قراءة نقدية فى مناهج التراث:
الإســــناد
د. أحمد صبحى منصور
تقديم ودعوة
كررنا حتى أمللنا: أن هذه المجلة هى مجلة النقد الحياتى والمنهجى و العلمى ..إلخ، ولا شك أن أحوج ما نحتاجه هو النظر فى منهج ما يصلنا من التراث قبل وبعد النظر فى محتواه، والدكتور أحمد صبحى منصور لا يتردد أن يفعل ذلك بكل شجاعة وهو يمتلك أدواته الحادة والقاطعة ، ونحن لا نملك أن نوافقه أو نخالفه ، وندع باب الحوار مفتوحا لكل من يريد أن يسهم إضافة أو معارضة ، توضيحا أو تصحيحا، لكننا لا نستطيع أن نكتم فرحتنا أن فينا من يغامر كل هذه المغامرة ليعيد لديننا الحنيف صفاءه ونقاءه وقدرته على مسايرة كل العصور بكل عنفوان مبدع خلاق، ونتذكر أن هذا الاحتمال، وليس السجن المنهجى الجامد أو التفسير الحرفى المعجمي، هو الذى شجع مثل روجيه جارودى أن يعتنق الإسلام، كما نلاحظ أن الدكتور منصور لم ينف السنة مصدرا للتشريع، وإنما هو قد اجتهد فى شرح ما هو المقصود بالسنة، وفرق بينها وبين ألفاظ الحديث المروى التى اكتسبت قداسة منهجية دون النظر فى حقيقة المنهج المرة تلو المرة
مرة أخرى ، نعتز بإسلامنا، ونفرح بمسلمينا، ونرحب بكل رأى يسمح لعقولنا بالحركة والنقد والإبداع ، والله يجزى كل مجتهد بقدر صدق اجتهاده .
التحرير
فى عصر الخليفة المأمون كان الشاعر العتابى يسير فى شوارع بغداد، فدخل السوق وهو يأكل الطعام، وكان ذلك يخالف المروءة أو الاتيكيت لدى أرباب الطبقة العليا، ولذلك احتج عليه صديقه قائلا أتأكل الطعام فى السوق ويراك الناس؟. فقال له العتابى ساخرا: وهل أولئك ناس؟ إنهم بقر فاحتج صديق العتابى وزمجر، فقال له العتابي: سأريك إن كانوا ناسا أم بقرا. ثم صعد الى ربوة ونادى فى الناس يا قوم هلموا أحدثكم عن رسول الله، فتدافع إليه الناس واجتمعوا حوله، وأقبل يحدثهم يقول: روى فلان عن فلان عن فلان أن رسول الله.(صلعم) قال. وظل يخرج من حديث الى آخر وقد تعلقت به العقول والقلوب والعيون، وسيطر على المستمعين، إذا حرك يده يمينا تحركت رؤوسهم يمينا، وإذا أومأ برأسه يسارا التفتوا يسارا، إلى أن قال لهم. . . وروى غير واحد (أى اكثر من واحد) أنه صلى الله عليه وسلم قال: إذا بلغ لسان أحدكم أرنبة أنفه دخل الجنة وسكت. فإذا بكل واحد من المستمعين يخرج لسانه يحاول أن يصل به الى أنفه، وأصبح منظرهم جميعا مضحكا، فالتفت العتابى إلى صديقه ساخرا وقال: ألم أقل لك إنهم بقر؟.
ما الذى جعل عقول أولئك الناس تغيب حتى تتدلى ألسنتهم وهم سكارى غائبون عن الوعي؟ إنه التصديق والإيمان بأن ما يقوله العتابى قد قاله النبى فعلا. وما الذى جعلهم يؤمنون ويصدقون بأن النبى قد قال ذلك الكلام؟. . إنه الإسناد أى إنه أسند أو نسب ذلك الكلام للنبى (صلعم) عبر العنعنة، أى قال حدثنى فلان عن فلان عن فلان عن فلان . . الخ . .إن النبى قال. وهذا معنى الإسناد، وهذه هى خطورته على العقل.
تغييب العقل
حسنا. . دعنا نتخيل أن العتابى يسير الآن فى شوارع القاهرة ويركب المواصلات. ويرى شيخا يصعد الأتوبيس يدعو المسلمين للتبرع لإنشاء المسجد الفلانى ويستشهد بحديث من بنى لله مسجدا ولو كمفحص قطاة بنى الله له قصرا فى الجنة ويرى العتابى كيف يسارع الناس الطيبون بالتبرع حتى يضمن كل منهم لنفسه قصرا فى الجنة! هل تريد أن تتوقع تعليق العتابي؟ إذن استحضر عقلك ولا تعطه إجازة وتفكر فى معنى ذلك الحديث المنسوب كذبا للنبى عليه السلام. . إنه يؤكد على أن كل من بنى لله مسجدا بنى الله تعالى له قصرا فى الجنة، مهما كان الشخص مؤمنا أو كافرا، ومهما كان مصدر المال طيبا أو خبيثا، وقد يعنى عند البعض أن السيد نتنياهو من حقه أن يكون له قصور فى الجنة إذا بنى بضعة مساجد، ويعنى أيضا أن كل مختلس وظالم وناهب لأموال الناس يستطيع إذا بنى ببعض أمواله الحرام مسجدا أن يدخل الجنة. هل يتفق ذلك مع تشريع الإسلام؟
ثم أن الحديث الذى يبيع قصور الجنة لكل من يتبرع ببناء المسجد يحدد لنا منذ البداية أقل مساحة مقبولة للمسجد، يقول من بنى لله مسجدا ولو كمفحص قطاة أى يكون مساحة المسجد كقدر ما تترك به ساقا القطاة حين تفحص بساقيها الأرض. والقطاة هى طائر صغير الحجم أقل من العصفور الصغير . . وتخيل المساحة التى تصل إليها ساقا ذلك الطائر الصغير. إنها فى حدود 5 سم2، أى من بنى لله مسجدا ولو كانت مساحته 5سم 2 بنى الله له قصرا فى الجنة حتى لو كان من مال حرام، وحتى وقد يتصور أنه حتى لو كان ذلك المتبرع هو إسحق شامير أو مناحم بيجين، وحتى إذا كان ذلك المسجد 5 سم 2 لا يستطيع دخوله إلا النمل والصراصير الوليدة . . . هل يعقل أن يتكلم النبى بهذا الكلام؟!!
