مثل وموال:
الإنسان المصرى: حالة كونه مهموما، حزينا:
عن الهم والناس
أكثر فأكثر، بفعل إغارة الطب النفسى، والاشاعات النفسية، والرطان النفسى، والأبحاث الأرقامية، يصبح حديثنا عن الحزن، ومعايشتنا للهم، من الأمور المستوردة، فنستعمل كلمة الاكتئاب بدلا من الحزن، ونستعمل كلمة الانقباض بدلا من الهم، (أو بدلا من أن يقول أحدنا: أنه متنيل بستين نيلة!!!)، وحين نحاول أن نبحث فى الفروق الحضارية نصيغ بحثا علميا بمنهج مستورد أيضا، نسأل فيه الناس أسئلة ماسخة فيجيبوننا إجابات جوفاء، والبادى أظلم، ثم ننشر أبحاثنا فى مجلاتهم، أو مجلاتنا الـ “كنظام مجلاتهم”، تحت عنوان ما هو “عبر الحضارات Cross cultural ولا يعتنى العالم منا أو حتى المريض، أن ينظر حوله (وخلفه وداخله) ليتعرف على جذور الحزن وحركية الهم ومداخل الغم وتداعيات “النيلة الغزيقة” كما تظهر فى نبض الناس بلا تشويهات مسلسلاتية، أو وصاية طبية، أو علمنفسية.
وسوف نحاول فى هذا الفصل من هذا الباب أن نلقى بالرشاء إلى بئر الحدس الشعبى فى هذا الموضوع (موضوع الحزن فى عمق حدته، كيف يعايشه الناس بأمثالهم التلقائية) فلنسمع:
“باب الحزين معلم بطين”
وهذا أول إعلان لطبيعة الحزن إذا ما أعلن، وظهر سلوكا ظاهرا معيقا لصاحبه، منفرا منه من حوله، فهذا النوع من الحزن المعلن، هو حزن من نوع خاص: شديد وثقيل – وقد يحمل هذا المثل أيضا، فكرة وشم المرضى بمرضهم، كما قد يكون حافزا ضمنيا لعدم التمادى فى الحزن إلى هذه الدرجة.
على أنه يبدو أن “لفظ الحزن” يرتبط بهذا الظاهر السلوكى أكثر من ارتباطه بالغم الداخلى المتغلغل حيث يوصف هذا الأخير أكثر فأكثر بالهم، فالهم عادة متعلق بمعاناة داخلية، وبفرط التعامل الرقيق مع مجريات الأمور، فحين يقول المثل:
“قلوب عليها دروب، وقلوب ما لهم تدوب”
إنما يشير إلى علاقة الهم بتلك الرقة المشاعرية التى تنبض مع الأحداث، وتواكب الآلام وتذوب تجاوبا وتفاعلا، فى مقابل أولئك الذين تبلدت مشاعرهم إذ توارت وراء جدران اللامبالاة والجمود، الأمر الشديد القرب من تعبير القرآن الكريم: “بل على قلوب أقفالها”.
وأصحاب الهم، الذين يعيشون هذه الرقة المفرطة، لا يخدعون بمظاهر الهم المبالغ فيها، أو بظاهر الشكوى، ونعابة الألفاظ، وقد يكون من أكبر ما يجرح المهموم (رقة) أن يشاركه آخر بغير مشاركة، أو أن يسمع توجعا هزيلا من إنسان لا يعيش عمق ألم المعاناة، وهنا يحتج عليه المثل:
“خل الهم لاصحابه”
وهذا الإنسان الصادق الهم، العظيم الألم، قد يصبح فى قبضة رقة مشاعره، وفرط تفاعله بطريقة متصاعدة يعجز إزاءها أن يوقف التيار، أو يحد من التمادى بأن يلملم نفسه ويجمعها، وهنا يقفز لفظ عامى شديد الحضور: “اللم”[1] وهو لفظ له جذوره العربية (تنبو الحوادث عنه وهو ملموم)، ويستعمل استعمالا ذكيا فى المثل والأغنية الشعبية: (اتبعزق وانا المك: ياغصن البان) فحين يحاول المهموم أن يلم همه فيتكاثر عليه ويتزايد يعلن أنه:
“هم ما يتلم”
ثم يأتى الشعور بالزمن للمحزون فيثاقل حتى يكاد يتوقف، ويشعر المحزون بهذا البطء الجاثم كجزء لا يتجزأ من معاناته، إلا أن هذا لا ينبغى أن يؤخذ بالمعنى الشائع: من أن المكتئب أو الحزين يصاب ببطء فى الحركة والايقاع، بل إن الأولى أن نرى هذا البطء الظاهر من وجهة نظر أخرى باعتباره زيادة فى حدة وعيه بالحركة من جهة، فيرصدها بألم مفرط، يرجو معه أن تسرع خطاها فلا تفعل، لذلك هو يدرك تماما أن:
“السنة السودة خمستاشر شهر”
فهى خمسة عشر شهرا على الأقل، لأنه يرصد حركتها بوعى يستعجل مرورها، لعل الهم يزول، أو على الأقل تقل حدته، ونجد هذا المعنى فى الأصل العربى بأدق ما يمكن وصفه حين ننصت إلى امرئ القيس:
وليل كموج البحر أرخى سدوله على بأنواع الهموم ليبتلى
ويتأكد هذا الابطاء فى معلقة امرئ القيس حين يتمطى الليل “…… وأردف اعجازا وناء بكلكل” والأجمل والأبطأ والأثقل والأجثم حين ربطت نجوم هذا الليل (بلا حراك) “بأمراس كتان إلى صم جندل”.
