عدد اكتوبر 1985
المخ والسلوك فى الصحة والمرض
(بداية الحوار)
أولا: تعليق على بحث المخ البشرى: م. ابراهيم عادل
ثانياً: تعليق على التعليق: التحرير
غامرنا فى العدد الماضى (يوليو 1985المجلد السادس/ العدد الثالث) بنشر ترجمة كاملة لمقال (فرضى) لعالم مفكر(فاينبرج) يحاول أن ينظر الى السلوك (المرضى خاصة فى حالة الفصام) من خلال ما يطرا على فشل محدد فى خطوة هامة فى تنظيم المخ هى:
“عمليات الاختزال والعزل والتشذيب لغابة المشتبات العصبية التى تتم قبيل المراهقة بنسبة هائلة العدد شاسعة التداخل”
وقد قلنا فى نهاية التقديم لهذه الترجمة أن المسألة… هى اثارة فكرة ،وليست ابلاغ خبر – ووعدنا “أن نواصل الحوار كل عدة أعداد حول موضوع واحد” – وطلبنا رأى القارئ غير المختص، كما أرسلنا الى بعض الزملاء من المختصين وغيرهم طلبا محددا لرأيهم الخاص أو المدعم بما يرون من مراجع أو هوامش.
ولا شك أننا كنا – ومازلنا – طموحين تماما، الا أننا لابد أن نعترف، وفورا، أن المسألة بدت أصعب من كل تصور، وأن اللغة البيولوجية غير المألوفة كانت بمثابة صدمة حقيقة للقارئ العادى، بل وأكاد أقول وللقارئ المتخصص أيضا، وخاصة ذلك الذى اعتاد أن يقرأ مثل هذا المقال بلغة أجنبية (انجليزية فى العادة)، فمن خلال اللقاءات الشخصية الشفهية بلغتنا الاحتجاجات المباشرة العاتبة والرافضة معا، حتى قال أحد الأصدقاء المحبين مازحا” أنه يود لو حبس المترجم فى حجرة معمل أبحاث فئران التجارب وضل يضربه على مشتبكاته، ربما: حتى يفهم منه: لم كل هذا، ولماذا؟” وقال آخر “ما كنا كوسين!!” أما المبادرات التلقائية للتعقيب على هذا المقال البداية فكانت صفرا، ثم جاء دور الاستجابات لمطلب محدد من بعض الزملاء، فلم يصلنا الا تعقيبان وخطاب واحد، أما التعقيب الأول فهو من زميل تحرير غير مختص (مهندس: أبراهيم عادل) – والثانى من زميل طبيب نفسى مختص (د. عماد حمدى مدرس الطب النفسى. قصر العينى وسكرتير عام الجمعية) – وأما الخطاب فهو من أديب غير غريب عن هذه المجلة: وفاء خليل – فكأن المسألة ما زالت “فى بيتها” وليس هذا هو مطلبنا اذ نستطيع فى حدود هذه الدائرة الضيقة أن نجلس فى ندوة
“علمية” محدودة، ونتناقش فيما نراه حول الموضوع.
لكن وعودا واضحة من زملاء أفاضل طمأنتنا الى أننا لم نشطح كثيرا فى طموحاتنا، كما أن وعودا أخرى غامضة شجعتنا على الاصرار والصبر قبل أن ندمغ التجربة بالفشل.
ولا بأس أن نكرر ما وراء اصرارنا هذا على طرح هذه “اللغة” واستمرار هذا الحوار.
1 – فنحن نرفض وضع” التلقى” المزمن من القارئ غير المتخصص، وخاصة وهو يقرأ أخبارا “علمية” فى صحف سيارة، أو كتب دعائية، فما أسهل ما” يؤمن” القارئ بخبر منشور عن رائحة عرق الفصامى، أو” دواءلتحسين الذاكراة” ، يؤمن مستسلماً أو مشدوها أو حالما دون أى وعى نقدى مشارك، فلهذا نقول:لا
2 – ونحن نرفض احتكار” الكيمياء” (التى أصبحت أخيرا أقرب الى السيمياء القديمة) لما هو بيولوجى، ونحاول أن نعيد لكلمة البيولوجى أصلها لتصف ما هو “حيوى” ولتشمل ما هو فيزائى حديث، وترابطى متصاعدة، وبنائى واعد.
وبالتالى نحن نرفض وصاية” شركات الأدوية” على صحة الناس، وما لم ينتبه العامة(أصحاب المصلحة الحقيقة) الى قصور هذا المفهوم” الميكانيكى/ الكيميائى” للمخ والانسان، فستظل الاحتكارات الدوائية هى الموجهة للبحث العلمى، والجهود العلاجية على حساب الوعى الأشمل والابداع والتطور.