ولكن هذا الحديث تم إسناده أو تمت نسبته للنبي، وراوه ابن ماجه فى مسنده عن فلان عن فلان. وآمن الناس بصحة ذلك الإسناد. ومن هنا فإن ذلك الحديث الكاذب هوالمسئول عنإاقامة 38 الف مسجد وزاوية فى القاهرة الكبرى فى العشرين سنة الماضية، وأغلبها تنشر ثقافة التطرف عبر أحاديث مسندة أو منسوبة للنبى زورا، وهى تخالف القرآن والسنة الصحيحة للنبى عليه السلام، وبدلا من أن تتوجه الأموال لبناء مساكن للشباب والعائلات التى تسكن المقابر، فإنها توجهت لبناء مساجد أيديولوجية، تزيد عن حاجة المسلمين الذين يستطيعون الصلاة فى كل مكان، ومع العلم بأن حق ابن السبيل فى تشريع الإسلام ثابت فى الزكاة الرسمية والصدقة التطوعية والفيء والغنيمة، ولا يصح الالتفات لرعاية أبناء السبيل من الأغراب إلا بعد ضمان المسكن والطعام لأبناء البلد، فكيف إذا كان أبناء البلد أنفسهم لا يجدون السكن بحيث ضاعت أحلام الشباب فى الزواج و أصبحت العنوسة أزمة مستفحلة. . ومع ذلك تفاقمت تلك المشاكل لأن اموال الصدقات استنفدها أرباب الصحوة السلفية فى بناء عشرات الألوف من المنابر التى تؤسس لدولتهم القادمة! ومن دعائم تلك الدولة ثقافة التراث للعصور الوسطي، تلك الثقافة التى أصبحت مقدسة عبر الإسناد، أى عن طريق نسبتها زورا للنبى عليه السلام. . مهما خالفت العقل والإسلام.
إن الإسلام هو دين العقل، بل إن التعقل أو استعمال العقل هو سبب إنزال القرآن (يوسف 2، الزخرف3)، ولكن الإسناد أوجد خصومة مستحكمة بين المسلمين والتعقل، بحيث يكفى أن يصعد أى محتال ليقول قال رسول الله كذا فيسارع الناس بتصديقه ويمتثلون لما يقول دون أى تفكير، لا فارق فى ذلك بين مثقف أو عامي، وسواء كان ذلك فى المسجد أو فى وسائل الإعلام أو وسائل المواصلات. أى فى كل زمان ومكان أنت محاصر بالإسناد. .
الإسناد قضية علمية
ومنذ عشر سنوات تقريبا جاءنى صديق منزعج، قال إنه فوجيء ببلدته بالصعيد وقد سيطر عليها الشباب السلفى وأعادوها لما كان عليه السلف، ومن ذلك انهم أوجبوا على العريس ليلة الدخلة أن يحمل عروسه الى بيته وهى داخل زكيبة أو شوال، لأن ذلك ما جاء فى السنة والأحاديث. فقلت له إنهم قرأوا خطأ ذلك الحديث القائل بأنهم كانوا يدخلون بالنساء فى شهر شوال، وكانت نكتة هائلة، وعاد صديقى الى أهل بلدته وقرأ لهم الحديث بالتشكيل الصحيح، وأنقذ بذلك بنات القرية من تجربة التعبئة فى الأشولة والزكائب. . إلا أن مشكلته معى لم تنته لأن صديقى أصبح يعتقد بوجوب أن يتم الزفاف فى شهر شوال، دون غيره من الأشهر، طالما أن إسناد الحديث صحيح للنبى حسب اعتقاده. وسئمت من النقاش معه فى موضوع الإسناد، فقلت له اخيرا: إذن أنت تؤمن بأن النبى قال ذلك الحديث فعلا؟ فقال فى ثبات: نعم، قلت له: وهل تقسم بالطلاق من زوجتك أن النبى قال ذلك؟ عندها بهت وسكت ولم يرفع رأسه. . قلت له: هل لو قرأت عليك سورة قل هو الله أحد وطلبت منك أن تقسم بالطلاق أن الله تعالى قال ذلك وإنه من القرآن، هل ستفعل؟ قال: نعم . . قلت وهذا هو الفرق بين القرآن وكثير من أحاديث التراث.
اذا جاءك أحد بآية قرآنية فلن تطالبه ببرهان أو إسناد، طالما تؤمن بالقرآن، أما إذا قيل لك حديث منسوب للنبى فإن من حقك – بل من واجبك – أن تسأل عن إسناده أو عن دليل نسبته للنبي، فالقرآن قائم على أساس الإيمان، أما الحديث المنسوب للنبى فهو قائم على الشك. ولعلاج هذا الشك اخترعوا الإسناد، أى أن ذلك الحديث رواه فلان عن فلان. . الخ حتى النبي، وعن طريق الإسناد يمكن لهم الترجيح بأن النبى قال ذلك الحديث أو لم يقله، وبمعنى آخر فالحديث مثل جدار يريد أن ينقض ويقع فيقوم الإسناد بإسناده حتى لا يسقط وينهار. ومن هنا فالقرآن قضية إيمانية أما الحديث فليس قضية إيمانية، وإنما هو قضية علمية عندهم، تدخل فى باب البحث والاجتهاد وليس قى قضايا العقيدة واليقين، ولذلك اختلف علماء الجرح والتعديل فى مدح راو أو تجريحه، وفى إثبات حديث ما أو نفيه، فالإمام مسلم فى صحيحه لم يكتف بما قاله البخاري، أستاذه، ولم يأخذ بكل أحاديثه ولم يترك ما تركه البخارى من احاديث، فجاء صحيح مسلم مختلفا عن صحيح البخاري، ثم جاء الحاكم فاستدرك على البخارى ومسلم، وقبلهم جميعا كان أحمد بن حنبل مختلفا فى مسنده ثم جاء المتأخرون أكثر اختلافا. ولأنها قضية علمية عندهم تقوم على الاختلاف فى وجهات النظر فإن أحدا لم يحكم بتكفير أحد. . إذ هى امور ظنية بحثية إنسانية وليست من أمور العقيدة والدين. . أما القرآن فهو محل الإيمان والتصديق لكل مسلم، ولذلك فإن الله تعالى يؤكد فى آيتين أن الحديث الوحيد الذى ينبغى أن نؤمن به وحده هو حديث الله تعالى فى القرآن الكريم فبأى حديث بعده يؤمنون: الأعراف 185، المرسلات 50 بل أكثر من ذلك يجعل الله تعالى الإيمان به وحده إلها لا شريك له قرينا بالإيمان بحديثه فى القرآن وحده، يقول تعالى تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق فبأى حديث بعد الله وآياته يؤمنون، ويل لكل أفاك أثيم، يسمع آيات الله تتلى عليه ثم يصر مستكبرا كأن لم يسمعها فبشره بعذاب أليم: الجاثية 6:8.
