تعديل طفيف فى حجرة قارىء عجوز
يوسف السعيد رخا[1]
أبى رجل عجوز. أحيل إلى المعاش منذ سنين. أنا لا أذكر متى بالضبط، إذ كنت صغيرا جدا أيامها، ولكنى أعرف من زمان أنه على المعاش. أبى طيب. كان يلعب معى دوما، ولم يضربنى أبدا – حتى وأنا صغير. ورغم أنه كان يخاف على أكثر من اللازم – وما زال – ورغم أن ذلك يضيق صدري.. أنا أحب أبي. أحب الجلوس معه فى صباح أيام الجمعة والسبت الشتوية، نجلس على الأرض إلى جانب الشباك، ويغسلنا شعاع الشمس. أبى طيب. ولكنه – على ما يبدو -لم يكن يدرى كيف يعامل الأطفال. كان يخاف علي. لم يكن يسمح لى بأن أغامر، والمغامرة ضرورية. ربما لم يكن يدرك ذلك – وربما أدركه، ولكنه لم يسمح لى بالمغامرة على أى حال. ولكنى لم أستسلم. فجأة وجدنى أتحرك- وقد أرادنى أن أستكين- وجدنى أتحرك وأروح وأجيء، بل أغامر رغم أنف أبى العجوز، ويبدو أن ذلك صدمه.. ولم يكن هذا كل ما صدمه. كانت هناك أشياء أخري.. لم أعد أرى أبى كثيرا فى هذه الأيام، فهو فى أغلب الأحيان يكون نائما. ولم نعد لذلك نجلس سويا فى أيام الجمعة والسبت، ولم تعد شمس الشتاء تدفئنا، أنا صرت أتدفأ بحرارة الأباجورة وأنا أذاكر، أو أبذل مجهودا زائدا عما يجب أن أبذل، لكى أشعر بالحرارة، وهو ملفوف فى بطاطينه أو ألحفته يتدفأ. وكلانا – على ما أعتقد – ما زال يشعر بالبرد.. لقد أطلت. على أى حال، ما كنت أرغب فى قوله هو أن أبى عجوز، وأنه على المعاش منذ زمن طويل، وأن ذلك -فى حدود علمي- لم يعد يضايقه. فهو الآن ينام كثيرا كثيرا، يشغل وقته بالنوم، وكان فيما قبل يسمع الراديو باستمرار، وكان يقرأ.. وكان كذلك يشاهد الأخبار وبعض ماتشات الكرة. كانت له حجرة صغيرة انتقل إليها بعد ما استحال بقاؤه فى حجرة أمي، إذ أن كليهما اتهم الآخر بالتشخير أثناء النوم. ولم يعد ثمة شىء يؤيد بقائهما معا، أصبح الصالون حجرة لأبى وانفردت أمى بحجرتها. أنا وحيد، ولى حجرة مستقلة لذلك. وكنت قد تعودت أن أنام وحدى قبلما تحدث الفرقة بزمن طويل فلم يكن ثمة فرق بالنسبة إلي. لكنى مع ذلك كنت أسمع شخير أبى فى بعض الأحيان آتيا من الصالون. ولم أكن مع ذلك أعبأ بالشخير. ولم أكن أخبر أبى بشىء.
بيتنا متواضع – على الأقل عندما أقارنه ببيوت أصحابى يكون كذلك، كنت أخجل عندما يأتى أحدهم إلى وكنت أطلب من أمى أن تنظم البيت وتنظفه: تجعله أنيقا، وبخاصة حجرة أبى: كنت أريد الكنبة التى يستخدمها أبى كسرير أن تعود كنبة أمام أصحابي، وكانت أمى تقلبها كنبة فعلا فأهدأ قليلا، ولكنى أشعر بالخجل. رغم ذلك كنت أريد بيتنا أن يصبح فخما. لكن الأمر لم يكن يهم أبى قط، وإن خطر ببال أمى بعض الأحيان. كان كلما حدثته فى هذه الحكاية يزمجر ويحدثنى عن الرضا والاعتزاز كان يقول: “نصيبنا يا بني!” ولم أكن أحب أن أراه مزمجرا. لكن الشقة سيئة للغاية، ويجب أن تتغير، كنت أعرف أنه محال أن “نعزل”، ولكن يمكن أن نصلح من مظهر الشقة ذاتها. “فيها إيه مثلا لو هدينا الحيطة دي، وخليناها صالة كبيرة”. انتفض أبى عندئذ وسألنى أين ينام إذن.
