ذئـاب
محمد المخزنجى
قد يكون حلما فظيعا له قوة حضور الواقع، أو واقعا غريبا كالحلم، هذا ما لم أحسمه، ولعلى لن أحسمه أبدا، لهذا أحاول تحسس حكايتى هذه من جديد لعلى أتبين فيها حدودا فاصلة. خاصة وأن ذلك الانطباع النهائى مازال يؤرقني، ولعله يؤرق كثيرين إذا ما نقلت إليهم ما بلغنى منذ عرفت بنبأ هجوم الذئاب على القرية.
لقد هزتنى الدهشة أكثر من أى أحد لا يعرف حجم الأوهام الرائجة بين الناس عن هذه المخلوقات الحكيمة والزاهدة والمتوحدة إلى درجة الشاعرية، والتى يسمونها بريبة: الذئاب. ذلك لأننى أعرف كم هى نائية بتعفف، وأصيلة التماسك داخل قبائلها، أمومية لحد إنكار الذات أمام الصغار، وتأكل من غنائم معارك نظيفة حقيقية، تخطط لها بإحكام، وتفقد فيها الفرائس وعيهامع أول إطباقة للفكوك فلا تتألم، ثم هى - أى الذئاب- لاتقرب الجيف حتى لو اضطرها الجوع إلى أن تعشب، وإن كانت الشائخة منها يمكن أن تهاجم بلا سبب وهذا يجعلنى أكثر استغرابا.
فلا يعقل، لا يعقل، أن يكون هناك قطيع كامل من الذئاب الشائخة ليهاجم على هذا النحو المسعور الذى حكت عنه الأخبار، والذى لم يثبت فيه أن الذئاب جرت ولو طفلا صغيرا لافتراسه، مما يوحى بأن الهجمة كلها كانت نوعا من الالتياث الذى دفع القطيع نحو القرية والدخول فى معركة مع سكانها كبارا وصغارا، بالأنياب فى مواجهة الأيادى والسكاكين والفؤوس، ولم يدفعها إلى الفرار فى النهاية إلا ظهور البنادق وبدء إطلاق الرصاص.
بخلاف ما أشيع – وهو صحيح- من أن استخدام المبيدات قد قضى على الأرانب البرية وغيرها من حيوانات تعتبر غذاء طبيعيا للذئاب، كان لدى افتراضى الذى يشبه هاجسا لحوحا، مما دفعنى إلى استعارة جهاز من تلك الأجهزة الكاشفة لاستخدامه، وإن أرجأت التقصى إلى مابعد استبيان حكايات وانطباعات الناس هناك، خاصة من واجهوا الذئاب بالفعل وأصيبوا أثناء ذلك بجروح مختلفة وتم نقلهم إلى مستشفى البلدة.
لم أجد وضوحا فى الصورة التى بقيت بذاكرة المصابين، إذ كانوا مروعين مازالوا ولا يمكنهم استعادة أية تفاصيل أكثر من صوت سعار الذئاب وتكشيرهم عن الأنياب التى كانت تعقر بتسارع. بينما تكررت الإشارة إلى التماع العيون، ولفت نظرى بعض الشيء تعبير لطفلة صغيرة مصابة بجرح عميق فى ذراعها، إذ قالت إن الذى عقرها هو رجل قبيح له أسنان كبيرة كثيرة، ولم أكن أتصور إلا أن ذلك مجرد تعبير موات من قاموس الطفولة المحدود، لهذا عبرته بسرعة وقتها.
لم يكن هناك شيء يجعلنى أبدو مختلفا عن مجموعة الصحفيين الذين هبطوا على القرية لكتابة تقاريرهم الصحفية إذ كانت معى آلة التصوير والمسجل، أما ذلك الجهاز فقد أخفيته فى حقيبة الكتف، وبدأت عملية المسح من شاطيء النهر قاطعا القرية التى تتزخنق بيوتها على الشاطيء، ثم أوغلت فى حقول القرية وراء البيوت، وأخيرا بلغت الجبل الذى يحدق بالقرية وحقولها على مسافة لا تزيد عن كيلومترين.
لقد واربت فتحة الحقيبة بحيث أتمكن من الإطلال بلمحة على مؤشر الجهاز، وكنت مصغيا بانتباه وأنا أمضى إلى ذلك الصوت الإشارى “السيجنال” لعله ينبعث فى أية لحظة، ولم يكن هناك أى انبعاث للصوت مع مرورى بالقرية، ثم الحقول، وحتى سفح الجبل، لكننى عندما رحت أمر بهذه المغارات الصخرية فى بطن الجبل والتى يرجح أنها كهوف تأوى إليها الذئاب وغيرها من حيوانات الصحراء المترامية خلف سلسلة الجبال- بدأ صوت الإشارة ينبعث ثم يتصاعد، يعلو ويتسارع كأنه سيجن.
يا الله، أرعبنى هذا الصوت الصغير الذى يشبه زقزقة أبراص لاطية فى زوايا غرف حارة، صوت الإشعاع الذى يظهره الجهاز، هيء لى أننى شخص ملعون يأتيه الهاجس فما يلبث حتى يتجسد له، ولم يعد هناك أدنى شك فى أن هذه الكهوف التى تأوى إليها الذئاب بها مواد تجرد الجزيئات المستقرة من إلكتروناتها فتؤينها، تجنها، فهل هى نفايات مشعة تم دفنها سرا فى هذه الكهوف، أم أنها مواد أصيلة فى تكوين صخور الكهوف؟ سؤالان كبيران يمضيان فى طريقين متعارضين تماما، ولم تكن لدى إمكانية للإجابة على أى منهما، فاكتفيت – وقد كنت وحدى عند أقدام الجبل وفى وقدة الظهيرة- بإخراج الجهاز ووضعه عند مدخل لأحد الكهوف وتصويره فى لقطة مركزة تظهر حركة المؤشر، ثم مضيت للمبيت فى إحدى الخيام التى أقامتها إدارة المنطقة للصحفيين وغيرهم، حتى يأتى الصباح، لأستيقظ مبكرا وأرحل فى أول قطار يتجه إلى العاصمة.
أى صدفة غريبة، أو قصد مريب، جعلهم يسكنونى فى خيمة أكون بها وحدى، فلا يفصل فى أمر حيرتى آخر أو آخرون؟ هل كنت أحلم حلما فظيعا أم كنت أصحو على صورة فظيعة؟ لقد رأيت ما يوشك أن يكون رجلا بشعا بأنياب كبيرة وعينين بارقتين، سمعت منه صوت تحرش مسعور، ثم صار الرجل اثنين، فثلاثة، فخمسة، ولم أعد أميز غير حلقة من ذئاب تتأهب للوثوب، وعندما وثبت هى وثبت أنا وإذ بى أصطدم بعمود الخيمة فتسقط لمبة الجاز المعلقة بأعلى العمود وتؤج النار.
كانت الخيمة تشتعل بشراهة وتوهج، وكأنها صنعت خصيصا من نسيج سريع الاشتعال، وكان هناك من يمسك بى حتى يمنعنى من الاندفاع نحو النار إذ كنت أفكر فى إنقاذ أشيائى، خاصة الكاميرا والأفلام التى صورتها وجهاز الجيجر، راحت جذوة مسعورة تضيء ما حولها من ظلمة، وعاودنى هاجس الوجوه البشعة، فكنت أرتعش بين أيادى من يمنعوننى من الاندفاع نحو النار.. كنت خائفا من الالتفاف والنظر إلى وجوههم.