النقد الأدبى (النفسى)
على مسرح البصم والتقمصات
فى (خالتى صفية والدير)
تأليف: بهاء طاهر
قراءة: د. يحيى الرخاوى
بعد مقاومة استمرت أكثر من ربع قرن لم أجد مفرا من الاعتراف بأن قراءاتى النقدية لا بد وأن تصنف باعتبارها من قبيل النقد الأدبى النفسي، وحتى فى هذه القراءة الحالية لرواية”خالتى صفية والدير” فإننى حاولت -كالعادة – أن أنفى أن هذا نقد نفسي، ولم أحذف هذه الفقرة، ومازلت أبحث عن تصنيف لما أكتب غير ما يوحى به تعبير “النقد الأدبى – النفسي” أوالمدرسة النفسية فى النقد الأدبي، والذى يوحى دائما أبدا، أو على الأقل ابتداء – بتبنى التحليل النفسى فى القراءة، وهو ما لا أفعله إلا نادرا إن كنت أعرج إليه أصلا.
هل يمكن أن يسمى “المنظور التركيبى النفسى فى النقد”، أو أن يسمى النقد النفسى الظاهراتى مثلا، لست أدري، كما أنى لا أرى أن تغيير الاسم هو الحل
يحيى الرخاوى
إعتذار قد يتجدد:
بعد وعد باستكمال قراءتى فى “أصداء السيرة الذاتية” (القراءة الشاملة) ، وجدت أن الأمر يحتاج إلى وقت أطول فأطول، وما زلت عند وعدي، وإن كنت لا أستطيع أن أجزم متى سأفى به منشورا.
على مسرح البصم، والتقمصات، فى:
”خالتى صفية والدير” (بهاء طاهر)
1/ مقدمات
1/1
أبدأ من الآخر:
وددت لو لم يلحق هذه الرواية (القصة) بالذات هذا الملحق بعنوان “وسأنتظر..”
وعلى الرغم من أن الكاتب اقتطف العنوان من نهاية قصيدة عماد غزالى فى حب ضحي، إلا أن نهاية “خالتى صفية ” بلغتنى أكثر شاعرية – أو كادت – ثم خفتت هذه الشاعرية بهذه الإضافة.
ومن أكثر ما رفضت فى هذا الملحق إشارة الكاتب المباشرة إلى مصدر تسامحه الديني، والنابع من أبيه الذى رباه ليكون مسلما صالحا… إلخ.
وعلى الرغم من تحفظ الكاتب وهو يضيف والده إلى الذين أهدى إليهم الرواية (حيث لا إهداء أصلا)، ثم يلحق ذلك بإضافة لفظة “أيضا” (مهداة أيضا إلى روحه) فإننى ألومه إذ يبدو أنه وجه النقاد إلى هذا البعد التسامحى الدينى أكثر مما تحتمل الرواية، فإذا أضفنا إلى ذلك العنوان، وتوقيت النشر أثناء احتدام الفتن الطائفية، شعرنا كم يمكن أن يختزل هذا العمل الجيد إلى ما ليس هو.
لكننى التقطت من هذا الملحق (الذى بدا لى زاوية من سيرة الكاتب الذاتية ) الجانب الهام لـلطفل الراوي، وهو الجانب الذى يصعب أن نفصلـه -بعد ذلك- عن الكاتب نفسه، وعلى الرغم من هذا أيضا، فقد تعرفت على الكاتب من طفولة الراوى فى الرواية أكثر مما تعرفت عليه من طفولة الكاتب فى الملحق( لاحقة السيرة الذاتية).
2/1
ثم هى فرصة جديدة أن أضطر لقراءة هذا القاص الشديد الإتقان عميق الأداء، واضطرارى هذا هو اختيار ضمني، إذ لابد أن أعترف أن أفضل ما أنجزت فى النقد خاصة كان اضطرارا حقيقة وفعلا، وعلى الرغم من معرفتى بالإنسان “بهاء طاهر” مذيعا مثقفا ومصريا متميزا وإنسانا “خاصا”، فأنا لم أقرأه قاصا إلا هذه المرة (فيما عدا بعض القصص القصيرة المتفرقة التى لم أعد أذكر أيها تحديدا، ربما مثله فى ذلك مثل المرحوم الرائع :أحمد عادل)
وقد عهـدت نفسى أننى : حين أضطر، أتمادي، وعادة ما أختار اضطراري.
فقرأت مجموعة أنا الملك جئت ثم “قالت ضحا”، ولم أكمل سائر أعماله خوفا من التمادى فى الاستطراد على حساب إنجاز قراءتى لهذه الرواية (خالتى صفية) .
وفى محاولة أن أنفى – كالعادة – عن هذه القراءة الحالية صفة النقد النفسى (رغم أنه نفى مكرر يتزايد إثبات فشله) أعلن أننى عشت – الرواية بطفولتى الكامنة (وأنا أكبر الكاتب بسنتين وبضعة أشهر) بما أتاح لى أن أنغمس فى طبقاتها حتى حسبت أننى ملكت ناصيتها، بما سمح لى أن أكتب قراءتى المحملة بجرعة شخصية زائدة تبرر عنونـتى لكل أعمالى النقدية أنها قراءة “فلان” لا أكثر ولا أقل، وبالتالى فإن ما يظهر من جوانب نفسية هو ما يمثل تركيبى شخصيا حالة كونى طبيبا نفسيا ضمن أشياء أخري، وليس ما يمثل تنظيرا نفسيا منفصلا عني.
ثم أضيف موقفا شخصيا أكثر تفصيلا:
”.. مواكبا لقراءتى هذا العمل، كنت – مضطرا أيضا – لقراءة كتاب ابن منظور المصرى صاحب لسان العرب عن أبى نواس أثناء “ترانزيت” طال حتى أنهيت الكتاب، وتوقفت عند تعقيب على مقتطف يقول عن أبيات آخرها “فللخمر ما زرت عليه جيوبها وللماء ما دارت عليه القلانس” قال الجاحظ “أنشدت هذه الأبيات أبا شعيبا القلال، وكان عالما شاعرا، فقال: “يا أبا عثمان، هذا شعر لو نقـر لطن، فقلت له: “ويلك ما تفارق الجرار والخزف حيث كنت”، وكانت طفولتى قد – استيقظت وأنا أتقمص راوى خالتى صفية مرة، وأتقمص الكاتب – فى ملحقه – وبعد أن انتهيت من القراءة السريعة الأولى قلت لنفسى “هذا قص لو نقر لطن”، فقد وقفت على صقل وحبكة بلا شرخ واحد (مع المبالغة) إذ حضرنى عم عبد الرحيم وأنا فى مثل سن الراوى فى بداية الرواية، وهو ينقر القلل والزلع بعد حرقها ليطمئن لعدم وجود شرح فيها.
وتصورت بهاء طاهر وهو يكتب هذه الرواية هكذا:
هى قصة قصيرة تصاغ وتتشكل بسرعة وحذق، حتى تكبر رواية كاملة، ثم تحرق فلا تشرخ، فلو نقرت لطنت، هى تبدأ مثل قطعة الطين الصغيرة اللينة فى بداية عمل عـم عبد الرحيم، ونحن ننظر إليه فى دهشة وقامتنا لا تكاد تصل إلى طول الطبلية العليا ونزداد دهشة وإعجابا، وهو يدير بقدمه الطبلية السفلي، وأنامله ممسكة بكرة الطين الصغيرة المدورة، فإذا بها تمتد وتتجوف وتتشكل حتى تصبح قلة أو إبريقا، ونطلب أن يخص كلا منا بواحدة مميزة، بأن ينقشها لكل منا نقشا مختلفا، فيفعل، وحين ننصرف تظل الوصلة بين هذه العجينة الكرة الصغيرة، وتلك القلة المزينة ماثلة فى وعينا مدة طويلة تأكيدا للمعجزة.
هذه الصورة هى كتابة بهاء طاهر، على الأقل فيما قرأت.
