يحيى الرخاوى طبيب نفسى
حالات وأحوال
الأب الحاضر الغائب، والأم التى “اشترت دمامغها””
مقدمة
هذه حالة شاب، طالب فى كلية الهندسة، نعرضها لما يلي: :
1- أن نتعرف على الوصف الدقيق للتغير النوعى فى بداية المرض (الذهان)، مع محاولة تفسير دلالاته.
2- وبالتالى أن نتعلم كيف لا نسارع فى ترجمة شكوى المرضى إلى أعراض دون أن ننظر فى معنى المحتوى (الدلالات المحتملة)
3- أن نلاحظ اختفاء دور الأب واحتمال تأثيره على نمو الشخص وبالتالى استهدافه للإصابة بمرض ما، فى نفس الوقت الذى لم تملأ الأم (الناجحة السهلة) مكان الأب الشاغر.
4- وأخيرا أن نقارن بين وعى المريض بدقائق التغيرات الجارية، وبين اختزال الأهل لما يعانيه المريض، ثم نرى كيف يمكن أن يكون المريض أعمق وعيا وأحد بصيرة من أهله (الأسوياء).
عند الدخول (شكوى المريض) :
أنا عايز أعرف أنا عندى إيه، فيه هلاوس بتجيلي، باشوف حاجات غريبة أشوف أهلى كأنهم شياطين، يمكن أصحابى بيحطوا لى حاجات فى الأكل أو الشرب مش عارف، أنا الفترة اللى فاتت لخبطت فى الدواء وباحس إن اللى حوالى بيتكلموا على وساعات أحس إن اللى حوالى شياطين، وساعات أحس إنهم ملايكة كل الحاجات ديه هلوسة، مش عارف أذاكر ولا أفتح كتاب، انا شكيت فى الفتره الاخيرة ان فيه واحد صاحبى حطلى حاجة فى الأكل يمكن مخدرات.
الشكوى من المرافق (الوالد):
الولد بقى عصبى جدا ومتوتر على طول، ساعات يقع على الارض زى ما يكون مغمى عليه، يتكلم عن الجنة والنار ويقول إنه شايف شياطين قدامه ويقول على إنى ربنا، وعايزنى أدخـله الجنة، ويقوللى يالله موتنى ودخلنى الجنة.. نومه متلخبط، مش قادر يقعد على حيله، طول النهار رايح جاي، يقول حارمى نفسى من البلكونة، عايز يكسر التليفزيون وساعات يشتمنى ويتف علي.
أنا شاكك إن زمايله بيحـطوا له مخدرات أو سموم لأنهم بيغيروا منه علشان هو أحلى منهم، والبنات بتحبه، وعلشان هو أشطر منهم وعايزين إنه يفشل.
تاريخ تطور الحالة (من المريض)
الحالة بدأت على طول بعد انتهاء امتحانات العملى السنة اللى فاتت حوالى شهر فبراير 1998، أظن قبل كده : حوالى شهر يناير 1998 فى الكلية، شربت حاجة ساقعه مع زميلة وبعدين رحت أركب المترو علشان أروح حسيت إن الزمن توقف، والمحطات بتعدى بسرعة أكبر من إنى ألحق أنزل فى محطتي
نزلت ركبت تاكسى وحسيت إن السواق هو سيدنا جبريل
رحت البيت نمت على طول ولما أختى جت تصحينى حسيت إنها الشيطان وإنى موجود بين الجنة والنار، وإن الشيطان عمال يتنقل بين وشوش أهلي.
كنت ماسك كوباية مية لقيتها بتتهز فى إيدى وكنت حاسس إن الميه لوخلصت من الكوباية قبل الشيطان ما يواجهنى يبقى معنى كده إنى حادخل الجنة.
لكن أبويا دخل وخد منى الكوباية ومعنى كده إن الشيطان انتصر علي.
لكن ربنا حايخد لى حقى ..
بعد كده قعدت يوم كامل بدون أكل وشرب على أساس إن ربنا هو اللى هيأكلنى ويشفينى وكل اللى يزورونى إما شياطين أو ملايكة
وكنت باشوف أختى نصها الفوقانى هى ونصها التحتانى أبويا
وحسيت إن القيامه حاتقوم والدنيا اصفرت والزمن توقف.
ودونى على المستشفى كنت حاسس إنى رايح القبر.
