البحث عن التحرر
سامح عبود
كانت ولا تزال تلك القيود تكبلنا، وتحرمنا من الحرية والتقدم والعدل والمساواة والسعادة، حقا لقد حققنا من التقدم على هذا الطريق الشيء الكثير، بفضل هذا التحرر النسبى من تلك القيود، والذى ما تحقق إلا بفضل تلك القدرة المحدودة التى اكتسبناها لـلتمرد عليها، حقا لقد تجاوزنا حيوانيتنا بما تشمله من غرائز وعواطف وإن لم ننفها، وعرفنا الأنا العليا والضمير والعلم والفلسفة والأخلاق والقيم والمثل العليا، وباختصار سرنا على درب الحضارة التى هى قصتنا منذ تركنا الوحشية وإلى الآن. وقد تنازعنا منهجان متناقضان فى التفكير والسلوك، أحدهما كان يدفعنا قدما على الطريق، والآخر إن لم يستطع أن يدفعنا للخلف فكان ولا يزال يعرقل تقدمنا. وكأن ما وصلنا إليه الآن من نقطة فى رحلة لا نعرف متى تنتهي، هو محصلة نهائية لتفاعل المنهجين سواء أكان هذا التفاعل صراعا أم إمتزاجا، بتلك الدرجة أو تلك. نسمى المنهج الأول بما يشمله من خصائص بالمنهج العلمي، ونسمى الآخر بما يشمله من خصائص بالمنهج الخرافي،
والمنهج العلمى لم يتشكل مرة واحدة كما لم يكن كذلك المنهج الخرافى وإنما كان نشوؤهما وتطورهما عمليتين عبر الزمن وصلتا إلى ما وصلتا إليه الآن من تطور فى هذه اللحظة الزمنية التى نعيشها، إلا أننا لا يمكن أن نـتنبأ بما يمكن أن يؤول إليه الأمر فى المستقبل، فالمغامرة الكبرى التى بدأها الإنسان لم تنته بعد، بل تشير بعض المؤشرات أن الإنسان على شفا تحول خطير فى رحلته التطورية العظيمة بما يمكن أن يحققه من انتصارات واكتشافات تتيح له سيطرة أكبر على الطبيعة، والمزيد من التقدم على مستوى الكيف وليس الكم فحسب.
وعند هذه النقطة من الرحلة يحتاج الإنسان لنوع جديد من الفلسفة، لنوع جديد من الإجابة على الأسئلة الكبرى التى ما وجدت الفلسفة إلا لاكتشافها.
ولا أزعم مطلقا أنى قادر بأى حال أن أقدم هذه الإجابة، وإنما كل ما أحاوله هو مناقشة كيفية الوصول للإجابة.
أعتقد أننا فى حاجة لنوع من فلسفة العلم، ولنوع من فلسفة الحياة، وكلاهما يشبع احتياجات إنسانية مرتبطة بالنوع الإنسانى كانت الميتافيزيقا – ولا تزال – تشبعها.
فالعلم قد حل أو يحل فعلا محل الفلسفة فى معظم مباحثها الباقية، ولم يبق لها سوى الميتافيزيقا والتى آن أن تذهب للجحيم كل محاولات الإجابة عن طبيعتها، تلك المحاولات التى لم يجن منها البشر الا الحصرم وقبض الريح. أما العلم فقد جنى منه البشر كل ما قد حققوه من تقدم مادى وفكرى ومعرفى وكل ما قد حققوه من تحسن فى شروط حياتهم.
وأما ما أقصده من العلم بالتحديد، فهو التراكم المعرفى المتزايد الذى يحصل عليه البشر من أجل فهم الواقع المحيط بهم طبيعيا كان أم اجتماعيا، وفهم الإنسان لنفسه باعتباره جزءا من هذا الواقع . . وهى العملية التى تحدث عبر التأثير المتبادل بين البشر والواقع المحيط بهم.
