الافتتاحية
أحداث كثيرة حدثت مابين عدد يناير وهذا العدد (أبريل)، وهى أحداث عامة/خاصة، ولا يمكن لمن يريد أن يعيش عصره، مشاركا محاولا، (مثلا: وهو يصدر مثل هذه المجلة) أن يفصل بين الخاص والعام بسهولة، ولذلك فإننا نحاول - ما أمكن- أن يشاركنا القارئ بعض ذلك:
1) صدر عدد يناير متأخرا قليلا، مواكبا لمعرض القاهرة الدولى للكتاب (المعرض الـثلاثين لسنة 1998) ، فنزل العدد المعرض أولا -هكذا !!- واحتجب عن القراء شهرا كاملا، ثم لظرف آخر، سيرد ذكره، احتجب عن القراء شهرا آخر، فـلم ينزل مع باعة الصحف إلا منذ ثلاثة أسابيع.
ومهما كانت الأسباب، فعلينا أن نرد على سؤال القارئ: هل هى مجلة – تحت كل الظروف- أو ‘لا مجلة’ ؟
إما أنها مجلة فى متناول القراء، بانتظام، ينتظرها فى ميعاد معين، ويبحث عنها فيجدها، وإما أنها كتاب غير دورى والسلام .
عذرا جدا، ربنا يسهل، وتستمر مجلتنا مجلة.
2) امتحننا الله تعالى بمحنة مرت بها صحة الزميل سكرتير التحرير، ثم لطف الله بنا وبه، ومن خلال هذه التجربة القاسية، السليمة النهاية بفضل الله والصدفة البحتة وبعض العلم الطبى المتابع المستكشف، العاجز عن الفعل فى نفس الوقت، من خلال ما مررنا به أثناءه، انتبهنا إلى غموض مناطق كثيرة من الصحة والطب والتطبيب.
3) ثم إن أمورا كثيرة كثيرة، خطيرة ودالة، قد حدثت فى مجال الصحافة:
ظهر ما كان ظاهرا منذ كان هناك شيء إسمه الصحافة، منذ أن كان على أمين أو مصطفى أمين (أو أى زيد أمين) يعلم من يريد أن يمارس الصحافة ( لا أن يصدر نشرات دلائل الخيرات) أن يكتب خبر أن رجلا عض كلبا، وليس أن كلبا عض رجلا، باعتبار أن هذه هى الصحافة التى تستأهل !!! منذ ذلك الحين والصحافة تهدف إلى جذب النظر، وإثارة الدهشة، ورشاقة الإخراج، ولا تحرص بالضرورة على جهامة الفكرة، أو مصداقية الأداء، أو رصانة القلم (نقول الصحافة وليس الأدب أو الكتابة)، فما الجديد فى الموضوع ؟ ما الجديد الذى يبرر هذه الهجمة السلطوية التى سارت فى زفتها كل التيارات التقليدية والماضوية؟ وهات يا وعظ، وهات يا تهديد، ثم هات يا سجن، وإغلاق، وتغيير هكذا خبط لصق .
