حالات وأحوال
ورق مصقول وورق شفاف
د. أحمد ضبيع
1- المريض.. شاب فى الواحدة والثلاثين من عمره[1] .. وليكن الإسم محمد- مثلا- .. يسكن على تخوم “المنصورة” .. بعد أن تزوج منذ ثلاثة أعوام.. يكاد راتبه ومساعدات أهله أن يكفيا احتياجاته بالكاد، ولأن عمله ومسكن أهله متجاورين فهو يزور أهله بشكل شبه يومى بل ولا يزال ينتمى عاطفيا لبيئته الأولي.
وهو الإبن الثانى من أربعة.. ثلاثة ذكور والصغرى فتاة..لأب مهيض شكال.. قوى البنية والشكيمة.. يعتمد عليه.. ولكنه مثير للتوتر فى المنزل. وأم موازنة.. حكيمة.. رقيقة. متزوج من جارة حسنة النية حتى حدود السذاجة.. بسيطة.. تلقائية.. لا أهل لها تقريبا..
2- اللقاء الأول.. جىء به، رغم حزنه الآسر- فشكيا.. “مفيش نوم.. ماليش نفس أعمل حاجة” وتطوع أخوه ليكمل .. “محمد باختصار بيشك فى مراته.. كمان بطل يروح الشغل.. بيفكر على طول فى الموت وحاول الانتحارمرة من ست شهور.” وكفى.
3- الحدوته.. كانت الأمور على ما يرام حتى عام ونصف وعلى وجه التحديد يوم وفاة والده حيث أبلغه زميل جار أن زوجته تخونه.. وقد تبين فيما بعد أن نص حديث صديقه لم يكن ليشير إلى هذا المعنى بالتحديد [2] وهنا كانت الطامة الكبري.. فلم ينته حزنه على والده إلا ليبدأ حزنا جديدا موصولا بالأول على حاله.. حزن ملون بشك وخجل فلم ينم بشكل هاديء منذ ذلك الحين ولم تنتظم حياته أو ينتظم عمله.. وكانت الزوجة على وشك ولادة طفله الثانى والذى حامت حوله شكوك كثيرة فى ذهن مريضنا حول صحة بنوته.. وضعت طفلها بعد أسبوع من وفاة والد المريض، إلا أن مريضنا لم ير طفله ولم يعد لمنزله خلال فترة مرضه، عام ونصف.. إلا تحت ضغوط كبير مرة لثلاثة أشهر ومرة لمدة أسبوع، وسويعات أخر لقضاء بعض الاحتياجات الضرورية، ولم تكن فترات عودته لمنزله خالية من نفس المزاج والشكوك إن لم تكن أكثر إثارة للمرض.. وفى نهاية العام ونصف كانت الزوجة قد حملت للمرة الثالثة مما فجر الشكوك خاصة وأن المريض – فى تصوره- لم يزر بيته كثيرا بما يسمح بحمل جديد.
4- مسيرة العلاج:
فى البدء كانت عقاقير مضادات الذهان ومضادات الاكتئاب مع تعليمات محددة لأهله حول احتمال انتحاره، ولم يخيب ظنى للأسف، فبعد يومين فقط إطلع على النشرات الداخلية للأدوية مضادة الذهان فانزعج ورفضها وحاول الانتحار بعقار للقلب كان يخص والده رغم توفر العقاقير النفسية لديه.. فجيء به ثانية ولأنه لم تكن هناك فرصة رعايته بالمستشفى لظروفه المادية، تحملت مخاطر استكمال علاجه بالمنزل مع إعادة الاتفاق والتشديد على رقابته وبدأت فى هذا اليوم منحى آخر فى العلاج حيث بدأت “بمنظمات الإيقاع الحيوى”[3] (جلسات العلاج الكهربي- سابقا) وتتابعت اللقاءات .. اللقاء تلو الآخر فلا أفكاره- ضلالاته- تهتز ولا اكتئابه يقل: أجتهد على قدر طاقتى ويتحدى سلبا، ولم تكن قد بدرت آى بادرة أمل تلوح فى الأفق حتى اللقاء السادس.
إلا أنه كان هناك نوع من الثقة يراودنى دون أن أجد له ما يبرره من خلال المسار المرضى والعلاجي. حتى جاء هذا اللقاء السادس الساخن
..بدأ متحديا يلوح منه موقف الانتحار أقرب من أى وقت آخر، ورغم عدم التلميح إليه مباشرة ، فقد كان انتحارا يقرأ فى العيون، وأثناء إعطاء المخدر الكلى قبيل الجلسة وحين كان قد بدأ وعيه فى الانحسار، أحسست برغبة غير مبررة، قاهرة، أن أبعث إليه رسالة وتصله رغم أنى لم أكن متيقن إنه يسمعني، كان فحوى رسالتى أو نصها… “قرار الانتحار مش بايدك لوحدك طالما إنت جيت تتعالج عندي”.. دى مسئولية مشتركة، وعلى فكره مراتك ست كويسة.. فاوعى تسيبها”… وعقب أن أفاق… أخذت موافقته الشفهية على إطاعتى فيما سأفعله، ووافق، فاصطحبته إلى منزل زوجته.
