (الفرض) فقد سارعنا بذلك مع القيام بإعادة تحرير بعض الفقرات، حسب مقتضيات النشر وسلامة اللغة، وخاصة أن الأصل كان مكتوبا بخط اليد، فنرجو ألا يكون فى ذلك ما أخل بالمعنى، وشكرا.