والمصيبة أن الصحيفة التى أغلقت لم تكن صفراء، بل بيضاء، صحيح أنها لم تكن بيضاء من غير سوء، لكنها – الدستور- كانت شابة بيضاء، مستعفية، كادت تصبح مدرسة رغم عاميتها وأخطائها وتسرع شبابها، لكنها كانت منبرا حرا بمعنى الكلمة، كادت تعلم الناس، والشباب خاصة كيف يقرأون محمد عبد القدوس، وسيد خميس فى نفس الصحيفة، كيف يقرأون صافيناز كاظم وحسين أحمد أمين فى نفس الصحيفة، وهكذا، بل إنها كادت تعلمهم معنى نشر رأى ضد موقف الصحيفة نفسها، مثل الرأى الذى نشرته للمواطنـين المسيحيين اللذين كانا يستعديان أمريكا- شخصيا- خيبهما الله وخيبها- على مصر دولة وشعبا، يستعديان أمريكا: قال لماذا ؟ قال: لتحميهما وأقباط مصر من المسلمين المصريين ومن الحكومة !!! رأيت كيف؟، ولم يكن صحيحا ما قالاه، ولم يكن شريفا ما كتباه، ولم يكن هذا رأى صحيفة الدستور، لكن روعة حماس الشباب لـلحرية سمح للدستور أن تعطى هذه المساحة لهذين الصوتين النشاز، ليقولا -فى بلدهما- ما هو لغط سخيف، بدلا من أن يرسلا به بالفاكس لينشر فى أمريكا وكندا ولبنان دون مصر، ولو أن السلطة أخذت بالها من حقيقة هذا الدور لحرية النشر -ولا مؤاخذة- لفرحت فرحا شديدا بنشر مثل هذا الكلام فى صحفنا المحلية، هكذا، ولاعتبرت ذلك تاجا على رأسها يثبت مساحة السماح وحقيقة الحرية (لا هامشها) التى تمارسها الأقليات، فها هى مصر تعلن كيف تعيش فيها الأقلية التى تحظى ليس فقط بالمعاملة العادلة، ولكن أيضا يسمح لها بالكذب المنشور، ولكن تعمل ماذا يا سيدى ؟ وشهادة ديمقراطية إسرائيل هى أن يـقتل فيها إسحق رابين وأن تحاول السلطة الرسمية عندهم أن تقتل -شخصيا- خالد مشعل فى بلد آخر (بلد صديق !!!) ، أما نحن فلنا مقاييس أخرى يقيسون بها ديمقراطيتنا، مثل المقاييس التى يقيسون بها كيف نصرف معوناتهم، وهم ينصحوننا أن نمارس الديمقراطية على قدرنا الذى يعرفونه هم خيرا منا، ومن ذلك: أن تنشر كل صحفنا أن الدنيا ربيع والجو بديع، وبالتالى أن تقفل على كل المواضيع ‘قفل..قفل..قفل..قفل’، وقد كان وقفلت الدولة، ولكنها لم تقفل على كل المواضيع، بل قفلت على غيرالمواضيع.
هناك مقال كانت قد نشرته مها عبد الفتاح فى أخبار اليوم وصلها من قارئ يتساءل من الذى لم ينفذ قرارات الأمم المتحدة (جـ: إسرائيل)، من الذى استولى على أراضى الغير بالقوة (جـ: إسرائيل) إلخ، وانتهى المقال بعد أن عدد حوالى عشرين مخالفة قانونية دولية لإسرائيل، انتهى إلى أن عقاب إسرائيل هو أن يجوع أطفال العراق، ويعاق نمو ليبيا، وتمسح كرامة العرب.
وقياسا: يمكن أن تطرح أسئلة مثل: ما هى الصحف التى تثير الغرائز، والتى تعرى العورات، والتى تتاجر بالدين، والتى تسب الأهل، وتأتى الإجابة أنها صحف كذا وكيت (وهى ما زالت تصدر) والعقاب: أن تغلق صحيفة الدستور !!!
يالله ! هل هى جاءت على هذه ؟
أما حكاية سجن الصحفيين فهى ظاهرة جديدة لا اعتراض فيها على إجراء قانونى رأته المحاكم فأصدرت حكما بمعاقبة متهم ما مقابل خطأ اقترفه، فلا عصمة لأحد ما دامت المحكمة قد اقتنعت أنه كذلك، حتى لو يكن الأمر كذلك، فما القضاة إلا بشر، قد يحكمون – بمنتهى سلامة القصد- لأحدهم على الآخر بقطعة من النار، وصدق رسول الله عليه الصلاة والسلام، فالمهم هو عقيدة القاضى، واطمئنانه إلى يقينه فى تطبيق القانون الذى لا يملك أن يحيد عن ألفاظه، والعيب هنا على الجانبين دون القاضى، الجانب الأول هو الصحفى الذى لم يقرأ القانون، ولم يستطع أن يكبح جماح قلمه فيقول فى المسبوب ما قاله مالك -دون أبى حنيفة – فى الخمر، دون أن يطاله القانون، وأى صحفى حاذق يمكن أن يمسح بخصمه الأرض دون ذكر إسمه، ولا سب والده، ودون أن يستشهد بوثيقة مدسوسة عليه، فإذا حدث أن صحفيا لم يأخذ باله ولم يكن بمثل هذه النصاحة، فاندب، فلا أحد سوف يسمى عليه، والقانون لا يحمى الذى بالى بالك، والقاضى ليس مشرعا، وهو لا يطبق إلا القانون الذى بين يديه.