فخالتى صفية والدير رغم أنها رواية، إلا أنها قصة قصيرة امتدت، حتى تشكلت فى رواية، دون أن تفقد علاقتها – فى وعيى على الأقل – بأصلها المتناهى فى الدقة والصغر رغم ما أضيف إليها من تجاويف ونقوش تمت بمنتهى الحبكة والإحكام والصقل.
وقد ظلت هذه الصورة معى حتى فى قراءتى الثانية والثالثة وخاصة وأنا أتتبع حبكة اللغة وندرة الإطناب ( وقد كنت مازلت غارقا حتى الاختناق فى إطناب ديستويفسكى فى كرامازوف بالذات قبل هذه القراءة مباشرة)،
وقد يؤكد هذه الصورة تسمية الكاتب فصول القصة باسم أجزاء: الجزء الأول …،…، الجزء الرابع، فبالرغم من وضوح التسلسل الطولى للزمن، إلا أن تسمية الفصل أو الباب باسم الجزء، يدعو وعى القاريء لرص الأجزاء بجوار بعضها البعض حتى يراها معا بشكل أو بآخر.
وهذا – أيضا – مما ساعدنى على جمع أطراف الصورة السالفة الذكر: بين كرة عجينة الطين … والقلة الكاملة المزركشة.
3/1 ما ليست هى كذلك
وأحسب أننى أفضل فى هذه المقدمة أن أستبعد ابتداء بعض ما قد يقفز إلى السطح من خلال هذه الرواية، مما ذهب إليه عدد من النقاد (وكثير من القراء فى الأغلب)، فأقدم هذه الفقرة النافية، لأعلن ما ليست هى هذه الرواية – بالنسبة لى – قبل أن أقدم ما وصلنى منها.
1/3/1
فأنا لم أستطع أن أستقبل هذه القصة فى إطار الوعى بمخاطر الفتنة الطائفية، الحادثة، أو المهددة، أو المحتملة، وبالتالى هو ليس قصة للدعوة للتآلف بين المسيحية والإسلام فى مصر مثلا.
2/3/1
كما أننى لم أتوقف قليلا أو كثيرا عند البعد الاجتماعي، رغم حضوره بشكل مباشر ومتكرر فى معظم العمل.
3/3/1
ولا أنا أحسست بأنها غاصت فى نقد سياسى بقدر يسمح باعتبارها نقدا مكملا لهذا البعد فى “قالت ضحي”، ورغم أن تناولها للنكسة كان شديد الحضور بالغ الأمانة، ورغم عنونة الجزء الرابع بهذا العنوان: “النكسة” إلا أن هذا البعد النقد السياسى ظل جيدا ومتواضعا فى آن.
وأنا لا أعرض ذلك فى المقدمة، اعتراضا أو احتجاجا، بل فقط أتحفظ ضد احتمال اختزالها إلى أى من هذه الأبعاد دون سواه، أو دون حقيقة ما هي.
فى نفس الوقت فأنا أرفض فى تناولى للرواية أن يظن أننى أنسى أيا من هذا، إذ تظل هذه المستويات الطائفية والاجتماعية والسياسية والتاريخية متداخلة ظاهرة كامنة بحسب بؤرة الانتباه ومستوى الوعي، تظل كذلك طول الوقت معا، أو بألفاظ أخرى تظل هذه المستويات أرضيات واقعية لا يظهر وسطها “الشكل” إلا من خلال تحديدها فعلا الواحدة تلو الآخرى أو وهى معا.
4/1: تحت المجهر
[ نمنمة رائعة، وفسيفساء مصقولة،
لغة محكمة، واستطرادات محسوبة]
ولا أحسب أننى أستطيع أن أدخل إلى القراءة البؤرة أو المحور دون أن أفعل كعادتى فى الوقوف عند بعض التفاصيل التى ترصع العمل الذى بلغ من دقته، وإيجازه، وحبكته، وبساطته فى آن، أنه لا يجوز تجاوز نمنماته “الأرابسك” ولا أقول زخارفه، وهذه الوقفات ليست فقط للتأمل إذ نكبرها انبهارا، بل أيضا للتعرف على نسيج السياق العام من خلال العينات الدالة تحت مجهر الوعى لتعلن إحكام “اللغة”، ولا بأس من أمثلة; فمن الاستطرادات الدالة :
ص (8) “.. وكان ذلك يعفينى من الأخطاء التى تتعرض لها إخوتى حين تسقط الصينية من إحداهن فى الطريق”.
حتى “تنعى (أمى) بختها المائل فى خلفتها السوداء من البنات”.
أو، ص (14) “.. ويجب ألا أحدث صوتا وأنا أشرب، وكان مستحيلا بالطبع أن أقول لأبى إنه شخصيا والرهبان يشربون بصوت يسبقه شهيق كالصفارة قبل كل رشفة”،.
أو، ص (22) “جبر ياخدهم كلهم” … ولم يكن لتلك العبارة على قسوتها أى معنى سيء فى بلدنا، بل تستخدم فى جميع حالات الغضب والسرور والمزاح، وأحيانا دون سبب على الإطلاق مثل صباح الخير ومساء الخير؟.
أو، ص (35) وصف صور البك القنصل “.. وقد اجتهد المصور ليخفى سمرته … إلخ”.
أو، ص (38) “تضع الطرحة بين أسنانها وتزم عليها شفتيها.. الخ”.
أو، تعبير ص (36) “هذا الجمل وهذا الجمال”.
أو، وصف الطقس ص (51) يوم السلخ فالقتل:
”كان يوما شتويا جميلا دافيء الشمس كأنه الخريف”… الخ.
ص (47) “وتطوع البعض، قال، لحراسة السراي..” إلي: … “واقفين كالعمل الرديء”.
أو، وصف التقاط والد الراوى لطربوش البك بعد قتله مباشرة ص62
أو ص 72 وصف مدة الزواج بتعبير” .. وربما تنازلن فأعطين أنفاسا لمن قضت مدة طويلة فى الزواج” – ولم يقل لمن تزوجت منذ فترة، ولا يخفى فيم يستعمل التعبير الأول.
أو وصفه لمشاعر الحصان المرة تلو المرة وخاصة ص 88 فى موقع تهريب حربي.
أو ص (135) حين وصف بكاء القمص بشاى “وبعدها فقط وجد دموعه”، بعد موت حربي.
5/1 معالم وهوامش:
وأيضا وجب فى هذه المقدمة أن أقدم معالم عامة، وهوامش سابقة لما قد لا أستطيع أن أعود إليه أثناء النظر فى بؤرة الأحداث وعمق الشخوص، فأورد فى هذا:
1/5/1
إن المقدس بشاى لم يكن يمثل لا الدير، ولا المسيحية عامة، بقدر ما كان يمثل الفلاح القبطى المصرى الصعيدى الطيب
2/5/1
إن بعد الثأر كان يمكن أن يؤخذ هكذا من منطلق تقليدى عادى فهو يكاد لا يختلف فى كثير من التفاصيل عما ينتظر فى مثل هذه الظروف، ولكن النظرة الأعمق تقول شيئا أعقد تركيبا (أنظر بعد).
3/5/1
إن إيقاع الرواية كان لاهثا ومفاجئا فى كثير من الأحيان مثل نقلة زواج صفية، أو طرد حربي، أوتغير صفية، أوانقلاب البك، كان كل ذلك إيقاعا لاهثا مفاجئا دون تمهيد أو إعداد، ولكن دون تناقض حقيقي.
وفى نفس الوقت كان ثمة هدوء مثابر واضح على عمق آخر فى جوف اللحن الأساسى مثل (أ) دوام عواطف الراوى نحو خالته صفية (إلا ماندر)، أو (ب) ثبات عواطف ومسئولية والد الراوى ووالدته نحو الجميع أو (جـ) ثبات انفعالات الانتقام بما ذلك الموافقة على حق الثأر، وخاصة من أم الراوى رغم تنوع توجهاتها.