وفى الوصية الأخيرة من الوصايا العشر فى القرآن الكريم يقول تعالى عن القرآن وأن هذا صراطى مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلك وصاكم به لعلكم تتقون: الأنعام 153 فالقرآن أتى من الله تعالى طريقا مستقيما لنتبعه وحده، ولا نتبع الطرق والسبل الأخرى حتى لانقع فى الاختلاف، وفى هذه الآيه الكريمة تأكيد على أن القرآن هو المصدر الوحيد للاسلام، فالطريق المستقيم لا يكون إلا واحدا وحيدا، حيث إن الخط المستقيم لا يتعدد فهو أقصر الطرق التى توصل بين نقطتين. أما الطرق الأخرى فتقوم على الاختلاف والظن والريب، ومن المعلوم أن الروايات والأسانيد لها طرق وسبل متفرقه. ويؤكد علماء الحديث أنها كلها ظنية، أو كما يقول تعالى عن القرآن وغيره من الطرق والسبل وإن تطع أكثر من فى الأرض يضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون: الانعام 116 وهذا خطاب النبى نفسه أنه إذا أطاع أكثرية البشر أضلوه عن القرآن وأبعدوه عنه حيث يتبعون الظنون والأوهام. وهكذا فإن النبى يتبع القرآن وحده. وبذلك تتابعت الأوامر للنبى بأن يتبع ما يوحى الله إليه فى هذا القرآن وأن يتمسك به، ويقول تعالى للنبى عليه السلام ولنا عن القرآن كتاب أنزل إليك فلا يكن فى صدرك حرج منه لتنذر به، وذكرى للمؤمنين، اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء: الأعراف 2:3 فهناك أمر ونهي، أمر باتباع القرآن ونهى عن أتباع غيره، حيث إنه وحده الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وحيث كان النبى متبعا للقرآن – ومنهم الأنبياء – على أساس الكتب السماوية وحدها.
والكتاب السماوى واحد فى أساسياته، مهما اختلفت اللغات والظروف. وليس فى أى كتاب سماوى ما كان يعرف بالإسناد، وإنما هو كلام الحق تعالي، إن شئت آمنت به وإن شئت لم تؤمن، وحسابك عند ربك يوم القيامة.
الإسناد يناقض المنهج العلمي
إن الإسناد قضية علمية تترواح بين الشك والإثبات وليست قضية إيمانية، ومع ذلك فإن الإسناد ينقاض المنهج العلمى والتعقل المنطقي.
إن البخارى مثلا عاش فى القرن الثالث الهجرى ومات سنة 256 هـ. أى بينه وبين النبى عليه السلام قرنان ونصف قرن من الزمان. وإذا اعتبرنا الجيل أربعين عاما فإن بين الرسول عليه السلام وبين البخارى ستة أجيال. ( لاحظ أن بيننا وبين عصر محمد على باشا أربعة أجيال فقط). فكيف يستقيم فى المنهج العلمى أن تتداول ستة أجيال كلمة ما، منسوبة للنبى عبر الروايات الشفهية حتى يأتى البخارى ويسجلها بعد النبى بمائتين وخمسين عاما؟ ولنأخذ على ذلك مثلا من أحاديث البخارى . . ونناقشه من حيث الإسناد ومن حيث المتن والموضوع.
ونختار من أحاديث البخارى أهونها على عقلية القاريء التى عاشت على تقديس البخارى بسبب إسناد أحاديثه للنبي. . تحت عنوان باب مباشرة الحائض أورد البخارى أحاديث تؤكد أن النبى عليه السلام كان يباشر جنسيا نساءه أثناء المحيض، ونختار منها هذا الحديث باسناده حدثنا اسماعيل بن خليل قال أخبرنا على بن مسهر، قال أخبرنا أبو إسحاق هو الشيبانى عن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه عن عائشة قالت: كانت إحدانا إذا كانت حائضا فأراد رسول الله (ص) أن يباشرها أمرها أن تتزر فى فور حيضتها ثم يباشرها، قالت: وأيكم يملك اربه كما كان النبى (ص) يملك اربه (صحيح البخارى بحاشية السندى مكتبة زهران مجلد 1 الجزء الأول ص 64).
والحديث السابق ينقسم الى جزأين: السند والمتن.
فالسند هو سلسلة الرواة الذين عن طريقهم تم إسناد الحديث إلى النبي، وهم ستة: إسماعيل بن خليل الذى حدث البخارى بهذا الحديث وكان فى جيل أساتذة البخاري. وقد ذكر أن الذى حدثه بهذا الحديث على بن مسهر، الذى عاش فى القرن الثاني، وهكذا تمتد السلسلة إلى أبى إسحق أو الشيباني، ثم إلى عبد الرحمن بن الأسود، ثم الى أبيه، ثم إلى عائشة أم المؤمنين، التى زعموا أنها قالت متن الحديث ونصه. وأولئك الرواة تسلسلوا عبر الزمن، والبخارى لم ير منهم إلا واحدا هو الذى ادعى أنه حدثه بذلك الحديث. والرواة الماضون الذين عاشوا فى أزمنة متعاقبة لا يوجد دليل على أنهم رووا ذلك الكلام ويستحيل عقلا بالمنهج العلمى إثبات صدقهم فى نقل تلك الرواية عبر قرنين ونصف قرن من الزمان المليء بالفتن والاضطرابات، وعبر ستة أجيال اختلفت ظروفهم، وحتى لو تخيلنا أنهم جميعا عاشوا فى نفس الزمان ونفس الجيل فإن احتمال الكذب والنسيان والاضطراب وارد فى النقل الشفهى لتلك الرواية عبر ستة اشخاص خلال أربعين عاما، بل خلال أربعين يوما بل ربما خلال أربعين ساعة. وهذا واقع فى الحياة العملية حين نتداول قصة حدثت فى يوم وليلة، فيلحقها التغيير والتبديل، طالما رواها أكثر من راو، وكل منهم يضفى عليها من عنده بحيث تختلف عن الأصل، فكيف بمئات الألوف من الأحاديث أسندوها للنبى بعد موته بقرون؟
وحقائق التاريخ فى العلم المسمى بعلم الحديث تؤكد أن اختراع الإسناد تم فى القرن الثانى من الهجرة، حيث تكاثرت الروايات الشفهية وتكاثر الكذب فيها، فاشترطوا إسنادها عبر رواة سابقين كانوا ماتوا فيما بين منتصف القرن الثانى إلى عصر النبي، أولئك الرواة المذكورون الموتى لم يكن لهم علم بذلك الذى أسندوه إليهم من روايات، وعليه فقد تبارى العلماء فى عصر التدوين، فى بداية عصر المأمون فى تسجيل أسماء رواة كيفما اتفق، وهذا ما توصلنا اليه خلال أبحاث متخصصة، ثم وقعوا فى النزاع والاختلاف فى تعديل ذلك الرواى أو تجريحه، تبعا للاختلاف المذهبى والهوى الشخصي، وقد تأسس علم الحديث والجرح والتعديل على أساس الاختلاف والتنازع، حيث كان المختلفون فى الرأى والمذهب والطائفة يعزز كل منهم رأيه باختراع حديث، فحملت الأحاديث أوزار الاختلافات الفقهية والعقيدية والفكرية بين المسلمين فى العصر العباسى وما تلاه.