إذن فالعيب الأصلى هو فى نص القانون الذى يسمح بالعقوبة المانعة للحرية فى جرائم الرأى، أو حتى فى جرائم السب الصحفى، وهذا القانون هو الذى ينبغى أن يعدل، لكن هذه ليست مهمة القاضى، وإنما هى مهمة مجلس الشعب، ولا أقول مثل أحمد رجب ومصطفى حسين على لسان كمبورة ‘سلم لى عالمحمول’، وإنما أقول إن مجلس الشعب حباله طويله، ومشاغله كثيرة، وحتى يعدل مثل هذا القانون، سوف يكون قد تم إطلاق سراح المتهمين الصحفيين الذين ذهبوا فى ‘أبو نكلة’ هذه المرة (هذا علما بأنهم قد أصيبوا بمرض فجائى – فى حدود القانون- سمح لهم -دون غيرهم- بقضاء مدة العقوبة فى المستشفى وليس فى السجن، مع أن هذا تزوير فى أوراق رسمية إن جئت للحق، لكن كله بالقانون !!).
ولا حول ولا قوة إلا بالقانون.
أما الذى لا حول ولا قوة فيه إلا لله، فهى الأمور التى لا نملك إزاءها إلا الدعوات على الظلم والظالمين، وعلى السلطات الغاشمة، فى بوركينا فاسو طبعا، وعلى النظام العالمى الجديد، وعلى الحليوة كلينتون، وعلى البيه نتانياهو، والخوف الحقيقى أن يرأف الله سبحانه وتعالى بنا ويستجيب لكل هذه الدعوات، إذ من سوف يسير العالم بعد ذلك ؟ مستر يلتسين ؟ أم الدكتور الشيخ عمر عبد الرحمن ؟ !!
ثم إن الخوف كل الخوف أن يخترع التكنولوجيون جهازا يرصدنا ونحن نوجه دعواتنا إلى الله سبحانه، حتى لو كنا فى ضميرنا لا نتمنى أن تستجاب الدعوة حرفيا، حتى لو لم تنطق بها غيرقلوبنا مثلما هو الحال فى دعوات المظلومين حقا، وإذا بنا نجد أنفسنا فى ساحة المحاكم، وقد سجلت علينا التكنولوجيا الحديثة، صنع النظام العالمى الجديد، سوء نيتنا، بالإضافة إلى عدم الإخلاص فى الدعاء، ألسنا نعيش فى عصر المعلومات والشفافية ومخالب وأنياب الديمقراطية ؟ وكله بالقانون!
يقول نجيب سرور فى مسرحية ‘آه يا ليل يا قمر’ -على ما أذكر-على لسان شرطى يخاطل واحدة ست:
الكلام ممنوع يا ست (فـتسكت الست، فيضيف الشرطي: )
والسكات ممنوع يا ست (فتقول له الست مشيحة بيدها:)
السكات ممنوع كمان ؟ ؟ (فيرد الشرطى فورا أن نعم:)
السكات ممنوع كمان، السكات مشروع كلام !!