وأيضا كنا نجد الإيقاع يتباطأ حتى تصبح الحركة كأنها تصوير بطيء مقصود مثل موقف سلخ حربى فالقتل، وإلى درجة أقل مثل موقف رص الكحك فى صناديق الأحذية الفارغة .
4/5/1
إن الكاتب لا يلجأ إلى ما يسمى تعدد الأصوات أو تعدد تيارات الوعي، فقد كان كل فرد يتكلم بصوت واحد ظاهر، صوت واضح يكاد يكون يقينيا من الأول للآخر اللهم إلا باستثناء الراوى أحيانا، والمقدس بشاى خفيف العقل أكثر قليلا.
وهذا الصوت الواحد لم يعد معتادا، وقد كدت أقلق فى البداية خاصة وأنا خارج لتوى من أدغال تعدد أصوات ديستويفسكى فى الكارامازوفية. إلا أنه برغم هذه الواحدية الظاهرة فقد كان لكل كيان بلا استثناء أعماق لا تخفي، وإن لم تستقل بأصواتها فتظهر منافسة أو متبادلة أو موازية، وبأسلوب آخر كانت واحدية الشخوص تكثيفية ذات أبعاد، وليست واحدية ملساء مسطحة منفصلة.
6/1: الاحتواء فى واحد !!.
ثم لمحت هذه الوحدة فى الفرد تنتقل إلى الوحدة فى الأسرة (أسرة عسران بالذات) ثم تكاد تنتقل إلى الوحدة فى القرية .
إلا أن تركيبا خاصا هو الذى أضاء لى قراءتي، بدءا برؤية هذه الوحدة الاندماجية فيما يمثله البك القنصل، فقد بدا القنصل فى البداية وكأنه العباءة التى لمـت فى طياتها أهم أفراد أسرة عسران من أبطال الرواية، لمتهم فى جوفها حتى انقلبوا أطيافا فى مسرح ذات البك القنصل، ثم خرج كل منهم يقوم بجانب من وجوده (وجود البك) فى حياته وبعد موته بشكل أو بآخر، ومع اتساع دائرة النظر قد نرى أن عباءة هذا البك قد احتوت القرية كلها فى ذاته، أو على الأقل هو قد احتوى أسرة عسران فى ذاته (ذلك قبل أن تعطيه صفية ولدا يخلع عنه عباءته).
وقد ساعد فى ذلك أنه بدا فى الجزء الأول من الرواية مستكفيا بذاته، حيث لم يلد ولم يكن له كفوا أحد، ولكن الصورة انقلبت أو انكشفت حين ولد ولدا، فظهر الجانب الآخر الذى هو العكس تماما، وهو الذى أسميته الوجود الجسم الغريب، فحين ينفصل الجسد الحاوى الكل، عن الكل، يصبح شيئا منفردا، جسما غريبا، قلقا غير آمن، وأورد هنا بعض ما يشير إلى إثبات هذا الفرض:
مثل أن أبطال الرواية جمعيا (عدا رجال الدير، وربما المطاريد) هم من أسرة عسران.
أو مثل أن كتلة البشر كانت تحل محل تميز الأفراد (شأن قوانين القبيلة) فكل واحد هو عم وخال وجد وابن وأخ وأخت الآخر… وحربى وهو فى عز محنة سلخه كان يصرخ فى البك (ص 55) “فى عرضك يا خال.. لا تترك الغرباء يفعلون ذلك ياوالدي.. لا تحملنى هذا العار يا جدي..”.
ويبدو أن جوانب هذه العلاقات المتعددة تظهر هكذا فى صورها جميعا فى أوقات الأزمات الطاحنة، فتعدد النداء ظهر فى موت حربى ووالد الراوى يناجيه “سامحنا أنت يا حربي، يا أخى يا ولدي، يا والدي، يابوووي”
وقد لفت نظرى أيضا إلى هذا الاتجاه التوحدى الاندماجى موقف ثانوى فى أرضية موقف السحق فالقتل، وهو قول ذلك الفلاح العجوز (من أهل القرية لا من أهل عسران ص 55) “.. هكذا كان آل عسران يفعلون بالفلاحين فى الزمن القديم، أتركوهم ينهش كل واحد منهم الآخر”.
وقد تركت نفسى أتمادى مع تنامى “الوحدات الاندماجية، فرأيت الدير هو القرية وبالعكس (والشبه قد نص عليه حرفيا “الدير الذى يشبه قريتنا” (ص 14) ثم رأيت فى الخاتمة وقد تفرقت أسرة الراوى ما بين كندا وألمانيا والسعودية والقاهرة .. إلخ أن العالم نفسه قد أصبح هو القرية.
بل إننى سمحت لنفسى أن أترجم تعبير “.. يا ولد والدي” إلى ما يؤكد هذا الفرض الذى ذهبت إليه، حيث لا تكون علاقة الأخوة، أو مستوى الأخوة بين أقران، فهى لاتتوثق إلا من خلال المرور بالأب، فيلزم أن يكون النداء تذكيريا دائما بأنك “ولد والدي…” وليس أخى هكذا مباشرة، فرباط الأخوة هنا لابد أن يمر بالوالدية كل مرة.
أشخاص وعلاقات
وسوف أكتفى فى قراءتى للأشخاص بثلاثة أشخاص محوريين دون افتراض أن غيرهم هامشي، حيث يستحيل مع هذه الرؤية فصل أى جزء، مهما صغر أو خفت ظله عن الوحدة الكلية، وهؤلاء الأشخاص هم البك، وصفية، وحربي، (لأرجع بعد ذلك إلى تعقيب ختامى عن الدير).
2/ البك القنصل:
1/2
لم أستقبل هذا البك بأى ترحيب منذ البداية، وفى نفس الوقت لم أستطع رفضه هكذا لمجرد أنه يغرى بأنه يمثل السلطة التى اعتدنا أن نكون جاهزين لرفضها، فسلطة البك كانت – منذ البداية – سلطة داخلية، داخل كل فرد من عائلة عسران (وربما من أهل القرية كلها).
منذ ظهور البك وهو قابع تحت جلد الجميع، فإذا تمطى غطاهم، وإذا قرفص برزوا من جوانبه، فهو يحتوى الجميع، فهو الفرعون، وهو العسران الكبير، وهو الإله الرحمن الرحيم (بالهالة حول الصورة)، وخاصة فى الفترة الأولى – ثم هو حربى وصفية بالذات، وقد استمد سلطته فى المرحلة الأولى بالكرم والرحمة والسماح الذى أدى إلى الاندماج حتى الفخر به ص (33): “كان البك القنصل هو فخر قريتنا وأحب شخص فى البلد إلى قلبى فى طفولتى كان أكبر مالك للأرض، صاحب أكبر بيت فى البلد”. وظل هكذا النائب المتفرد الذى ينوب عن الجميع وليس قبله أحد، وهو فى نفس الوقت مازال فى المتناول: وفى نفس الوقت هو القريب البعيد، يحضر كثيرا، وهو فى المتناول لكنه، هو الصعيدى الخواجة (بشكل ما، أليس قنصلا) – وكان من أدق ما عمق هذا الجانب أن الكاتب ترك علاقته هذه بالخوجات، تلك العلاقه التى أوصلت إليه اللقب والنيشان، تركها غامضة طول الوقت.