وجوه المستشفى كان فيه راجل بيعاملنى كويس، كنت فاكر إنه ربنا.
وبعدين صحيت من النوم فجأة لقيتنى متحسن قوى وخرجت من المستشفى وبقيت كويس لغاية قبل الامتحانات، الدكتور زود لى الدوا فتعبت جدا :
حسيت إن كل الناس بتتكلم على وزى ما تكون فيه مؤامرة حوالى مش عارف ليه يمكن علشان أسيب الكلية.
ورحت لدكتور تانى بس برضه ماتحسنـتش.
وأبويا جاب لى شيخ فى البيت علشان يطلع الشياطين.
ماذا عن الأب؟
م ط (54 سنة)، بكالوريوس تجارة، كان يعمل ضابط جمارك لمدة 18 سنة، ثم ترك العمل للعمل الحر فى محل خردوات مع والده (الجد) بالموسكي،.طيب زيادة عن اللزوم مش بيعرف ياخذ مواقف حازمة، عمره ما كان مثل أعلى لى (للمريض).
تعرض الأب لحادث سيارة (فى سنة ولادة المريض) ظل يعالج لمدة سنتين من آثاره وتغير سلوكه بعد الحادث إذ أصبح مش مركز فى أى حاجة، مش مهتم بأى حاجة.
وبعد وفاة والده (الجد) حدثت خلافات مع الإخوة باعوا المحل ،وهو الآن لا يعمل وجالس فى المنزل.
……و الأم ؟
س. ع. (52 سنة)، ليسانس آداب، تعمل مدير عام باتحاد الاذاعة والتليفزيون، ست طيبة، مرحة، غير قادرة على اتخاذ أى قرار ايضا مثل الوالد، حريصة على المريض جدا. وتصر على ان حالته المرضية بسبب أن الزملاء يريدون إيذاءه فيعطونه مخدرات بدون أن يعرف فى وقت الامتحانات.
من التاريخ الشخصى السابق:
ذكر المريض أنه كان منتظما على الصلاة منذ كان طفلا، وأنه انقطع، فترة ثم عاد دون تطرف أو حماس زائد.
القراءة:
(1)
أنا عايز أعرف أنا عندى إيه؟
فيه هلاوس بتجيلي، باشوف حاجات غريبة أشوف أهلى كأنهم شياطين.
ساعات أحس إن اللى حوالى شياطين ،وساعات احس إنهم ملايكة
وباحس إن اللى حوالى بيتكلموا علي
كل الحاجات ديه هلوسة،
مش عارف أذاكر ولا أفتح كتاب،
انا شكيت فى الفترة الأخيرة إن فيه واحد صاحبى حطلى حاجة فى الاكل يمكن مخدرات.
[ونلاحظ أن كل هذا كان مرتبطا بـ: أنا الفترة اللى فاتت لخبطت فى الدواء]
فـنـلاحظ هنا:
1- أن المريض شديد الوعى بتغير الحالة، وبما أنه مريض من زمن، فإن تساؤله البادئ”أنا عايز أعرف أنا عندى إيه” ؟ ليس بحثا عن إسم المرض كما نتوقع لو كان هذا السؤال طرح فى الفحص الأول، بقدرما هو تساؤل حول”ماذا جد علي؟”
2- إنه يسمى الهلاوس باسمها ، أى أن عنده بصيرة بطبيعتها ، وهذا لا يعنى – كما شاع قديما فى بعض التدريس- تسميتها بأنها “هلاوس زائفة”، بل إن المريض -خاصة إذا كان مريضا قديما – يمكن أن يصف هذه الإدراكات المريضة بشكل مباشر وحقيقي. وهو يؤكد بعد ذلك هذه البصيرة بقوله”كل الحاجات دى هلوسة”
3- إن النقلات فى إدراك من حوله، وخاصة الأهل من كونهم شياطين إلى كونهم ملائكة هى دليل على تناقض الوجدان ،يظهر هنا بشكل مسقط على أنه : هلاوس.
وهنا يجدر بنا أن نشير إلى ضرورة احترام هذا التنوع فى الخداع البصري، أو الهلوسة ، كذلك ينبغى أن ندقق فى أنه يستعمل كلمة”كأنهم” (ملايكة)، و”كأنهم” (شياطين)، وأخيرا فهو يستعمل كلمة”باحس إنهم” ، وليس هم كذا يقينا، وكل هذه التعبيرات تشير إلى بصيرته أيضا ، وإلى موقف تناقض الوجدان الذى جسده تذبذب الإدراك.