قلت له: مع أمي. انتفض مرة أخرى – وكان يكره أى تغيير -ونظر إلي- (لاحظت ساعتها أن عينيه غائرتان أكثر مما ظننت): “اللى تشوفوه!” لم يرد أن يخيب أملى أو يخذلني، رغم أنه لم يكن يريد الحجرة أن تزول، وكان لابد من أن تزول حتى تصبح الشقة فخمة، لم يرد أن يخيب أملى على أى حال.قال “اللى تشوفوه!”.
ولم يكن الأمر بهذه البساطة، أى أن أبى والحجرة كانا قد صارا شيئا واحدا إلى حد كبير، كان يمضى الوقت كله فيها. كنت تسمع صوت الراديو والتليفزيون وصوت الصفحات وهى تنطوي، كان أبى يحييها. وكانت هى الأخرى – على ما يبدو – تحييه، كانت بها مكتبته البنية القديمة: تعج بالكتب. وكان بها تليفزيون أبيض وأسود يستعمله أبى أحيانا. وكانت تشعره – على حد قوله- بالاستقلال. لكننا استهنا بقوله هذا حينما قاله وضحكنا وقلت له إن الوقت حان وسوف يعود مجبرا إلى حضن امرأته، يا له من يوم، ذلك الذى بدأنا العمل فيه! كنت سعيدا فى هذا اليوم -رغم تعبي- أضحك وأمرح كثيرا، أنا أذكر هذا اليوم جيدا: الكتب تعبأ فى زكائب، الأثاث يحمل إلى الخارج، الحيطان تلطخ بمادة لزجة بيضاء، والعمال داخلون خارجون. ها هى المطرقة يحملها الرجل: خبطة تكاد تصم الآذان، والحائط ينهار، الحجرة المعزولة الصغيرة تتوحد رويدا رويدا مع الصالة التى بدأت تتسع. بيتنا فى طريقه لأن يكون فخما. أجل، وقد ازدادت المسافة بين الباب الخارجى والحائط الأخير فى الصالة كثيرا، وأصبحت المسافة التى بينى وبين أصحابى أقصر وأقصر.
لا أعرف إذا كان حبه لى قد ضؤل منذ هذا الحين، لكنه – على أى حال- ما زال يحبني.. وإن لم أعد أحقق له ما يريد “لا تركب تاكسيا!” كنت قد أصبحت أثور على مثل هذه المطالب. وأبى بدوره لم يعد يطلبها، أبى طيب ولكن يبدو أنه صدم صدمة كبيرة. يومها انزوى فى جانب على سرير أمى ولم يخاطب أحدا. لكنه – إذ سمع صوت ورق يقطع بعد قليل – خرج يجري: “الكتب!” ولم تكن الكتب قد مسها سوء، لكنه ظل قلقا عليها حتى انتهينا، عاد يرقد على السرير فى سكون، فى صمت، لا يسمع له صوت وسط الخبط والرقع، لا أكاد أراه. كانت لأبى حجرة، ولم تعد لأبى الآن حجرة، وهو لذلك فى حجرة أمى لا يبرحها، أبى مجبر على البقاء فى حجرة أمي، سألته مرة بعدما انتهينا إن كانت الشقة تعجبه، قال: “حلوة لكنها جعلتنى من اللاجئين!” وضحكت، وضحك.. فإن أبى طيب وهو يضحك فى أحلك الظروف، لكنه لم يعد يضحك كثيرا الآن.
أبى الآن فى حجرة أمى، وبالتحديد على سرير أمي، لا يغادره إلا للذهاب إلى الحمام، لم يعد يقرأ أو يسمع الراديو أو يشاهد التليفزيون.. أصبح ينام كثيرا. لست أعرف ما الذى أصابه. لكنه أصبح هكذا منعزلا منذ عاد إلى حجرة أمي، فى غمرة فرحتنا بالشقة لم يعبأ أحد منا بالعجوز الذى كان قد تغير كثيرا.. مرة وأنا أتحدث معه قبل خروجى فى الصباح، ذعرت. فقد وجدت وجهه ضامرا ضامرا وعينيه غائرتين.. وصوته ضعيفا كالفحيح، لاحظت عندئذ أنه لم يعد يخرج حتى فى أوقات الأكل. أبى الآن فى حجرة أمي، لا يخرج منها إلا ليذهب إلى الحمام. ونحن نحضر له الأكل فى السرير.
8-3-1992
[1] – يوسف السعيد رخا: طالب مصرى فى المرحلة الثانوية. شكرا (بعد حمد الله – مصر بخير واعد)