2/2
ثم جاء موقفه من الإصلاح الزراعى يغرى بالاحترام، ولعله يجدر بى أن أعلن أننى توجست منه خيفة منذ البداية، لكننى شككت فى ظنونى حتى ظهر الجانب الآخر فيما بعد، فقد استقبلت هذا الموقف “المتسامي” باعتبار أنه استقبل هذا الأمر بحرارة عميقة حتى بلغ الرفض حـد الشعور بالعكس (لا شعوريا) وقد تصورت أنه تعامل مع هذا الموقف بعكسه هكذا:
كان مالكا للأرض (بحق الشهر العقارى والحيازة إلخ) فأصبح -بعد الإصلاح الزراعي- مالكا للأرض ومن عليها (.. كلنا أهل وأقارب إن احتجتم إلى شيء فتعالوا إلى وإن احتجت أنا إلى شيء فسآتى إليكم. (ص35) ولم أستبين موقف الفلاحين الذين قيل لهم هذا الكلام، وأظن أن بعضا منهم إن لم يكن أغلبهم، قد اتخذ موقفا مشابها لموقفي، هذا، وهو الحذر من هذا التسامح المفرط، وحين صاح بهم هذا البك نفسه فى موقف السلخ “. إمشوا يا كلاب.. كلكم لو استطعتم لقتلتم إبنى لكى ترثونى حيا” (ص 55). لم يكن قد تغير ولا كانوا هم تغيروا، وإنما كان قد ظهر المخبوء (حتى على نفسه) أظهره مجرد أنه لم يعد إلها بأن ولد له ولد، فخاف وتراجع وانكشف.
3/2
إذن – فالذى عـرى هذا الفرعون الرحيم أنه أنجب، فرأى طفله ضعيفا وحيدا، مهددا، فرأى نفسه، فهاج حتى قتل أوكاد، فقتل.
وهو حين كان الكل فى واحد، التهم حربى أساسا وتماما، فهو ابن الأخت والساعد الأمين.. إلخ، وهو الشباب وهو الطرب والغناء، وهو الوصلة الأعمق بينه وبين أهل القرية، فلم لا يحتويه؟ “هكذا”، كاملا، جاهزا، مادام أنه إله لا يلد؟! ولم ينتبه أحد -ولا حربي- إلى ذلك أصلا.
وحين أنجب القنصل حسان، ولفظ حربي، وجد نفسه يهبط إلى الأرض بلا مظلة، فقد كان حربى يقوم مقام الإبن، القطب الانسانى الفردى لذات القنصل الكبري، كان بمثابة الوصلة إلى الأرض، فجاء حسان ليجسد الإبن الذات الجسم المحدود، جاء ليقوم بدور الفصلة عن الكل – وقد أدى هذا التغيير إلى هبوط اضطرارى بدون مظلة كما ذكرنا، فتهشم القنصل الإله، وأصبحنا أمام الشيء الشظايا المنطلقة فى عمى مرعوب فى كل اتجاه
4/2
كما أن القنصل لم يمت حين قتل، بل قفز منطبعا فى كيانين بديلين،
انطبع القنصل المنتقم الجبار فى صفية حتى أكمل على دفن ما تبقى منها مما كان يطل فى خفاء للحظات، وكان الراوى يحس به، أو يلوح له بين الحين والحين،
وانطبع القنصل الجثة الهامدة فى كيان حربي، فلم يعد ثمة حربي. وإذا كان القاريء سوف يقبل الافتراض الأول (انطباعه فى صفية)، فكم هو صعب عليه أن يتقبل الافتراض الثاني، وقد قبلته – شخصيا – بصعوبة شديدة (أنظر بعد: حربي).
3/ صفية:
1/3
إذن صفية، خالتى صفية، لم توجد حقيقة كاملة إلا وعدا، طفلة جميلة، عيناها نصف وجهها، تتلونان مع الشمس، وتنتظر حربى منذ وعت أن ثمة صفية وثمة حربيا، أعدت نفسها (طفلة، ففتاة) له، وليس لغيره، أعطت نفسها جملة وتفصيلا لحربى الوعد أيضا، لحربى الحقيقى الذى لم يظهر كما ينبغى إلا فى خلفية كامنة رغم أنها حقيقة لا مراء فيها. وهى لم تفصح عن مشاعرها أبدا، وحتى حين ضبطهم الراوى يتبصصن على حربي، لم تكن وحدها، إلا أنه يبدو أنها كانت تحدس ما سيحدث، فحتى وهى تكرر أغنية أمونة البيضاء “حاربى قلبى ..”، كانت ترددها فى حزن كأنه العديد الحزين (ص32)
ثم اصطدمت بحائط التخلي، حائط يبدو أنه كان قائما طول الوقت لكن أحدا لم يره، وهى بالذات لم تتصور أنه ممكن أن يكون. وهذا النوع من الصدمات هو نوع شديد الوقع، ممتد الأثر، وهو ليس إحباطا فى حب، أو خيبة أمل، كما يشاع فى مثل هذه المواقف، وإنما هو ضربة كيانية قاضية، لأنها لا تتعلق “برغبة في”، أو “حاجة إلى ..”، وإنما تتعلق” بكيان لايكون إلا بـ ..”
وضخامة الصدمة هنا تأتى من أنها غير متوقعة أصلا، بأى صورة، ومن كل الناس، وفى حالتنا هذه بالذات: اللهم إلا من القنصل وحربي، بشكل لم تكن له أى بوادر.
وإهانة المرأة – والطفلة صفية هى امرأة فى هذه اللحظة – التى وهبت نفسها بلا قيد ولا شرط هى أكبر إهانة يمكن أن تلحق بوجود حي، إنها بصقة غدر، وهى ركلة إلى هاوية لاقرار لها، فلو أن لها قرار لتحطمت الساقطة فيها وانتهى الأمر، وهذا أهون، لكن أن تظل تهوى هكذا طول الوقت، فلا بد أن ينبت لها جلد آخر، لتصبح كيانا أخر فى ضغط جوى آخر، لايحفظها شبه حية إلا هذا الانسلاخ المتصل.
وهذا ما حدث لخالتى صفية.
بمجرد أن تأكدت صفية أن “حربى قال ذلك” اختفت تماما، وحل محلها نسيج آخر يشبهها، ويناسب استمرار الهبوط فى الهاوية بلا قرار، نسيج هو كفن مكتوب عليه صفية بلا صفية، وهى لم تظهر بعد ذلك أبدا إلا من خلال وعى الراوي، تطل فى خجل أو طفولة ثم تختفي، لكنها ظهرت تماما فى اللحظة التى أعلنت فيها فى النهاية – أنها توافق على الزواج من حربى – لتؤكد أن كل هذا الذى حدث منذ أن “قال” حربى “ذلك”، حتى قالت هى أنها موافقة – لم يحدث أصلا.
منذ تلك اللحظة الأولى – لحظة تسليمها للقنصل من حربى – أصبحت صفية عكسها مما يمكن أن يسمى “لا صفية” أو “ضد صفية”، أو وعاء صفية الخاوى منها، وعاء يصلح مفرخا لتفريخ طفل لصاحبه لا أكثر، وإعلان صفية قبول الزواج من القنصل كان محدد الهدف، “… وسأعطيه ولدا”، فالمسألة انتقلت من علاقة حياتية تكتمل بها مع حربي، إلى علاقة وعائية شيئية، تمليك، وعاء يعطى مقابل تشغيله: ولدا.
ويأتى تعبير الراوى (ربما على لسان حال الأم، ص39 أنه) “.. بعد الفرح بأيام بدأت صفية تظهر على حقيقتها” تعبيرا يحتاج إلى وقفة مراجعة، فالواقع أنه – بحسب استقبالى للأحداث – قد حدث العكس تماما “بدأت صفية تختفى حقيقتها” لاتظهر على حقيقتها، ولا أجد تفسيرا لهذا التعارض اللهم إلا إن كان تعبيرا يعلن وجهة نظر الأم حين تريد أن تطمئن على ابنتها بعد الزواج من أنها أصبحت “كما ينبغي”، “وكما ترجو” (باعتبار أن هذه هى حقيقتها التى ترجوها) يدل على هذا ما لحق هذا التعبير من قول الأم “أنا ربيتها وهى شرفتني”.