4- ثم إنه ربط بطريق غير مباشر بين ظهور هذه الأعراض، وبين الإعاقة فى مهمتة الأساسية (الاستذكار)، كما ربط بين ذلك وبين تفوقه أو عدم انتظامه على تعاطى العقاقير.
5- وأخيرا فإن ضلالات التسمم ظهرت بشكل ثانوى ، أى تفسيري، وبدت مؤكدة أيضا لبصيرته حين يقول”أنا شكيت”، وليس”أنا على يقين من”، وكذلك يذكر أن صاحبه”حط حاجة”، وليس بالضرورة”مخدرات”، وقد شاركه الوالد هذا الشك:
أنا شاكك إن زمايله بيحطوا له مخدرات أو سموم لأنهم بيغيروا منه علشان هو أحلى منهم، والبنات بتحبه ، وعلشان هو أشطر منهم وعايزين إنه يفشل.
وقد أضاف الوالد إلى شكوى المريض ما يشير إلى التوتر الموجود، والمسئول عن نوبات التهيج، والتهديد بالانتحار ومحاولته أيضا
عصبى جدا متوتر على طول.
مش قادر يقعد على حيله، طول النهار رايح جاي،
عايز يكسر التليفزيون وساعات يشتمنى ويتف علي.
ثم إن المريض راح يضيف درجة أعلى من الإسقاط الهلوسى حين يقلب والده”ربنا” ثم يعتمد عليه باعتباره أنه قادر على إماتته بنفس قدرته على أن يدخله الجنة . إذن فلم تقتصر المسألة على ما يسمى صورة الوالد(ة) الحسنة (ملاك) وهى تتبادل مع الصورة السيئة، بل تخطتها إلى التأليه
ويقول على إنى ربنا، وعايزنى ادخله الجنة، ويقولى يالله موتنى ودخلنى الجنة…
وألوهية الوالد من أهم التفسيرات التى فسر بها فرويد بعض المعتقدات الدينية
ثم يضيف الوالد أيضا إشارة إلى نوبات غير متميزة
ساعات يقع على الأرض زى ما يكون مغمى عليه،
ويبدو أن هذه النوبات ليست نوبات إنشقاقية (هستيرية) مع أنه يمكن حدوثها حتى فى حالات الذهان، وتعبير الوالد أنه”زى ما يكون مغمى عليه” غير التعبير المألوف الذى نسمعه عند وصف المتشنج الهستيرى وهو مغمض العينين ، وهو يكاد يشير بذلك وكأنه يتشنج عن عمد( وهو ليس كذلك تماما)
ثم ننتقل إلى التهديد بالانتحار، وعلى الرغم من أن الحالة لا يظهر عليها أى من أعراض الاكتئاب الصريحة ، إلا أنه ينبغى أن يؤخذ مثل هذا التهديد مأخذ الجد ، لسببين : التوتر ، وسهولة التقلب من حال إلى حال، ذلك أن الانتحار لا يرتبط بدرجة الحزن أو اليأس بقدر ما يرتبط بدرجة التوتر والقلق الحركي. واضطراب النوم
نومه متلخبط،
يقول حارمى نفسى من البلكونة،
ثم يظهر التفسير الضلالى الذى يقدمه الوالد أقوى فى تسلسله وتبريراته من التفسير الضلالى الاحتمالى الذى صرح به المريض وناقشناه ، يقول الوالد:
أنا شاكك إن زمايله بيحطوا له مخدرات أو سموم لانهم بيغيرو منه علشان هو أحلى منهم، والبنات بتحبه ، وعلشان هو أشطر منهم وعايزين إنه يفشل.
