عدد اكتوبر 1980
حالات وأحوال
فضلنا هذا العنوان عن الأسم المألوف لمثل هذه المادة العلمية الكلينيكية حيث أن عرض حالة مريض عادة ما يسمى “تقرير حالة ” case report، ويجد القارئ فى موضع آخر من هذا العدد (ص22) كيف ميز جاسبرز بين تاريخ الحالةcase history وبين السيرة الشاملة للمريضbiography ، وفى ص 23 يقتطف الزميل د. عرفه قول جاسبرز إن الحالة الفردية individual ستظل دائما “المصدر الرئيسى لكل ماله قيمة كخبرة فى السيكوباثولوجى” وعموما فإن اطلاق لفظ حالة على إنسان فى أزمة مرض يبدو من أول ما ينبغى مراجعته ونحن نتحسس مدخلنا إلى الإنسان فى هذه المجلة، ذلك أن منطلقنا فى طريقة تناول المرض والمريض قد ينتهى بنا إلى تغيير جذرى بهذا الصدد، فنحن ندعو أن نتناول أزمة المرض باعتبارها معاناة إنسان أو هزيمته المرحلية على مسيرة تطوره واختزال هذا الكيان البشرى المعقد وهذه المسيرة الرائعة الخطرة إلى ” حالة” هو أول ما يجب تجنه بوعى مسئول، والإصرار على استعمال اللفظ المناسب هو بداية الطريق نحو تكوين مفهوم لائق، ولكنا حافظنا على لفظ ” حالة ” مرحليا احتراما للسائد المتعارف عليه وللتاريخ، وأضفنا لفظ ” أحوال” فى العنوان (جمع حال) مستعيرينه من قاموس التصوف نوجه الشبه بين الحالة الكلية للمريض وبين خبرات التصوف ليس ببعيد رغم اختلاف طبيعة ومسار كل منهما عن بعضهما البعض.
وسوف يكون هذا الباب أساسا أو تماما مسئولية هيئة تحرير هذه المجلة ورئيس تحريرها بتحديد أدق من حيث للتناول والتفسير، إلا أننا نفتح الباب، بل وندعو ونلح فى الرجاء أن يوافينا أى من الزملاء بما يعن لهم من ” حالات” يريدون فيها رأيا أو يعرضون من خلالها رأيا أو فكرا أو تأويلا، فأى قدر من المساهمة هو مرغوب فيه ومرحب به، وأكبر قدر من التعاون لازم للاستمرار وأداء الواجب على الوجه الأكمل، وكل من يقدم المادة الأساسية من حقه أن يطلب ذكر اسمه أو يتحفظ فى ذلك كما يرى دون إبداء أسباب، وإن كنا ننصح بأن تشمل كل حالة ـ ما أمكن ـ المعلومات الأساسية التالية (1) تعريف عام من حيث السن والوظيفة والموطن والعنوان ( سواء كان مرموزاً له أو حقيقة سوف نغيرها نحن إلى رموز) (2) سبب تقويم الحالة (رأى، تأويل، شرح ظاهرة، إثبات فكرة، تساؤل…، علاج…، حوار… الخ (3) تاريخ طولى واف ما أمكن وخاصة فيما يتعلق بالتاريخ الأسرى والطفولة وما قبل المرض ثم تطور المرض ذاته والاستجابة للعلاجات (4) كلام المريض بالنص وهو مفضل دائما عن الحديث عن المريض، كذلك الأقارب، وذلك حتى يسمح بإعادة النظر فيه (5) تتبع الحالة ماأمكن لأطول فترة ممكنة.
علاقة هذا الباب بالإنسان.. والتطور:
قد يبدو تقديم الحالات الحية للقارئ أمراً يخص الطبيب النفسى أساساً إلا أن التزام هذه المجلة بتقديم التخصص من أوسع الأبواب إلى أوسع القواعد الفكرية يجعلنا نعتبر هذا الباب عاما وليس خاصا بحال، ذلك أننا نشعر أننا ما دمنا لا نرى ” الإنسان” وهو ” يتطور” لا فى تاريخه الحيوى ( فيلوجينيا) ولا فى تاريخه الفردى (أنتوجينيا) فدعونا نراه إذ يتدهور إلى مراحل سابقة يمكن من خلالها أن نعكس المسيرة ـ مع المحاذير الكافية ـ لنفهم أكثر فأكثر طبيعة الانسان وربما طبيعة التطور ولعل هذا الباب يمثل محوراً جوهريا فيما تستطيع أن تقوم به هذه المجلة من دور خاص بها تماما، ذلك أن معرفتنا للانسان إنما تأتى من مصادر متعددة تحتاج كلها ـ أو أغبلها ـ إلى مراجعة موضوعية مسئولة، وبعض هذه المصادر.