3 – ونحن نرفض احتكار قاموس” التحليل النفسى” لما هو نفس، ذلك القاموس الذى ابتذل من كثرة وسطحية تداوله الى أن ابتعد حتى عن نظرية التحليل النفسى فى جوهرها التاريخى، وحدودها التطبيقية، وقصورها الاختزالى.
4 – ونحن نرفض هذا الاختزال التنويمى الذى بدأ يشيع فى مجتمعنا خاصة من خلال الموجة المسطحة لفهم الدين ومعانى” الاطمئنان” الذى يبعثه، اذ أن أغلب ما ينشر حول ما يسمى الطب النفسى الاسلامى انما يتناول – بحسن نية فى الأغلب – المفهوم الساكن للصحة النفسية، ونحن نحاول – منذ صدور هذه المجلة – أن نتقدم الى الدين من منطق التطور دون أغفال الجانب البيولوجى فى سيفونية العلاقة الابداعية بين الانسان – التناهى (الكون الأصغر) – والحق تعالى – اللا متناهى(الكون الأعظم) – ونرى أن معرفة عمق لغة البيولوجى قد تؤكد معنى”الكدح” الى التناسق الأعظم” فاللقاء” أكثر مما يؤكد معنى” الهدوء الراضى” و” التلقى السلبى” – ونحن لا نطرح بذلك بديلا لتفسير نصوص دينية، فهذه مخاطرة لا تعرف مدى عطائها الايجابى فى مرحلة الجهل الدينى والعلمى المطبقين على عقولنا وضمائرنا جميعا، وانما نحن نتصور أن كل عطاء صادق هو سبيل موازنة للمعرفة، وبالتالى، فهو اسهام فى تعميق وتوجيه واطلاق أصالة الفطرة البشرية: غاية الأديان جميعا.
لكل ذلك.
سنواصل الحوار حتى نعتاد اللغة الجديدة ونثير التفكير اليقظ فليحتملنا القارئ غير المتخصص وليدل بدلوه.
ولينقدنا القارئ المتخصص بما يرى.
ولا نجد مفرا من اعادة عرض فرض فاينبرج موضوع الحوار، وقد يتكرر ذلك فى كل عدد حتى ينتهى الحوار حوله: أولا: لأننا لا نضمن أن قارئ هذا العدد قد سبق أن قرأ المقال الأصلى فى صورته الكاملة.
وثانيا: لأننا نأمل من خلال هذا العرض الموجز، وندعو مزيدا من القراء للمشاركة.
الفرض:
أولا: هو فرض لا أكثر (لانظرية ولا(1)قانون)
ثانيا: ظهر مقال فاينرج (موضوع الحوار) بعنوان:
الفصام: هل هو نتيجة خطأ فى العزل المبرمج للمشتبكات العصبية خلال مرحلة المراهقة؟
وهذا يؤكد – ومن البداية – أن المفكر يريد أن يؤكد عدة ملاحظات متتابعة، ثم يحاول بعد ذلك أن يربط بينها:
1 – أن ثمة” برمجة” تحكم نمو المخ واعادة تنظيمه فى أوقات بذاتها من فترات النمو، والبرمجة تعنى أن ثمة تنظيما معدا مسبقا (من واقع الوراثة – الاستعداد الخاص بالنوع ثم بالفرد من أسرة بذاتها) يفرض نفسه بشكل شبه ثابت (ونؤكد على كلمة”شبه” هنا)، لكن عوامل البيئة(وخاصة البيئة الباكرة” تسهم فى هذه البرمجة بشكل أو بآخر، والتعبير عموما مستعار من لغة الحاسبات (الكمبيوتر) الحديثة.
2 – أن ثمة عزلا للمشتبكات العصبية يتم نتيجة لهذه البرمجة، وهنا ينبغى أن ننبه الى أن التصور البسيط السائد عند العامة هو أن النمو يتم دائما” بالزيادة” لا بالنقص، فالطفل تزيد قدرته على المشى بمرور السن، وتزيد حصيلته اللغوية وتزيد مهاراته المتنوعة، ولكن ما فاجأنابه فاينبرج هو أن هذه الزيادة الوظيفية أنما تتم – فى الأغلب – نتيجة لنقص فى” كم” المشتبكات، ويتم هذا النقص بالعزل (= الاستعباد -ـ التشذيب…….. الخ).
3 – أن هذا الانقاص فى المشتبكات(= العزل، التشذيب، الاستعباد… الخ). يتم بصورة خاصة وجسيمة فى فترة المراهقة بالذات، وأن هذه الخطوة هى المسئولة (من وجهه نظره) على قفزة اكتساب القدرات المستقرة بعد المراهقة (مثل تفكير” حل المشاكل”) – وبالتالى فتزكير هذا الفرض ينصب على التطورات التى تحدث فى فترة المراهقة خاصة.