فالمعرفة هى نتاج الاحتكاك المتبادل بين البشر والطبيعة أثناء عملية العمل والتى نرصد من خلالها الظواهر المختلفة للواقع، ونقوم بالتجريد النظرى لها، ونفسرها بشتى مناهج البحث العلمى المعروفة، الذى توحدها على اختلافاتها شروط عامة سآتى على ذكرها بعد قليل. إلا أنى مازلت أعتقد أن المعيار الوحيد للحقيقة التى هى هدف العلم الأول هو الممارسة العملية. ولكن ليس بالمعنى البراجماتي، ولكن بمعنى أن اقتراب نظرية علمية من الحقيقة، يعنى قدرتها الأعلى على التفسير الأفضل للواقع من بين نظريات أخرى متنافسة فى تفسير ما ترصده من ظواهر، وأن المحك الوحيد المقبول هو استخدامها عمليا فى التنبؤ الصحيح بتطورات الظواهر، وفى القدرة على استخدامها فى التأثير على الأشياء التى تكون الواقع هذه هى الحقيقة الموضوعية التى تهم كل من يودون تغيير الواقع وإحداث المزيد من التقدم فى رحلة الجنس البشرى التى بدأها منذ تجاوز حدود الحياة الوحشية إلى حالة الحضارة. تلك الحقيقة الموضوعية هى ما يحصل عليها البشر فعليا فى حياتهم الواقعية وليس عبر التأملات النظرية.
فلينس البشر وإلى الأبد أنهم وأرضهم مركز هذا الكون. وعليهم أن يعلموا علم اليقين أن وزنهم بأى معنى موضوعى أو تاريخى بالنسبة للوجود هو شيء أقرب ما يكون للصفر وأن الحقائق الموضوعية التى من الممكن أن يحصلوا عليها هى من الضآلة بحيث لن تجعلهم قادرين على الوصول للحقيقة المطلقة. . للكل – المجرد بالمعنى الفلسفى وبالتالى فعليهم التخلص من المذاهب والأنساق الفكرية الجامعة المانعة الشاملة التى تزعم أنها المعبرة عن الحقيقة المطلقة والفكرة المطلقة . . والتى تجد فيها الإجابة عن كل سؤال، والتى لا تترك شاردة ولا واردة إلا وفسرتها.
إلا أن البشر بالمعنى العلمى يصلون فعلا لحقائق مطلقة جزئية هنا وهناك، وهم يقتربون من حقائق مطلقة أخري، ويصلون لحقائق نسبية أيضا، وإنهم يحققون تراكما معرفيا من تلك الحقائق ثبتت جدارته بالممارسة العملية، وهو ما يقربهم من فهم أوسع للواقع بشكل تدريجي. وهم يجردون ويعممون الظواهر الواقعية فى نظريات وقوانين إلا أن هذا الفهم العلمى للواقع ليس هو الفهم المطلق المانع الجامع الشامل الكلى القدرة، وهو فهم عليه التخلص تماما من أحادية الجانب التى ألاحظ أنها السمة المميزة لمعظم الإنتاج العلمى والفكرى حتى عهد قريب. فكل الأشياء التى تكون الوجود وكل العمليات التى تشكل جوهرها وكل الظواهر الناتجة عن هذه العمليات، هى من التعقيد وتعددية الجوانب والمستويات، مما يجعل الوصول لحقيقتها مشروط بعدم الاكتفاء إطلاقا بالنظر إليها من أحد هذه الأوجه والجوانب وفقط . . فهذا لن يؤدى بنا إلا لحقائق نسبية أو جزئية أو مشوهة. . وهذا ينطبق أيضا على أحادية السبب، فالنتيجة الواحدة قد تكون لسبب أو لآخر. .أو لتفاعل مجمـل شروط أو أسباب متعددة. . كما أن نفس السبب قد يؤدى لنتائج متعددة.
