عدد اكتوبر 1980
العمل العلاجى (الجماعى)(1)
والعلاج النفسى
د. رفعت محفوظ(2)
د. محمد حسيب الدفراوى(3)
إن العجز الذى نواجه به الأمراض النفسية (والعقلية) المزمنة والمستعصية بالاقتصار على العلاج بالوسائل الكيميائية والكلامية لابد وأن يدفعنا إلى اعادة النظر فى مفهومنا للانسان فى السواء والمرض وإلى الاخلاص فى البحث عن وسائل جديدة تخرجنا من هذا المأزق، ولعل ذلك يبدأ فى طبيعة العلاجات الجارية لدراسة الأسباب الحقيقية الفاعلة فى أى علاج جار ، وهذه مشكلة مبدئية فى “المنهج” المستعمل فى تقويم نتائج وطبيعة العلاجات المختلفة بما فيها العلاج النفسى، وهى تنبع من تداخل متغيرات الكائن البشرى معالجا ومريضا بدرجة يستحيل معها تحديد أى المتغيرات هو الثابت وأيها هو المتغير، وكل ما نستطيع أن نفيده من هذا العجز الواقعى والصعوبة العملية هو أن تفتحا لنا الباب لإعادة النظر فى التفكير فى احتمالات مصاحبة واحتمالات أخرى للفاعلية العلاجية.
ومع فتح الأبواب من جديد لأى تفكير جديد، وفى انتظار تحديد الفاعلية العلاجية للاجتهادات القائمة نعود إلى الحياة الأوسع لنعيد اكتشاف متغير أساسى وجوهرى يبدو أن وسائل العلاج المتاحة قد أهملته (أو أساءت تقدير فاعليته) ألا وهو العمل، فإذا أضفنا الطبيعة الاجتماعية للعمل وهى المشاركة لواجهنا أكثر وأكثر قصور موقفنا العلاجى نظريا وعمليا، وهذا مدخلنا .
وبدأ من إعادة النظر فى تحديد علاقة الإنسان بالعمل فى مقابل علاقته بالرمز نقول: إن الإنسان إذ توج مسيرته التطورية بقدرته الرمزية على التواصل باللغة تعبيرا عن التفكير المجرد وعن العيش فى المتخيل (بعض الوقت أو كل الوقت) يبدو أنه بالغ فى ذلك وخاصة بعد التعملق التكنولوجى الحديث، وقد تم ذلك على حساب “كلية” تواجده وتوثيق علاقته بالطبيعة من جهة وبأخيه الإنسان من جهة أخرى، وبالمراجعة المتأنية ينبغى أن نعود لنؤكد أن” الإنسان هو نتاج العمل) وفى نفس الوقت” هو تتويج لتطور الوعى بالقدرة الرمزية التفكرية” وأى فصل بين تاريخ الإنسان وحاضره ، بين جسمه وعقله، هو مخاطرة تتم على حساب ” كليته” ولحساب اغترابه وإعاقة مسيرته، والمرض النفسى – كأحد مظاهر عدم التناسق وتعويق التطور – يعلن ذلك بداهة .
وبالتالى فعلاج النفس – الإنسان ككل – ينبغى أن يضع ذلك فى اعتباره حتما وخلاصة القول أنه من واقع إعادة النظر فى مفهوم الإنسان وتخطى اختزاله إلى تفاعل كيميائى أو تعلم سلوكى، أو تحقيق رمزى، ومن واقع النظر فى الفشل العلاجات المتاحة فى الوفاء باحتياجات كثير من المرضى لاستعادة مقومات وجودهم وتلقائية دفعهم على مسيرة النمو نشأت فكرة هذا العلاج.