4 – أن الفصام يحدث نتيجة لفشل هذا العزل والتشذيب، فتقل غابة المشتبكات (مناطق بين الخلايا العصبية= مفترقات الطرق فى المخ) فى التفاف مزاحم معطل، مما ينتج عنه أ) فرط الترابط بغير جدوى وهذا ما يظهر فى صورة السلوك المشوش المتعدد الاتجاهات معا (ب) توقف النمو أو حتى نكوصه.
وعلى ذلك:
فنحن لا نستطيع أن نعمم هذا الفرض أكثر من حدوده، وكل هذه الأسس قد ضمنها الكاتب بذكاء وتواضع معا، (فى صورة “التساؤل”وليس “التقرير”) فى عنوان مقاله. ثم ينطلق فاينبرج فى عرض منظم لمعلومات جزئية، حصل هو على بعضها من خلال تجارب معملية مضبوطة، وحقق غيره نتائج البعض الأخرى، وهذه روعة احترام” كل المعطيات” الأمينة، فلا يوجد فرض جيد ينشأ من فراغ (انظر حوار هذا العدد) – ولا يمكن أن تحل الفروض محل الملاحظات المضبوطة والمسجلة، بل ان الفروض العلمية الجيدة هى التى تحترم كل المعطيات مهما صغرت،أو استقلت، ثم تحاول أن تقربها من بعضها فى “جملة جديدة مفيدة” تثير بدورها فيضا هائلا من الأبحاث الجزئية الأمنية…… وهكذا – وبدون هذه المسيرة المتصلة بين أمانة التسجيل ومحاولة التجميع فالتنظير فالرؤية الرائدة، يتوقف العقل البشرى عن العطاء الابداعى، وقد حاول فاينبرج أن يستفيد من ملاحظات محددة مثل:
(ا) تغيرات رسام المخ الكهربى أثناء النمو (وعند الفصامى) ،
(ب) قصر المدة بين احداث” الحدث”، والاستجابة له خلال فترة المراهقة وبعدها – مما يدل على الاختصار والمبادرة (نتيجة للتشذيب السالف الذكر)
(ج) نقص حاجة المخ للأكسجين فى فترة المراهقة (دليل على أن المخ يعمل بكفاءة أكبر بأقل قدر من الطاقة،
(د) قلة المرونة فى وظائف المخ عند المراهقة (مما يدل على استتاب التوصيل المنظم فى المشتبكات بعد استبعاد “الفائض المعطل” – بكسر الطاء وتشديدها -)
(ع) زيادة كفاءة نوع التفكير المسمى” حل المشاكل” عند المراهق، على حساب وفرة
“احتمالات الحلول المتعددة” دون نائج حقيقى عند الطفل.
(وكل هذا كان موجزا فى التقديم فى العدد السابق، فعذرا للاعادة ثم استنتج فاينبرج من كل ذلك(ا) أن ثمة برمجة تؤدى الى التشذيب المسئول عن هذا التنظيم المحكم فى فترة المراهقة(ب) أن ثمة تنافسا تطويرها بين الخلايا، (يشبه الى حد ما، التنافس الدارونى بين الأنواع)
ولكن البقاء للخلية المرتبطة بالهدف الفاعل فى مرحلة بذاتها (وليس البقاء للأقوى)
(د) أن العجز عن تنفيذ هذه البرمجة فى حينها يؤدى الى”أزدحام” المخ بغابة من المشتبكات، ومن ثم فرط التقاطعات المؤدية الى ما يسمى بالفصام فى مرحلة المراهقة.
وبعد
فلن نكل من الاعتذا عن التكرار – كما لن نكل من التكرار والآن، الى ما جاءنا من تعقيبات، مع محاولتنا للحوار معها.
أولا: تعليق على بحث:المخ البشرى
م. أبراهيم عادل
أشكر للمترجم فضل فتح هذا الملف الخطير، فالبحث هام ومثير وهو يبدأ من زاوية بيولوجية، ولكنه ينتهى بنظرة تكاد تكون كلية للمخ البشرى.