تتميز فلسفة العلم عن فلسفات التأمل الميتافيزيقى بأنها تبحث عما يميز العلم باعتباره كذلك عن شتى أنواع الوعى البشرى (الايديولوجية، الدين، الفن) على سبيل المثال وكذلك البحث عن الخصائص العامة التى لا ينفرد بها فرع من فروع العلم عما سواه، وإنما تجدها متجسدة فى قوانين وحقائق العلوم المختلفة، هذه الخصائص هى ما يمكن الوصول إليه من خلال عملية تجريد لحقائق العلوم المختلفة.
فإذا كان الوجود هو كل ما هو مستقل عن وعينا به، هو فى حقيقته أشياء موضوعية تدركها العلوم المختلفة، كل فى مجال اهتمامها وبحثها. إلا أن هذه الأشياء التى تكون ذلك الوجود على تنوعاتها المختلفة، وعلى الرغم من كل هذا التنوع، هى عمليات متبادلة ومترابطة بين أشياء أخري، فالوجود سلاسل هائلة متشابكة من العمـليات التى تشكل جوهر الأشياء الواقعية، فأى شيء من أشياء الوجود مرهون وجودا وعدما بالعملية التى تجرى بين مكوناتة أو بينه وبين أشياء آخري، وهذه العمليات هى التى تتجلى لنا فى مظاهرمختلفة ندركها من خلال حواسنا وامتداداتها من أجهزة، لتنعكس أخيرا فى عقولنا فى صورة وعي.
فالفقرة السابقة هى تجريد ينتمى للعلم، يتم من خلال رصد لحقائق موضوعية، وهو ما يمكن اختباره بالممارسة العملية، إلا أنها فى نفس الوقت لا تنتمى لفرع من العلم دون سواه، وإنما تنتمى لـلعلم باعتباره كذلك، فهى أشبه ما تكون بالتجريد الرياضى منها بالتجريد المتيافيزيقي. هذا النوع من التجريد هو ما أقصده بفلسفة العلم.
أما عن فلسفة الحياة، فإنى أرى أنها مسألة فى غاية الأهمية، ذلك لأن غياب إجابة موضوعية عن كيف يحقق الفرد سلامة النفس، ويضمن لنفسه سعادة حقيقية فى ظل مجتمع مريض يدفع ببنيته وعلاقاته الداخلية أفراده إلى التشوه والمرض والتعاسة، هى سبب ظاهرة انتعاش وصعود الخرافية فى شتى بقاع الأرض، رغم كل ما قد حققه البشر من تقدم علمي، وأن هذه الظاهرة بفروعها المتعلمة فقط، إنما تنتشر فى البلدان المتقدمة وفى الأوساط المتعلمة بل والعلمية كذلك، فلا العلم ولا فلسفته بكافيان للقضاء على الخرافية، طالما استمر الاغتراب والتشيؤ. . وهى ظواهر مصاحبة لـلبنية الاجتماعية الحالية ونمط الإنتاج السائد. إلا أن هذا الاحتياج لهذا النوع من الفلسفة، سيظل ضروريا مهما تغيرت الأنظمة الاقتصادية والاجتماعية. لارتباط هذا الاحتياج بالنوع الإنسانى فى حد ذاته، فسيظل البشر إزاء كل من الموت والمرض والفشل والرغبات المكبوتة والآمال المحبطة والخوف والجهل والدهشة، أسرى نوعهم الحيوانى اللهم إلا إذا تغيرت هذه الطبيعة. ومن ثم فسيظلوا فى احتياج دائم لفلسفة من فلسفات الحياة تعينهم على المقاومة والتجاوز ليس عبر الخرافات والأوهام العصابية، وإنما عبر فهم علمى للحياة الإنسانية.