ونعود إلى حديث البخارى فى باب مباشرة الحائض ونقرر أن متن هذا الحديث قد تكرر فى عدة أحاديث أخري، تنسب للنبى أنه كان يباشر نساءه فى المحيض، وكلها أحاديث كاذبة لأنها تنسب للنبى عليه السلام أنه يخالف القرآن، إذيقول تعالي: يسألونك عن المحيض قل هو أذي، فاعتزلوا النساء فى المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن، فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين: البقرة 222 أى أنهم سألوا النبى عن المحيض، وانتظر النبى الإجابة من السماء فنزلت الآية تؤكد على اعتزال النساء جنسيا فى المحيض وعدم الاقتراب منهن حتى يطهرن، ثم يباح الاقتراب منهن بعد الطهر.
وهنا تناقض جلى بين الآية الكريمة وحديث البخارى بحيث أنك إذا آمنت بالقرآن فعليك بتكذيب البخاري، أما إذ ا آمنت بحديث البخارى فأنت بالتالى تكذب بالقرآن، ومن هنا كان تأكيد الله تعالى على أن الإيمان يكون بأحاديث الله تعالى فى القرآن وحده، وما عداه ليس محلا للإيمان، وإنما هو قضية علمية قائمة على الشك، والحقائق فيها نسبية وليست مطلقة مثل حقائق الإيمان، وبالتالى فإن تصديق الإسناد هو الذى يجعلها إيمانية بالتزوير.
وعموما فإن علم الجرح والتعديل انصب أساسا على فحص الإسناد أو سلسلة الرواة، دون اهتمام يذكر بفحص المتن أو موضوع الحديث نفسه، وقام فحص الإسناد على أساس الهوى المذهبى والشخصي، فلم يحدث اطلاقا أن اتفقوا على أن ذلك الرواى ثقة أو أنه ضعيف، لإن من يمتدحه أهل السنة يهاجمه الشيعة وهكذا بين سائر الطوائف والفرق، ونتج عن ذلك الاختلاف فى الحكم على كل راو فى سلسلة الإسناد أن صارت الأحكام نسبية حتى داخل كل فرقة أو مذهب، وبالتالى قسموا الأحاديث حسب درجتها من الثقة والصحة إلى قسمين كبيرين.
(1) الأول الحديث المتواتر وهو صحيح بدرجة مائة فى المائة، وقد اختلفوا فيه، فقال بعضهم إنه لا يوجد أصلا حديث متواتر مقطوع بصدقه، وقال بعضهم إنه يوجد حديث متواتر واحد وهو حديث من كذب على متعمدا فليتبوأ مقعده من النار وقال بعضهم إنه حديث متواتر ولكنه يخلوا من كلمة متعمدا. ورأى بعضهم أن الحديث المتواتر ثلاثة فقط، وارتفع بعضهم بالأحاديث المتواترة إلى خمسة أو سبعة.
(2) أما القسم الثانى من الأحاديث فهى الأحاديث الآحاد وقد قالوا بأن كل الأحاديث المذكورة فى كتب الأسانيد (السند) هى أحاديث آحاد، أى رواها واحد عن واحد. وهى تفيد الظن ولا تفيد اليقين، ولا ينبغى أن تكون فى العقائد لأن العقائد محل الإيمان واليقين، وذلك لا يكون إلا فى آيات القرآن. وقالوا إن أحاديث الآحاد يمكن العمل بها إذا ترجح صدقها أو إذا اتفقت مع آية قرآنية.
ونعود إلى الإسناد فى حديث الآحاد، وقد قسموا أحاديث الآحاد ( وهى كل الأحاديث فى رأينا) إلى درجات من حيث الصحة من حسن وغريب وضعيف الخ.. وهو بلا شك تقسيم مضحك لأنه يعنى بالنسبة للسند أن النبى قال هذا الحديث بنسبة 70% أو قال ذلك الحديث بنسبة 50% أو 10%. وذلك لا يستقيم مع المنهج العلمي، لأنه إما أن يكون النبى قد قال ذلك الكلام، فتكون نسبة إسناده للنبى هى 100%، وإما أن يكون النبى لم يقل هذا الحديث فتكون نسبة إسناده للنبى هى صفر فى المائة، ولا توسط بين هذا وذاك. وبالتالى فإن المنهج العلمى يستحيل معه إسناد ذلك الكلام للنبى بعد ستة أجيال من الروايات الشفهية، وبعد أن تم اختراع تلك السلاسل من الرواة بعد موت أصحابها بعشرات السنين، والمنهج القرآنى يتفق مع المنهج العلمى فى ذلك.
الإسناد يناقض المنهج القرآني
إن إسناد قول ما للنبى يعنى تحويل ذلك القول أو الحديث أو الخبر إلى حقيقة دينية يكون المسلم مطالبا بالإيمان بها والعمل وفقا لأحكامها، وهذا لا يتأتى إلا للقرآن وحده، فالقرآن كتاب محفوظ بقدرة الله تعالى له بداية وله نهاية، ينقسم إلى 114 سورة، وكل سورة تضم آيات محددة مرقمة، والله تعالى يقول للمشركين عن القرآن وإن كنتم فى ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله: البقرة 23 وبغض النظر عن موضوع الآية وهو تحدى المشركين بأن يأتوا بسورة مثل سور القرآن فإن الآية تؤكد أن ما نزل على النبى هو سور القرآن وحدها، أى أن تلك الأحاديث المذكورة فى كتب التراث ليست من الوحى الذى نزل على النبى وليس هناك فى الإسلام حديث إلا حديث الله تعالى فى القرآن. أما تلك الاحاديث التراثية وأسفارها فلا أول لها ولا آخر، وهى تتناقض حتى فى الكتاب الواحد، وربما فى الصفحة الواحدة.
إن إسناد قول ما للنبى وجعله حقيقة دينية هو اتهام للنبى بأنه فرط فى تبليغ الرسالة، ولم يبلغ بنفسه تلك الأحاديث المنسوبة إليه، ولم يقم بتدوينها وكتابتها كما حدث مع القرآن. لأن تلك الأحاديث لو كانت جزءا من الدين ولم يبلغه الرسول للناس ولم يقم بتدوينه فإن النبى -على ذلك – لم يبلغ كل الرسالة، وإنه ترك جزءا منها يتناقله الناس ويختلفون فيه إلى أن تم تدوينه بعد النبى بقرون ولا يزالون يختلفون أيضا فيه.