1- نظريات جاهزة متكاملة عن ماهية الإنسان ومساره.
2- عينات سلوكية مجزأة محددة عن بعض ما هو مظهر الإنسان.
3- رؤية فنية (حدسية بالضرورة) تصيغ الإنسان فى شكل فنى تماما دون أى علاقة بالعلم كما هو معروف (ولعل هذه الرؤية وغم بعدها عن ما يسمى علما…. هى من أصدق ما نعرف عن الانسان قاطبة).
4- رؤية تحليلية من خلال رحلة علاجية تحليلية، (وأغلب ما لدينا فى هذا الصدد مستورد ومترجم ومؤول، وهى هامة ومفيدة.. ولكنها من زاوية محدودة وبلغة خاصة بالضرورة).
5- إحصائيات رقمية رغم قيمتها العامة إلا أنه يصعب حتى الاستحالة تمييز الكيان الفردى الخاص تماما فى وسط حجم رقم ما مهما كانت دلالته، فأى فرد بذاته يمكن أن يكون هو الاستثناء من أى رقم مهما بلغ احتوائه لغالبية الظاهرة اللهم إلا إن كانت حقيقة مطلقة، وما أندرها فيما هو إنسان.
وبما أن هذه المصادر جمعيا لا تعدو أن تكون وجهات نظر، فنحن نحتاج إلى مواجهة الظاهرة ذاتها من موقع جديد بموقف جديد، ولا أقول أكثر سلامة أو أعمق غورا، وإنما أؤكد ضرورة أن يكون أكثر مخاطرة وأشجع التزاما وأقل تحيزا لمقولات سبقت حتى احتكرت الفكر السائد.
ولعل من أخطر ما احتكر الفكر الحديث وأغراء بالتسليم والتقبل غير المشروط هو تفسير ماهية الإنسان وشرح أزمته فى الصحة والمرض من خلال ما يسمى بالفكر الاجتماعى، وهى تسمية عامة إلا أنها تستعمل فى أغلب الأحوال بمعنى ثورى خاص يشير إلى أن الإنسان نتاج مجتمعة بشكل يكاد يكون مطلقا، وهذا الفكر الشبه ثورى يبالغ فى تصوير أثر المجتمع على الفرد ليصبح فى عداد ما يمكن أن يسمى بالحتمية الإجتماعية Social Determinism ،على أن هذه الصورة ليست بعيدة عن الحتمية النفسية Psychic Determinism التى قال بها فرويد والتى تتبع أساسا من الحتمية الإجتماعية (الاسرية خاصة). كما يمكن أن نتتبع هذا الفكر إلى حتمية ثالثة وهى الحتمية المادية Material Determinism التى شكلت عمقا معينا فى الفكر المادى حتى الثورى منه، وقد نستطيع أخيرا أن نرى مثل هذا التفكير غير الغائى ظاهراً وطاغياً فى النزعة البنيوية الجديدة Neo Structuraism سواء فى فكر” لبفى شترواس” أو ” فوكية” أو” لاكان”..، وكل هذه الاتجاهات لابد وأن تعتبر منطلق بحث ومحل مراجعة لأنه بغير احترامها ومناقشتها ونقدها لن يستطيع الفكر التطورى أن يسهم الإسهام الحق المرجو منه.
وقد ذكرت كل هذه ” الحتميات” المتنوعة لأنبه أن هذا الباب إذ يعرض حالاته لا يسعى الى تفسير ماهو كائن وارجاعه الى أسبابه بقدر ما يسعى إلى فهم ما يكون واستلهام مساره، وهذه النقلة ليست هينة فى الفكر المعاصر، وإن كانت نكسة البنيوية قد اعلنت” موت الإنسان” فى شجاعة عدمية عصرية لا مثيل لها، فإن التاريخ والمستقبل المنكرين لابد وأن يكون لهما موقف إيجابى يرد هذا التيار بفعل مثمر ينقذ الإنسان من يأس الإنسان.
وهذه النافذة التى نفتحها على المسار التدهورى والتناثرى لأزمة الإنسان المريض هى مدخلنا للإسهام فى هذه القضية.
