على آماق البصر
عبد المنعم الباز
لم يعد يعجبه الوجه الذى يعكسه زجاج مترو الأنفاق فى الصباح، ولا يحفل به قميص نومها الوردى فى المساء.
قال لى: “أعاقبك بألا أعاقبك، تمضغ الذنب ولا لذة، وتبصر المصيبة ولا ألم، تجر جسدك فى متاهات الناس ولا يتسع لك شارع رمسيس، تنبش السماء بأربعة أصابع فتسقط فى عينك أحلام متربة، تدب فيما يشبه الوطن وتنزف ما يشبه الحياة”.
”من ساعة ما بقى عندى ستاشر سنة وأنا عايز يحصل تغيير فى حياتي، ونفسى يبقى عندى موتوسيكل زى أبطال السينما، وكمان يحل لى أزمة المواصلات”.
فى سن السادسة عشر كانت سنارته مازالت فى الماء باحثة عن قمقم صغير به جنى طيب، ولم يكن فى النيل سوى السمك والطحالب، والأحذية القديمة، وظل بعدها فترة حين يهبط من القطار ينظر من النافذة أولا باحثا عن جمهرة أهل المدينة، وقد مات رئيسها واتفقوا على تولية أول غريب، لكنهم لم يتفقوا أبدا على أى شيء.
- لماذالم تعد تكتب؟!
لماذا تكتب أنت؟!! مقلتـك تهفو للدمع القديم فهل تستحضر البصل؟!
كيف تطلق نكتة جديدة ونافورة روحك متربة؟ وحتى لو كنت تضحك لدرجة الرفض أو تبكى لدرجة النشيج يجب أن تجد حكاية غريبة تـضحك وتبكى فى آن واحد.
مشكلة لا تهم أحدا ثم إننى أكتب التقارير كل يوم.
”أخرجت الجثة من الثلاجة ووجدت باردة الملمس والجثة لذكر فى أوائل العقد الرابع من العمر، سليم ظاهر العين، متوسط البنية والطول، وخالى من المظاهر الإصابية الخارجية المشتبهة”.
- كالحمال الذى انتظر الدلالة كى تأخذه إلى نعيم البنات الثلاث، انتظر أن ينبجس العدل من تحت أقدام البرولوتاريا، لكن عمال العالم لم يتحدوا واستسلموا للتلفزيون. ثم انتظر أن ينتهز القوميون الفرصة من المحيط إلى الخليج فسبقته البسوس بناقتها وحاملة طائراتها إلى هناك وأخيرا كسل عن حلق لحيته وجلس على رصيف الإسلاميين فوجدهم تعبوا من المعتقلات وحمل السلام والمنشورات وتفرغوا لقطف النقابات. يمكنه إذن أن يصدق مصادفة التقاء ثلاثة صعاليك كل منهم بعين واحدة سليمة، كل منهم ملك ابن ملك وله حكاية لو كتبت بالإبر على آماق البصر لكانت عبرة لمن اعتبر.
- هى غنيوة؟ تقعد تخبط فى الحـلل كتير؟! روح شم شوية ورد.
- الأمور أصبحت فوضى يا أستاذ، زمان كان كل واحد عارف مكانه فى الدينا والمهندس مهندس وبتاع اللب بتاع لب، الآن لا أحد يعرف ما الذى سيحدث له غدا. خديجة قد تكسب سيارة من سمن الهانم ، ووكيل الوزراة قد يجد نفسه ينفق مدخراته على التهاب الكبد. كل شيء يمكن أن يأتى وكل شيء يمكن أن يضيع، والناس ستطبطب عليك بكلمات باهتة وتمضى فى ساقية الحياة.
- لم يجرؤ بعد على إحراق مجلات الحائط القديمة حيث كان صاحب السوبر ماركت عميلا للمخابرات الأمريكية والراقصة أخذت ريالات السعودية لتتحجب، والحلاق سافر الأردن خصيصا ليعود بكاسيت عملاق يطلق منه عذاب القبر على الشارع… وطبعا لم يجتمع مجلس الأمن أبدا لإدانة المؤامرة.
- مستقبـلات اللمس تتكيف بسرعة وتكف عن إزعاجنا بملمس ثيابنا وزوجاتنا وحكوماتنا، لكن مستقبلات الألم تتكيف ببطء شديد. إذ أن الألم معناه أصلا حدوث تحطم لجزء من نسيج الجسد واستمرار الشعور بالألم ضرورة كى نهرب من أسباب هذا الخراب. هل عرفت الآن سر علاقة إسرائيل بالمخدرات؟
- لا، لا أنت خرفت تماما، تسكت تسكت ثم تريد أن تقول كل شيء فى وقت واحد. لا ينفع.