إلا أننا نؤمن أن النبى عليه السلام قام بتبليغ الرسالة كاملة وهى القرآن، ولم يكتم منه شيئا، ونزل قوله تعالى يزكى النبى اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتى ورضيت لكم الإسلام دينا: المائدة3 فاكتمل الإسلام باكتمال القرآن، بل ومات النبى بعدها مباشرة، وتروى الأسانيد والأحاديث نفسها أن النبى نهى عن كتابة أى شيء غير القرآن، وأن أبا بكر وعمر وعثمان وعليا قد نهوا عن رواية وكتابة أى حديث منسوب للنبي، ولذلك امتنع تدوين ما نسب للنبى إلى أن جاءت الدولة الدينية العباسية وعصور الفتن والاضطراب العقيدى والمذهبى فتم تدوين أحاديث نسبوها للنبى عبر ذلك الإسناد وهى تحمل كل معالم التناقض مع القرآن وعصر النبى عليه السلام، إلا أن ذلك الإسناد أعطى لها قدسية وحصنها من النقد والنقاش فعاشت حتى الآن بيننا تنشر بيننا التطرف والتخلف وكل ما يسيء للإسلام العظيم.
وعليه فإن الخروج من هذا المأزق يحتم إلغاء ذلك الإسناد، أى قطع الصلة بين تلك الأحاديث والنبى عليه السلام، رحمة بالإسلام وتمشيا مع المنطق والمنهج العقلى والعلمي. ثم ننظر إلى متن الحديث وموضوعه فى ضوء أنه ثقافة تعبر عن العصور التى تم تدوينه فيها. ثم نبحثها من خلال ثقافة عصرها تاريخيا وحضاريا بما فيها من خطأ أو صواب، أى تصبح تراثا معدوم التقديس، كأى تراث بشرى تنعكس عليه أحوال البشر من ارتفاع وهبوط وصلاح وفساد. وإذا نظرنا للبخارى مثلا بهذا المقياس فقد أنصفنا الإسلام ورسول الله عليه السلام، وإلا كنا فى عداد أعداء النبى الذين سيتبرأ منهم يوم القيامة ( الأنعام 112: 116 / الفرقان 30: 31) نقول هذا عن علم ودراسة بما يحتويه البخارى من أحاديث تطعن فى النبى والإسلام، وظلت محصنة من النقد بسبب حماية الإسناد وما أضفاه على البخارى من تقديس ورهبة.
الإسناد يناقض مفهوم الشهادة
وقف المتهم بالقتل فى قفص الاتهام ونودى على الشاهد الأول، سأله القاضي: هل اعترف أمامك المتهم بالجريمة؟ فقال الشاهد: لم أسمعه بأذني، وإنما أخبرنى باعترافه أخي. عندها أسقط القاضى شهادته واستدعى أخاه فقال: لم أسمع اعترافه بنفسى وإنما روى لى ذلك الاعتراف أبي، فأسقط القاضى شهادته واستدعى أباه، فقال الأب: لم أسمع اعترافه ولكن روى الاعتراف لى أبى الذى مات أمس. ومن الطبيعى أن يطلق القاضى سراح المتهم ويطرد الشهود لأنهم ليسوا شهودا، حيث إن الشهادة تكون بالسماع الشخصى المباشر والرؤية العيانية المباشر. . وهذه بالطبع قصة رمزية تؤكد على أن الإسناد عبر أقاويل سماعية خلال عصور متباينة ليس لها أساس قانونى ولا يأخذ بها أى نظام قضائي، فالبخارى لم يعش عصر النبي، وكذلك الرواة الذين سبقوه، والصحابة الذين عاشوا عصر النبى انشغلوا بالفتوحات والفتن المنازعات عن كل ما نسبوه إليهم، وحتى لو رووا أحاديث فمن أين لنا أن نتأكد مما قالوه، وليس بيننا شاهد عاش من عصرهم وبقى حيا قرنين من الزمان، ثم كتب بنفسه ما سمع بأذنيه وما شاهد بعينيه؟ وحتى لو فعل ذلك فإن من حقنا أن نتشكك فيما قال بسبب الشيخوخة وضعف الذاكرة ومنكم من يرد الى أرذل العمر لكى لا يعلم من بعد علم شيئا: الحج 5.
إن الإسناد عبر أجيال من الموتى يناقض الشهادة القانونية، وبالتالى فإنه من الظلم للإسلام أن تقوم تشريعاته -وهى أصل القوانين- على شهادات زائفة لا يأخذ بها القاضى فى المحكمة. ونعتقد أن شريعة الاسلام أقدس من أن تقوم على أدلة زائفة مشكوك فى صدقها. ولهذا فإن التقديس الحقيقى للشريعة أن تقتصر على الكتاب الحكيم، الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والذى كانت سنة النبى هى فى تطبيق القرآن وفق ظروف عصره.
وبالمناسبة نرجع للقرآن فى موضوع الإسناد والشهادة، ونعطى منه ملمحين:
- فالشهادة فى مفهوم القرآن هى الرؤية والسمع وبالحواس، وبالمعاصرة والمعايشة، وهى جزء أساسى من تشريع القرآن. وفى الشهادة على الديون يوجب القرآن تدوين الشهادة حتى فى أيسر المعاملات ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله: البقرة 282 فهل ينطبق تشريع الشهادة فى القرآن وأحكامه على إسناد شهادات منسوبة للنبى فى التشريع وغيره عبر أجيال من الرواة الموتى عاشوا بين عصر النبى وعصر التدوين، وهم لم يروا شيئا ولم يسمعوا شيئا؟
- ونقل القرآن الكريم فى قصة وسورة يوسف شهادة إخوته على اتهام أخيهم بنيامين بالسرقة، أن يوسف قد رتب اتهام أخيه الشقيق بالسرقة حتى يتسنى له أن يحتفظ به معه، وكان إخوة يوسف فى رحلتهم الثانية لمصر قد ضغطوا على أبيهم يعقوب كى يسمح لهم باصطحاب بنيامين أخيهم معهم، فلما احتجزه يوسف عزيز مصر بتهمة السرقة يئس الأخوة من استعادته فقال أخوهم الأكبر ارجعوا إلى أبيكم فقولوا يا أبانا أن ابنك سرق، وما شهدنا إلا بما علمنا، وما كنا للغيب حافظين: يوسف -81 أى أن أخاهم قد اتهم بالسرقة وهم لا يشهدون إلا بما علموه من الاتهام وضبط المسروقات فى وعاء أخيهم، وما كانوا للغيب حافظين . . وهذه هى الشهادة من أناس عاينوا الحدث وشهدوا بما رأوه، ومع المعاينة والحضور والشهود والمعاصرة فإن هناك خفايا لا يعلمونها . . فالشهادة فى المفهوم القرآنى أن تشهد بما رأيت وسمعت بنفسك مع الإقرار بأنك لا تعلم غير ماشهدت بنفسك، وما خفى عنك لا يعلمه إلا علام الغيوب. وإذا طبقنا مفهوم الشهادة هذا على الإسناد وضح لنا التناقض الهائل بين الشهادة التى ينبغى أن تقوم على الحق المرئى والمسموع من الشاهد المشاهد وبين الإسناد وهو كذب صريح ليس فيه شهادة أو شهود على الإطلاق، إذ كيف يشهد الميت أو يحكى الحى على مالم يره ومالم يعش أحداثه؟
موضوعات المسند
الإسناد هو سلسلة الرواة والعنعنة وقد عرضنا لها . . أما المسند فهو موضوع الحديث أو متن الحديث . والآن نشير إلى موضوعات المسند أو ما جاء به الإسناد الينا من موضوعات تخالف القرآن والإسلام .