وفى الطريق ألمحت إليه أننى (سأزوجك من جديد) فى لهجة تكسوها دعابة متعمدة، لكنه قبل هذا المنطق، وفور دخولنا من باب المنزل خاطبت زوجته قاصدا إفهامها- بذات الطريقة التى قصدتها مرحة- ما تم الاتفاق عليه بينى وبين زوجها قبل دقائق. (ملحوظة.. كانا لا يتحادثان حتى هذه اللحظة التى قمت بعدها بإنامته بفعل بعض العقاقير الباعثة على النوم)، ولم تبد الزوجة أيضا أية تعليقات، وتركته نائما.. وعلمت بنومه حتى صباح اليوم التالي، حيث أتانى ليحكى ما أدهشني، حكى حلما رآه:
رأى أباه يمد يده ليساعده ليعبر قناة صغيرة، ويقول له “قرار الانتحار مش بايدك لوحدك، مراتك ست كويسة، وإوعى تسيبها” [4] لكن ما كان يدهش أكثر هو إشراقة وجهه، وصلت الرسالة إذن.. تماما تلك الرسالة التى لم أكن أدرى لم بثثتها إليه. تركنى حامدا ربه على هذا اليقين المبدد للوهم.. اليقين الذى أتاه فى حلمه.
5- تساؤلات واحتمالات:
هل كان هناك حلم فعلا؟
- نعم، هذا ما أعتقده وأصدقه رغم أن احتمالات وجود أنواع أخرى من الوعى قد مر بها المريض تكافيء الحلم تركيبيا وغائيا.. بل ويمكن استقبال هذا الوعى الآخر كحلم، وأستبعد أن يكون مريضنا هذا قد لفق أو “فبرك” قصة الحلم بداهة لأن عبارات الحلم عباراتى على الأقل.
وفى هذا الصدد وطالما طرقنا باب الوعى والوعى الآخر يجدر الإشارة هنا إلى أنواع الوعى أو درجاته: فى هذا المريض، أفترض أن هناك الوعى السابق للمرض، ثم الوعى القائم لحيظات بدء المرض وبالتحديد حين أخذ العزاء فى والده وسماعه تلك العبارة من جاره والتى تم تأويلها، ثم وعى العام ونصف من المرض، ثم وعى قبيل منظمات الإيقاع الحيوى خاصة السادسة، ثم وعى الحلم، ثم وعى اليقين بعد الاستيقاظ والذى استمر حتى الآن (ست سنوات) [5] إلا أنه يهمنى فى هذا السياق أن أقترب أكثر من وعيه قبيل اللقاء السادس (م.ا.ح) [6]، ولنقترب من هذا الوعي، أستميحكم عذرا فى أن أبعد قليلا لأعود لنفس المعنى لتوضيحه:
أتخيل أن مرضانا يأتون للعلاج كأنواع عديدة من الورق مثلا، ورق لامع أملس مصقول لايسهل الكتابة عليه إذ تمحى آثار حبر القلم بسهولة خاصة وأن أيدى المرض تعمل على محو آثار الأحبار أولا بأول، ومرضى ورق نشاف، متعطش للكتابه عليه بل يتشرب سريعا ما يصل إليه، ناهيك عن مختلف التراكيب الورقية بين المصقول والنشاف بين من لا مسام له وبين من مسامه آبار.
أعود لأذكر مريضى الذى أتخيله قد مر بلحظة كهذه اللحظات الهامة فى حياتنا لأسميها لحظة ورق النشاف فكان يسهل الطبع [7]عليها، وأظن أن المحاولة العلاجية التى سبقت وهيئت لهذه اللحظة كانت محاولة خلخلة وتعتعة هذا المصقول حتى حانت لحظة كانت كإعادة التركيب، لحظة استحال فيها الورق المصقول إلى ورق نشاف، ورغم أن العلاج النفسى بداهة ليس كتابة على أوراق أو إضافة أو محو أو إدخال على تركيب بل يتعدى ذلك إلى ما هو كتابة من نفس النسيج تسمح بإعادة كتابته لنفسه، أو أن الورق النشاف يحمل ويحتمل كتابته معه من نفس نسيجه غالبا ليعود مصقولا ولكن حاملا خبرة اللحظة.
(عفوا كانت التشبيهات للتبسيط، أرجو أن تكون أوفت ولم تخل بالمعنى أو سطحته).
ولكن هل يمكن أن تنتقل عبارة ما قيلت فى سياق بذاته من شخص محدود لتقال مرة أخرى على لسان آخر فى وعى مختلف..؟
- رغم أن ماحدث بالفعل هو أشبه مايكون بقانون خاص متفرد بهذه الحالة بالتحديد إلا أن هذا هو ما حدث ويهمنى الظاهرة ولا أشك فى احتمال تكرارها ، وقد تحتاج لغة أخرى ربما جسدية، وفى خبرات أخرى ربما أزماتية.. (نسبة إلى أزمات).