وأعتقد أنى توصلت لإجابة ما بهذا الشأن تتلخص بالإضافة إلى ضرورة تحقيق المعنى للحياة عبر نمط حياة مغاير عن نمط الحياة المغترب، والتحرر من التشيؤ بعلاقات أكثر إنسانية، وهى التمسك بسمات المنهج العلمى فى السلوك وطريقة التفكير على المستويات الفردية والجماعية – العامة والخاصة. وأعتقد أن علم النفس مثلا لا يهتم سوى بالمرضى النفسيين والعقليين. أما الإنسان السوى فلا سبيل أمامه إلا النضال ضد أسباب الاغتراب والتشيؤ أو الاستسلام للخرافات، ولهذا الإنسان السوى المضطرب تتوجه فلسفة الحياة بالإجابة ليصبح أكثر قدرة على مقاومة أسباب الاضطراب على الرغم من استمرارها. ولا شك أن هذه الإجابة لابدو أن تؤسس على حقائق العلم، وألا تتضمن تشويها للواقع أو تبشيرا بأى أوهام خرافية. وإنما المسألة تقتصر على كيف نفكر وذلك على نحو يضمن لنا السلام النفسي، ولاشك أن التاريخ البشرى يزخر بفلسفات من هذا النوع تحولت عبر الأيام إلى أديان كالبوذية والكونفوشية والطاوية التى انزلقت بدورها إلى عالم الأوهام والخرافات. كما حاولت الوجودية وبعض مدارس اليسار الجديد أن تفعل ذلك إلا أنها أيضا أخفقت فى تقديم تصور واضح ومتكامل، وأخفقت فى أن تنقذ الغالبية الساحقة من البشر من تداعيات مجتمع الاستهلاك المريض من الانزلاق إلى الخرافية.
الإجابة التى أحاول تقديمها هنا هى ما يجب أن تشتمل عليه كل من فلسفة العلم وفلسفة الحياة من خصائص أساسية لطريقة التفكير ومناهج البحث العلميتين والتى تصلح فى رأيى كمعيار للسلوك وطريقة التفكير فيما يتعلق بكل مجالات الحياة البشرية مما يجعلها صالحة كفلسفة للحياة فى نفس الوقت.
وهذه الخصائص سأحاول تلخيصها على النحو التالي:
إذا كان التراث الإنسانى يتضمن تراكما هائلا من المنقول يتزايد بمرور الوقت، فإننا نكون إزاء طريقتين فى التعامل مع هذا المنقول سواء أكان شفاهيا أم نصيا: إما أن نذعن لما نتلقاه من مؤثرات وأفكار ومنقول ونصوص دون نقد حقيقى لجوهر هذه الأفكار والنفاذ لحقيقتها من خلال اختبارها فى الواقع، ونحن فى هذه الحالة نخضع لها ببلاهة خائفين من نقدها، لاغين ما نملكه من قدرة على الفهم الصحيح. وإما أن نمارس نقدا للواقع من حولنا، وللأفكار المنقولة إلينا محاولين النفاذ لحقيقة الأشياء عبر الاختبار والتجربة، وهنا نتحرر من سلطة النصوص والتقديس الأعمى للأسلاف مهما بلغ شأنهم، وفى هذه الحالة فنحن لا ننشد سوى الحقيقة كما هى فى الواقع لا كما هى فى النص أو المنقول، مدركين فى هذا أنه ليس هناك تطابق بين المعرفة الصحيحة والطريقة النقدية، وبين المعرفة الخاطئة والطريقة النـقلية، وأن كل معرفة نقدية تصبح نقلية بعد ذلك وأن القدرة على النقد قدرة تاريخية وليست مطلقة، وأن ليس كل نقد هو نتاج طريقة نقدية كما أن كل نقل لا يجب أن يكون بالضرورة نتاجا لعقلية نقلية. كما أن الطريقة النقلية تمارس النقد أحيانا استنادا للإذعان لمنقول ما.
إذا كانت الطريقة النقلية تتسم بالقدرة المفرطة وغير المنطقية على التيقن بقضايا لا يمكن التيقن منها وفق آليات الضبط العلمى فى الوصول إلى اليقين، وهى الآليات التى حددها المجتمع العلمى عبر مئات السنين، وتحققت بسببها الثورة العلمية والحضارية التى شهدتها الإنسانية فى العصر الحديث، والتى تتحدد فى عدة مناهج للبحث العلمى بهدف الوصول للحقيقة المنزهة عن الغرض والقابلة للرفض باستمرار عبر البحث العلمى وهو ما يميزها عن كافة أشكال الوعى الإنسانى التى لا تقبل الرخص والنقد ومن ثم لا يتم التعامل معها الا بمنطق الإيمان أو الكفر ومن هنا فالطريقة النقدية تتسم بالقدرة على الشك المنهجى فيما ينقل إليها، واليقين فقط بما يمكن التيقن منه، وفق آليات الضبط العلمي.