إن الأحاديث كلها تصب فى ثلاثة موضوعات رئيسية، وهى (1) الغيبيات (2) التشريعات (3) الأخلاقيات أو الترغيب والترهيب .
فى الغيبيات: أسندوا للنبى أحاديث يخبر فيها عن غيوب الماضى قبل عصره، وعن غيوب المستقبل فى الدنيا، وغيوب الآخرة من علامات الساعة ووقائع القيامة، والحشر والشفاعة والعرض وأحوال الجنة والنار. وكلها أكاذيب لأن القرآن الكريم يؤكد على أن النبى عليه السلام لا يعلم الغيب، ولو كان يعلم الغيب لاستكثر من الخير وما مسه السوء، وأنه عليه السلام لا يدرى ما سيحدث له أو لغيره، وأنه لا يعلم شيئا عن علامات الساعة أو علم الساعة، وليس له أن يتحدث عن كل تلك الغيبيات ( الأنعام 50، الأعراف 187، 188، الأحقاف 9، النازعات 42، 5، الجن 25: 27 مجرد أمثلة ).
ويرتبط بالغيبيات ما نسبوه للنبى من أحاديث الشفاعة يوم القيامة، وهى تناقض القرآن الذى يجعل الشفاعة لله وحده تقوم بها الملائكة حين تقدم العمل الصالح للصالحين يوم الحساب، أما النبى نفسه فلا يملك لأحد نفعا ولا ضرا ( البقرة 255،254،133،48، طه 109:110، الأنبياء 26:28، النجم 26 الزخرف 86، ق 21، الزمر 19، لقمان 33:34) ومع ذلك فإن أكاذيب الشفاعة البشرية يوم القيامة قد جلعها الإسناد من المعلوم من الدين بالضرورة مع خطرها الشديد فى تدهور أخلاق المسلمين.
وفى التشريعات: أسندوا للنبى أنه كان يفتى فى أمور التشريع، وهذا يناقض حقيقة قرآنية أساسية وهى أن النبى كان إذا سئل عن أى شيء كان ينتظر الإجابة من الوحي، فينزل عليه الوحى له (يسألونك عن كذا فقل لهم كذا . .) ومن تدبر الموضوعات التى سئل فيها النبى وانتظر الإجابة من السماء يتضح لنا أنه كان يمكنه أن يجيب بنفسه من واقع معلوماته العامة، مثل سؤاله عن الأهلة ‘يسألونك عن الأهلة قل هى مواقيت للناس والحج: والبقرة 189 ومثل سؤاله عن موضوعات اليتم، وقد تكررت آيات القرآن فى الحض على رعاية اليتيم، ومع ذلك كانوا يسألونه عن اليتيم، إلا أنه لم يبادر بالإجابة وانتظر الوحى فينزل الوحى يؤكد ما سبق قوله فى رعاية اليتيم كقوله’ ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم: البقرة . 23.
وفى موضوع الظهار – وهو أحد أنواع الطلاق – أصرت امرأة على أن يفتى لها النبى وتعجلت الحكم ورفض النبى وانتظر نزول الوحى ونزل قوله تعالى قد سمع الله قول التى تجادلك فى زوجها وتشتكى إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير: المجادلة 1 فالمرأة تعجلت وأخذت تجادل النبى تطلب منه حكما فلما يئست منه اشتكت إلى الله فنزل الحكم، وهكذا كانوا يستفتون النبى فلا يفتيهم، وإنما ينتظر حتى تنزل الفتوى وحيا من السماء، كأن يقول تعالى ويستفتونك فى النساء قل الله يفتيكم فيهن: النساء 127 لم يقل قل أفتيكم بل إن الله تعالى هو الذى كان يفتى ويشرع يستفتونك قل الله يفتيكم فى الكلالة: النساء 176.
بإيجاز .. كانت مهمة النبى مقتصرة على التبليغ دون الإفتاء والتشريع، وحين كانوا يسألونه أو يستفتونه كان ينتظر الإجابة من الوحى حتى فى الأمور المعروفة لديه، وكانت سنته هى فى تطبيق ما ينزل عليه من وحى بإمكاناته البشرية وبإمكانات عصره، هذا ما كان فى عصر النبي، وهذا ما يؤكد أن للإسلام مصدرا واحدا هو القرآن. أما نحن فمن حقنا أن نجتهد فى تطبيق تشريع القرآن وفق ظروف عصرنا، واجتهادنا يقبل الخطأ والصواب ونحن مسئولون عنه، وبهذا يظل الإسلام فوق الزمان والمكان محفوظا بتشريعه إلى قيام الساعة وبعيدا عن أخطائنا وخطايانا.. إلا أن الإسناد نسب للنبى تشريعات تخالف القرآن مثل الرجم وحد الردة، والحسبة، وجعل من حق الحاكم أن يمتلك الأرض ومن عليها. وبالإضافة إلى اختراع الإسناد لتلك التشريعات المخالفة فإن العصر العباسى اخترع مفهوما جديدا لإلغاء التشريعات القرآنية تحت دعوى النسخ. مع أن النسخ فى القرآن وفى اللغة العربية يعنى الإثبات والكتابة وليس الحذف والإلغاء (راجع كتبنا عن: النسخ، وحد الردة، الحسبة، القرآن وكفى مصدرا للتشريع).
وفى الأخلاقيات: نسبوا للنبى أحاديث فى الترغيب والترهيب أفسدت أخلاق المسلمين، إذ كانت ترتب الجزاء العظيم على مجرد كلمة أو قراءة سورة أو صلاة ركعتين، وبمجرد أن يقول الإنسان ذلك أو يفعله فقد ضمن الجنة مهما ارتكب من ذنوب وآثام، وبالتالى فعليه أن يسعى فى الأرض بالفساد ثم يضمن الجنة بمجرد أن يقول لا إله إلا الله.. وهذا يخالف منهج القرآن الذى يجعل الجنة من نصيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات، أى حفلت حياتهم بالإيمان والعمل الصالح النافع وليس بمجرد كلمة أو تبرع من مال حرام وسط حياة حافلة بالآثام.