ولابد أن نعلن ابتداء هذا العلاج ليس جديدا بالمعنى الحرفى فهو أقرب إلى ما تصلح به الطبيعة والمجتمعات الفطرية نفسها وأفرادها، وهو وإن لم يرد بهذه الصورة فى المراجع العلاجية التقليدية والطبنفسية إلا أنه قد ورد فى التراث المنقول والمكتوب فى مجالات إصلاحية اخرى (سياسية وثورية واجتماعية) ونشير مثلا إلى تجربة مشابهة جاءت فى عمل أدبى تربوى هو “قصيدة تربوية” تأليف أنطون ماكارنكو، وكذلك إلى عمل طبى كتب بطريقة شبه روائية فنية وهو ” الإنسان والجنون” (هذا هو الاسم المترجم) من تأليف اشتيفان بنديك وكلاهما تم من خلال دفع ثورى وحماس فردى ولكنهما – على حد علمنا – لم يستثمرا طولا أو عرضا فى مجال العلاج النفسى والطبنفسى المعترف به، كما يجدر أن يلاحظ أنهما تم فى بلدين من المعسكر الشرقى فى فترات التحول الثورى الحماسى ذى الدفع الإيجابى والنقاء المرحلى .
ما ليس هذا العلاج:
وبادئ ذى بدء نعلن (ماليس هو ذلك) حتى يزول لبس محتمل لابد وراد للأذهان حسب ماتعودت:
1 – فهو ليس “العلاج بالعمل”(4) ( حسب الاسم الشائع)، على أن هناك عدة أسماء مترادفة تشير بشكل أو بآخر إلى فكرة استعمال العمل كعلاج وهى واردة أصلا باللغة الانجليزية مما سنحترمه ابتداء مع محاولة الترجمة الكلية للمحتوى التضمينى، ومن ذلك Ergo therapy حيث يعنى” العلاج يبذل الجهد” وكذلــك Manual treatment الذى يعنى العلاج بالعمل اليدوى، و كذلك Invalid occupation مما قد يعنى “عمل السقيم” (Macdonal, 1970) , كما أن ما وصف بالعلاج الأخلاقى (أوالأدبى) Moral treatment إنما يشير إلى شئ قريب مما نريد الإشارة إليه.
إلا أن مفهوم العمل إذ يستعمل وسيلة للعلاج قد انتهى إلى أحد أمرين:
(أ) إما توسيع دائرته حتى يشمل أى علاج يستعمل الجسد والمهارات مثلما ضمن فيه (Linn.1976 ) العمل واللعب والمهارات الشخصية.
(ب) وإما يضيق حتى يصبح شكلا لقتل الوقت وتأكيدا لنمطية الرتابة، وإنتاجا لمعارض مستشفيات الأمراض العقلية (بما يشمل هدف الاتجار).
وقد اضطررنا إلى تغيير الاسم شكليا لنستعبد هذا التعميم المخل أو الاختزال المؤكد للاغتراب، وحتى بالنسبة للهدف من هذا العلاج الذى نقدمه فإن الأمر جد مختلف أيضا، فهو لايقصد إلى اعادة الثقة بالمعنى السائد أوملء الوقت كما ذكرنا أواستغلال الطاقة الانتاجية المكفوفة، ولكنه شئ آخر حيث الهدف فى العمل العلاجى أساسا هو “التعرف على الجسد والنفس من خلال العمل بشكل تلقائى وذاتى”، كما أن الوسيلة شديدة التنوع تهتم بالعمل كوحدة مستقلة ليس لها علاقة مباشرة” بالانجاز” اللهم إلا كنتاج جانبى كما سيأتى.
2 – ليس هو العلاج السلوكىBehavior therapy بمعنى التزكير على كسر سلوك مرضى بذاته، وإن كان لا يمكن أن نستعبد مبدأ ” التعليم” من خلال ممارسة هذا النوع من العلاج، ولا مبدأ ” التشريط” (مثلما يحدث فى أى علاج آخر بما فى ذلك العلاج النفسى بل والتحليل النفسى)، إلا أن استعمال جوهر المبدأ السلوكى ليس مرادفا لاتباع أسلوب العلاج السلوكى حيث التركيز على السلوك الظاهر والعمل على تعديله دون النظر إلى ما بعد ذلك اللهم كنتاج جانبى، والوضع فى العمل العلاجى معكوس، فالبصيرة (لا العقلنة) هى الأول، والتعديل السلوكى من خلال التعليم والبصيرة معا هو النتاج الجانبى.