يدور البحث حول فكرة محورية مؤداها أن هناك تشذيبا أو عزلا مبرمجا للمشتبكات العصبية يحدث فى مخ الانسان، وأن معدل هذا التغير يزداد فى فترة المراهقة. ثم يستطرد بأن حدوث خلل ما فى هذا التغير ينتج عنه مرض الفصام أو بعض أنواعه، وقد برهن الباحث على حدوث هذه التغيرات فى المخ البشرى، وساق لتأييد ذلك أمثلة عن بعض التغيرات التى تحدث فى الأجهزة العصبية للقطط والفئران بعد الميلاد، والحقيقة أن هذه الفكرة لم تبد لى غريبة، بل انها من وجهة نظرى ليست فكرة جديدة، فقد فطن داروين منذ فترة طويلة الى حدوث الكثير من التغيرات التشريحية فى الكائن الحى فى مختلف أطوار حياته، وبالرغم من عدم استخدام داروين لنص التعبير” أن هذه التغيرات مبرمجة فى جينات الكائن الحى” الا أن هذه التغيرات هى تغيرات تكيفية وراثية اكتسبها الكائن الحى خلال التنافس الطويل لأسلافه الكائنات الأخرى، وأنه بفضل هذه التغيرات تمكن أسلاف الكائن الحى من التفوق فى الانتقاء الطبيعى الذى حدث بينهم وبين أقرانهم ويحدث بعض هذه التغيرات خلال المرحلة الجنينية ويحدث البعض الأخر بعد ولادة الكائن فى مختلف مراحل العمر. الا أن داروين ومن تبعه من علماء التطور قد نبه الى نقطة تبدو ذات مغزى كبير، تلك هى أن هذه التغيرات ولو أنها تغيرات تكيفية الا أنها فى نفس الوقتتحاكى التاريخ التطورى للكائن الحى ، فأجنة الحيوانات تتشابه فى مراحل نموها الأولى ثم تختلف أشد الاختلاف بعد ذلك، ومن ذلك ظهور الخياشيم للجنين البشرى ثم ضمورها، وظهور عظم الذيل ثم اختفاؤه، وظهور شعر الجسم فى مرحلة متأخرة قبل الولادة أو بعد الولادة، ولم ينبه داروين للتغيرات التشريحية الأكثر خفاء مثل التغيرات فى تركيب المخ أو الغدد الصماء الا أن البعض ممن تلاه من علماء التطور قد تطرق الى تفصيل ذلك. وهنا يحق لى أن أتوقف وأعجب قليلا. لم أغفل الباحث التطرق الى هذه النقطة مع أنها تبدو ذات أهمية؟
ويحق لى أن أسال المتخصصين هل بحث أحد فى مقارنة كثافة المشتبكات العصبية عند الانسان فى مراحل عمره المختلفة وبين الحيوان وخصوصا القردة العليا
يذهب الباحث الى أن هذا التغير المبرمج اذ يزداد معدله فى فترة المراهقة ينتج عنه زيادة كبيرة فى قدرات الانسان العقلية. وأظن أيضا أنه ليس من المستبعد أن هذا التغير المبرمج يستمر بعد المراهقة بزمن طويل وليس من المستبعد أيضا أن” عدم الاستقرار النفسى” فى مرحلة ما بعد وسط العمر، والذى قد يترتب عليه النضوج الفكرى – فى فترة تصلح لنقل الخبرة الى الأبناء – (وقد ترتب عليه التبلد أو الهوس الدينى) ـ هو تغير مبرمج أيضا يستهدف صالح الانسان كفرد وكنوع، وبهذا المعنى فالموت ذاته يعد تغيرا مبرمجا فى خلايا الكائن الحى يستهدف صالح النوع، وذلك بفناء الفرد وافساحه المجال لأفراد جدد بعد نجاحهم فى تخطى الاختبار القاسى للتنافس مع أقرانهم على البقاء، وبعد اكتسابهم جزئيا لخبرة الآباء.
ان فكرة تقليل المشتبكات العصبية للوصول الى أكفأ الطرق لحل المشكلات ليست فكرة غريبة أيضا، وهى فى نفس الوقت فكرة جيدة وعملية، ولكن لى ملاحظة أو تحفظا عليها. ولزيادة الايضاح أسوق المثل الآتى: للوصول الى حل مشكلة معينة فانه كلما زاد عدد الطرق المطروحة للحل، زادت امكانية حل المشكلة حلا أفضل بشرط توفر الزمن اللازم كما أن الحل الأمثل للمشكلة انما يمكن الوصول اليه بعد بحث جميع هذه الطرق، ولكن زيادة عدد الطرق المطروحة يحتاج الى المزيد من الزمن لاستكمال بحث جميع الطرق، ويزداد الزمن اللازم زيادة هائلة مع زيادة عدد الطرق (اذ أن هذا الزمن يتناسب مع مضروب(2)عدد الطرق وليس مع عدد الطرق) ولذا فان اختصار عدد هذه الطرق يصبح ضرورة اذا كان من المراد حل المشكلة فى وقت قليل نسيبا مع القبول بحل أقل قليلا من الحل الأمثل. (وهو الأمر المطروح والمطلوب دائما عمليا).
وهنا يأتى دور الخبرة والتكيف مع العوامل البيئية فى حذف تلك الطرق التى ثبت عمليا قلة جدواها للوصول الى حل معقول للمشكلة فى زمن مقبول، وهو ما يعبر عنه الباحث بقوله: أن الأقل أحيانا هو الأكثر. على أننا سوف نلاحظ توا أن تقليل عدد الطرق المطروحة الى حد كبير سوف ينتج عنه الاضطرار الى القبول بحلول أبعد عن الحل الأمثل. مما يترتب عليه الأتى:
-ـ الأسرع فى الحال يستطيع بحث عدد أكبر من الطرق فى الزمن المتاح ويستطيع بالتالى الوصول الى حل أقرب الى الأمثل.