2/3
ثم ننتقل حتما إلى الرد على تساؤل الراوى عن طبيعة علاقة صفية بالقنصل، وخاصة أنه كان تساؤلا مفصلة فيه الاحتمالات الممكنة، يتساءل الراوى (ص41) : لماذا أحبت صفية، بعد حبها الأول الجميل، ذلك الرجل الذى يبلغ أكثر من ثلاثة أضعاف عمرها؟” ثم يضيف: “ولكن هل سأعثر فى يوم على جواب حقيقي، وهل سأعرف إن كانت قد أحبت القنصل لسبب ما، أو لعلة ما، أو أنها أحبته فحسب مثلما تحب أية امرأة أى رجل؟
والإجابة على هذا التساؤل تحديدا هى المدخل إلى قراءتى الرواية، ولعلى أبدأ بطرح أسئلة مقابلة، تقول:
ولكن هل أحبت صفية القنصل أصلا؟
وهل هذا التفانى – حد العبادة – هو حب أم انتقام بما يسمى عدوانا سلبيا؟
وهل هى حين أخفت نفسها – دفنا – قد بقى منها شيء يمكن أن يوصف بأنه يحب أولا يحب أصلا؟
الجواب عندى يبدأ من إعلان أنه بمجرد أن تخلى عنها حربي، لم يعد ثمة “صفية”، وأن هذا الكيان الذى استسلم بعد ذلك لكل ذلك لم يكن سوى “ضد” بل” “نفي” وجودها كما ذكرت حالا، أصبحت عدوانا صرفا بلا صفية، وقد وجهت هذا العدوان: فى شكل عدوان سلبى على البك، وعدوان إيجابى على حربي، فى البداية من خلال البك، ثم بعد ذلك فى صورة ثأر ليس ككل ثأر، رغم ما بدا من أنه ليس إلا ككل ثأر.
والجريمة التى دفنت كيانها كانت مدبرة من كل من البك وحربى معا، البك اعتدى عليها بمجرد تقدمه لها، بعد أن تخلص من حربى باحتوائه تماما، وحربى اعتدى عليها بتنازله عنها للبك (بعد تنازله عن نفسه).
وولادة صفية لحسان لم تكن ولادة أم لابن يؤكد علاقتها بأبيه ويعلن امتدادهما فيه، وإنما كان حسان – منذ لحظة قبولها زواج أبيه – أداة محسوبة أوصافها وأبعادها ووظائفها طول الوقت:
كان حسان إزاحة لوالده، وكأنه جاء من تلقيح صناعى لا أكثر ولا أقل لأن الزواج ارتبط بشرط قدومه بشكل أو بآخر.
ثم كان حسان أداة لأنسنة الإله الذى لم يلد، إذ يلد، ليهبط إلى الأرض خائفا، هائجا، قاتلا.
ثم كان حسان بديلا عن حربى (للقنصل)، فهو الابن الحقيقى للقنصل، فما حاجته لحربي.
ثم كان حسان بديلا عن حربى (لصفية) إذ يحقق لها الجزءين: البنوى والامتلاكي، فى الحب الضائع (دون الحب الحقيقى التكاملي).
ولكى يتأكد هذا الإحلال الكامل، كان لابد أن يزول حربى أصلا وتماما من الوجود العياني. لذلك، ومن البداية راحت صفية تلعب لعبتها متعددة المراحل، ومن خلال داخل البك شخصيا:
راحت تشككه فى حربي، ولا أحد غيرها أوعز إليه بهواجسه من حربى تجاه حسان، وتدفعه للانتقام حتى القتل، وما منع جريمة قتل حربى الأولى إلا العربان المؤجرون حين أعلنوا أنهم لم يتفقوا على “جنايات”. لكن المسألة كانت قتلا – رغم عدم سبق الإصرار. ورغم أننى لم أتأكد من حضور قرار القتل الفعلى لا فى وعى البك ولا فى وعى صفية الظاهر، إلا أننى اعتبرت الإزاحة المتلاحقة بكل هذا النبذ والقهر والتعذيب أقسى من القتل، ثم هى الطريق إليه حتما فى نفس الوقت، إلى أن تجسد فى موقف السلخ المتمادي.
3/3
أما المفاجأة التى أخلت بالحسابات الظاهرة فهى أن حربى هو الذى قتل البك، ذلك القتل الذى بدا أنه تم بمحض الصدفة، كانت مفاجأة جسيمة لصفية حيث أن اختفاء البك “هكذا”، مع بقاء حربى “هكذا” قد أفشل مخطط الإلغاء والإحلال كما رسمته منذ دفنت ذاتها.
وبقاء حربى على قيد الحياة مع اختفاء البك مثل لصفية خطرا أعظم من كل خطر، ليس خطرا على ابنها بداهة فقد ورث وانتهى الأمر، ولكنه خطر إحياء الأمل، فهذا هو حربى (حبيبها) مازال حيا، وهذا هو البك مختطفها ومغتصبها، قد زال، فهل تصحو صفية المدفونة وتلغى هذه الفترة من حياتها، وتستعيد كيانها، ويتحقق الحلم؟ هذا هو الخطر الذى لم تسمح له صفية حتى بمجرد أن يقترب، فبدا أن كل ملاحقتها لحربى هى فى الظاهر ثأر مثل كل ثأر، وفى الواقع هى محاولة للتخلص من هذا الأمل المرعب، ولكن لماذا يرعب مثل هذا الأمل؟ لأنه يحمل معه خطر هجر ساحق، خطر تسليم آخر. من يدري؟ من يضمن؟ من يضمن أى شيء بعد ما كان مما كان يعتبر مستحيلا فى حينه؟
ألم يتخل عنها حربى من قبل؟ ألا يمكن أن يتخلى عنها إذن فى أى وقت وبلا أدنى مبرر؟
فلا، ولن يعيش حربى حتى لا يكون أمل، ولا يكون تسليم ولا يكون سحق جديد، فلابد أن يختفى حربى حتما وسريعا وتماما.
إذن فالانتقام من حربى هو ثأر لما فعله هو بها بالرفض (وتسليمها للبك) قبل أن يكون ثأرا لقتل البك، وهو تخلص من الأصل مثلما هو تخلص من الحياة.
ولكن، إذا كانت صفية لم تعد موجودة أصلا، لم تعد سوى نفيا خالصا، فمن ذا الذى يقتل، ومن ذا الذى يخطط للثأر، ومن ذا الذى يواصل تصفية الحسابات؟
هنا تصبح المسألة أكثر تعقيدا، فصفية التى اختفت لم تمت وإنما دفنت حية، فطاقتها الحبيسة هى الدافع لكل هذا، أما الأداة، فقد كانت “بصمة” البك المنتقم الجبار، فقد تحولت صفية إلى مخلب البك و أسنانه بمجرد مقتله، انطبع كيانه بيولوجيا على ما تبقى من صفية ظاهرا.
وقد كان هذا من أدق إرهاصات حدس الكاتب حين يعلن ذلك مباشرة “.. خيل إلى أنها بدأت بالتدريج تشبه البك، وأن كلامها بدأ يشبه لهجته” وعلى أن أقول إن هذه حقيقة بيولوجية سبق أن أوردتها فى تنظيرى لظاهرة البصم تقمصا بالمعتدي، وخاصة عند الموت /بعد الموت/ بالموت، وهى ظاهرة بيولوجية وليست تعبيرا مجازيا مما لامجال لتفصيله هنا طبعا.
إذن فالبك القنصل الذى مات لم يمت، بل انطبع على لحم وتركيب صفية البيولوجي، وهكذا أصبح كيان صفية المتحرك يحوى طبقات تركيبية معقدة تبدأ ببؤرة مدفونة حية هى صفية الأولى الطفلة المهيأة للحب والحياة، وهى مدفونة فى صفية الحقد النمرة، التى هى مغطاة بدورها بصفية البك المنتقم الجبار، والجميع توجهوا – كل من منطلقه – إلى هدف واحد هو التخلص من “حربي” الذى يثير فى كل من هذه الكيانات ما يبرر اندفاعته إليه.