خطورة هذا المدخل:
بالرغم من الدفاع المستميت الذى بذله الزميل د. مجدى عرفه على صفحات هذه المجلة للدفاع عن طريقة دراسة الحالة كممثلة للمنهج الفنومنولوجى طوال دراسته الثرية عن الفنومنولوجيا والبحث فى الإنسان فإن هذه الطريقة تفتح بابا قد يفضى”لأى كلام” وللأسف فان بعض الكتابات قد ظهرت مؤخرا من غير مختصين (وهذا طيب فى ذاته) تناولت حالات عصابية وكأنها منهج دراسة الحالة وخرجت بنتائج أقل ما يقال فيها أنها إساءة إلى المنهج والمحتوى جميعا، ومن هنا فإننا نعتبر أن هذا الباب من أخطر الأبواب مسئولية إن لم يكن أخطرها جمعيا، ولعل بعض هذه المسئولية قد تبدو فى الأعداد السابقة وحتى هذا العدد فى حوارنا مع الصديق ” محمد جاد الرب” الذى ليس بحالة أصلا…… وإنما هو وجود حى تطلب فى حواره أكبر قدر من الاحترام والمسئولية طول الوقت.
ولعل القياس الوحيد الذى يفرق العبث الشخصى، أو الخيال الدفاعى، من موضوعة معايشة حالة فى الواقع ثم نقلها إلى الورق هو قياس الزمن والأصالة، والمثل الأقرب لذلك هو ما يحفظ الفن الأصيل وهو يقدم شخصياته الخالدة بالمقابلة بما يلفظ الفن القشور وهو يتصنع الإبهار بفقاعات ذاتية لا جذور لها، وبالتالى لا عمر لها.
دعونا نبدأ ونحاول واحتملوا معنا مشقة المسيرة….. وصعوبة التغيير.
دعونا نحاول أن نرى الإنسان بلا تبرير ولا شفقة، ولكن باحترام ومشاركة.
دعونا نحاول أن نحترم المريض دون أن نختبئ فى مرضه أو نتصنع الفرجة عليه.
وهذه هى البداية:
-1-
” الإخوان: زاهر وزهران.. و الأخ الاكبر…. وآخرين “
بعد هذه المقدمة سوف نبدأ بتقديم حالات إخوة ثلاث ومن حولهم من اقارب ومتعلقات… وسوف نبدا تفاصيلها فى العدد القادم إذ سنكتفى فى هذا العدد أساساً بهذه المقدمة.
ونحب أن نتعرف ابتداء على شخوص هذه العائلة ولماذا نقدمها؟
أولا: هى حالة لتوأم متماثل.. وأخ أكبر، أصيب التوأمان بمرض نفسى من نوع الذهان الفصامى.. فى حين أصيب الأخ الأكبر بنوبات دورية أقرب إلى الهوس والاكتئاب، وهذه التجميعة ليست مألوفة عادة.
ثانياً: إنه قد أمكن بحث هذه الحالات على فترات كانت المدة بينها حوالى تسعة عشر عاما، ونحن نفتقر إلى التتبع العميق لأغلب الحالات.
ثالثا: إنه رغم العامل الوراثى وأثره الذى سيبدو واضحاً تماما إلا أن الجو الأسرى البيئى كان شديد الدلالة مما يوضح لنا بطريقة جلية كيف تتفاعل الوراثة مع البيئة بشكل متداخل شديد التعقيد.
رابعا: أن الفحص الأول تم بواسطة أحدنا (د.يحيى الرخاوى) وهو بعد طيب صغير فى طريقه إلى التخصص الأكبر(1959) فى حين تم الفحص الثانى بواسطة آخر فى نفس المرحلة من تطوره ( د. مجدى عرفة) (عام 1978) وبإشراف الأول، مما يجعل تعدد الفاحصين مع بعد الزمن له أهمية ودلالة خاصة.
خامسا: أن اختبارات نفسية أجريت بشكل ملتزم فى المرحلة الأولى ضمن بحث بذاته.. وهى فرصة لتناول مثل هذه الاختبارات وموقعها الحالى فى التعرف على هذه الحالات.
****
وسنبدا فى العدد القادم فى التعرف على أصدقائنا زاهر وزهران وأخيهما الأكبر وبديهى أن الأسماء التى ستستعمل فى هذ الباب ليست هى السماء الحقيقة أبداً ، وكذلك العناوين بما لا يخل بالغرض الأساسى لأبعاد الموقف، وهذا من باب الحرص على اسرار الناس.
وإلى العدد القادم