رؤيـــــا
طارق النعمان
الجميع محتشدون: من أعرفهم، ومن لا أعرفهم، من يحبوننى ويعشقوننى، ومن يبغضوننى، أمى، أبى، حبيبتى صوفى، آمال، ابتهال، هالة، عماد، طارق، محمد، سعيد، البحراوى، سليمان، أحمد، وجوه ورؤوس متداخلة أعرف كثيرا منهم ولا أعرف كثيرين، والجميع محتشدون، انزعجت من احتشادهم، وليس ثمة مبرر. ليس ثمة مبرر لذهول بعضهم، إننى بخير، كان شعورى أننى بخير، ولكن ما على الوجوه من تجهم واكفهرار نقل إلى ذلك الإحساس فورا، شعرت أنهم ليسوا بخير، وأن الأمر أكبر من مسألة موتى، ثمة أمر آخر جلل؟ حاولت أن أسأل لم أجد ردا، انشغلت للحظات بأمر بدا لى غريبا، إن ثمة أمواتا واقفون وفى مقدمتهم أبي؟!!! ولكن حضور أولئك الأموات زادنى تأكدا وإحساسا بأن الأمر خطير جدا، أخطر مما كنت أتصور، أشار أحد الواقفين -حدقت فيه بشدة لكنى لم أتعرف عليه- إلى ضرورة تغسيلى وتكفينى فى أسرع وقت ممكن، زام أحد الواقفين وكانت فى يده مسبحة، هه، نعم كرامة الميت دفنه.
قلت فى نفسى يا ابن الكلب، دفنك عزرائيل، مستعجل علام؟
لم أستطع تحديد الزمن وكم استغرق وقوفهم، ولكنهم فى لحظة تلاشوا جميعا ولم يتبق إلا صاحب المسبحة، أخذ يتقدم نحوى ببطء متربص، يدير حبات المسبحة ويضغط على كل حبة من حباتها كأنه يريد أن يتأكد أنها حبة واحدة وأنه تلمسها جيدا، ومرت من بين يديه، كانت كل حبة تنفلت من بين يديه توافقها خطوة نحوى، ركزت بشدة على حركة المسبحة فى يده، كنت ممتلئا بترقب لم أستشعره من قبل، ترقب هدنى وزلزلني.
عند آخر حبة من حبات المسبحة كان كل ما بى من ترقب وتحفز قد تركز فى عينى، صوبتهما على عينيه، تسمرت قدماه فى مكانهما، أخذ يهتز ويرتعد تصاعديا، كنت أشعر باحتقان عينى وشدة التهابهما من تكثيف كل ما بى من طاقة فيهما أخذ يتزايد التكثيف ويتزايد ارتعاده، دوى صوت صراخه كأنه أجسام حديدية ثقيلة تسحلها قاطرات على الأسفلت، وأطلق ساقيه للريح مهرولا ينكب ويقوم وينكب ويقوم ويتمرغ فى اندفاع شديد، وعيناى تتبعانه مثبتتين عليه يخرج منهما شعاع نارى موجه عليه يدفعه لمزيد من الاندفاع، فجأة دوى صوت ارتطام عنيف وسقوط جسم، كان قد ارتطم بحائط أمامه لم يره وخر.
قمت بعد ذلك ولم يكن هناك أى أصوات لبشر ولا وجود، موت غريب فى الشوارع والوقت وقت غروب، إنزويت إلى جوار أحد الحوائط، أفكر ما الذى حدث؟!! هل لو قصصته لأحد سوف يصدق، ولكنهم جميعا شهدوا الموقف شهدوا نصفه جميعا جميعا…. ولكنهم سينكرون ويقولون أى شيء والأدهى أنك ستقول لهم أن أباك كان موجودا وأن ثمة أمواتا آخرين وأن الرجل صنع ما صنع، وحدث بينكما ما حدث، أخذت صور الموقف تتتابع وتتدافع فى رأسى وأنا جوار الحائط على الأرض كأنها انفجارات نارية، فى نهاية الأمر أخذت قرارا بأنه لا بد من أن أواجههم، لا بد من أن أجد منهم تفسيرا، لم لم يجيبونى عندما سألت عن سبب جهامتهم، لم تركوا هذا الرجل؟ لم أتوا أساسا؟ لم تلاشوا فجأة؟ لم تركوا هذا الرجل؟ هل كانوا يعلمون أنه كان ينوى لى ما كان ينوي؟ لا لا بد من أن أجد تفسيرا، وصلت إلى هذا القرار وقلت ليكن جوابهم ما يكون، ولكن لا بد من أن أفاتحهم، هدأت نفسى، أخذت أتنفس بعمق، كان داخلى شعور ممرور بالأسى منهم ولكنى كنت فى حالة تسمح لى بتأمله، غفوت قليلا، بمجرد استيقاظى انطلقت نحو أول واحد منهم بمجرد أن طلبت منه أن يفسر موقفه وموقف الآخرين طأطأ رأسه وهزها كأنما رغبته فى البكاء. ألححت عليه فى أن يجيب. قال بصوت خافت ليس هناك ما يبرر ما صنعنا، ولكننا صنعناه للأسف!!
خمدت رغبتى فى أن أستكمل المرور عليهم وتركته ومضيت.
4.15 الفجر
الأحد 17 / 5 / 1987