والنقطة الثانية هنا فى التفرقة هى أن دور المعالج هنا جوهرى ومحورى بكل قل المعنى، فى حين أن دور المعالج التقليدى قد يبدو ثانويا إن لم ينكر تماما (قديما على الأقل) تحت عنوان “عدم التدخل ” و” الموقف التعادلى”.
3- وهو ليس “تأهيلا بالعمل” بمعنى إعادة التعليم إستعدادا لحرفة جديدة أو إحياء لمهارة قديمة، فالتركيز فيه ( فى العمل العلاجى) على جرعة البصيرة واستعادة الذات القادرة على التأهيل بمعناه الأعمق، وهو ليس أفضل من التأهيل (إذ لا وجه للمفاضلة بين علاجات تؤدى كل منها غرضا مختلفا فى مرحلة مختلفة) ولا هو بديل عنه، ولكنه ليس هو على كل حال .
4- وهو ليس عملا ” يدويا” بالضرورة Manual work ولكن أغلب التركيز فيه يكون على العمل الجسدى وليس فقط اليدوى نظراً لشدة اغتراب الإنسان المعاصر (والمريض المعاصر) عن جسده. ومن عمق معين، قد يكون العمل “عملا” عقليا تماما وخاصة لمن هرب من ذاته فى العمل اليدوى بديلا عن عالم الفكر المسلسل المنطقى الأرقى، وإن كان ذلك يؤكد من حيث المبدأ طبيعة ما نعنى بعبور هوة الاغتراب أيا كان إلا أن الخبرة فى هذا التفريع محدودة بحيث نعتذر عن الإفاضة فيه مرحليا فى هذا البحث الاستطلاعى.
إذاً ….. ماذا هو ؟؟
“إنه محاولة عملية لعبور هوة الاغتراب من خلال مشاركة علاجية مباشرة تستعمل العمل الجسدى( بمعنى يتعدى العمل اليدوى ولا يستبعد العمل العقلى) كوسيلة لتعميق البصيرة واختراق حواجز الانشقاق وسدود المقاومة.
ويلاحظ هنا التأكيد على ألفاظ مثل”عملية” و”مشاركة علاجية” و” تعميق البصيرة” و”اختراق الحواجز”، والمعالج النفسى والمحلل النفسى يعلمان تمام العلم أن هذه هى أسس العلاج النفسى أساس وليس أى علاج آخر، وهذا ما دفعنا إلى التأكيد على علاقة هذا العمل العلاجى بالعلاج النفسى قبل غيره .
ولما كان هدف هذه المحاولة هو عبور هوة الاغتراب عن الجسد فى المرضى عامة والذهانى خاصة( وهو ما أسماه هـ. ج. لانج Lacing الذات المفرغة من الجسد (Disembodied self) فإن تركيزنا فى هذه المرحلة التجريبية كان على العمل الجسدى دون سواه .
الخطة العامة للعلاج:
1– شروط مبدئية:
هناك شروط أساسية لابد من توافرها كما ذكرنا… قبل مجرد النظر فى غمكان تطبيق هذه المحاولة باعتبارها علاجا نفسيا بالضرورة:
أولا: إن يتم من خلال ( وليس بالضرورة فى….) ما يسمى بعلاج الوسط وعلاج الوسط الذى أطلق عليه الرخاوى” العلاج الجماعاتى” إنما يعنى أن جماعة تعالج جماعة بنفس القياس الذى يعالج به فرد فردا آخرا، ومن خلال المشاركة فى الفلسفة العامة التى تصبغ الوسط ككل تصل الدعوة المبدئية للمشاركة فى العمل العلاجى.
ثانيا: أن يتم من خلال علاقة خاصة بالمعالج( فى الوسط عادة) الأمر الذى يؤكد مرة ثانية علاقة هذا العلاج بالعلاج النفسى دون السلوكى بمعناه الأقدم .
وقد يحتاج هذا وذاك إلى فترة إعداد تطول أو تقصر حسب الحالة والوسط وقدرة المعالج ومرحلة المرض ………. الخ .