صفية المدفونة حية تريد أن تتزوج من حربي، وحربى لابد أن يدفن معها، وهذا وحده هو الذى يمكن أن يلغى كل ما لحقها من رفض، وفى نفس الوقت يسمح له أن يلحق بها، فى ومنذ لحظة التخلي/ التسليم، أما هذا الكيان المتبقى منه فلا وجود له، ولابد أن يزول (تحصيل حاصل لتأكيد حاصل).
وصفية الحقد النمرة تريد أن تتخلص من حربى الذى يذكرها بالجرح، الرفض، الإهانة.
وصفية البك المرعوب الجبار تريد أن تتخلص من حربى التهديد للصغير حسان، وقد تحول التهديد من الاستيلاء على الميراث إلى التهديد بتعرية فساد كل ما كان بأنه: “ولماذا كان هذا؟” (وده كان ليه) وكأن حسان لن يكون له مبرر، ولا معني، إلا إذا حل حقيقة وفعلا – وليس مجازا – محل حربي، بأن يزول حربى الجسد الباقى هناك.
والإصرار عل أن حسان هو الذى يقتل حربي، هو أمر طبيعى بحسابات تقاليد الثأر، لكنه بدا لى من منطلق هذا الفرض تأكيدا للإحلال، وما اضطر صفية أن تتنازل عن هذا التحديد لشخص القاتل إلا ظروف قاهرة تتمثل فى التهديد بموت حربى موتة طبيعية.
نرجع بعد ذلك لمحاولة تكملة الجواب على تساؤلات الراوي:
هل أحبت صفية البك؟ كيف؟ ولماذا؟
وأحسب أننى قدمت الجواب ضمنا، فأنا أنفى أن صفية أحبت البك أصلا، لأن ما تبقى منها كان عدما، والعدم مضروبا فى أى شيء وأى أحد وأى عدد لا ينتج إلا عدما.
وهذا العدم – من جانب آخر – ليس صفرا، لكنه وجود عدمي، له قوة وجود الموت، فما تبقى من صفية ظاهرا تحت اسم صفية قد سخر لقوة الموت:
فهى تتخلص من نفسها بدفنها حية عقب تسليمها من حربى للبك، وتتخلص من البك بإنجاب من يهبط به من ألوهيته الخادعة إلى كيانه الإنسانى المرعوب، وتتخلص من حربى أولا بإلغائه كحبيب، ثم بإحلال حسان محله عند البك وعندها على حد سواء، ثم بإقصائه ثم بقتله (إن أمكن) ثم بترتيبات الثأر، وحتى الحمار الذى أسمته حربي، شككـت (وأعترف بأنى مبالغ هنا ومخطيء فى الأغلب)، أنها هى التى سمته.
وهى تتخلص حتى من حسان ابنها الذى لم يوجد إلا كأداة: أولا أداة إبدال، ثم أداة قتل، لا أكثر.
وقد بدا هذا واضحا ومجسدا فى موقفها بعد موت حربي، إذ لما لم تعد للأداة (حسان) وظيفة كان أول تفاعل لها هو أن تلقى به بعيدا “… قيل إن النبأ نقل إليها وكانت تقف فى فناء الدار وإلى جوارها حسان، فالتقطته من الأرض وهى تصرخ صرخة هائلة ثم رمته بعزم قوتها نحو الحائط” (ص137) هل هناك تفسير آخر غير ما أوردت؟
وهى تتخلص – فى النهاية – من نفسها بهذا الانتحار البطيء (ص137) “… قامت بعد ذلك، ودخلت إلى غرفتها ولم تنطق بشيء ولم تذق بعدها طعاما أو شرابا إلى أن ماتت .
فهذا الكيان “الموت” لم يكن ليحب أصلا، لا البك ولا حسان ولاغيره، وحين مات هذا الكيان أو أوشك على الموت، ظهرت صفية المدفونة حية، ووافقت على أن تقبل حربي، وأن تتساهل فى المهر، وكأن موت الكيان النفى كان هو السبيل الوحيد لإحياء ما دفن، ولو للحظة.
4/3
أما ختام تساؤل الراوى “… أو أنها أحبته مثلما تحب أية امرأة أى رجل؟”
فقد كدت أهمل هذا الجزء من التساؤل، لأننى لا أكاد أعرف كيف تحب أية امرأة أى رجل، وخاصة فى بلدنا، وخاصة فى بلدها، فإذا كان يقصد الراوى تلك الصورة التى تمثل المرأة الصعيدية غير المختارة مع الزوج السيد الكل شيء، فإننى أتحفظ، وأذكره وإياى أن صورة السيد أحمد عبد الجواد لم تأخذ حقها فى الفهم والدلالة، ذلك أن النظرة العامة العاجلة لم تقيـم مدى القتل الذى حملته “نعم” أمينة للسيد أحمد عبد الجواد طول الوقت، ذلك القتل الذى لم ينجه منه إلا علاقاته الخاصة. ولكن هذا موضوع آخر.
ولهذا فأنا لا أعرف ردا على هذا الجزء الأخير من التساؤل، إلا بماورد سابقا.
5/3
بقيت نقطتان قبل أن نطوى صفحة صفية:
1/5/3
الأولي: استشهاد يؤكد الفرض الذى ذهبت إليه، يقول الاستشهاد فى وصف ماسمى “عشق” صفية (ص42) بأنه “.. لم يكن عشقها يعرف الزمن، بل ظل ثابتا إلى الأبد” وقد قرأت هذا الوصف من منطلق علاقتى بالأبد الموت، الأمر الذى سبق أن تناولته فى ملحمة الحرافيش فى فرضية: أن الموت هوالحياة، وأن الخلود هو الفناء، فالموت نهاية لها ما بعدها وبهذا يصبح الموت حركة تغير، والخلود بلا نهاية ولا آخر فهو جمود جاثم، أى زمن متوقف، والإشارة هنا إلى توقف الزمن بدأت من تخلى حربي، “وإلى الأبد”، جاءت مناسبة لهذا الفرض، وقد أكد لى هذا الفرض الجديد ما ذهبت إليه عن دفن الذات، وبقايا العدم، كما وصفت صفية حالا.
2/5/3
الثانية: عن وجه الشبه بين “ضحي” و “خالتى صفية”، ويبدو أن ضحى تمثل عند الكاتب حضورا خاصا، لمست ذلك من سيرته الذاتية المحدودة فى الملحق، كما لمسته من تسمية الرواية باسمها وغير ذلك. يقول فى سيرته كاتبا عن ضحى “… أحبها القراء والنقاد جميعا” ثم يبدى سعادته بترحيب الشعراء بها حين يضيف: وكنت أحسب لأول وهلة أن هذه مسئولية القراء والنقاد فحسب، “ثم” إن ما أسعدنى بصفة شخصية هو أن الشعراء أيضا قد أحبوها ..”.
ولابد أن أعلن هنا أننى لست من جميع القراء أو النقاد الذين أحبوا ضحي، صحيح أننى شممت رائحة ضحى الزهرة إيسيت، وانتشيت حتى استعدت حياة من حيواتى كانت تحتاج أن يرويها هذا الشذي، لكننى لم أستطع أن أفصل ذلك – فيما بعد – عن رائحة ضحى الصفقة السامة الملساء، ولم أعتبرهما اثنتين، فإن هذا يولد-عادة – من ذاك.
وقد قابلت هذا الموقف بنفس رؤيتى للقنصل الطيب الكريم المسامح حين استقبلت أنه هو هو القوة الباترة، المنتقم الجبار.
وقد كانت هذه الرؤية تلاحقنى حتى وأنا أتابع مسار صفية، مع الفارق: فصفية لم تظهر حاضرة كاملة فى تلك الصورة النقية التى ظهرت بها ضحى فى البداية، اللهم إلا وهى طفلة واعدة، ثم فتاة نضرة، نجمها خفيف، وحضورها – رغم نقصانه – حى جاذب، لكن هذا الوجود سرعان ما اختفى حين طـعـنـت بتسليمها للبك الذى لم يتسلم (من حربي) سوى بديلتها، بديلتها الوعاء السام القادر على تفريخ طفل بديل، والقادر على تسميم سائر المحيطين فى آن.