وإلى أن يصدر قانون يحاكم الناس على النوايا المثبتة فى شاشة الضمير، وعلى السكات إن ثبت أنه ليس سكات الرضا، ولا سكات الموت، وإنما سكات تحضير لكلام ما، إلى أن يحدث ذلك دعونا نصدر هذا العدد بكل الأدب (نكرر: بكل الأدب، جدا)
3) وخلال هذه الشهور الثلاثة، خرج إلى دور العرض السياسية فيلم كاريكاتيرى (كارتون) لعبت أمريكا وإسرائيل فيه لعبة القط والفأر ( موديل 1998)، ووقف العرب موقفا محتجا، وهم يحسنون ذلك مع الفرجة المنبهرة، قال يعنى، وقال بعضهم بكل شجاعة: عيب كذا، (عيب كده)، وقال آخرون: ليس كذلك (مش كده) ، وزام فريق ثالث، وتمنى (والتمنى غير الترجى، ألا يكون الأمر كذلك، وصاح فريق رابع ناصحا (مع أن النصح ليس فيه صياح بالضرورة) أنه: ‘الطيب أحسن’، وانبرى فريق رابع يؤكد أن الصلح خير: حتى بين صدام حسين وست الكل أمريكا شخصيا، ولم لا ؟ الناس لبعضها، أما من تبقى من العرب، فقد زام ( لأنه لا لوم على زائم)، ورفع حاجبيه (لا يوجد نص قانونى أو قرار مجلس أمنى ضد ذلك)، وقال -بعد أن زام- بصوت رصين، لا هو بالعالى، ولا هو بالخفيض، صوت يسمعه كل مستمع بما يشاء لما يشاء، قال لا فض فوه، وهلك حاسدوه ‘ يــــا خبر’!!!!!، وعليك أن تفهمها بحسب موقفك من النظام العالمى الجديد، أو بطريقة علمية أكثر: حسب نصيبك من المعونة ومدى إيمانك بالدين الجديد المسمى: ‘سياسة السوق’ !!
4) ويتمادى السيد نتانياهو فى توزيع الأحكام والآراء والتقديرات على كل من يقترب منه، وتزداد شعبيته كلما ازداد وقاحة بنفس النسبة التى تزداد فيها شعبية كلينتون كلما ازداد بصبصة للفتيات اللاتى هن، (إسم النبى حارسه وضامنه، يجنن!!! ربنا يحميه لشبابه)، فيقول الأخ نتانياهو للرئيس عرفات برافو أنك اكتشفت أن قاتل فتحى الشريف هو من بين أهله، ولا يكتفى بهذه الـ’برافو’، بل يضيف أنه ما دمت- يا سيد عرفات-قد استطعت أن تعمل هذه العملة هكذا، فأنت رئيس تمام (أروبة) وتستطيع أن تحمى كل الإسرائيليين بقدرة قادر، تحميهم بدرجة أكبر من قدرة حكومة إسرائيل على حماية رئيسها الراحل إسحاق رابين من الاغتيال، بل إن كلينتون يهدد الرئيس عرفات أن أى حادث انتقامى ضد إسرائيل سوف يكون بمثابة خاتمة المطاف لكل شيء، طبعا تكلم عن تقفيل مسيرة السلام، التى أصبح تسييرها هدفا فى ذاته، ليس المهم تسييرها إلى أين، وليس المهم الأرض، ولا الكرامة ولا التحدى، ولا الحرية، ولا إقامة الدولة، ولا…، لا…، ولا …المهم تسييرها وخلاص !!
وبالقياس تصورت أنه، بنفس المنطق يمكن أن يصدر نتانياهو، أو حتى مجلس الأمن، حكما على رئيسنا مبارك بأنه تهاون فى حماية إسرائيل لأنه لم يستطع أن يمنع حادث الأقصر، كما قد يصدر نتانياهو – ومجلس الأمن بالمرة- قرارا آخر ضد حكام الجزائر باعتبار أنهم تهاونوا فى كف أنفسهم أو غيرهم عن وقف المجازر، لأن مثل حادث الأقصر، ومجازر الجزائر يهددان أمن إسرائيل، قيل كيف ؟ أقول لكم على لسان نتانياهو: لأنه ما دام العرب بهذه الوحشية ضد السائحين الأجانب، بل بينهم وبين بعضهم البعض، فإيش حال لو اقتربوا من إسرائيل …، تصوروا ماذا سيفعل هؤلاء الوحوش بالإسرائيليين، فالأمن الأمن، والذل الذل، والذرة الذرة…..إلخ .