-ـ الأكثر خبرة والأكثر تكيفا مع العوامل البيئية يستطيع التعرف على الطرق الأقل جدوى واستبعادها. وبذلك يزيد احتمال وصوله الى الحل الأقرب الى الأمثل فى الزمن المتاح.
– هناك ذو التفكير فوق العادى وهو الذى تعرض له مواقف تبدو فيها بعض الطرق قليلة الجدوى ولكن استكمال بحثها يظهر أنها أنسب الحلول وأقربها الى الأمثل.
ومن هنا يأتى تحفظى على أن الأقل هو الأكثر واثارتى للتساؤلات الآتية:
– هل هناك كثافة مثلى للمشتبكات العصبية ؟
– ما هو دور الفروق الفردية؟
– هل تزيد كثافة المشتبكات العصبية فى الأشخاص شديدى الذكاء أو العباقرة
من المنطقى أنه طالما أن هذا التغير المبرمج فى كثافة المشتبكات العصبية يؤدى دورا ايجابيا فى النضوج الفكرى للمراهق، فان أى خلل فيه يؤدى الى خلل فى وظيفة المخ. ولكن لماذا يكون هذا الخلل هو الفصام بالذات؟ ان الأسانيد التى يسوقها الباحث لا ترقى الى مرتبة الأدلة الملزمة. لذا فان العلاقة بين تشذيب المشتبكات العصبية والفصام فى رأيى هى علاقة محتملة وليست ثابتة ويلزم لاثبات هذه العلاقة الاجابة على الكثير من التساؤلات:
-ـ لماذا يحدث بعض الفصام فجأة وبدون مقدمات، بينما المنطقى أن الخلل فى كثافة المشتبكات العصبية
(وبالذات عدم تقليل أو تشذيب هذه المشتبكات الموجودة أصلا منذ الطفولة) وانما يؤدى الى عدم النمو التدريجى للقدرات الذهنية أو على الأقل التدهور التدريجى لهذه القدرات ؟
-ـ ما هى العلاقة بين كثافة المشتبكات العصبية وبين التحسن الذى يطرأ على بعض الفصام بالعلاج بالصدمة الكهربائية أو بالعلاج الكيميائى؟ ولماذا تستجيب بعض الحالات لبعض طرق العلاج دون الأخرى ؟
– ما هو دور العلاج النفسى وما علاقته بتلك القصة برمتها؟
لايفوتنى هنا الاشارة الى بعض مواطن الضعف فى الاستقلال فى البحث ، فمن غير المعقول أن يستنتج الباحث رسم منحنى بيانى كامل لكثافة المشتبكات العصبية عند مختلف الأعمار وفى الانسان مستخدما عينة من 21 شخصا فقط، فالعدد قليل جدا والفروق الفردية بين الأفراد قد تطغى على أى دلالة يراد استنتاجها؟ كما لا يفوتنى أيضا الاشارة الى الصعوبة الشديدة والمخاطر التى تكتنف الأبحاث فى هذا المجال، فالمعلومات المتاحة شديدة الضآلة بالنسبة لجهاز شديد التعيقد كالمخ البشرى، والآدوات المتاحة للقياس – بالرغم من اسمائها الرنانة – هى أدوات شديدة الفجاجة اذا ما قورنت بالدقة والتكوين المركب للمخ البشرى واذا ما قيست نتائجها بما هو معقود عليها من آمال، فجهاز رسام المخ الكهربائى لا يقيس الا النشاط الكهربائى الكلى الخارجى لبعض مناطق المخ والأمر يشبه أننا أعضاء فى جهاز للمخابرات نتصنت على الاتصالات اللاسلكية لأحد الجيوش، ونريد أن نستنتج معلومات مفيدة من هذا التصنت، علما بأننا لا نعلم اللغة التى يتكلمون بها كما لا يمكننا فصل الأصوات التى نسمعها عن بعضها كل على حدة ، وكل ما نسمعه هو (ضجة كبيرة أو ضجة متوسطة – أو سكون).