- كيف أقول جملة مفيدة وحيدة كل أسبوع لا تضيع فى زحام الجمل الأخري؟ أنا لا أعرف. مازلت لا أدرى كيف أرتعش بإيقاع.
هى لحظة تنتابك فيها شجاعة فتح الخراج بنفسك، يكون ألم يعصر القلب وعرق بارد ودوخة ولذة ماسوشية رغم الأنين.
- فيه حاجة إسمها السيروتونين، ناقصة شوية فى مخك هى إللى عاملة لك الاكتئاب دا.
- هل تعرف مدينة النحاس التى تحول فيها الناس إلى مسوخ وتماثيل معدنية ثابتة فى أماكنها؟ السلطان فوق عرشه يشير للسياف والمشترون فى الأسواق يفاصلون حتى آخر نفس ،واللص جمدته نفس اللعنة وهو يتسلق الحائط.، أشعرمنذ فترة أننى أعيش فيها، فى مدينة النحاس، كل ما فى الأمر أن المسوخ أصبحت تتحرك وتفتح فمها بالكلمات وحتى تدارى عن نفسها مسخها فإنها تمارس ما تظنه حياة بسرعة وضراوة.
ربما عندهم هم سيروتونين أكثر من اللازم، فقط توقف عن الدوران معهم لمدة أسبوع واحد وستكتشف ملامح التمسخ.
- هل تشعر بالذنب ؟ بالأرق؟بفقدان الشهية للطعام، حد مات لك قريب؟
- جدتى وكنت باحب طبيخها لكن مش شاعر بالذنب لأنى بانام! (كانت بتقول إن كل واحد فينا ربنا خالق عشانه مية وستين ملاك، سبعة منهم مخصوصين للعين علشان يحرسوها. تخيل مية وستين ملاك مخلوقين عشانك، مش حاجة جميلة؟
المشكلة إن الملايكة فضلت تسقط منها وهى بتدبل وأنا معرفتش أحط لها أى ملاك فى الحقنة، آخر ليلة سابوها.
- بطل دراما، تنكر إنك تانى يوم دفنتها كنت فى حضن مراتك؟
- جايز كنت باطبطب بيها على أحزاني، جايز كان نفسى أرضع منها حبة. كنت ساعات باحاسبها على عملة زوجة حسن البصرى – تهرب ومعاها عياله كمان، على أبوها ملك الجان؟!
كانت بتدافع وتقول إن أمه أكيد بعد ما سافر عملت عليها حماة وبعدين أصلا هو خاطفها. (إلا صحيح، ليه الواحد فينا بيحب البنت أم الجناحات لكن لازم ينتف ريشها؟!)
- هايل، فلسف، فلفس لما تفلس، فيه إيجار وخزين للبيت ودفتر حضور بيتحسب عليه الحوافز وفلوس للبوفية وامتحانات دراسات عليا.
- لنا زميل غريب خلال أربعة سنوات فقط من بكالوريوس الطب حصل على ماجستير الأمراض المتوطنة ودبلوم إدارة المستشفيات، ودبلوم الاقتصاد العالمى والسياسة الدولية، ودبلوم التاريخ والفقه والفلسفة الإسلامية، الطريف أنه التحق بالدبلومات الثلاثة فى وقت واحد وكان أحيانا يمتحن دبلومين فى نفس اليوم فيجيب بأقصى سرعة فى امتحان ويأخذ تاكسى بعد نصف ساعة ليدخل بأى عذر امتحان الدبلوم الآخر. يمكنك اعتباره عبقري، بل لابد أنه كذلك، لكن ما طعم رحلات السندباد السبعة، لو قام بها فى نفس الوقت؟!
- مشكلتك أنك تظن أن شخصا ما أو كتابا ما سيخبرك بأمانة وصدق ما هو أفضل شيء تفعله بحياتك وستظل تبدد حياتك بحثا عن كليهما بلا جدوي.
- بالعكس، المشكلة أننى لم أعد بهذه السذاجة كى أترك مصيرى لأى شهر زاد، كل الكلمات أصبحت ترسل للمعامل الكيماوية للتأكد من خلوها من المواد السامة والمهدئات والمنومات والمخدرات وتقارير المعامل تتأخر كثيرا كما تعلم وليس لدى سوى جسد متوسط الطول والبنية يحمل ذلك الوجه الشارد الذى يعكسه زجاج المترو.
22/11/1997