- يلاحظ تواتر مسألة (تيمة) الأب على مستويات الصحة والمرض بشكل واضح، وعلينا أن نستوضح دوره فى كل هذه العملية، فى هذه الحالة يمكن بسهولة ملاحظة بدء المرض الفعلى متزامنا مع فقد الأب البيولوجى بالوفاة، ورغم أنه لا تستبعد المشاركة السببية (العلاقة الارتباطية) هنا، إلا أن احتمالات بدء المرض بدون فقد الأب واردة، وحدوث الفقد هنا سمح بخروج نوع من الوعى أيضا كورق نشاف ذا نسيج مرتبك، وهى لحظة تعرية لمريضنا هذا من أب كان يحميه ليس بالضرورة من خلال علاقة صحية، والتعرية هنا من هذا الأب الذى تربطه بالمريض علاقة خاصة حميمة مليئة بالتناقضات أكثر من أى من إخوته، وقد أصابت مريضنا بربكة أو أزمة مواجهة للنفس أو لتقل فجرت لحظة هامة، وكأن الإبن كان يصدر مرضه (جنونه) الكامن ليخرج من خلال أبيه ويسلم هو، هذا إلى جانب الجزء الإيجابى من وجود والده وعند الوفاة وزوال الأب البيولوجى حدثت المواجهة بالأب الداخلى (حالة الأنا الوالدية) [8] وهنا حدثت الأزمة بل ورفض المريض أن يلعب دور الأب لطفله القادم متملصا شاكا فى بنوته، وكأن فقد الأب ( خلخل الحدود) أصاب الحدود الداخلية لحالات الأنا الوالدية والطفلية [9] فى مقتل فرقت أو شفت وتحادثا وتحاورا ورأى كل منهما الآخر وتبادلا الاتهامات فظهر المرض على صورته ولعل مما ساعد فى الضربة الموجهة لحالة الأنا اليافع، فأفقدته قدرته على الموازنة بين باقى حالات الأنا، ثم الانتحار بأدوية الوالد المتوفي، ثم الضلالات التى تمثل تلون الأنا الوالدية بالطفلية، ثم المعالج كأب بديل، ثم الحلم بأبيه ، ثم التداخل بين الأب البديل والأب البيولوجى فى الحلم واستخدامهما لنفس الألفاظ نصا، أو يمكن القول بأنه إذا كان الأب البيولوجى قد لعب دور الحامى من المرض فالأب الداخلى (حالة الأنا الوالدية) قد لعب دور المنجز للمرض ثم جاء الأب البديل (المعالج) ليلعب دور المنقذ.
وأظن أنه بذلك تتضح مسألة (تيمة) الأب بتنوعات أدواره فى هذه الحالة.
أيمكن أن يكون هناك علاقة ما تربط نوع هذا التحسن ونتاج المرض؟
.. لعل ما خامرنى وقتها هو ما تأكد فيما بعد،ذلك أن المريض لما عزى تحسنه للحلم أحسست بالارتياح وتوقعت أن يسير بصورة ة حسنة وهذا ما حدث حتى الآن (ست سنوات) وكان تفسيرى لهذا أن التغير خرج من داخله ولأسباب خارجة عن إرادته (الحلم) فلم يكن فى مخيلته أن العلاج متاح من خلال الطبيب بقدر ما هو مسأله قدرية، وكأن لسان حاله يقول لا مرض ولا طب وإن لم يكن العلاج متاحا فلا نقترب مرة أخرى من هذه المنطقة الوعرة (منطقة المرض)، وكما كان هناك إعلان فشل المستوى السابق قبل المرض (نوع الصحة السابقة) فى لحظة الحلم وأ”نها مجرد بداية لمرحلة جديدة لكنها تحمل فى نسيجها خبرة هذه اللحظات الهامة لحظات البصم على النشاف .
[1] – يقصد بعمره عند مقابلته عام 1987 أى أنه الآن 36 عام
[2] – نص ما قيل له “إرجع بيتك بقى كفايه قعده هنا. بلاش تسيبب مراتك وحدها فى بلد ثانيه”.
[3] – (م.ا.ح) Rhythm Restroring Therapy (R.R.T)
سابقا:Ex Electro Convulisive Therapy (E.C.T
[4] – يلاحظ نص العبارتين على لسان المعالج مع المخدرر الكلى وعلى لسان الأب فى الحلم
[5] – بالمتابعة غى المهنية لظروف إحتمالات لقائى به كثيرا أعرف أخباره وهى تسير بصورة جيدة من يومها.
[6] – منظمات الإيقاع الحيوى.
[7] – يشار هنا إلى مفهوم البصم
[8] – لغة إيريك بيرن Parent ego state
[9] – Child ego state