صحيح إن المسألة هنا ما زالت فى دور الشك دون اليقين ، لكنه شك مدعم بمبرراته، وهذه المبررات فى حد ذاتها من أهم البيانات الفارقة لأنها تشير إلى أن نوع من الشخصية قبل المرض لا يتفق مع المتوقع لظهور مثل هذه الأعراض الموحية بالتقدم نحو اضطراب الفصام
تاريخ تطور الحالة
الحالة بدأت على طول بعد انتهاء امتحانات العملى السنة (الدراسية) اللى فاتت حوالى شهر فبراير 1998
أظن قبل كده : حوالى شهر يناير 1998 فى الكلية، شربت حاجة ساقعة مع زميلة، وبعدين رحت أركب المترو علشان أروح حسيت إن الزمن توقف ، والمحطات بتعدى بسرعة أكبر من إنى ألحق أنزل فى محطتي
نلاحظ هنا ما سبق أن كررناه مرارا فى هذه المجلة فى هذا الباب (وغيره) مسألة دقة وصف البداية، وتناهيها فى التحديد ، وأحيانا قصر المدة ، كأنها بداية منقضة، أو صاعقة ، أو فارقة، وهذا ما أسميناه أيضا بداية البداية ، وهو إذ يصف البداية ويحددها بأمرين”شرب الحاجة الساقعة” و”مع زميلة” لا يذكر شيئا بالنسبة لهذا الموقف، لكنه يحدد مشاعره الجديدة (الغريبة) بعد ذلك بقليل، ولوأن البداية كانت عندما ذهب يركب المترو ..إلخ، يحددها بذلك دون أن يذكر أى حدث أو تغيير، وهنا ننبه إلى أن شعور المريض بالبداية هو شعور هام وغامض فى نفس الوقت، وقد يتحدث المريض عنه دون أحداث، ثم يبدأ الرصد الشعورى”رحت أركب المترو حسيت إن الزمن توقف” هوب” هنا البداية المعلنة.
والتأمل فى تغير علاقة المريض النفسى بالزمن يمكن أن يعلمنا معنى الزمن (عامة) من منظور أحدث ما وصلت إليه النسبية والفيزياء الكمية عامة، بل وما وصل إليه اللعب بالزمن فى الإبداع الأعمق والأحدث أيضا، فالشخص العادى قد لا يتجاوز إدراك الزمن الظاهر المتتابع مع حركة عقارب الساعة أو أوراق النتيجة، أما الزمن كبعد وجودى فاعل فهو يقوم بدوره بعيدا -بشكل أو بآخر- عن بؤرة الشعور، وهو يتوقف، يجري، يتباطأ، يتراجع، هذا أمر لا يلفت انتباه الشخص العادي، أما المريض النفسى (الذهانى خاصة) فتنفتح على داخله عيون وعيه الآخر الذى ينشط مستقلا مع بداية الذهان، فيرصد، ويسجل. وهذا الشعور بتوقف الزمن لا يعنى توقف الزمن، الموضوعى وإنما يعنى أكثر : زيادة حدة “الوعى بالزمن”، فالزمن لا يسير ولا يتوقف طالما أنا لا أدركه فى بؤرة وعيى ، أما إذا احتد الوعي، وانفصل فكشف الوظائف الجارية بطريقة تلقائية غير واعية، فإنه قد يرصد هذه الوظائف بما يشبه التصوير البطئ، وهذا ما يفسر تعبير المريض هنا من أن الزمن عنده قد توقف.أى أنه توقف بالنسبة للزمن الموضوعى خارجه، وهذا ما شرحه بالألفاظ مباشرة حين يقول :،”والمحطات بتعدى بسرعة أكبر من إنيأالحق أنزل فى محطتي”، إذن الزمن فى الخارج هو كما هو، لكنه أصبح مرصودا بوعى حاد، منفصل، وبالمقارنة ، وجد المريض أن هارمونية علاقته بالخارج قد اختلت، حيث فقد التزامن غير الواعى الذى ينظم خطاه بين الداخل والخارج، فزمن الداخل تباطأ (حتى التوقف، نسبيا على الأقل) وزمن الخارج تسارع (نسبيا) فكيف سيضبط توقيت نزوله فى محطة بذاتها، ويمكن أن يكون هذا الوصف هو البداية الحقيقية لما يسمى” الفصم” split ، واللاهارمونى الذى هو أساس المرض (كما أنه – هو هو – قد يكون بداية الإبداع).
نزلت ركبت تاكسى وحسيت إن السواق هو سيدنا جبريل
وحتى لا ينفصل الداخل عن الخارج وسط ناس كثــر ، انسحب المريض إلى استقلال يعفيه من امتحان تناسب الداخل بالخارج، فاستقل تاكسيا، وكأنه دخل بكليته داخل كيان خارجى حتى يتوقفا معا، فلا تفوته محطته!!! ومن ثم فإن هذا القادر على تسهيل هذا التوحد هو ملاك مرسل بين الكون الأعظم/الخارج الممتد، وبين الذات، فهو سيدنا جبريل تحديدا من وجهة نظر المريض (وليس أى ملاك) .