كذلك لا ينبغى أن نسارع باعتبار أن الهمود هو بالضرورة إشارة إلى مجرد الإبطاء إذ أنه أيضا، وربما قبلا، تعبير عما هو عجز عن حمل ثقل الرؤية المتعلقة عادة بالوعى بتكاثر الهموم على قلب يذوب رقة، فيتقطع هما: ففى العديد:
“أهم ما قدر أهم، أكنى جمل تقل على الحمل”
(لاحظ هنا قرب فعل “أهم” من لفظ “الهم”)
وقد يكون هذا العجز فى حالة الحزن ناتج عن الاعاقة الداخلية الناتجة بدورها عن فرط الرؤية، وقد يكون ناتجا عن فرط الوعى بشماتة الناس وتخليهم ومعايرتهم، فالقدرة موجودة لولا هؤلاء وإن حملونى حمل الجمال الحمر،الحمل أشيله بس الكلام المر
وإن حملونى حمل الجمال البيض، الحمل أشيله بس الكلام يكيد
وبدءا من هذا المنطلق نحاول أن نتقدم خطوة إلى علاقة الحزن (بما يسمى الاكتئاب) بمشاعر الشك والتوجس (ما يسمى البارانويا)، فاصل الموقف الاكتئابى أن يلوم الإنسان نفسه ويحط من قدرها دون الناس، I am not O.K. You are O.K. حسب مقولة “إريك بيرن”، وأصل الموقف البارنوى هو العكس أى أن الفرد يلوم الناس ويتوجس منهم مبرئا نفسه معليا من شأنها، لكن الخلط بين الموقفين شديد إذ قد يتبع أحدهما الآخر: فعلاقة المكتئب بالناس (بالموضوع) متعددة الأشكال:
ففى شدة معاناته يفكر فى ألم الشماتة، وفرحة العدو:
“اتحرق الوش والقفا، والعدو لسه ما اشتفى”[2]
وأحيانا ما تصل المبالغة فى تشويه الذات وإيذائها إلى ما يشير – بشكل غير مباشر – إلى محاولة تقمص المعتدى وإرضائه بهذا التمادى فى التدنى، نرى هذا فى أوقات المهانة الساحقة والتسليم المذل (قارن ما فعلناه بأنفسنا بعيد حرب 1967 وهو أكبر مما فعله بنا العدو بشكل ما).
وعلى العكس من ذلك فقد يخفى المكتئب حزنه، إما مسايرة للناس، وإما يأسا من مشاركتهم:
“السن للسن يضحك، والقلب كله جرايح”
وهناك من الناحية المدرسية التقليدية ما يسمى الاكتئاب الباسم smiling depression وقد يكون قريبا مما نشير إليه هنا، أو لعله قريب أيضا من اخفاء المكنون – إن كان هما أو وحدة أو يأسا:
“يا قلبى يا كتاكت يا ما انت شايل وساكت”
وأخيرا فإنه من عمق بذاته، قد يصل الموقف إلى الاستسلام، وبدلا من أن يظهر الحزن على ظاهر السلوك فى تعبير الوجه، أو نبرة الصوت أو محتوى الكلام تحل محله لا مبالاة تسمى أحيانا “البلادة الاكتئابية” Depressive apathy وهذا العرض بهذا الاسم يشير إلى أن الاكتئاب بلغ من الشدة بحيث كادت البلادة تحل محله تخفيفا لما لا يطاق من آلام، ويقال هنا إن المكتئب نفسه لا يكاد يعلن اكتئابه رغم شعور المحيطين به وظهور آثاره فى سائر مجالات السلوك الأخرى، وعندى أنها ليست بلادة بمعنى اللامبالاة فعلا ولكنى تصورتها تراكما للانهاك حتى الاستسلام، “واهو كله محصل بعضه”
“قال: شنق ولا خنق، قال: أهو كله فى الرقبة”
وهذا أقرب مع الفارق، إلى: “وما يضير الشاة سلخها بعد ذبحها”.
وبعد:
فإنى لا أتصور أن مثل هذه القراءة فى وعى الناس يمكن أن تحل محمل الدراسات المنهجية لما هو اكتئاب مثلا، لكنى آمل أن نتحسس من هنا نقط انطلاقنا – فى بحث منهجى -!! إلى ما هو نحن كما نحن.
[1] – لم لما: جمعه جمعا شديد، ويقال: لم الله شعثه، ولاحظ أن اللفظ المقابل بالعامية الذى يشير إلى العكس هو بعزق، له أصله العربى الجميل: بعزقه: فرقه وبدده فى غير موضعه.
[2] – بديهى أن هذا المثل غير خاص بالمكتئب، فأنا استعمله هنا دون قصره على هذه الحالة.