نقلة ونقلة، طهارة فبشاعة، فطرة فبقايا: فى الحالتين.
وإذا كانت ضحى قد اسـتعـمـلت من أبيها كدمية يحسن تزيينها والتباهى بها – وليست كما هى “سرق منى طفولتي”، فإن صفية التى فقدت والديها فعلا قد استقبلت ممن حولها استقبالا طيبا رفيقا لم يلغها ابتداء، إلا أنها بمجرد أن “سـلمت” مع مخصوص لصاحب النصيب (وهى ليست صاحبته) بدأ استعمالها من والد لم يلد سمى تجاوزا زوجا، وقد وقـع على دفتر التسليم حربى شخصيا فاستعملت نفسها لهم انتقاما ومواتا.
وقد أدى استعمال ضحي، ثم هربها إلى زوج باهر من الظاهر، يستعملها ديكورا مـرة، ووسيطا مرة، وسمسارا مرات، أدى كل ذلك إلى نكسة بشعة جذبتها من حلم التاريخ والالتحام بالطبيعة، إلى تقمص بالمعتدى لتصبح أقسى وأبشع منه.
أما صفية فقد انسلخت عن الطبيعة حين دفنت نفسها، ثم تقمصت بالمعتدى أيضا، وكان ما كان.
4 – حربى
1/4
من هو حربى؟ أين هو؟
هل وجد أصلا بقدر يسمح بالتعرف عليه، أم أنه – (مثل صفية وضحي) كان وعدا لم يتحقق أبدا.
من هو حربي؟ أجمل الرجال؟ سيد الرجال؟ أحلى الأصوات؟
كل هذه أبجدية لم تتجمع فى شطر شعر، أو هى ضبط أوتار لم تصدح ثم تتناغم لتصدر لحنا.
لماذا؟
لأن اللحن لم يكن من وضعه أبدا، ولم يكن مناسبا له، بل إنه لم يوضع أصلا، رغم كفاءة أدوات العزف، ويقين إرهاصات الميلاد.
لم يوجد حربي، اللهم إلا فى ظهوره لماما فى علاقته بأمونة البيضاء الحلبية، وربما فى غنائه لأقرانه وأهل القرية وما شابه.
أما موقفه من صفية فقد كان – رغم حتمية حبه لها، وحبها له حتمية مفترضة كالبديهية، لم تعلن من أى من الطرفين أصلا. كان موقفه موقف المتفرج: فهو لم يسمح لنفسه أن يعترف بهذا الحب، فى حدود ما ورد فى الرواية، حتى أن الكاتب (والراوى) قد حرمنا حتى من إطلالة على أحلامه – بل إنه حين مرض وضعف حتى الهذيان، لم تخرج من فمه (مثلما حدث لصفية قرب نهايتها) كلمة واحدة تشير إلى حبه لها، أو حرمانه منها … أو … أو… ورغم وضوح همس القرية، وإشارات العائلة، وتلميحات النسوة، وحسد الشباب والرجال، فى مواجهة البديهية: “أن صفية لحربى وحربى لصفية”، فإن ذلك لم يكشف لنا عن موقفه “الواعي” من هذه البديهية.
فماذا فعل بها (بهذه البديهية)؟
كيف أخفاها على نفسه؟
كيف تفاعل مع الحلم (الذى أصبح ضميرا عاما)، وهو يلح ليتحقق؟
كيف تنكر للبديهية المفترضة وهى تقترب لتكتمل؟
2/4
لابد أنه – دون غيره – قد شم رائحة توجهات البيك القنصل الإله الذى لم يلد، والذى تبناه عطفا فاحتواء (كما تبنى أهل القرية والناس جميعا كرما فإلغاء) وبمجرد أن بلغت حربى – دون إعلان- رغبة البك، أسرع فأجهض – بقهر لاتعرفه حتى العلاقة بالمحرمات – أجهض الحلم وسحق البديهية وسلم مفاتيح وجوده لقاهره، سلم نفسه – بكل طبقات وجوده – إلى الأب، الإله، الكل الحاوى.
وحتى الغيرة التى شعر بها الراوى من حب صفية للبك، لم نسمع عنها عند حربي، فقد ألغى حربى حتى الموقف الأوديبى التنافسى العادى مع الأب، لم يعد القنصل أباه .. بل هو هو .. وهذا هو السحق الكامل.
ومن هنا، ومن قبل موقف الخطبة، وحتى نهاية الرواية لم يسمح حربى لنفسه، ولا لحلمه، ولا لهذيانه، أن يهمس (له قبل الآخرين) بحقه فى صفية.
ربما لكل ذلك لم أتعاطف معه بالقدر الذى يغرى به ظاهره : من حسن فتي، وشباب فائر، ثم من ضعف وشهامة، لم أتعاطف معه لا وهو فارس بربابة، ولا وهو ضحية بلا جريرة، ولا وهو سجين هزيل مريض.
بل – ربما – رأيت فيه القاتل الأول أو الثانى بعد البك القنصل، وقبل صفية.
فهو قد أجهز على نفسه حين سلمها بلا شروط وبلا مقابل للبك.
وهو قد أجهز على صفية حين تنازل عنها أيضا للبك بلا شروط ولا مقابل.
وهو قد أجهز على البك،: مصادفة وليس رد حق!! (للأسف).
وإن كان قد خطر ببالى أن قتل البك – هكذا فى هذا الموقف – لم يكن إلا انتحارا، فحربى لم يقتل البك إلا وهو نفسه قابع داخل البك، وقد أكد لى ذلك تفاصيل منظر القتل حيث كان حربي: “يدفعه بماسورة البندقية فى صدره” (ص55) فالقتل لم يحدث من على مسافة، إنما هو التصق به، وكان الموصل بينهما هو ماسورة البندقية، وكان يصيح “يكفي” (وليس : كفي) – وقد وصلتنى صيغة المضارع أقوي، وصلتنى وهو يوجهها لنفسه أكثر مما يوجهها لمعذبيه أو للبك، يقول لنفسه يكفى استسلاما، يكفى امحاء، يكفى إلغاء، بل يكفى ماعاش من أيام ..
فقتل انتحارا.
ولكننى لم أعتبره قاتلا حين قتل فعلا، بقدر ما اعتبرته كذلك فى مواقف الإلغاء!!، فقتل القنصل هو القتل الوحيد الشريف من بين كل من قتل – حتى لو كان انتحارا – ومع ذلك فهو ليس فروسية لأنه انعكاس دفاعى عن النفس قبل كل شيء.
وبعد حادث القتل/ الانتحار هذا لم يظهر حربى ثانية، وإنما ظل يترنح بين أروقة الإرهاق والذبول والنسيان والمرض.
وهو يعبر عن ذلك مباشرة “.. أنا ياولدى مثل النخلة العويل التى لاتطرح البلح ولا ترمى الظل” (ص122).
طبعا لم يكن حربى هو المسئول عن كل هذا الضياع من البداية للنهاية، فالجميع دون استثناء – قد شاركوا فى هذا الإعدام البطيء والمنظم.