رحت البيت نمت على طول ولما أختى جت تصحينى حسيت إنها الشيطان وإنى موجود بين الجنة والنار، وإن الشيطان عمال يتنقل بين وشوش أهلى
فهو ، بعد البداية مباشرة وبمجرد أن دخل البيت هرب فورا بعيدا عن هذا الوعى الجديد المزعج، نام، (على طول) ، ولم يستيقظ وحده، أخته هى التى أيقظته، سحبته سحبا من هربه، فاستقبلها جسما غريبا منفصلا عن الهارمونية الكلية (المطلقة) التى هرب إليها أو تصور أنه هرب إليها، فرآها شيطانا، وهنا، ولأن الحال مبكرة ، لم يكن خداع البصر يقينا (ضلاليا) بل لغة.
ولعل تعبيره”إن الشيطان عمال يتنقل بين وشوش أهلي” يشير إلى كيفية تكوين الهلاوس هكذا مبكرا، فقد بدا لى أن هذا التعبيرهو خير تصوير للمريض وهو يصنع الدلالات (المرضية) تصنيعا قبل أن تستقر اغترابا فهو يشكل الناس بما يعنون أولا بأول لا بما يعتقد أنهم هم، ومعنى الشيطان هنا هو”الانفصال”،”النشاز””الجسم الغريب;، ومن قديم كنت أردد أن الإلحاد هو الانفصال عن الأصل، هو الوجود الجسم الغريب عن الكون، والشيطان هو كذلك لأنه منفصل عن الإجماع، عن هارمونية الكون، وبالتالى فإن هم، الشيطان أو وظيفته هى تأكيد هذا الانفصال وتحبيذه ، هو كذلك ، جسم غريب FOREIGN BODY، وحين تنقطع الصلة الوجدانية (هنا العائلية) بين الذات والآخر، فهو الانفصال، فهو الشيطان، ولكنه ليس انقطاعا حاسما يقينا ، ولكنه عملية مشروع انقطاع، إنذارات انقطاع ”الشيطان عمال يتنقل بين وشوش أهلي”
فهو وحتى هذه اللحظة لم ينفصل عن الكل ، وإن كان قد تميز عن”الآخر;” عن الأهل”، فهو بين بين ، بين الجنة والنار”وإنى موجود بين الجنة والنار”. إذن فهو لم يلتحم فى الملكوت، حتى الاختفاء، وفى نفس الوقت :لم ينفصل شيطانا جسما غريبا بعد.
ثم ماذا؟
كنت ماسك كوباية مية لـقيتها بتتهز فى إيدي
هذه الهزة ليست رعشة الاضطراب، ولكنها بمثابة إعلان التذبذب (بين الجنة والنار، بين كونهم شياطين أو ملائكة ) والتذبذب يعلن هنا عيانيا ، لكن الماء فى الكوب يبدو وكأن له دلالة سرية ، ولا يوجد تفسير سهل لقوله :
وكنت حاسس إن الميه لوخلصت من الكوباية قبل الشيطان ما يواجهنى يبقى معنى كده إنى حادخل الجنة
فلسنا نعرف كيف سيواجهه الشيطان، أو كيف سيخلص الماء (بالبخر أم بالشرب أم بغير ذلك) ، ثم يتمادى فى التأويل”الخاص جدا”:
لكن أبويا دخل وخد منى الكوباية ومعنى كده إن الشيطان انتصر علي
إنتصر عليه لأن الماء لم ينته من الكوب؟ أم انتصر عليه لأن دخول الوالد يعمق وعيه بانفصاله عن الآخر، عن الخارج، عن الامتداد، عن الهارموني؟
لكن ربنا حايخد لى حقى ..