- إذا كانت الطريقة النقلية تتبنى إحدى المنظومات الفكرية المنقولة إليها ككتلة جامدة لاتمتزج ولا تتأثر بغيرها من المنظومات، ولا تقبل هذه المنظومات بالتخلى عن أحد أجزائها فإنه على النقيض من ذلك فإن الطريقة النقدية لا تتلقى الأفكار والمنظومات بإذعان تام، وإنما بروح النقد العلمي، ولذلك فهى تفتح كل حواسها وكامل قدرات عقلها، لكل ماتتلقاه بل إنها لاتكل ولا تمل من البحث عن الحقيقة التى لا يمكن لها أن تصل إليها، إذا ما تعاملت مع الآخر بمنطق النفى المطلق، بل ونظرا لحيويتها فإنها تصبح قادرة على تناول ما تجده من مظاهر محيطة بها وتهضمها وفق مناهج العلم: بالتحليل والتركيب والتجربة . . إلخ وتمتص ما يتوافق مع هذه المناهج، وتلفظ ما لايتوافق معها، وبما تمتصه وتستوعبه باختباره فى الواقع ينمو أفقها ويتسع، وتدرك العالم كما هو فى الواقع لا كما هو فى المنقول والنص والخرافة والخيال.
- تتمسك الطريقة النقلية بمنظومة من الأفكار، ولاتقبل لنفسها أن تتأثر بغيرها من المنظومات، وبالتالى فهى تمتنع عن التصرف الحقيقى على غير هذه الأفكار التى تتمسك بها لمجرد أنها منقوله إليها من سلف ما تكن له التقديس، وفى هذه الحالة من النفى للآخر تتجمد العقـلية النقلية بما تحمله من أفكار ومن ثم تصطدم بالجديد، وما تلبث أن تتحطم نتيجة تصلبها، ليمر على حطامها الجديد، فحيث يتغير الواقع لابد وأن تتغير الأفكار، وهو مالا يمكن أن يحدث أو نتبنى أفكارا ذات مرونه كافية تسمح بغربلة عناصر الفكر الإنسانى وتطويرها لتتناسب مع الوقائع الجديدة، فتغيرات الواقع هى النيران التى بفضلها تتغير الأفكار.
- إذا كانت الذاتية هى الانطلاق من الذات فى الحكم على الأشياء من حولها، وفهمها وتحديد المواقف منها والتصرف معها انطلاقا من المشاعر والرغبات والتجارب الشخصية والمصالح والميول والأهواء الشخصية، وإعطاء كل هذا الأولوية على مشاعر ورغبات وتجارب ومصالح وميول وأهواء الآخرين، وبصرف النظر عن الموضوعات التى تكون العالم وإذا كانت الذاتية هى رؤية تجعل ما هو خارج الذات تابعا لهذه الذات موضوعيا، أى تراه منبعثا عنها، وفاقدا لاستقلاله فإن الطريقة المضادة فى التفكير والسلوك مشتقة من الموضوع فهى موضوعية، حيث أن العالم من حول الذات هو عدد لانهائى من الموضوعات المتشابكة والمترابطة – طبيعية واجتماعية وفكرية – والطريقة الموضوعية فى التفكير واتخاذ القرار والتصرف هى انطلاق الشخص فى حكمه على الأشياء من حوله وفهمها والتصرف إزاءها وتحديد موقفه منها من الحقائق الموضوعية ومن الواقع ومن الموضوعات وإعطاء كل هذا الأولوية على المشاعر والتجارب والرغبات والميول