ولايعتبر هذا الكلام لوما موجها للباحثين فى هذا المجال بقدر ما يعتبر عذرا لهم ، فهو يبين درجة الصعوبة التى تكتنف هذه الأبحاث فالمخ البشرى جهاز شديد التركيب والتعقيد، وقياس النشاط التفصيلى للمخ أثناء عمله يكاد يبلغ درجة الاستحالة، كما أن التوصل الى هذا النشاط التفصيلى عن طريق التشريح شديد الصعوبة لمن يريد التوصل الى تتبع دائرة كهربائية معقدة – دون الاستعانة برسومها الهندسية – فاذا وضعنا فى الاعتبار العدد الهائل من الخلايا والنيترونات ودقة مكوناتها التى تستعصى على الفحص واذا علمنا أن المخ لا يعمل كهربائيا فقط ولكن كيميائيا و فيزيائيا فى نفس الوقت لبدت لنا الصعوبة بحجمها الحقيقى.
ان الفكرة المذهلة حقا فى هذا البحث هى فكرة أن المخ البشرى يطور نفسه ذاتيا بتفاعله مع متغيرات الحياة، ومع احتياجات الانسان، وان هذا التطور يحدث بطريقة انتقائية من خلال التنافس لنيورونى، وأن
هذا يفسر الارتقاء خلال مراحل حياة الفرد كما يفسر القفزة الهائلة التى قفزتها القدرات الفكرية للبشر منذ أسلافنا الأوائل الذين نجحوا فى اجتياز امتحان الصراع على البقاء مع أقوى الحيوانات المعاصرة وحتى الآن، وأن هذا التطور الذاتى يفتح الأمل أمام البشر فى الوصول بفكرهم الى آفاق تفوق الخيال ذاته.
تعليق على التعليق
التحرير
1- لاتتصور مدى فرحتنا بك – مهندسا – “تقول” فيما هو مخ، لكن عذرا، فأنت – بالذات ـ تتصور، أفلست واحد منا؟ ألم نتفق معا على كسر الاحتكار؟ ألم نجتهد أبدا لارساء اللغة العلمية (بالمعنى الأشمل)، فى كل ما نتناول وما نقدم. شكرا.
2 – قولك “….. هو يبدأ بلغة بيولوجية، ولكنه ينتهى بنظرة تكاد تكون كلية للمخ البشرى”، يلزمنا بأن نتذكر – سويا – أن كلمة بيولوجية هى بالضرورة – ورغم ما أصابها من اختزال – “كلية”، ليس للمخ البشرى فحسب، بل لكل ما هو حياة، وأحياء Bio = حياة ology = علم
3 – ادخال داروين فى هذه القضية هو تنبيه ذكى جدا، وان كان خطيرا حيث قد يفتح ملف” وراثة العادات المكتسبة” ولكن بلغة أحدث، وهى لغة البرمجة، ذلك الملف الذى أغلقه بتعصب أعمى من أسموا أنفسهم بالدارونيين المحدثين (بدءا من فايتسمان) وعلماء الورثة(بدءا من مندل) – لكنك تقول” تغيرات تكيفية وراثية اكتسبها(!!) “فشكرا.
4 – لست متأكدا ما اذا كان داروين هو الذى نبه على نظرية الاستعادة التى أشرت اليها Recapitulation theory (التغيرات…… تحاكى التاريخ التطورى للكائن الحى) – أم أنه “أرنست هيكل” الذى يعزى اليه اسم هذه النظرية، ومرادفها ما سمى بالقانون الحيوى Bioorganic Law والذى يقول بأن الانتوجينيا (تطور الفرد) تكرر الفيلوجينيا (تطوع النوع)، لكن هذا هامشى بالنسبة لصلب تساؤلك فى هذه الفقرة عن: “لم أغفل الباحث التطرق لهذه النقطة مع أنها تبدو ذات أهمية؟”
ثم أردفت تساؤلك بتساؤل عن احتمال مقارنة كثافة المشتبكات الانسانية مع القردة العليا (مثلا).
على أنه يخيل الى أن فاينبرج لم يستدل على فرضه، أساسا من “أمثله عن بعض التغيرات التى تحدث فى الأجهزة العصبية للقطط والفئران” – اذ أن ذلك جاء فى هوامش المقال أساسا – لكنه قد اهتم أصلا – كما أشرت أنت – لما يحدث للانسان فى فترة المراهقة أساسا، ولعل هذا هو الرد على تساؤلك لماذا لم يتطرق صراحة الى داروين.
على أنه استعمل القياس الدارونى بعد تطويره فى شرح فكرة” التنافس البقائى بين النيورونات” – وكأن خلايا المخ العصبية تتنافس فيما بينها لتبقى، فلا تعزل، وجعل البقاء للخلية الأكثر ارتباطا بالهدف وهذا التحذير هام جدا من عدة نواح، ذلك أنه ينشخ أن” البقاء للأقوى” أو أنه يفسر أن “القوة” انما تتحدد بالارتباط بالهدف، وهذا ما أسميناه البقاء للأهدف(3).