وأمريكا الكبرى لا يعجبها هذا التصرف من نتانياهو طبعا، فهى تعلن بكل شجاعة أنه قد فاض بها الكيل، وأنها لا بد أن تتخذ موقفا، وأنها بعد أن جردت الفلسطنيين من كل شيء، وجردت العرب من كل مصادر التسلح وإمكانيات استقلال القرار، أوالتسيير الذاتى، (فضلا عن حق التمتع بالكرامة أو حتى الهوية)، وبعد أن تعهدت أن تظل إسرائيل دولة نووية، ومسلحة حتى النخاع، بما يفوق تسليح وتدريب كل العرب مجتمعين، بعد كل هذا، وما دامت إسرائيل – والفلسطينيين بهذا العناد- فأمريكا لابد إذن، يعنى ضرورى جدا، سوف تكشف عن تفاصيل اقتراحاتها، هكذا مرة واحدة، وذلك قبل أن تتراجع عنها، لأنها لم تعد تطيق أن تتراجع عنها فى السر باعتبار أنها دولة كبيرة، وقوية، وكلام من هذا !!
وبعد ذلك يغلقون الصحف عندنا، ويسجنون الصحفيين، ، وتستمر المعونات، ويفوض مجلس الشعب، وما شابه !!
يالـــلـــه !!!
5) وتحدث أحداث أخرى عالمية، وتأتينا أخبار أقرب إلى النوادر مثل أن يحذر كلينتون اليابان من الانهيار الاقتصادى، وهو ينبهها (أى والله) أن عليها(على اليابان) أن تحسن أداءها الاقتصادى حتى لا تلحق بانهيارات النمور الأسيوية، ويقول واحد مثلى، ومثل قارئ هذه المجلة فى الأغلب: لعله خيرا !!!
ويقيل يلتسن -وهو يطالع فى الروح – وزارة تشيرنومردين، ويكلف الشاب سيرجى كرنيكو(35 عاما) بتشكيل الوزارة، ويرفضه البرلمان الروسى مرتين (حتى كتابة هذه السطور).
وتعتقل السلطة القضائية فى إيران غلام حسين كرباستشى عمدة طهران، وكأنها تعتقل محمد خاتمى نفسه، ثم تفرج عنه.
وتحتاج هذه الأخبار من مجلة كمجلتنا أن تنتبه وتنبه إلى نوع العالم الذى نعيش فيه
لا أكثر، وهل نملك غير ذلك ؟
6) لكن فى نفس الوقت، نفس الثلاثة أشهر الفائتة، يستمر لبنان فى إعادة بناء ذاته، وتستمر سوريا فى الإنتاج، ويتفجر البترول فى اليمن، وتقترب السودان من مصر وبالعكس، وينعقد مؤتمر الجنادرية، ويواصل الإنتاج السينمائى الإيرانى إبداعاته وتفوقه، وتتأكد مدرسةإيرانية متميزة فى الإخراج السينمائى، مدرسة بكل معنى الكلمة، ويعود محمد من نيوزيلاندا، وطارق من أمريكا، (أى محمد، وأى طارق، لا تدق) وقد تبينا أننا مختلفون، وأن مصر والسودان -مثلا- هما قطران لهما ما يميزهما، وآه لو تكاملا، فعلا، ويكتب أنور عبد الملك مذكرا إيانا بتهافت ما يسمى النظام العالمى الجديد، وأن الدرس المستفاد من انهيار الاتحاد السوفيتى هو انهيار الاتحاد السوفيتى، لا أكثر، ثم يعرض، أفكار الرفيق الدكتور زيوجانوف رئيس اللجنة المركزية للحزب الشيوعى السوفيتى، ويأمل، الدكتور عبد الملك، أو يحلم، بتوليفة جديدة تضم روسيا والصين وإيران-مثلا- لتصبح بديلا مناسبا، أو على الأقل محاورا معقولا على مسرح الأحداث فى العالم، ونقول له فرحين: من قلمك لباب السماء يا عم أنور، لا أحد يكره، ولكن قل لنا كيف ؟
وأهم من كل هذا نقترب من قطف ثمرة مزمزة حزب الله المزمنة فى حضرات الجنود والضباط الإسرائيليين، إذ تضطر إسرائيل لإعلان ضرورة تطبيق القرار 425 الذى ركنته على الرف عشرين عاما، وهى التى تعلن أنها لأول مرة عقدت العزم على تطبيق قرار ما لمجلس الأمن بجلا لة قدره، ولكن لا بد أن يكون التطبيق بشروط، ولم تقل أنه مكره أخاك لا بطل، وأنها تريد تطبيق القرار ليس لسواد عيون مجلس الأمن، ولكن لسواد ثياب الحداد على الضباط والجنود القتلى فى جنوب لبنان.، وتتمحك إسرائيل، و يرد عليهم ممثل حزب الله أنهم إن كانوا يريدون الانسحاب فلينسحبوا، ‘نقطة أول السطر’ (هذا هو نص تعبيره) ، وهو الموقف الذى عبر عنه الشارع المصري/العربى قائلا:’ ما ينسحبوا حد حايشهم !!’