فى تلك اللحظات، لحظات”الوعى بالفصم” ينجلى الله سبحانه باعتباره مبدع التناسق الأعظم ، فهو الملاذ الأول والأخير بمعنى عودة الجسم الـشارد إلى دورته المتناسقة . لكن التمادى فى انتظار هذا التصالح الربانى دون اختيار ذاتى ، حتى اختيار أن يحافظ على حياته بالأكل والشرب، يعلن أن الاعتمادية على قدرة الله لرأب الصدع انقلبت إلى تواكلية رضيعية ، تأكل بالحبل السرى الخفى، وفى نفس الوقت يستقطب الوجود (الآخرون) إلى أبيضó أسود، شياطين.ó ملائكة
بعد كده قعدت يوم كامل بدون أكل وشرب على أساس إن ربنا هو اللى هيأكلنى ويشفينى وكل اللى يزورونى إما شياطين أو ملايكة
ويتمادى الفصم وإعادة تشكيل العالم بطريقة رمزية ، وشاذة ، ودالة فى آن :
وكنت باشوف أختى نصها الفوقانى هى ونصها التحتانى أبويا
هذه الظاهرة أيضا ليس لها إسم ، فلا هى هلوسة، ولا هى سوء تأويل إدراك (خداع حسي) ولا هى ضلال بتغير الكون (الخارج) ، لكنها -فى رأينا- إسقاط للتمزق، وربما كان معنى هذا التشويه الإدراكى أنه بذلك يحمى نفسه من نزوة محرمة فهو حين يلغى أنوثة أخته ، ليحل محلها ذكورة أبوه، يذكرنا – دون حماس – بأصول”عقدة الخصاء” حسب فرويد
وحسيت إن القيامه حاتقوم والدنيا اصفرت والزمن توقف
الشعور بقرب القيامة، هو شعور متكرر عند الذهانى فى بداية العملية الذهانية ، الفصام خاصة، فما القيامة -عنده- إلا زلزال عملاق يهز كل الثابت ، وينثره كيفما اتفق، وهذا ما يتفق مع تعبيره هنا
ودونى على المستشفى كنت حاسس إنى رايح القبر
يبدو أن أى تدخل غير محسوب، وغير محيط ، يترتب عليه شعور بالنهاية للمريض ليس لأنه سحق عملاق، ولكن لأن الكيان الذى انفصم هش متفسخ
وبعدين صحيت من النوم فجأة لقيتنى متحسن قوى وخرجت من المستشفى وبقيت كويس لغاية قبل الامتحانات الدكتور زود لى الدو فتعبت جدا
هذه الإفاقة الباكرة ، مع بداية المرض، كثيرا ما تتكرر فى بداية الذهان، وهى ليست خادعة دائما، وهى يمكن فى بعض الأحيان أن تستمر بقية العمر، بل يمكن أن يحكى بعض المبدعين كيف أنهم مروا بمثل ذلك مع بداية مرحلة جديدة، أو رؤية جديدة، أو نوعية من الإبداع والتجديد، وقد يكون مناسبا أن تدعم هذه الإفاقة بعقاقير منظمة ، لكن العقاقير ، فى بداية الفصام تؤثر على الحركة الجديدة (المرعبة الواعدة فى آن)، والمريض يبدو كمن يقول”إنقذونى على شرط ألا تحرموني”، من التجربة ولكن النتيجة السلبية للعجز عن ضبط جرعة الدعم والتنظيم العقاقيرى هى أن يظهر مزيد من الأعراض الثانوية
وحسيت إن كل الناس بتتكلم على وزى ما تكون فيه مؤامرة حوالى مش عارف ليه، يمكن علشان أسيب الكلية
وتتمادى الخطوات الناقصة ، والمحاولات المجهضة أو السطحية
ورحت لدكتور تانى بس برضه ماتحسنتش
وأبويا جاب لى شيخ فى البيت علشان يطلع الشياطين.
الأب الحاضر الغائب:
من أخطر ما يمر به الطفل وهو ينمو ألا يكون هناك أب حوله ، فى متناوله، والغياب الجسدى الفعلى للأب قد لا يخلق مشاكل مثلما يحدث مع”رمادية” أو”هلامية وجود الأب”، بمعنى أن يوجد أب بلا معالم، أو بلا أبوه ، مجرد حضور جسدى خائب، وقد وصف الأب هنا بالوصف المصرى الشهير على أنه”طيب”، وقد سبق أن تناولنا صور الطيبة المصرية السلبية والإيجابية حتى أصبحت كلمة طيب فى حد ذاتها لا تعنى شيئا إلا إذا لحق بها ما يفيد نوع هذه الطيبة ، فحين يوصف الأب بأنه :
طيب زيادة عن اللزوم
ننتبه لحكاية زيادة عن اللزوم هذه ، فنجد المريض قد ألحق إيضاحا دالا بشكل لا يختلف حوله حين يردف:
مش بيعرف ياخذ مواقف حازمة عمره ما كان مثل أعلى لى (للمريض).
