فى رحاب مولانا النفـــرى
موقف القرب
ضرورة البعد - نخلقه زيفا- لتستمر الحركة
*أوقفنى فى القرب وقال لى: ما من شيء أبعد من شيء ولا من شيء أقرب من شيء إلا على حكم إثباتى له فى القرب والبعد.
حين تختفى المسافات ويتدور الزمن، وتصبح كل نقطة هى القرب البعد، لا بل تختفى النقط فى كل الوجود، لا تعود حاجة لمساحة أو مسافة، ولماذا نريد أن نجسد من هو قبل وبعد التجسيد، السعى السعى: هو الطريق الوحيد إليه كدحا.
فكيف نسعى يا مولانا فى غير مسافة؟ وكيف نقترب من قرب ليس له ما هو أقرب منه؟ فنبتعد ونحن نقترب؟ هل هى الدائرة يا مولانا دائرة؟
لكنها الدائرة مغلقة . والطريق ليس كذلك لأنه فتحنا فتحا مبينا.
وما حكم الإثبات ؟ أهى اللغة الرمز العاجزة والضرورية؟
وهل هى – كذلك- يمكنها أن تصف ما لا يوصف، فلماذا اللغة أصلا إذا كانت عاجزة ؟ بل مشوهة، بل معطلة، بل ساجنة ؟
وكيف استطعت يا مولانا أن تقولها هكذا؟ ولماذا قلتها مادام من لايعرف لن يعرف، ومن يعرف فهو لا يحتاجها؟
بل إنه لابد يحتاجك أنت هكذا، يحتاجك ائتناسا ليسعى .
* وقال لى: البعد تعرفه بالقرب، والقرب تعرفه بالوجود، وأنا الذى لا يرومه القرب، ولا ينتهى إليه الوجود.
ولماذا أعرفه أصلا ؟ “لماذا” وليس “كيف” ؟
كانوا يعلمونا يا مولانا أنه: بضدها تتميز الأشياء، وحين قلت لنا إن البعد تعرفه بالقرب، كدت أسمع أنه -إذن- القرب أعرفه بالبعد، وطبعا خفت أن أستدرج إلى زيف لغة تموت بأضدادها، لكنك لحقت بى قبل أن يتميز فى الأبيض بالأسود، فحضر الوجود.
وحين وجدت علمت معنى أن أكون فى رحابــك رحابه.
وفى الرحاب يكون الوجود جزءا من الكل الحاوي، وبالتالى فهو القرب الحاني.
وكيف يرومك سبحانك قرب وأنت أقرب من القرب نفسه؟ وكيف ينتهى إليك وجود وأنت بدايته؟ وهو ليس له منتهى إلا أن يبتدى قبل وبعد ما لا ينتهي.
لماذا أعرفه أصلا إن كنت قادرا – فى حناياه- أن أوجد
سقط أفعل التفضيل ولم يبق إلا المصدر المطلق، وهكذا يكون.
*وقال لى: أدنى علوم القرب أن ترى آثار نظرى فى كل شيء، فيكون أغلب عليك من معرفتك به.
وعاد أفعل التفضيل، لكنه عاد ليصف العلوم دنوا وارتفاعا، وليصف معرفتى بك وقد غلبتها آثار نظرك تعاليت، وآثار النظر غير النظر، فنحن لا نرى الأشياء وإنما نرى ما تجلى منها من آثار نظرك سبحانك، فهل نكتفى بأدنى علوم القرب ونسميها علوما، ليكن، ولنفخر ما شاء لنا الفخر أن نفعل بحسبنا علماء، ولكن بعضنا يتمادى فى أدنى علوم القرب، والبعض الآخر يجتهد ليرقى إلى أوسط علوم القرب، ثم إلى أعلى علوم القرب، لكن أعلى الأعلى لن يعدو أن يكون علما من علوم القرب، وعلم القرب ليس هو القرب، وهو لا يكشف عن القرب وإن كان يشير إلى شيء يشبهه وليس هو، طبعا ليس هو.