2 – التعاقد:
يتم هذا العلاج – مثل كل علاج من خلال علاقة تعاقدية Contract-relation معلنة أو ضمنية، منطوقة أو مستنتجة، ولن نتطرق هنا إلى طبيعة هذا التعاقد ومعنى الحرية المتضمنة فيه حتى نتجنب الدفاعات والمبارزات التى قد تخرجنا عن هدفنا الأصلى، إلا أن التعاقد هنا بوجه خاص إنما يؤكده فى العادة فشل العلاجات السابقة والبديلة مما يضطر المريض – أو أهله – لهذا التعاقد الذى يوضح بشكل عام الخطوط المبدئية، ولا يحكمه فى النهاية إلا ضمير المعالج والتزامه العلمى والمهنى والخلقى وموقفه من الحياة ومعانى الصحة والمرض جميعا .
3 – الانتقاء:
نكاد نقول إن هناك حدودا بسيطة نتحرك فيها فى عملية الانتقاء هذه بحيث يصبح القول إن مريضا بذاته أو تشخصيا بذاته أو طبيبا بذاته غير صالح لهذا النوع من العلاج قولا غير عملى، إذ لم نشعر فى الممارسة بأى حائل تجاه أى مشارك من واقع التجربة وهذا لا يعنى اى تأكيد على التماثل فإن الاختلافات الفردية والمرضية تكون فى بؤرة الاهتمام دائما، إلا أنها لم تحل دون الإفادة من هذا العلاج كل بطريقته، على أن هناك اختيارا للمرحلة، ولنوع العمل، ولمدته، ولتباعد جرعاته ، وعادة مايبدأ الاختبار بالعمل الذى لم يعتده المريض مثلا ، أو العمل الذى لايحبه أو العمل الذى يعلن عجزه عنه، ولابد أن نسجل هنا ماحدث إزاء فكرة الانتقاء من واقع الممارسة، فقد كان الانتقاء فى بداية التجربة هو الأصل، وقد عدده أحد الزملاء(5)على الوجه التالى:
1 – المريض الذى أدخل فى خطة علاجية نشطة إذ تتجمع مقاومته لدرجة تعوق تفاعله وأداءه.
2 – المريض الذى يعانى من الهبوط النفسى وفقد الدافع كجزء أساسى من أعراضه.
3 – المريض الذى يبدى طبقة سميكة من اللامبالاة وتسطيح الوجدان بحيث تطغى على كل نواحى حياته.
4 – المريض الذى يعانى من أعراض توهم المرض المزمنة (الهيبوكوندريا) أو التى تصل فيها أوهامه إلى ضلالات مرضية ثابتة
5 – المريض الذى يبدى جمودا حركيا يسجن جسده فى موقف متصلب
6 – المريض وافر النشاط فى الحركة أو الكلام.
إلا أنه بعد الممارسة الطويلة وجدنا ان المفاجأة التى قابلناها من استجابات المرضى ممن لا تنطبق عليهم هذه الشروط كانت أكبر من الحسابات المسبقة، وتعلمنا منها تشخيصات تركيبية ودينامية جعلتنا ننتهى إلى القول بأن كل الحالات قد تصلح آخذين فى الاعتبار المرحلة العلاجية أكثر من هذا العرض أو ذاك المرض.
4 – البداية (عرض العينات ومحاولة البدائل):
إن كلمة البداية هنا ليست إشارة إلى وقت البدء بقدر ما هى توصيف لمرحلة عرض العينات، الأمر الذى يقابل عند المريض بما يمكن أن يسمى” محاولة البدائل” Trial of alternatives التى تتم فى العلاج الجمعى بصفة أساسية، وقد تستغرق هذه المرحلة فترة طويلة لا تنتهى إلا باكتشاف هذا البديل الداخلى بدرجة تسمح بإعادة الاختيار بين الاغتراب الكائن قبلا، وبين المخاطرة المؤلمة المعروضة حاليا، لكى يكون العلاج هادفا لتحقيق هذه الغاية ينبغى ألا يكتفى المعالج بألفاظ المريض بل يأخذ فى الاعتبار كل وسائل التواصل معه، فيتم تقويم صدق اختياره من خلال تقدير حجم الجهد وتعبير الوجه وفعل الاقتراب وعودة الأعراض (أو ظهور غيرها) أو اختفائها، ومن ثم تتحدد النقطة التالية.