وسواء كان ذلك طابع الأب من البداية أم أنه جاء نتيجة للحادث الذى تعرض له سنة ولادة المريض ، فإن النتيجة أن هذا هو الأب الذى نشأ المريض يفتقر إلى أبوته الحاضرة، ونحب أن نكرر هنا أن غياب الأب (بالوفاة أو السفر) قد يكون أقل إيذاء من هذا الحضور السلبي، لأن الأب النفسى مطلب أساسى يخلقه الطفل لنفسه من أى ممن حوله ، والمثل العامى”إللى ما لوش كبير يشترى له كبير” يمكن أن يحور ليفيد المعنى الذى نريد توصيله هنا، ليصبح : إللى مالوش كبير يخلقله كبير، (أى يصنعه أو يؤلفه تأليفا) مريضنا هذا له كبير ، ولكنه كبير زائف ، وكأنه بوجوده الهش هذا يحول دون أن يخلق له كبير، إن الأب يكون أبا بمعلمين أساسيين :(1) معالم واضحة تظهر فى سلوك متوقع ومواقف محددة، و(2) أن يكون فى المتناول، available ، وكل ما عدا ذلك يهون، فمن خلال المعالم الواضحة يستطيع الإبن أن يتخذ بدوره معالم مقابلة ، بالقبول، بالرفض، بالحوار، سيان، لكنها معالم تتخلق فى حضور معالم مواجهة، ثم إن الطفل يحتاج أنه”إذا نادى وجد،” و”إذا سأل أجيب” بالقبول أو الرفض سيان، لكن شعوره أن هناك”شكلا ماثلا حيا يرد عليه، ويستجيب له، وقتما يريد هوالذى يخلق الأب الداخلى ([1])
ودور التربية الدينية ، وبالذات ممارسة العبادات بانتظام منذ الطفولة قد يمثل صمام أمن لمثل هذه الافتقار لما هو أب، فالطفل الذى يتوضأ ثلاث أو أربع مرات يوميا ، والذى يصلى خمس مرات يوميا، وراء أبيه مرة، ووراء إمام المسجد مرة، ووحده مرات ، إنما يقوم بعلمية تكوين أب داخلى يتشرنق به حتى يحين وقت الفقس فى الولادات القادمة بدءا من المراهقة، وبالنظر للتاريخ الدينى لهذه الحالة نجد أنه نشأ متدينا، منتظما فى عباداته ، ثم تهاون رويدا رويدا ، لكنه أبدا لم يتوقف تماما، أوينكر ، أو يتراجع . ويبدو أنه بذلك قد أسس له أب داخلى متين ، هو الذى حماه من التناثر الأقصى، فكان ما كان مع بقاء البصيرة ، وحدة الوعى ، وقوة المقاومة مما يصف عمومية هذه الحالة.
الأم :”اشترت دماغها”ثم ساهمت فى يقين التآمر الضلالي:
س. ع. (52 سنة)، ليسانس آداب، تعمل مدير عام باتحاد الاذاعة والتليفزيون، ست طيبة، مرحة، غير قادرة على اتخاذ القرار أيضا، مثل الوالد، حريصه على المريض جدا وتصر على أن حالته المرضية هى بسبب أن الزملاء يريدون إيذاءه فيعطونه مخدرات بدون ان يعرف ، وقت الامتحانات.
نوع آخر من الطيبة (المصرية) أيضا، ولكنها طيبة أنثوية سهلة متخلية بسيطة، إذ يبدو أن هذه الأم المثقفة، الناجحة (تقليديا) فى مسارها الوظيفي، لم تبادر بملء دور الأب الغائب (أو الموقوف عن العمل بسبب الحادث أو بدونه) فهى”شافت نفسها” على مايبدو، وحسب الوصف فهى أيضا افتقدت إلى القدرة على اتخاذ القرار، فمن يتبقى ليتخذ القرار، قدوة، وحسما، وتحديدا؟ أطفالهما قبل أن يمتلكوا أدوات ذلك ؟ ولو نسبيا!!؟؟ ثم إذا بها – يبدو من باب الاستسهال أيضا- تعزو كل ما أصاب ابنها إلى تفسير تآمرى ضحل”أن الزملاء يريدون إيذاءه ، فيعطونه مخدرات بدون يعرف ، وقت الامتحانات ..” هكذا ببساطة ، تنشين على وقت الامتحان، ومخدرات ذات مفعول سحرى للتجنين، وحسد وراء هذا وذاك، ولا هى ولا زوجها ولا الإبن مسئولون عن أى مما حدث ، ودمتم.