(فإذا كان كل ذلك كذلك فما حال علوم البعد ياسادتى هدانا وهداكم الله).
*وقال لى: القرب الذى تعرفه فى القرب الذى أعرفه كمعـرفتك فى معرفتي.
حنانيك ربى لا.
لم أعرف قربا فى القرب، وإنما حين وجدت وجدت.، وأين معرفتى من معرفتك حتى يكون القياس مستطاعا؟
ثم حرف “في” هذا الذى لا يكاد يدركه أحد بما هو، (تحابا فى الله ..،) وهو فى بؤرة القرب يجذبنا من”علي”سطح “علي” مع أن اجتماعنا (اقترابنا) لا يكون إلا إذا اجتمعنا عليك، ومع ذلك فـ “في; سر أعظم.
حرف فى هو حال من الأحوال، وحين تحضر المعرفة “في” المعرف;، يمكن أن أسمح لنفسى بظل مسافة، ففى القرب لا نقترب، وإنما نقع “في”، فتتخايل معرفة، وأنا ليس لى معرفة فى معرفتك، فكيف تقربنى بالأوضح الذى لم يتضح من الأخفى الذى لم يكن.
لا، لم أعرف قربا فى القرب وإنما علمتنى أن أتصورقربا حين أوجد بين ثناياك.
ثم لا، فمعرفتى لم تقع أبدا فى معرفتك، وإنما هى استضاءت فأضيئت وما أضاءت إلا بنورك الذى يعشى من يقترب فيغمض حتى لا يري، فيري، فهو القرب الذى يرى ولا يعرف، يرى فى الوجود ومن الوجود، ولا يعرف بالقرب أو حتى فى القرب
*وقال لى: لا بــعدى عرفت، ولا قربى عرفت، ولا وصفى كما وصفى عرفت.
ثم لا.
ولى عتاب الذى يحق له العتاب ما دمت سمحت، إذ ما عليك حتى تصفك كما وصفت، ومن قال إنى أسعى إلى معرفة قربك من بعدك بعد ما طمأنتنى إلى موقعى فيك منك، أم لعلك -سبحانك- تذكرنى أن أذكــرهم أنه لا الوصف ولا العلم بمستطيعان أن يتعديا حدود الوصف والعلم
إن كان ذلك كذلك، فقد فعلت.
*وقال لى: أنا القريب لا كقرب الشيء من الشيء، وأنا البعيد لا كبعد الشيء من الشيء.
وكيف يقاس الشيء بالذى ليس شيئا أصلا، ألم تختف المسافات من البداية بحيث لم تعد قياسا ولا حسابا، لا بنسبة الشيء إلى الشيء، قربا أو بعدا، ولا حتى بمعرفة عن الشيء بالشيء.
يا ربنا العلى القادر على كل شيء :
أنت العليم، فلماذا؟
*وقال لى: قربك لا هو بعدك وبعدك لا هو قربك، وأنا القريب البعيد قربا هو البعد وبعدا هو القرب.
سيدى ومولاى: قرأتها مرتين فهل تسمح؟
(1) قرأتها كما هى: وقلت طبعا، فمن أنا حتى أكون القريب البعيد، إلا بك، وقلت أمضى بالأبيض أبيض عكس الأسود، لأستطيع أن أدور فأشرق وأظلم حول نفسى بك . فأنت أنت القريب البعيد، وأنت وحدك الذى يتساوى فيك البعد والقرب، فإذا طمعنا بعد ذلك فليس إلا بك وبقدر سماحك.
(2) ثم وضعت فصلة بعد كل لا، بعد أن نصصت لا (هكذا “لا”) فقرأتها هكذا:
قربك “لا”، هو بعدك.
وبعدك “لا”، هو قربك.
وأنا القريب البعيد، فارتقيت – رغم القراءة الأولى – درجة.
(منك السماح، لا منهم ).
*وقال لى: القرب الذى تعرفه مسافة، والبعد الذى تعرفه مسافة، وأنا القريب البعيد بلا مسافة.