والمعنى هنا أكبر من كل دلالة، فنقول للمرة السابعة والعشرين بعد الألف الأولى والمائة الثانية أنه:
أما آن الأوان أن نعلن الحرب مثل حزب الله، ولا نتوقف حتى ننتهى نحن، أو ينتهون هم ؟
فإذا لم يعجبكم هذا هكذا، فدعونا نقول:
أما آن الأوان أن نعلن الاستسلام وندعوهم لاحتلال العالم العربى كله -دون استثناء- حتى يمكن أن نمزمز فيهم كما مزمز حزب الله واحدا واحدا، إلى ما لا نهاية؟ إذ يبدو أن أفضل طريقة للقضاء على الاستعمار هو أن نستدرجه لاحتلال صريح (غير مدفوع الأجر)، هكذا علمنا التاريخ دون استثناء، وها هو نلسون مانديلا يعلم كلينتون معنى قانون الغابة، الذى لا يستعمله الأفارقة السود وإنما السادة البيض، وأيضا يعلمه معنى قانون الوفاء من أسود أفريقى: مع ليبيا وإيران، مثلا.
المهم انتهت الافتتاحية، وكأنها ليست مجلة الإنسان والتطور، ولكن دعونا نتذكر أنه لا يمكن أن يكون الإنسان إنسانا، أو أن يتطور دون أن يعى فى أى عصر يعيش، ومع أى ناس يتعامل ؟ صحيح أن هذه ليست مجلة سياسية، ولكنها المسئولية الفردية إذ تصب فى الجماعة-جماعتنا – فنـتذكر الواقع بما هو كما هو، فنرسمه هكذا، إن أبسط قواعد الصحة النفسية هى حذق التعامل الموضوعى مع الواقع، ولذا فإن من أهم واجباتنا إذن أن نعرض بين الحين والحين، يعنى بين العدد والعدد، وجهة نظرنا فى الواقع الجارى، أليس كذلك ؟
هذا العدد
ما زال هذا العدد -أيضا- يمثل القديم أكثر مما يمثل التطور المأمول، صحيح أن الأبواب الجديدة استقرت، لكن الصوت الواحد ما زال غالبا، ولا نيأس من الإصرار على ضرورة النقلة والتوسع والتنوع، ولكننا لسنا فى عجلة مهرولة على كل حال.
وقد حاولنا فى هذا العدد أن نلتزم بالتنظيم الجديد منذ عودتنا للانتظام فى الظهور، إلا أنه يحق لنا أن نرصد كيف أن حضور الدكتور أحمد صبحى منصور بهذه الشجاعة وهذا الإبداع قد أعطى المجلة بعدا جديدا فعلا، فعلى الرغم من أن هذه المجلة لا تتعرض مباشرة للإ شكالات الدينية والسياسية، إلا أننا نجد أن كل تناول للدين والسياسة هو من صميم رسالتنا، لا لنصل إلى القول الفصل فى هذا أو ذاك، ولكن لأنه إذا كانت رسالتنا هى التطور، فإن تناول هاتين القضيتين المحوريتين هما من أصول موقفنا المبدئى، ويحضر الدكتور منصور هذه المرة ليذكرنا بالتاريخ الذى أدى بنا، وبإسلامنا، إلى أن نكون لسنا نحن، أن نكون كما تعرفون مما يحزن، ويخزي.
وننتهزها فرصة، ونعيد قراءة مصطلح ‘التطرف’ ، وهو مصطلح حاضر فى أكثر من مجال، فى الدين، والسياسة، والكرة، والجنون وغير ذلك، ونحاول أن ننبه إلى ضرورة عدم الانسياق إلى ما يشاع عن هذا المصطلح الذى أصبح مرادفا للتعصب والتشنج بغير وجه حق.