3/4
وأذكر من جديد أن حربى لم يكن إلا عسرانيا، وهو إذ ضاع إنما ضاع فى عسرانى مثله، والاثنان – بشكل أوبآخر – منفصلان عن القرية رغم القرابة والنسب، وأذكر هنا بقول الفلاح العجوز فى موقف السحق ” أتركوهم الآن ينهش كل واحد منهم الآخر”، ثم أضيف تذكرة أخرى ونحن نرى والد الراوى (العسرانى أيضا) ينهر حربى عن إمساك الفأس أصلا، فيعتذر حربى ويتوب!! لا فرق بين هذا الموقف وموقف البك؟
أين هما من الناس: الناس؟
حربى لم يكن يمثل الناس، بل كان – بالنسبة لى على الأقل – أقرب إلى الوجه الآخر للطبقة المتميزة التى تمثلها عائلة عسران، والتى منها الراوى وأمه وأبوه. ص 95 “كان حربى من الأعيان مثل أبى أقصى مايجوز له أن يفعله … إلخ”
خلت هذه الرواية من “عامة الناس” اللهم إلا فى أرضية وعى الكاتب، مع بعض الظهور الثانوي: متفرجين، أو شامتين، أو مهنئين أو معزين، ولم يظهر من يمثلهم ولو رمزا مثل سيد فى “قالت ضحي” ولا أظن أنه حتى المطاريد كانوا من عامة الناس، ولكن ربما كان المأمور هو أكثر من يمثل الناس.
5/.. والدير
1/5
منذ أن قرأت العنوان “خالتى صفية والدير” قبل أن أحصل على الرواية وأنا أتطلع لموقع الدير فى الحكاية.
وقد تحفظت – من البداية – ضد احتمال سرعة اختزال هذا العمل إلى هذا الشكل المباشر باعتباره دعوة للتسامح لمجرد تناسب ظهورها مع أزمة بذاتها أو مرحلة بذاتها ظهرت فيها نكسة أو أزمة متعلقة بما يسمى الفتنة الطائفة.
وحين قرأت الرواية، رفضت أن أقبل التسطيح (بعد رفضى للاختزال)، وقد تعجبت مؤخرا لمن قال إنها دعوة لعكس ذلك، وحين رفضت هذا وذاك، رفضت بالمرة العنوان، مع أنى راجعت دقة بهاء طاهر فى اختيار عناوينه، بل إننى فى القراءة الثانية كدت أتذكر العنوان على أنه “خالتى صفية والبك” وليس “خالتى صفية والدير” ثم إنى كنت خارجا لتوى من دير آخر، هو دير الأب زوسيما فى الإخوة كارامازوف، بكل ما كنت غارقا فيه من إطناب الخطب والنصائح والحكى حتى الضجر من الأب زوسيما، وحتى من أليوشا.
كما أننى لم أكن قد تخلصت بعد من رفضى لـ تكية “الحرافيش”.
وقد شعرت بفرق شاسع بين هذا الدير المصري، وبالذات بما أضفى عليه المقدس بشاي، وبين ذلك الدير الروسى (رغم وجه الشبه الأرثوذكسي)، لهذا اعتبرت أن المقدس بشاى هو الممثل الحقيقى لما أراد الكاتب إظهاره من “دور الدير”.
أما تكية الحرافيش بسورها الصامت وأناشيدها الغامضة، فقد فرحت فيها شماتة، فرحت وأنا أدخل هذا الدير المصرى وأخرج منه مرارا بهذه البساطة، نعم رحت أدخل الدير دون استئذان (حتى دون استئذان المقدس بشاى نفسه) وأخرج منه إلى عودة، وقد حاولت أن أتذكر دير أبينا متى المسكين فى وادى النطرون أو دير سانت كاترين، فلم أنجح فى استحضار النموذج المناسب، فاعتبرت أن ثمة اختلافا تتميز به هذه الأديرة الصغيرة بالصعيد وهو المقدس بشاى خفيف العقل.
ليكن…
لكن الذى لا يكون هو الاستسلام لهذا الاستسهال الذى يعتبر مجرد السماح للوعى بحقيقة العلاقة الإنسانية بين مسلمين ومسيحين حدثا خاصا أو إبداعا يحتاج إلى اعتبار خاص.
وما همنى فى هذا الدير أنه مصرى الرائحة، مصرى التركيب، ولتذكر ما ورد على لسان المقدس بشاى نقدا لمسيحية الخواجات الذين يفضلون زيارة مساخيط الكفرة على رموز المسيح.
ولم يظهر فى مقابل الدير – إن كانت المقابلة مقصودة – دور المسجد، اللهم إلا فى الإشارة إلى دور والد الراوى كخطيب وإمام صلاة الجمعة أو العيد أحيانا.
ولم تتعمق الرواية إن كانت هذه قضيتها أو من ضمن قضاياها، إلى مستويات الصراع الأخري، فلم يظهر احتجاج رافض يواجه التنوعات المحتملة ضد هذا التسامح، اللهم إلا تحفظ محدود من رئيس الدير الجديد، واحتجاج بعض المصلين المسلمين على احتماء حربى بالدير (ذلك الاحتجاج الذى ذاب فور الرد بالتذكرة بما فعله رسول الله مع النجاشي).
وفى مقابل حنين الخائن، لم نر خيانة على الجانب الآخر، وهذا ليس مطلوبا طبعا، لكنه إثبات لصالح الكاتب ينفى عنه أى قصد لتسطيح سخيف.
وحيث لم تظهر مستويات للصراع، لم تظهر مستويات للحوار، وتوارى الجدل الضرورى فى الموقف الدينى الذى يمكن أن يتصاعد بين بعض الأفراد وبعضهم فى حركية الناس و جدل مواقفهم الأعمق.
وكل هذا لا يضير الكاتب ولا ينقص من روعة العمل، ولكنه ينبه النقاد إلى أن المسألة أعمق من ذلك، أو حتى إلى أنها غير ذلك.
لكننى ألوم الكاتب على ما أورده فى ملحق الرواية فيما يتعلق بحديثه عن والده المسلم الصالح والذى يشهد الله “أنه لم يسمع منه يوما فى حياته كلمة تفرق بين الناس بمقولة هذا مسلم وهذا مسيحي” إلخ، ولعلنى ألومه لأننى أشك أنه بذلك قد وجه النقاد إلى هذا البعد السطحى دون سواه كما ذكرت فى المقدمة.
وأعذر النقاد.
وبصفة عامة فقد شعرت أن المقدس بشاي، خفيف العقل، هو الذى يمثل المسيحى القبطي، المصرى طيب القلب، هو الدير الذى يهمنى فى كل الحكاية، إلا أن نهاية بشاى أفزعتنى قليلا، فرغم أنه كان خفيفا من البداية، إلا أن الهرب – حتى فى نهاية العمر – فى هذا الحل المرضى قد يشكك فى صلابة موقفه الوجودى الصعب الذى عاشه بأمانة طول الوقت، وعموما فقد انتهى وحربى ما زال منطبعا فى كيانه لم يمت بعد.
6/ ملحوظة حول الخاتمة:
رغم كل شيء، فقد كان الفصل المسمى بالخاتمة رائعا محكما حزينا، مترامى الأطراف.
وقد أوحى إلى هذا التفرق فى المعمورة بأسرها من القاهرة للسعودية إلى كندا وألمانيا، أوحى إلى أن الدنيا فى سبيلها إلى أن تصبح قرية كبيرة، فماذا ستكون الحال حينذاك؟، ومن أين لنا بهذه العلاقات الحميمة والإيقاع الدافيء اللصيق؟ وأين الوقت، والحوار، والوعي، والجدل الذين سوف يسمحون بهذا الثراء المولد؟ وهل تزيد الفرص أم تنقص فى أنسنة الإنسان؟؟
“أسأل نفسي، أسألها كثيرا”… مثلى مثل الكاتب: “أسأل نفسي”، ولكنى لا أنتظر
أول ديسمبر 1991
لاحقة: شاهدت مؤخرا (الأحد 15 نوفمبر 1998) على مسرح الهناجر كيف استطاع ناصر عبد المنعم مع نخبة من شباب المسرح أن يلتقطوا ويجسدوا كل حب وحقد صفية، وكل سذاجة وشجاعة حربي، وكل طيبة وسماح المقدس بشاى (دون خفته)،.وقد كنت قد دخلت المسرح وأنا خائف على النص من أن يختزل إلى التركيز على السماح الديني، وإذا بهم يتجنبون هذا المأزق ، دون إهماله، فعلوها بنجاح شاب جيد، فشكرا