5– المـدة:
لم نحدد بعد لفاعلية هذا العلاج مدة بذاتها، من حيث ان الهدف هو توصيل رسالة عملية تشرق فى وجدان المريض إذ يتعرف على بقيته ( أو بقاياه) ، فأحيانا ما تصل هذه الرسالة فى ساعة أو بعض ساعة لمرة واحدة وأحيانا ماتحتاج إلى ستة أشهر أكثر، وينبغى الانتباه هنا إلى هذه المجموعة من المرضى الذين يبدأون فى ” حرق” المحاولة بالطاعة الآليةAutomatic obedience أو الاستغراق النمطى Stereotyped indulgence مما يستدعى أن توقف المحاولة مرحليا
(من الفصاميين بالذات وبعض أنواع اضطراب الشخصية)، والانتباه إلى مناورات المريض لحرق يحتاج إلى يقظة مستمرة لاستعمال ما أسماه شولمان علاج الصدمةShock therapy بمعنى أن يتلقى المريض بين الحين والحين مالا ينتظره أو عكس ما ينتظره، وبالتالى نحول دون أن يستبدل اغترابا باغتراب أخفى، ويتم كل ذلك بداهة من خلال العلاقة العلاجية الأساسية التى تسمح بأى من هذه التحويرات المناسبة .
من كل ذلك نستطيع القول بأن المدة يستحيل تحديدها ابتداء إلا أنه من واقع خبرة الممارسة، وخاصة فيما يتعلق بمشاعر المعالجين واستبصارهم فإن الرسالة التى تصل مبدئيا فى المراحل الأولى لابد وأن يكون مشكوك فى جدوى فاعليتها مالم تغير الموقف وتجدد السلوك وتحافظ على الدفع ، وباستمرار العلاج حتى بعد وصولها فإن مناطق اكتشاف الجسد واكتشاف الذات لا تنتهى أبدا، وحتى أن هذه العملية قد تستمر بعد انتهاء العلاج دليلا على نجاح العلاج فى إطلاق المسيرة وليس فى اكتساب وحدة سلوكية محدودة .
6– من حيث الإقامة (مرضى مقيمين أم من العيادة الخارجية؟):
نظراً لارتباط هذا العلاج بمفهوم علاج الوسط أساسا فقد بدأت المحاولة مع المرضى المقيمين بالمستشفى الداخلى، إلا أنه منذ أربعة أشهر امتدت المحاولة لتشمل مرضى من العيادة الخارجية مباشرة بالإضافة إلى استمرار المرضى الذين خرجوا من المستشفى فى استكماله بعد خروجهم (بناء عن رغبتهم أو استجابتهم لاقتراح بذلك)، إلا أن المرضى المحولين من العيادة الخارجية يحضرون فى نفس الوقت جلسات علاج نفسى فردية أو جماعية بالعيادة الخارجية، ومازلنا نتصور إمكان أن يكون هناك مترددون على هذا العلاج وحده متى ما تكامل اليوم العلاجى أكثر فأكثر بما يغنى عن التردد على العيادة ترددا مستقلا للعلاج النفسى التقليدى.
7– جزء من كل:
وهذا العلاج مثل أى علاج آخر يستحيل القول إنه وحده يمكن أن يحقق الهدف النهائى المتكامل، وقد عمدنا فى المرحلة الأخيرة – بعد أن تمكنا من إعداد ما يتيح ذلك أن نلحق العمل العلاجى باللعب العلاجى مباشرة آملين أن يحقق ذلك التكامل المحتمل، والأمر يعد الآن لاستكمال اليوم العلاجى بجلسة علاج جمعى تثبت وتوجه جرعة التكامل الممكنة، كما نأمل أن تتاح الفرصة لإضافة عمل عقلى محدد انصل إلى ما أسماه أحد الأطباء الأصغر” العلاج عن طريق الصحبة خلال يوم مصغر يمثل أبعاد للحياة “.