وعن طريق الغيبيات والتشريعات والأخلاقيات أقام الإسناد دينا جديدا مخالفا للقرآن وأكسب ذلك الدين المخالف قدسية حين نسبه للنبي، ومن أسف فإن دين الإسناد هو الذى قام بتغييب الدين الحق، بدليل إنه إذا تعارضت 150 آية قرآنية كلها تنفى شفاعة النبى مع حديث الشفاعة فى البخارى فإن الناس ينحازون للبخارى .. أليس كذلك؟
التراث المقدس وغير المقدس
ما سبق ينصب أساسا على التراث السنى الذى أسنده رواة السنة للنبى فأصبح ذلك التراث السنى دينا مقدسا. إلا أن الشيعة لهم أيضا تراثهم الذى أسندوه للنبى وإلى على وذريبته وأصحاب القداسة من الأئمة. وأصبح ذلك التراث أيضا دينا مقدسا، يقف فى موقع الخصومة للتراث السنى المقدس بسبب الخلاف السياسى العقدى والحركي.
ثم جاء التصوف ابنا للتشيع ومتخففا من طموحاته السياسية فأعرض عن السند، ولم يهتم باختراع سلسلة الرواة. إذ يقوم أغلب التصوف فى عقيدته على الاتحاد بالله وحلول الذات الإلهية فى نفس الشيخ الصوفي، وحين تشرق أنوار الألوهية فى داخله – بزعمهم – ينطق بالعلم اللدني، وحينئذ فليست هناك حاجة للرواة لأنه جلس – بزعمهم – مع الله فى الحضرة الإلهية. ومن هنا كان الصوفى فى العصر العباسى الثانى يقول حدثنى قلبى عن ربى وامتلأ كتاب إحياء علوم الدين للغزالى بأقاصيص وأقاويل من هذه النوعية، أو أن يقول أوحى الله لبعض الصالحين هذا بالإضافة إلى أحاديث نسبها للنبى بدون إسناد وقام العراقى فى تخريجها بإثبات أنها لا أصل لها أى لم يذكرها غير الغزالي، أو بعبارة أخرى اخترعها الغزالى اختراعا. ثم أضاف الصوفية إلى ذلك المنامات، أى يزعم أحدهم أنه رأى النبى فى المنام فقال له النبى كذا. وتحفل كتب الصوفية بهذه المنامات، ثم الهواتف أى يسمع الصوفى هاتفا يقول له كذا. وفى العصر المملوكى كانت المنامات والهواتف تغلف التراث الصوفى وتؤثر فى الحياة المملوكية سياسيا واجتماعيا وثقافيا ودينيا، حتى كان من المألوف أن يدعى أحدهم أنه يرى النبى يقظة وليس فقط فى المنام، وأشهر من ادعى ذلك كان السيوطي، وقد ذكر ذلك الشعرانى فى ترجمته له فى الطبقات الصغري.
بإيجاز نقول: إن الإسناد حول التراث السنى والشيعى إلى تراث مقدس. ثم إن جاء الصوفية بعقيدة الاتحاد والحلول فجعلوا تراثهم مقدسا دون إسناد. ثم ذلك التراث السنى والشيعى الصوفى مع قداسته المزعومة لا يصمد أمام النقد لأنه يحمل أوزارا من التخريف والأخطاء الموضوعية تؤكد حاجته إلى تلك القدسية لتحميه من سهام النقد والاعتراض.
إلا أن التراث العقلى ( الذى يستحق الاحترام حتى لو اختلفنا معه) لم يكن محتاجا للإسناد أو القداسة – ولذلك ظل تراث المعتزلة والمفكرين منسوبا إلى أعلام تلك الطوائف العقلية، لم يحاول الجاحظ – مثلا – أن ينسب آراءه للنبي، بل نسبها لنفسه وإلى من قالها من زملائه وأصدقائه، وإذا قرأت الجاحظ فى البخلاء والبيان والتبيين وباقى رسائله وجدت رائحة الثقافة الجاحظية وعصره وبيئته وازددت له احتراما لأنه كان صادقا مع نفسه، وقد مات الجاحظ سنة 255 هــ، وعاش فى نفس العصر مع البخارى (ت 256هــ). الذى نسب ثقافة العصر العباسى للنبى عبر ذلك الإسناد المشئوم فأوقع بالنبى والإسلام أفدح الإضرار.
ومع أسف فإن الغلبة لم تكن للجاحظ والمعتزلة ومنهجهم العقلي، وإنما كانت بسبب ظروف السياسة لمن كان يسميهم العصر العباسى الأول بالحشوية، أى الذين يحشون عقلوهم بأسانيد كاذبة منسوبة للنبي، ويحاولون نشر آرائهم بهذه الطريقة، لقد انحاز المأمون ثم المعتصم والواثق للمعتزلة، وحدثت فتنة خلق القرآن التى اضطهد فيها ابن حنبل، ثم جاء الخليفة المتوكل وكان حانقا على المعتزلة وزعيمهم ابن الزيات، فقتله انحاز للحشوية وتعصب لهم وأرسل دعاتهم فى الآفاق لنصرة السنة فيما يحكى ابن الجوزى فى المنتظم، ودخلت الدولة العباسية فى دور الضعف واحتاجت أكثر إلى إخضاع العوام بالدين، فازداد دور الشيوخ من الفقهاء ثم الصوفية، وكى يتم للشيوخ إخضاع العوام كان لابد من الاستناد إلى مرجعية دينية تكون لافتة، يشيرون إليها دون مناقشة، وقام الإسناد بهذه المهمة. وبالتدريج تعود الناس على الخضوع بمجرد أن يقول لهم الشيخ روى أن النبى (ص) ‘قال’، ثم بمرور الزمن أصبح الشيخ يقول بكل ثقة. قال صلى الله عليه وسلم كذا كأنه سمع ذلك من النبى بنفسه ودون إسناد، ودون ذكر أنها رواية قالها أشخاص، قد يخطئون وقد يصيبون، وهذا ما تسمعه حتى الآن من شيوخ المواصلات فى القاهرة عن الذى يبنى مسجدا ولو كمحفص قطاة. ثم ظهر فى عصرنا اتجاه جديد بين الجماعات السلفية وهو اختراع أحاديث، تخدم وجهة نظرهم مثل حديث من أكرم شرطيا أهانه الله وعوتب بعضهم فى ذلك وكيف يستحل الكذب على الرسول، فقال أنه لا يكذب على النبى وإنما يكذب للنبي.. أى أن اختراع الأحاديث لا يزال ساريا.