والأهواء والمصالح الذاتية، ويصرف النظر عن كل هذا وإذا كان العلم موضوعيا بطبيعته فإن الموضوعية والذاتية لا يعنيان إطلاقا استبعاد أى منهما للطرف الآخر، وإنما إخضاعه، فإما إخضاع الذات للموضوع أو العكس وفى هذه الحالة فالخرافية تعنى إخضاع الموضوع للذات فى حين أن العلمية تعنى إخضاع الذات للموضوع فالموضوعية لابد وأن تعترف بالذات باعتبار الذات ظاهرة موضوعية ولكنها تضع البنية أو الكل (أى الواقع الموضوعي) كشرط مسبق وحاكم لوجود الذات وطبيعتها بعكس الذاتية التى على العكس تعتبر العالم بكل موضوعاته من إنتاج ذوات، وبالطبع فإننا لا يمكن أن نفصل وعلى نحو مطلق بين الذات العارفة والموضوع الخاضع للمعرفة ومن هنا نسبية الحقيقة العلمية كما تنعكس كل من الذاتية والموضوعية فى السلوك الإنسانى على نحو متناقض ومعقد مما يستدعى دائما أن نعرف ما هى المناطق التى تفضل فيها الذاتية وما هى المناطق التى تفضل فيها الموضوعية من زاوية سيادة أى منها على الأخري.
- إذا كانت الرومانسية هى إعلاء مشاعر الذات على الحقائق الموضوعية، وهى خيال نابع من تقديس المشاعر الذاتية بوصفها كذلك ومن حيث هى كذلك، باعتبارها حقيقة ومعنى وقيمة فهى تضفى الخرافة على الذات ومشاعرها، أما الواقعية فهى إعلاء الحقائق الموضوعية على مشاعر الذات ومن ثم فهى تخلف العلم والقدرة على التأثير فى الواقع من خلاله.
ولأن كلا من الرومانسية والواقعية هما امتدادان لكل من الذاتية والموضوعية فإنهما ينعكسان بدورهما فى الوعى والسلوك البشريان على نحو متناقض ومعقد مما يستلزم تحديد ما يحكمانه من مساحات فى الوعى البشري، وإذا كان الوعى البشرى قد استهجن حصر الواقع الإنسانى فى إشباع الغرائز مما أدى إلى طفرة فى التطور فإن عليه ولكى يقفز إلى المزيد من التطور أن يستهجن حصر الواقع الإنسانى فى المشاعر الذاتية.
- لدينا دائما طريقتان فى التفكير: الأولى هى اللاتاريخية، والتاريخ لديها هو مجرد مرور للزمن وليس تطورا للأشياء عبر الزمن، ومن هنا فهى بحث دائم عن جوهر ثابت يتخطى التاريخ، جوهر لاتجرى عليه تحولات عبر هذا التاريخ . . أى أنها تنطلق فى بحثها لفهم الشيء محل البحث، والثانية هى التاريخية وهى تنطلق فى فهمها للأشياء محل البحث فى تحولاتها، فى تاريخيتها، كيف نشأت؟ وكيف تتطور وتتحرك؟ وكيف ستتحول لأشياء أخري؟ فهى تدرك حركة وتغير الأشياء المستمرة ولاتفهمها الا فى سياق هذه الحركة أى من حيث هى عملية .. والطريقة الأولى هى الطريق نحو الخرافة خرافة الثبات والخلود والنهائية فى الأشياء والطريقة الثانية هى الطريق نحو فهم أدق للواقع الذى لا يعرف ثباتا أو خلودا أو نهائية.