نتذكر كيف أن المريض نفسه كان يشكك فى ذلك ، وكان يردد أن هذا محتمل، لا أكثر:
انا شكيت فى الفتره الأخيرة إن فيه واحد صاحبى حطلى حاجة فى اأاكل يمكن مخدرات.
وحتى هذا الشك ، فإنه طرأ عليه”فى الفترة الأخيرة” ، وربما انتقل إليه من أمه لا أكثر.
وينبغى أن ننبه هنا إلى دور الأم (والأب والمحيطين) فى ما يسمى”دوامية الأعراض”perpetuation of symptoms، فقد يستجيب مثل هذا المرض بحالته النشطة هذه لأى جرعة من النيورولبتات(مضادات الذهان)، وقد تتعدل أفكاره الأقرب إلى الضلال بشرح واضح مباشر، إلا أن هذا اليقين بالتأثير الخارجى النابع ممن يحيطون به (مثل الأم هنا) والمرتبط بشكل أو بآخر بسمة ثقافية (لوم التأثيرات الخارجية، أو التفسيرات التآمرية إلى أن تصل إلى التفسيرات السـفلية = بالجان)، هذا اليقين العائلى والثقافى نشاهده كثيرا فى الممارسة الإكلينيكية، بحيث يكون اليقين (التفسيرى الخاطئ) الذى يعلنه الأهل الأسوياء أكبر بكثير من يقين المرضى (الأولاد خاصة) الضلالي.
وهنا ينبغى أن يلتفت الطبيب إلى مثل هذا الاحتمال ، وأن يتناوله فى نفس الوقت، أوحتى أن يبدأ به ليضمن ألا تجهض محاولاته مع المريض .
الخلاصة:
1-هذه حالة ذهانية مبكرة، يغلب عليها أعراض اضطراب الوجدان المختلطة بأعراض ذهانية غير متميزة، وكذا ثمة بدايات تشير إلى الفصام
2- وهى ، رغم شدة الأعراض، يمكن علاجها بسهولة من حيث المبدأ، من خلال ضبط نشاط المستوى الأقدم من الدماغ باستعمال النيورولبتات ، جنبا إلى جنب مع حضور والدى علاجى تعويضى ثم استثمار كل من الجانب الدينى والجانب التحصيلى لاستمرار تأكيد العلاقة بالواقع، هذا بالنسبة للمريض.
3- على أن يتم فى نفس الوقت دعم أسرى بالتخفيف من يقين الأم المستند للتفسير التآمرى ، بشرح حقيقة تأثير المخدرات، وأنه حتى لو كانت المخدرات تحدث مثل ذلك ، فإن الحالة لا تدوم إلا نتيجة الاستعداد لها، فتصبح المخدرات مجرد عامل مرسب.
4- رأينا كيف أن النظرالأعمق فى شكوى المريض دون المسارعة بترجمتها إلى أعراض تفيد فى الإحاطة بتركيبة المريض واحتياجاته فى نفس الوقت.
5- أظهرنا كيف أن المعلومات التفصيلية عن الأهل هى من أهم العوامل التى ينبغى أن توضع فى الاعتبار، حتى لو كانت الحالة ذهانية مصاحبة بتغيرات كيميائية ونيورونية أكيدة.
ملحوظة : هذه الحالة حديثة، ونأمل فى العدد القادم ، أوفى عدد قادم أن نقدم تتبعا لها إن صح ما ذهبنا إليه من تخطيط علاجى واعد.
[1] – لم أتطرق إلى بقية صفات الأب ومظاهر سلبيته، وخاصة بعد الحادث كما ظهرت فى استقالته، واعتماده على أبيه، ثم ركونه للبقاء فىالمنزل فهذا موجود فى وصف الحال المبدئى وهو يؤكد سلبية هذا الأب وهى التىتناقش هنا بصفة أساسية.