عدد اكتوبر 1980
أوراق قديمة من طبقات فحول الشعراء
مقدمة:
هذا الباب سوف يقدم بعض مقتطفات من التاريخ مما يتفق مع مادة المجلة، وسوف نحرص على أن تتنوع مادته بحيث يكون مثل سائر الاتجاهات فى المجلة: متخصص فى رحابة …. ما أمكن إلى ذلك سبيلا، وبداية فى هذا العدد سنحاول أن نعرض ورقة من تاريخ فحول شعراء العرب، ونحن لا نلتزم بتعليق خاص دائما، وإن كنا سنحاوله أحيانا، وندعو القارئ لأن يشاركنا فى كل الأحيان:
الورقة ص256 من كتاب: طبقات فحول الشعراء
تأليف محمد بن سلام الحجرى 139 – 231 هجرية
السفر الأول
قرأه وشرحه/ محمود محمد شاكر
مطبعة المدنى 1974
الانتحار الشافى
قال[1] ابن جعدية: برص أبو غرة بعد ما أسن، وكانت قريش تكره الأبرص وتخاف العدوى، فكانوا لا يؤاكلونه ولا يشاربونه ولا يجالسونه ، فكبر ذلك عليه،
فقال: الموت خير من هذا، فأخذ حديدة وصعد إلى جبل حراء يريد قتل نفسه، فطعن بها فى بطنه، فضعفت يده لما وجد مسها، فمارت الحديدة بين الصفاق والجلد [2]، فسال ماء أصفر، وذهب ما كان به، فقال:
لا هٌمّ رَب وائلٍ ونهـدِ والتّهمَاّت والجبال الجٌرد[3]
ورَبَّ من يرمى بياض نجد أصبحتٌ عبداً لك وابن عبد[4]
أبرأتنى من وَضَح ٍ بجلدى من بعد ما طعنت فى معدَّى[5]
تعقيب:
هذه الورقة تعلمنا أشياء كثيرة يليق بنا أن نتعلمها:
أولها: أن إعادة قراءة التراث من موقع ما أحطنا به حاليا من معارف لا تفيدنا فى معرفة التراث أو الاستشهاد به فحسب، وإنما تخبرنا كيف تعلم الناس الأقدم (والأكثر يقظة فى الأغلب) قبل أن يتاح لهم ما أتيح لنا, وكيف ينبغى أن نحسن قراءتهم من جديد ليزداد احترامنا لهم، ولتتأكد معرفتنا من خلالهم ثم لتفيد تفسير ما رأوه بما أتيح لنا بعدهم .
1 – وأول ما نلاحظه هنا هو أن البرص كان يستعمل بمعنى أشمل وأوسع عند العرب، فهو لا يعنى إطلاقا ما نعرفه الآن من مرض البرص المتسبب عن جرثومة بذاتها تصيب الجلد والأعصاب فتأكل الأطراف وتغير لون الجلد، وهى ما يسمى عند الأطباء بالانجليزية Leprosy ولكنه يشمل البهاق Leucodermia كما يشمل الثعلبةalopecia ، وكل من البهاق (الذهاب بلون الجاد حتى يظهر كبقع بيضاء) والثعلبة (سقوط شعر الجسم من مواقع فى الرأس أو فى الجسد أو فى كليهما) والبرص قد يعنى الأخيرة من حيث أصل الكلمة اللغوى، يقال برصت الأرض: رعى نباتها فى مواضع فعريت منه، وهذا ما يحدث تماما فى مرض الثعلبة، والشاعر هنا يستحيل أن يعنى البرص بالمعنى المحدود الأول، لأن أيا من المرض الثانى أو الثالث يقال إنه ذو أصل انفعالى وإنه قد يزول ( ولا سيما الأخير) بتأثير نفسى انفعالى، مثل صدمة الانتحار (إذا فشل طبعا) وهذه هى النقطة الثانية:
2- إن الانتحار إذا كان جادا وفشل بالصدفة أو بالإحجام قد يشفى مريض الاكتئاب أساساَ، وقد يشفى بعض المظاهر النفسجسمية (السيكوسومانية) مثل هذين المريضين، ونحن بذلك لا ندعو إلى انتحار زائف ليفشل، ولكن نحيى هذه الملاحظة العميقة التى لاحظها الشاعر على نفسه فربط بين هذه المحاولة الجادة الفاشلة وبين برئه من سقمه، الأمر الذى قد يغيب عن بعض صغار الأطباء النفسيين وعن كثير من العامة
3- إن ما يشبه الانتحار فى موقف علاجى وهو الإقدام الشجاع على سقوط الكيان المرضى إنما يتيح الفرصة لبزوغ كيان جديد فيما يسمى بإعادة الولادة، وهو يشمل تغيرا بيولوجيا (لا مجرد رمز) بدليل مثل هذه التغيرات التى تشفى ماسمى برصا سواء بهاقا أم ثعلبة
[1] – الخبر فى العرجان والبرصان للجاحظ: 52: 53 … ومراجع أخرى أوردها الشارح شكر الله له.
[2] – مار السهم وغيره: نفذ فى الجسم, ومارت الطعنة: مالت يمينا وشمالا, وأصله من المور وهو الاضطراب والتردد، والصفاق: هو الجلدة الرقيقة تحت الجلد الأعلى الذى عليه السفر من عند مراق البطن (الشارح)
[3] – لاهم: اللهم فحذف كأنه ظن لام التعريف فى اسم الجلالة فحذف لذلك، التهمات: جمع تهمة وهى الأرض المتصوبة إلى البحر، الجبال المجردة: هى الملس لانبات فيها
[4] – يرمى بياض نجد: يعنى سلك هذه الأرض, وبياض نجد أرض مهلكة فى بادية نجد
[5] – الوضح: البرص، المعد: البطن (لمزيد من الشرح والاستفادة يرجع للمرجع الأصلى بشروحه شديدة الدقة والإحاطة)