بين الحديث والسنة
ويبقى السؤال الأخير، هل تلك الأحاديث هى سنة النبى عليه السلام؟ هنا نضع بعض الحقائق القرآنية والحقائق التراثية.
1- معنى السنة فى القرآن هو المنهاج أو الطريقة وذلك فيما يخص تعامل الله تعالى مع المشركين. كما أن معناها هو التشريع الإلهي، وبالمعنيين فإن السنة فى القرآن تأتى منسوبة لله أى سنة الله، يقول تعالى فى تشريع خاص بالنبى ما كان على النبى من حرج فيما فرض الله له، سنة الله فى الذين خلوا من قبل وكان أمر الله قدرا مقدورا: الأحزاب 38 وفى الآية الكريمة يتضح أن فرض الله يعنى سنة الله يعنى أمر الله وذلك كله يؤكد ان سنة الله هى شريعة الله أى أن السنة معناها الشرع.
2- وهذا يتفق مع المعنى اللغوى لكلمة السنة، تقول سن قانونا أى شرع قانونا، وإذا تم سن القانون أصبح شريعة واجبة التنفيذ.
3- وهذا أيضا يتفق مع المعنى الفقهى لمصطلح السنة العملية إذ تعنى السنة العملية العبادات من صلاة وزكاة وحج وصيام.
4- وفى كل ذلك فإن الله تعالى هو صاحب التشريع الذى نزل فى القرآن الكريم، والنبى عليه السلام هو القدوة لنا فى تطبيق ذلك التشريع، لذلك يقول تعالى لقد كان لكم فى رسول الله أسوة حسنة: الأحزاب 21 لم يقل كان لكم فى رسول الله سنة حسنة، لأن السنة هى سنة الله، أما النبى عليه السلام فهو القدوة الحسنة فى تطبيق سنة الله وشرع الله.
5- إلا أن بعض فقهاء التراث يقولون أن السنة العملية هى العبادات التى أشرنا إليها، أما السنة القولية للنبى فهى تلك الأحاديث التى أسندوها إليه بعد موته بقرون فيما يعرف بكتب الصحاح وغيرها. وهنا نختلف معهم، لأن السنة القولية للنبى عليه السلام هى ما ورد فى القرآن فى كلمة قل التى تميز بها القرآن، وقد تكررت كلمة قل للنبى فى القرآن (332) مرة. وكانت الموضوعات التى ترددت فيها كلمة قل تشمل كل ما يحتاجه المؤمن من أمور الدين، وبعضها يؤكد ما جاء فى القرآن أيضا بدون كلمة قل وكان النبى عليه السلام مأمورا بأن يقول ذلك القول المنصوص عليه فى القرآن كما هو دون زيادة أو نقصان، إذ لا يملك أن يتقول على الله تعالى شيئا فى أمور الدين ولو تقول علينا بعض الأقاويل، لأخذنا منه باليمين، ثم لقطعنا منه الوتين، فما منكم من أحد عنه حاجزين: الحاقة 44:47 باختصار:
إن السنة القولية للنبى هى كلمة قل فى القرآن، طالما ان السنة تعنى الشرع المفروضاإتباعه.
6- ويقولون إن تلك الأحاديث هى مصدر المعرفة بالصلاة والعبادات. وهذا خطأ ظاهر لأن تلك الأحاديث أقاويل، والسنة هى طريقة التأدية للعبادة وكانت معروفة ليس فقط قبل البخارى وغيره، بل كانت معروفة قبل نزول القرآن، إذ كانت هى الملامح الأساسية لملة إبراهيم التى أمر الله تعالى النبى والمسلمين باتباعها حنفاء، بل إن تلك الأحاديث التى رويت فيما بعد النبى بقرون لم تتعرض بالتفصيل لكيفية تأدية الصلاة.
7- ومن الطبيعى أن النبى عليه السلام وهو يقيم دولة وينشئ أمة ويواجه مكائد أعدائه أن تكون له أقوال وتعلميات، كما كانت له تطبيقاته فى تنفيذ شرائع القرآن خارج العبادات، مثل إعداد الجيش والقوة الحربية. وذلك كله يدخل ضمن التاريخ والسيرة، وليس ضمن الدين الذى يعلو فوق الزمان والمكان.
إن الله تعالى يقول وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة: الأنفال 60 إن تطبيق النبى عليه السلام لهذه السنة الإلهية كان وفق ظروف عصره، أى كان يعد السلاح بالسيف والرمح، وهذا لا يوافق الاستعداد الحربى لعصرنا.. وبالتالى فإن أقوال النبى بهذا الشأن تدخل ضمن التاريخ والسيرة وظروف عصرها.. وما يرد فى التاريخ هو حقائق نسبية وليس حقائق مطلقة مثل حقائق القرآن أو دين الإسلام.
8- والملاحظ أن العصر العباسى حين قام بتدوين سيرة النبى بأثر رجعى فإنه تجاهل ما ينفع الناس منها، لأن ذلك الذى ينفع الناس كان ضارا بالحكام من الخلفاء المستبدين، وقد قامت دولة النبى الإسلامية على أساس الشورى أو الديمقراطية المباشر حيث يحكم الناس أنفسهم بأنفسهم، وحيث كانوا مصدر السلطة والقائمين أيضا بالسلطة. عاش أهل المدينة على ذلك فى حياة النبي، وتركهم النبى يحكمون أنفسهم بأنفسهم دون أن يعين لهم حاكما، السيرة الحقيقية للنبى كانت تؤكد ذلك من خلال أكثر من خمسمائة خطبة جمعة خطبها النبى فى المدينة، ومن خلال مجالس الشورى التى تحدثت عنها القرآن الكريم فى الآيات الأخيرة من سورة النور وفى سورة المجادلة وسورة النساء.
وتلك الديمقراطية المباشرة فى عهد النبى عليه السلام كانت تناقض تماما الاستبداد العباسى حيث يملك الخليفة الأرض ومن عليها دون حسيب أو رقيب، ولذلك أهمل التدوين العباسى أكثر من خمسمائة خطبة للنبى عليه السلام والمئات من مجالس الشورى .. واستبدل بذلك تأليف تشريعات وسيرة تتفق مع ثقافة العصر العباسي، ثم قام الإسناد بتحويل هذه الثقافة العباسية إلى دين عن طريق الإسناد. . وبمرور الزمن أصبحت تلك الثقافة العباسية مقدسة لا يجرؤ أحد على نقد مصادرها من (كتب الصحاح)، والدليل على قداستها المترسبة فى القلوب والعقول هو تلك الرهبة التى يحس بها القارئ لهذا المقال.