- عند تفسير الوجود من حولنا بكل ما فيه من أشياء ومظاهر وعمليات، فإننا إما أن نرجعه لأفكار معينة – الصور والمثل والوعي، أو نفسره بما هو عليه، وبما هو كامن فيه من ضرورات واقعية ومن قوى مادية. . الطريقة الأولى فى التفكير طريقة مثالية ترجع وجود المادة وحركتها وتطورها إلى فكر ما سابق على وجود المادة، والطريقة الثانية فى التفكير طريقة مادية ترجع وجود المادة وحركتها وتطورها إلى قوى مادية كامنة فى طبيعة المادة.. وإذا كان لدينا مادة ووعى فعلينا أن نعرف إذن كيف ينشأ الوعى هل هو سابق على المادة أم لاحق عليها وهل يمكن لنا أن نعرف الواقع من حولنا أم لا؟ وإذا كان يمكن لنا أن نعرف الواقع فهل لـلمعرفة حدود؟ وعلى هذه الأسئلة أيضا تتحدد الإجابات وفق نظرتين! فإذا قلنا أن الوعى سابق على وجود المادة فنحن مثاليون أما إذا قلنا العكس وهو أسبقية المادة على الوعى فنحن ماديون، وإذا قلنا بعدم إمكانية معرفة العالم من حولنا أو أن هناك حدود لهذه المعرفة، لا يمكننا تخطيها فنحن لا أدريون، و إذا قلنا بالعكس فنحن أدريون. ولاشك أن هناك مجالات يمكن لنا أن ندونها أو نعرفها الا أن هناك مجالات أخرى تستعصى على فهمنا وإدراكنا.
الا أن الخرافات عموما تقوم على أساس النظرة المثالية للعالم فى حين أن العلم لا يقوم إلا على أساس النظرة المادية للعالم، من حيث إرجاعه ما يحدث فى الواقع لما هو كامن فى الواقع من قوى وضرورات، والاعتراف بإمكانية معرفة العالم، والا لما كان ضروريا أن نبحث عن الحقيقة، مادمنا مقتنعين بعدم قدرتنا على ذلك.
- تقوم النظرة المثالية عموما على الإيمان بالمطلق، بالحقيقة المطلقة الشاملة الثابتة والخالدة، التى تمثلها الخرافة أو المطلق الفلسفى أو الفكرة المطلقة ولو أن هذه المطلقات شابتها النسبية لما كان هناك من داع للإيمان القطعى بها فإذا كان المطلق عكس النسبي، حيث أنه ثابت بالنسبة للجميع، فإن النسبى يختلف من شخص لآخر، ومن ثم فهو يقيم بمعيار المعرفة والجهل، فى حين أن المطلق المتجاوز لإمكانية المعرفة البشرية لايقيم الا بمعيار الإيمان والكفر. . والحقائق العلمية مطلقة فى حدود المعرفة البشرية النسبية ومن هنا نسبية الحقيقة العلمية ونسبية كل ما فى الوجود من أشياء ومظاهر وعمليات فهى لايمكن أن تفهم الا من خلال العلاقات المعقدة التى تربطها والأوجه المتعددة لها وفى سياق تاريخى معين ومن ثم فالفهم البشرى هو فهم نسبى وإن كان يصل لحقائق يمكن من الاستفادة منها فى تحقيق أهدافه.
تستند العقلية المحافظة على خرافة تقديس المنقول والتراث والنص والأسلاف بسبب إضفائها صفات القداسة ومن ثم الثبات على مجموعات محددة من العادات والنقاليد والأعراف الاجتماعية الموروثة فى حين أن العقلية التقدمية تستند على أن كل ما هو منقول هو قابل للنقد والرفض والتفنيد، ولديها فلاشيء مقدس وثابت ونهائى وقصة التقدم البشرى هى قصة النقد والتمرد والشك وبرغم القدرة البشرية المحدودة والمقموعة اجتماعيا على ذلك فإن كل ما حققه الإنسان ماتم إلابفضل النقد والتمرد والشك ومن ثم التقدم.
هذه هى بعض خصائص المنهج العلمى الذى أعتقد أنه يصلح كفلسفة للعلم والحياة وهى ليست خصائص بحكم طبيعتها جامدة أو مقدسة أو نهائية أو كاملة وإنها بلاشك سوف تخضع للتطور والتغير والاكتمال عبر رحلة البشر نحو الآفاق المجهولة لتطورهم.