على أن هذا التكامل لابد وأن يثير مشكلة بشأن تقويم فاعلية هذا العلاج حتى نحدد العامل الجوهرى فى الفاعلية العلاجية .
8– المعالج والعلاج: وملاحظات عامة:
مثل علاج الوسط، لا يمكن أن نعزو دورا منفردا للمعالج فى هذا العلاج، إلا أن هناك شروطا مبدئية لا يصلح بدونها هذا العلاج ومن ذلك:
1 – لابد أن يشارك المعالج(الطبيب عادة وليس اقتصارا) المريض نفس العمل طول الوقت (ويستحسن أن يرتدى نفس الملابس ليسهل التقمص أو التوحد)، ومشاركة المعالج قد تمتد من مجموعة إلى مجموعة بحيث يقوم المعالج فعلا بأضعاف العمل الذى يقوم المريض فى بعض الأحيان .
2- يقوم المعالج – وخاصة فى البداية – باختراق مقاومته (وقد سجل المعالجون بعض أبعاد مقاوماتهم وقارنا بينها وبين مقاومة المرضى مما لامجال لتفصيله هنا) – فى نفس الوقت الذى يقوم فيه بمجاورة(جنباً لجنب) المرضى فرادى وجماعة، ولا يصلح هذا العلاج أصلا أبدا إذا لم يشعر المعالج ذات نفسه بوجه الشبه بينه وبين المريض حتى يتيح العكس بصدق مجاور حقيقى وليس بادعاء لفظى مشكوك فيه، وتبلغ فاعلية هذا التماثل بشكل خاص فى حالة الذهانيين مبلغا خطيرا .
ولا فرق فى ذلك بين معالج قديم ومعالج مبتدئ، بل يبدو أنه ينبغى حسب الخبرة المحدودة ان تشترك طبقات مختلفة من المعالجين بحيث تسود روح عامة متدرجة فى تناسق علاجى فعال .
3- يتضاعف دور المعالج عند بداية ظهور المقاومة وهى تبدأ عادة فى البداية حين يرفض المريض البدء أصلا، قد تبدأ بعد دقائق معدودة أو بعد ساعة وقد كان المتبع فى أول المحاولة هو الحماس المفرط من جانب المعالج والتدخل المباشر، إلا أن المعالجين تبينوا بعد فترة ما فى هذا الحماس من (إسقاط) لمقاومتهم هم ومحاولة التغلب عليها” فى المرضى” وليس ” فى أنفسهم”، وقد قرر كثير من المعالجين ذلك مما عدل جرعة التفاعل تماما واصبح الحل الأمثل للمقاومة هو”إلاصرار طويل النفس” مهما طالت مدتهن وبمجرد أن يستشعر المريض هذا الحسم الهادئ فإنه يستجيب بعنف ثم تبدو عليه علامات ما سميناه بــ (النقلة)
4- نعنى بالنقلة shift التغير النوعى الذى يطرأ على المريض شكلا وسلوكا مما يظهر فى نوع وكم النشاط وتعبيرات الوجه، ويحدث ذلك عادة بعد المقاومة واختراقها طبقة بعد طبقة، وقد أصبح ظهور هذه النقلات علامة طيبة تلهم الخطة العلاجية بالتعديل بناء على دلالتها فى كل حالة .
5- لوحظ أنه بعد كل فترة مقاومة يستمر العمل لفترة أكثر من المتوقع قبلا، إذ يختفى التعب لمدة تختلف باختلاف نوع النقلة shift التى تمت .
6- قد يوقف العمل فورا بعد هذه النقلة بقليل أملا فى استيعابها وتجنبا (لحرقها) والأمر فى ذلك متروك لتلقائية المعالج .
7- قد يسمح لبعض الأفراد: بعدم المشاركة فى العمل أصلا، رغم التواجد طول الوقت مع المجموعة، وقد لاحظنا – فى دهشة – فاعلية ذلك تماما مما يوحى بأن المشاركة والرسالة ليست فقط من خلال العمل ذاته مما يحتاج إلى تفصيل نرجو أن يتاح لنا مستقبلا .