وهذا النموذج الدارونى، بعد تطوير فاينبرج له يذكرنا بفكرة أريتى عن” الفكرة المحورية “Central idea وهى هى الفكرة الغائيةGoal idea ، بحيث يمكن أن نتصور أن الفكرة التى يعنيها أريتى، هى كيان بيولوجى غائى وليست تجريدا ذهنيا مستقلا(4)وأن ارتباط المشتبك القادر على التنافس البقائى بهذه الفكرة المحورية هو الذى يحافظ على استمراره فاعلا ويحميه من الشذب (العزل).
آسف يا عادل، ولكنى أعتذر لفاينبرج اذ أتذكر – معك – أنه لم يهمل دارون بل هو قد” قاس عليه” قياسا مفيدا جدا، وأعاد تذكيرنا بالغائية، والتغذية الانبعاثية بشكل مثير للتفكير واعادة النظر، فجئت أنت بتعقيبك اليقظ، تنشط فكرنا التطورى.
ولعلك تتفق معنا على تواضع فاينبرج فى التزامه بحدود فرضه المثير، ولكن هذا لا يمنعنا من التذكر والاستطراد دون لائمة عليه.
5 – تنبيهك لنا للحذر من التوقف بفكرة البرمجة الكامنة والمطلقة عند فترة المراهقة باعتبار ما بعدها هو فترة الاستقرار (المزمن نتيجة العزل المشتبكى – على حد تصور فاينبرج) تنبيه رائع، لأنه يتفق حتما مع مفهوم مدارس” النمو” المستمر
(أمثال اريك اريكسون، وأوتورانك، وماسلو، والرخاوى، مع اختلاف لغة ومنظور كل منها) والأهم من بذلك ربطك” عدم الاستقرار” بالنضج المحتمل فى مرحلة ما بعد وسط العمر، بما يؤثر على نقل الخبرة للأبناء – كل هذا يذكرنا بخطورة تأثير البيئة الوالدية على(1) مدى البرمجة الكامنة طول العمر – وليس فقط فى فترة المراهقة، وكذلك على(ب) احتمال تعديل البرمجة المستقبلية بما يصل من رسائل محورة للجيل التالى (وهذه صفحة أخرى من ملف وراثة العادات المكتسبة – وقد أكدت المنظور التطورى بنظرتك الايجابية لظاهرة الموت كخطوة تطورية ضرورية – وقد يكون مفيدا أن نقيس موت الانسان (الفعلى أو الوظيفى)بانفصاله عن هدفه التطورى ومن ثم تشذيب” النوع” من فائض أفراده – بنفس قياس فاينبرج لموت الخلايا الأضعف اتصالا” بالهدف” الأهم !!.
6 – تحفظك على فكرة أن تقليل المشتبكات العصبية هو الطريق للوصول الى أكفأ الطرق – رغم موافقتك المبدئية – هو هام جدا، اذ أنه – كما قلت ليس لزاما أن يكون الاقتصاد لاختيار أسرع، أو أقرب الطريق هو الحل الأمثل، وهذا يجعلنا ننتظر رأى العاملين فى مجال التفكير الابداعى وارتباطه بالتفكير التوليدى أو المتفرج Divergent thinking فى مقابل التفكير الضام Convergent thinking مما يثير احتمال أنه ليس كل عزل مطلوبا كل الوقت، وأن ثمة عزلا مؤقتا يمكن أن يتم فى موقف ما (لحل مشكلة: بالمنطق العادى)، وأن يعدل عنه فى موقف آخر(لابداع حلول أعمق وآصل…….الخ)
لذلك، ومثله تكون الحاجة الى الاجابة على تساؤلك عن الكثافة المثلى للمشتبكات العصبية “و “الفروق الفردية” ،” واحتمال زيادة الكثافة فى العباقرة” هى الحفز الرائع لفيض من الأبحاث فى هذا الاتجاه، وان كنت أشك أن الوسائل الحالية سوف تسمح بمثل ذلك، لكنى آمل فى المستقبل القريب ان نتمكن من بحث كم” العزل” فى مقابل” كم التنشيط” المشتبكى فى حالة الابداع النشط فى مقابل فترات الركود والكمون، وهذا شديد الصعوبة بداهة لأنى أتصور أن ظهور الناتج الابداعى ليس هو المقابل الأنى لتنشيط وزيادة الكثافة المشتبكية – كما أن أى دراسة لحالة الابداع
(التى يصعب توقيتها حتما لدرجة الاستحالة) سوف تكون عاملا دخيلا مشوها لتلقائية العملية الابداعية – لكن دعنا نأمل.