ثم نحاول أن نعيد النظر -فى باب التذكرة والتصحيح- فى مفهوم التفريغ النفسى كأساس لكل العلاجات النفسية كما يتصور العامة، كما نحاول -بقدرالإمكان- أن نساهم فى كشف خدعة خبيثة شاعت بين الناس، بسبب سوء ممارسة الطب، تقول إن هناك عملية أو إجراءات طبية تجرى تحت تخدير عام، يتم فيها أو معها أو بها غسيل دم المدمن، أو استبداله (!!) فيرجع كما ولدته أمه مثل رجعة التائب من وقفة عرفة، ونستغفر الله العظيم،، فهل هذا صحيح ؟ وهل هذا يصح ؟ ومامسئولية المرضى والأهل فى ذلك ؟
ونكتفى فى هذا العدد- لظروف كثيرة – فى باب ‘حالات وأحوال’ بعرض لعبة علاجية جديدة تظهر إلى أى مدى نخاف من ضعفنا الطبيعى الذى سمى فى هذه اللعبة ‘حق الخيبة ‘، ولعل ما عرضناه هنا يجعل كل واحد منا يتساءل: إلى أى مدى يحق له أن يتمتع بهذا الحق بدلا من ادعاء قوة مغرورة، وكذب متواصل.
ويختصنا إدوار الخراط -بكل كرم- بإحدى قصائده القصيرة المقال الثائر، فتحضر سيرته الذاتية التى تحل فى إبداعه متجددة أبدا، وكأنى به يعيد تأليف نفسه باستمرار، حفظه الله هكذا وأكثرعافية وشبابا.
ولا يبخل علينا د. أحمد تيمور بأحد ألحانه الموسوعية الجديدة، فنشعر أن هؤلاء الناس يوسعون من مساحتنا المتواضعة بهذا التنوع الجميل.
وتتوافد علينا فى ازدحام ملفـت قصائد الشعر، أو ما يعتقد أصحابها أنها كذلك، أكثر بكثير من القصة القصيرة أو الرأى النقدى، فنتعجب ونتساءل عن دلالة هذا الإفراط غير المفهوم فى قول الشعر هكذا، ونعد أن نختار ما تيسر دون حماس.
ثم نعمل عملا غير مسبوق لعله يغفر لنا تقصيرنا، فنعيد نشر قصيدتين لكل من الشاعرين أحمد زرزور، و سمير عبد الباقى ولهما العتبى حتى يسامحونا، فقد كان ما ورد بهما من أخطاء مطبعية، أكبر من أن يغتفر، وننتهزها فرصة لننشر عتاب الصديق زرزور، وفى نفس الوقت نذكر لمحات نقدية عن ديوان جديد لسمير عبد الباقى هو ‘شكشكة على سبيل الفزلكة ‘.
وتستمر التشكيلات على أصداء نجيب محفوظ، ويبدو أنها ستحتاج عددا آخر على الأقل، ويستمر حديث أستاذنا نجيب محفوط، عن صحبته و جيله فيحدثنا هذه المرة عن بيرم التونسي.
ويستجيب لدعوتنا التى طلبنا فيها من القراء أن يرسلوا إلينا باقتراحات عملية يمكن أن تساعد فى تأكيد هيبة الدولة وتدعيم الانتماء لمصر، وإن كان لا بد أن نعترف أن أغلب الردود كانت نتيجة لاتصال شخصى، ونكتفى فى هذا العدد بنشر مساهمة آملة (بل ربما حالمة)، لمحمد الرخاوى الذى عاد من غربته ليشاركنا المسئولية، ثم نلحقه بمناقشة جادة واقتراحات أكثر حلما أرسلها أيمن حامد عبد الشافى لتساؤلات وردت فى افتتاحية العدد قبل الماضى، والرأيان يردان على حيرتنا الإيجابية، ونأمل فى عدد قادم -دون وعد- أن نجمع بقية ما جاءنا من ردود عن مسألة ‘هيبة الدولة’ و’إشكالة الانتماء’ إذا ما بلغت عددا وتنوعا يستأهل ذلك.