8- لوحظ أنه لو وجه العمل أساسا أو غالبا إلى(الإنجاز) فإن العلاج يفقد جزءا كبيرا من فاعليته، وهذا يشير إلى ما يمكن أن يطلق عليه (العمل للعمل) أو بمعنى أصدق( العمل لاستعادة الحياة) (العلاج) .
9- لوحظ أن هناك تفاعلات دالة على الدهشة والرعب من اكتشاف الجديد وتسبق هذه التفاعلات عادة ظهور المقاومة أو(النقلة) أو( المقاومة فالنقلة)، وقد ربطنا ذلك من خلال الملاحظة والمساءلة باكتشاف المريض( أو الطبيب) جسده، أو اكتشافه مدى اغترابه عن جسده، وباكتشافه قدرته، او مدى اغترابه عن (الشئ الشخص الآخر)، أو( ألآخر) الذى أبرزته وحددته خبرة العمل الجسدى (معا).
10- لوحظ أن نوع التواصل (المجاور) هو الأساس الذى تتم من خلاله اللغة غير اللفظية، وأن عمليات التقمص لا التقليد هى العمليات الهامة التى توحد وتؤكد روح الجماعة .
11- تأكدت فكرة المعالجة الذاتية وكيف يقدم أفراد المجموعة فيما بينهم وتلقائيا – أو بإرشاد غير مباشر – بعلاج بعضهم البعض .
12- لوحظ أنه حتى فى حالات بعض الذين يمتهنون مهنا يدوية أصلا(من المرضى) فإن العمل الجسدى فى هذا الجو الجديد يصبح اكتشافا جديداً لهم، ويبدو أن ذلك يتم من خلال إلغاء عامل (قهر الانجاز) المصاحب لعملهم الأصلى، وكذلك (كسر النمطية) وقد عقب بعضهم على ذلك فى نفس اتجاه هذا التفسير .
معطيات العمل العلاجى (الجماعى):
قبل الدخول فى بعض الملاحظات المحدودة على النتائج عامة نود أن نشير إلى إسهام هذا العلاج فى البعد التشخيصى وكذلك فى بعض الفروض العلمية العاملة بالضرورة .
1– أبعاد تشخيصة:
إن مشاركة المريض كل هذه المدة مشاركة مجاورة يقظة إنما تتيح للمعالج الفاحص أن يحسن رؤية مريضة مما يسمح له بإعادة تشخيصه تصنيفيا، وتركيبيا، وديناميا، كما يسمح بتحديد مناطق الإعاقة وطبيعتها مما يتيح الفرصة للتخطيط لتخطيها .
2– أبعاد البحث العلمى:
بدأت محاولة تقويم التجربة من الداخل بتحديد بعض الفروض المتعلقة بماهية الاغتراب، وصورة الجسد Body image، والأنا الجسديةSomatic ego واتبع فى ذلك سؤال المرضى والمعالجين من مختلف المستويات والحكم على إجاباتهم والملاحظات المسجلة ونوعية النتائج، مع التأكيد على عدم الاقتناع بالاستجابات اللفظية للمرضى أو المعالجين، ولكن على استحالة إهمالها فى نفس الوقت، وكذلك التأكيد على المتابعة والمراجعة المتأنية قبل التسرع فى الحكم، وكل ذلك مازال فى مرحلة يصعب الحديث عنها حاليا وإن كانت بعض مقتطفات المرضى قد تفيد بصفة مبدئية فى الإلمام بإشارات عامة ذات دلالة:
– “باحس إن كلنا بنشتغل لهدف واحد”
“حسيت بتغيير يخلى الواحد يستعمل الطاقة”
“دا عمل بيحسس الإنسان بالصبر”
– “الأرض محببة إلى…. بابقى فاقد الذاكرة لحاجات معينة،…… بافتكر الحاجة دى خاصة وانا بافحت……، إنما لما باشيل التراب ما بافتكرهاش ” .
(يلاحظ هنا ارتباط استعادة الذكريات ذات الدلالة من خلال نوع خاص من العمل، الأمر الذى لم نتوقعه إطلاقا فى تنظيرنا المسبق ) .