7- أحسب أن وقفتك عند” لماذا الفصام بالذات”؟ هى وقفة طيبة تؤكد لنا أننا لم نخطئ حين أملنا فى غير المختص أن يسهم فى كل ما هو”خصوصى”، وأحسب أن فاينبرج قد وضع عنوان مقاله فى شكل سؤال ليؤكد تواضع فرضه،وكأنى به قد أخذ الفصام كمدخل لما بعده،لكن استدلاله قرب نهاية المقال ببعض المتغيرات فى حالة الفصام بالذات، وكذلك ربطه ظهور الفصام أكثر تواترا فى فترة المراهقة يدل على أنه كان يعنى الفصام بالذات، لكن دعنى أحاول الرد اجتهادا متقمصا الكاتب بما قد يفيد القارئ معنا(ولعلك أدركت أن ردودى هى تكرار للقارئ أساسا، فعذرا.
(أ) فالفصام الذى يحدث فجأة، هو فى الحقيقة يظهر فجأة لأن العجز عن التشذيب والعزل يحدث تدريجيا ولكنه قد يعلن فجاة، فاذا أخذنا مثال كثرة مفترقات الطرق بما يحدث معه اختناق فى المرور فان التوقف المعجز عن سير العربات، والتصادم المحتمل للمرورلا يحدث فورا كنتيجة مباشرة لكثرة المفترقات وانما يحدث كتراكم كمى يتحول الى ظهور كيفى عند(عتبة)threshold معينة.
(ب) أن الاستجابة للعلاج بالصدمة الكهربائية بالذات قد يمثل عاملا مؤيدا لهذا الفرض اذا نجح العلاج الكهربائى (فى بعض الحالات الحادة) فى عزل مناسب وجسيم ومفاجئ لفائض الغابة المشتبكية(قفل المفترقات) ،أما العلاج الكيميائى فقد يقلل حركة المرور أكثر مما يقفل المفتريات….، وكانه يخفى الخلل بالرضا بالقليل (ما يسمى: التكيف على مستوىأدنى) ولا يقضى على الخطأ الأساسى.
أما دور العلاج النفسى فهذا يتوقف على نوع هذا العلاج، وهو أمر يطول شرحه، ومن حيث العلاج الذى يواكب مسيرة النمو فانه لا يهدف الى مزيد من العزل بقدر ما يهدف الى تنظيم مركزى لحركة المرور، بما فى ذلك العزل المؤقت، والمتناوب حسب نبضات النمو.
وعذرا اذا كنت ذهبت الى أبعد من حقى فى الدفاع ولكنك البادئ بالتساؤل المبدع.
8 – اعتراضاتك المنهجية على عدد الحالات فى محلها،ولكن لاتنسى أننا أمام فرض وهذه بعض دعائة لا كلها، كذلك تصويرك لقصور الاستدلال من نتائج رسام المخ هو فى محله تماما، ولعل القارئ يقلل من تصفيقه لمثل هذه الأجهزة الأحدث فى هذه المرحلة المتواضعة من عطائها.
9 – قولك أن المخ لا يعمل كهربائيا فقط وانما كيميائيا وفيزيائى قول هام جدا، مع تحفظى أن النشاط الكهربائى هو فيزيائى كيميائى بشكل ما، ولكن أظن ان أى اختزال لعمل المخ فى حدود أدوات البحث المتاحة حاليا هو اعاقة للمعرفة بشكل أو بآخر.
10 -ـ وأخيرا، فكم كان مذهلا أن تنهى تعقيبك بأن تضع اصبعك على الفكرة المذهلة فى الفرض المطروح وهى فكرة أن” المخ البشرى يطور نفسه ذاتيا” لترد بذلك على التصور الذى قد يوحيه البحث لأول وهلة من حتمية الوراثة ،اذ يستعمل لغة البرمجة المسبقة والعزل بعد الولاده مباشرة…….الخ – وان لم يتبين لى بوضوح من اى موقع فى المقال بالضبط أتتك هذه” اللقطة المضيئة” – لكنى أوافقك على أن هذا هو ضمن ما بلغنى من هذا الفرض المثير دون تحديد معين لمصدره.
[1] – وما زالت أغلب التحليل النفسى فروضا – حتى نظرية داروين ليست الا فرضا – وكل النظريات الكيميائية (تقريبا) المبنى عليها ما يسمى بالتداوى النفسى الحديث الا فروضا!!
[2] – مضرب 6 = 6 x 5 x 4 x 3 x 2 x 1 ولذا فمضروب الأرقام الكبيرة مثل المليون هى أرقام فلكية.
[3] – استعملنا صيغة أفعل التفضيل نحتا جديدا مقصودا – ولكنه يبدو أن الطابع ومراجع “التجارب” لم يوافقا على هذا النحت فظهرت خطأ فى العدد الماضى “البقاء للأهداف” ص 28 سطر 9 وتصويبها البقاء للأهدف” أى الأقرب خدما واتصالا بالهدف.
[4] – نفس التفسير واجب بالنسبة لمقولات هيجل عن تطور الفكرة وتطور الوعى لتنتفى عنه تهمة المثالية اللاصقة به بغير وجه حق.