ألم تطمئن أننى حفظت الدرس ؟ مولانا؟
ألم تعلمنى منذ البداية بأنه لا مسافات؟ وأن المسافات هى التى تصنع قربا لا وجود له، وبعدا لا أمل فى إلغائه؟
ومع كونك القريب البعيد بلا مسافة، فاسمح لنا أن نتحرك فى مسافة حواليك إليك، حتى تلتقطنا برحمتك فنذوب فى اللامسافة.
ليصبح القرب قربا ليس اسمه كذلك.
*وقال لى: أنا أقرب إلى اللسان من نطقه إذا نطق، فمن شهدنى لم يذكر ومن ذكرنى لم يشهد.
قل لهم هم، يلوكونك بلفظهم وكأنك هو، مع أن الشهادة تغني، لكن العجز شرف النقص، والنقص حفز السعي، والسعى وهم القرب، والقرب ليس قربا.
فإذا لم نملك إلا الذكر فاسمح لنا أن نشهد حتى نتلهى بحركة اللسان، ولا تعاقبنا إلا إذا قطع اللسان عن حبل الوريد، أو أخذنا العلم الأدنى نحو البعيد، ولكن لا تمنع عنا حق الذكر حتى لم نشهد إلا قليلا.
*وقال لى: الشاهد الذاكر إن لم يكن حقيقة ما شهده حجبه ما ذكر
فهكذا الرحمة يا أرحم الراحمين ارحمنا، سمحت بالذكر للشاهد الذاكر، وحرمت الشهادة للذاكر الغافل، الغافل أن يكون، يكون مايشهد فيكونه.
اللهم لا تحل حركة اللسان محل كينونة الشهادة،
ولا تحرمنى شهادة أن أكون ما أشاهد.
السماح السماح للسان يلهث عله يعلن أن للحركة صوت، وأن للمصر نصيب
*وقال لى: ما كل ذاكر شاهد وكل شاهد ذاكر.
اتفقنا، ليطمئن من ذكر ليشهد حتى لو تأخرت شهادته، وليذكر من شهد ليكون حتى ولو عقد لسانه.
*وقال لى: تعرفت إليك وما عرفتنى ذلك هو البعد، رآنى قلبك وما رآنى ذلك هو البعد.
فسامحني،
ثم إن من حقى أن أبتعد لأقترب، ويقينى كما علمتنى حالا أنك لست بعدا ولا قربا، ومع ذلك فهل أملك أنا إلا أن أبتعد لأقترب، وأن أقترب لأكون، وأن أكون لأشهد، فهو القرب دون أن تكون أقرب، ثم لا بد أن أعود فأبتعد لأظل أدور فى الفلك .
أما القلب الذى لم يجرؤ أن يراك إذ رآك، فلا يقدر على القدرة إلا أنت، وأنت عـلام الغيوب، وغيوب القلوب هى العجز إلى قدرتك أن تنتشلنا بقدر اجتهاد الحركة لا بقياس قطع المسافة.
*وقال لى: تجدنى ولا تجدنى ذلك هو البعد،
تصفنى ولا تدركنى بصفتى ذلك هو البعد،
تسمع خطابى من قلبك وهو منى ذلك هو البعد،
تراك وأنا أقرب إليك من رؤيتك ذلك هو البعد.
ألست خير العارفين ياربنا- بشهادة مولانا- أننى لا أملك إلا أن أخدع نفسى حفاظا على حركتى إليك؟
فلو أنى وجدتك فوجدتك، وأدركتك بصفتك فأدركتك، وسمعت خطابك منك لا كما خيل إلى أنه من قلبي، ورأيتك بك بدلا من أن أدعى رؤيتك، لو أننى فعلت كل هذا، فماذا يبقى لى أتحرك تجاهه، أو أطوف حوله، أو أكدح إليه.
أعاتبك بما لى عليك، وأعلم أنك تنبهنى لا تبكتني،
ولكننى أطمع أن تسمح لى ببعد يتيح الاقتراب،
وأعدك ألا أتصور قربا يبرر السكون
يارب.