– “حسيت بنفس الشعور اللى حسيته بعد صدمة كهربا خدتها زمان وخفيت بعدها، بس دى حصلت وأنا باشتغل، وأنا واعى، أحسن حاجة……..”
– “باحس إنى باعمل حاجة وإن فيه حاجة بتتعملى” .
– “خوفى بيقل “.
على أن ذلك لا يعنى أن كل التعليقات كانت إيجابية ولاهى دائمة، فالانتقاء متحيز بالضرورة، ويتوقف أخذ العينة من المرضى( والمعالجين) على التوقيت والمرحلة، فلو أنها أخذت لحظة المقاومة لجاءت سلبية تماما، ولو أخذت بعد اختراقها لاختلفت النوعية، مما يؤكد مرة ثانية على نوعية البحث العلمى فى هذه المنطقة وضرورة الاعتماد – جزئيا على الأقل – على المعالج وملاحظاته وتتبعه، آخذين فى الاعتبار نظريته وانتمائه، مفترضين فى كل آن أمانته كفرد ملتزم ، وكفرد فى مجموعة…معا
خلاصة وتعقيب:
مع التأكيد على التحفظات السابقة بالنسبة للنتائج المحتملة نستطيع أن نقدم الانطباعات المبدئية على الوجه التالى:
1- إن هذا العلاج يضيف بعدا جديدا إلى علاج المرضى النفسيين يبدأ من الاهتمام بضرورة التغلب على الاغتراب عن الجسد فى حياتنا المعاصرة كمدخل للاغتراب عامة .
2- إن هذا العلاج يعتمد على الوسط العلاجى والعلاقة بين المعالج والمريض، وهو يهدف إلى اكتشاف الجسد والتعرف على القدرات الكامنة بل والذوات المعاقة، وكذلك مواجهة طبقات المقاومة مع احتمال اختراقها مما يدرجه تحت العلاج النفسى لا السلوكى .
3- إن هذا العلاج يتطلب تغيرا جذريا فى دور المعالج وإعداده بالتالى، بما يسمح له بالنمو كمعالج بطريقة موازية للتغيرات المأمولة فى المرضى .
4- إن هذا العلاج مرتبط أساسا بقيمة” العمل” فى المجتمع، وقيمة” المشاركة” فى التعليم والعلاج .
5- إن هذا العلاج ليس بديلا لأى نوع آخر من العلاجات، ولكنه يسد فراغا ما ، ويعتبر مرحلة محدودة ضمن خطة علاجية متكاملة، وتتوقف نتائجه مثل كل العلاجات، على مدى إيمان المعالج بالتنظير الذى وراءه ومدى قدرته على التوفيق بين النظرية والممارسة، ثم مدى وضوح هدفه المرحلى والأبعد لنفسه ومرضاه جميعا.
[1] – لم نستقر بعد الاسم لنهائى لهذا النوع من العلاج،واسم العمل الجماعى بديلا عن(العلاجى) الذى اعتدنا استعماله جاء(خطأ) على لسان زميلة أصغر، كذلك قيل العلاج بالمشاركة
[2] – يعتذر د. رفعت محفوظ عن عدم نشر الجزء الثالث من بحثه عن ” الهبوط الحاد بالمخ” ويعد أن يقدمه فى العدد القادم
[3] – لايمكن أن يعزى هذا العمل لفرد أو اثنين، فهذا البحث الاستطلاعى هو نتاج جهد جماعى اشتراك فى جمع مادته وتسجيل انطباعاته وأفكاره كل من أ.د يحيى الرخاوى،د. عماد غز،د. أسامة بهاء الدين ،ود. رفيق جورج، ود. عادل صبيح، وقد ساعد أولهم بشكل خاص فى الصياغة النهائية
[4] – لا يوجد فرق لغوى فى الحقيقة بين العلاج بالعمل والعمل العلاجى كما يبدو ظاهريا إلا أننا تعمدنا اختيار تركيب لغوى جديد تمييزا له عما سبق أساسا، وفى الترجمة إلى الانجليزية اخترنا اسم Work treatment
[5] – د. عماد غز