استربتيز
هشام قاسم
أعترف أننى لم أشهد فن الاستربتيز.. لكن بالتأكيد سمعت وقرأت عنه.. وهو فن – ليعرف الجهلاء الذين حتى لم يسمعوا أو يقرأوا عنه – يتعلق بكشف مفاتن الجسد البشرى فى عرض راقص شائق هدفه تحقيق المتعة البصرية. وجلب النشوة الباطنية للزائر المتسمر فى مقعده.. قد يكون ليس من حقى أن أحدثكم عن هذا الفن الذى لم أشهده.. لكن ما دفعنى إلى قصى إليكم أننى رأيت بالصدفة البحتة عرضا مشابها لهذا الفن الأوروبى فى بلدنا العزيز.
معذرة، أرجو ألا تظنوا أننى قد ساقتنى قدماى بحثا عنه فى ملاهينا الليلية، فأنا رجل فقير. مدير عام فى إحدى المصالح الحكومية مرتبى كله لا يكفى سهرة واحدة بها. قد يكون تحقيق مثل ذلك الأمل للفقراء من مديرى العموم هو فقط عند الإحالة إلى المعاش والحصول على مكافأة نهاية الخدمة.. لكننا لسنا من السذاجة لكى نفقدها فى ملهى ليلى على وهم محتمل أن نشاهد أو لا نشاهد. ولا تظنوا أن يكون أحد أصدقائى قد دعانى، لأنهم كلهم موظفون فقراء مثلى والحمد لله.. وعلاوة على ذلك هم متدينون لا يقبلون حتى مجرد سماع اسم هذا العرض.
فى الحقيقة أننى شاهدته فى الحياة.. فى دنيا الواقع.
إنتظروا .. لم أشهده كاملا.. لا .. ولا نصفه.. ولا ربعه.. نستطيع أن نقول أنه لو حسبنا مساحة الذراع بالنسبة للجسم.. لكانت 10% ومساحة اليد والكف بالنسبة للذراع حوالى الخمس.. لكان حجم ما شاهدته من عرض الاستربتيز حوالى 2% فقط .. من مساحة الجسم..
انتظروا.. ولا تقولوا “عشمنا .. عشمنا وأفطرنا على بصلة” كما يقول المثل فتلك المساحة الضئيلة من الجسد البشرى حملت… كل المعانى والمقاصد التى يؤديها تعرية الجسد كله.
الآن أيها السادة المشاهدون اجلسوا فى مقاعدكم.. فاغرين الأفواه.. مركزين الانتباه موسعين للأعين. إطبقوا آذانكم وأصيغوا السمع. إثبتوا فى أماكنكم لتشاهدوا فى التو عرضا للاستربيتز الشرقى فى مساحة 2% من الجسد الإنسانى تقدمه لكم سكرتيرتى الجديدة شروق.
تجلس شروق خلف مكتبها والآلة الكاتبة أمامها والخمار يجعـلها كبناء هرمى فى قمة رأسها. كيانها يثير الرهبة كأبى الهول بكتلته الصخرية الضخمة دونما معالم جسدية واضحة. ترتدى قفازا أسود. تدق بأصابعها فى سرعة عالية فتبدو كالعفاريت السمراء.
ما إن أظهر أمامها لأحدثها بكل جدية عن الأخطاء التى وقعت فى التقارير التى كتبتها لى:حتى تنظر نحوى، مركزة بصرها على عينى أثناء سرد ملحوظاتي. نظرتها ناعمة كضوء القمر تأخذ الورقة وتستدير بساقيها النحيلتين الواضحتين معالمهمها لالتفاف ثوبها الطويل الفضفاض حولهما، وتسير فى حركة رشيقة سريعة لتستقر داخل جدران المكتب.
تدق على الآلة، وعندما تزيد الضربات ويعلو الصوت. تعيد نظرتها بشكل خاطف.. كـسهم منطلق أصاب مهجتي.. تبدأ فى جذب قـفازها فى تمهل. بان الرسغ ثم ظهرت راحة اليد واشتعل بياضها المغلف بسواد القفاز فى عيني.. رمتنى بسهم آخر من عيونها ثم زادت فى المساحة المعراة من كفيها. أصبحت – على البعد – صغيرا على راحة يدها. أذوب فى جمالها أتلامس مع نعومتها.. أرقص فرحا متنقلا على خطوطها الممتدة.
ومضى العرض فبانت الأصابع عند اتصالها براحة اليد ثم عند منتصفها. ثم بأكملها وقلبى يرقص نشوة مع كل حركة إبانة. أصابعها المخروطية المنسحبة بدقة ونعومة حتى الأظافر تتمايل فى رشاقة كأننا أمام عشر راقصات بالية تتقارب.. تتباعد.. تصنع دوائر.. تشكيلات مختلفة لتكون عرضا بديعا. عندما اهتزت فى رعشات خفيفة شعرت أننى أمام راقصات حقيقيات تسقط ثيابهن من عليهن، انتفض القلب وثارت جوانحى فمددت يدى لأمسك بيدها فسحبتها على الفور واستبدلت الوجه الصارم بالوجه الناعم الذى كان يشع أنساما حلوة تجذب الناظرين.
توقفت عن عرضها أياما طوالا كانت بالنسبة لى كالـليالى البهيمة. احترت فى تفسير هذا الانقطاع.. فى البداية قلت لعلها تركيبة أنثوبة عجيبة بداخل كل امرأة إذا اقترب الرجل ابتعدت، وإذا ابتعد الرجل اقتربت هى. دعونا من أسباب توقف شروق عن العرض الذى قدمته وتعالوا نشاهد العرض الجديد الذى أعادته فى يوم ما بعد توقف عدة أيام.
بدأت بنظرة ثابتة موجهة نحوى، عرفت أننى داخل على عرض جديد.. كما يعرف النهار من أضوائه الأولى التى تتسلل نحو السماء، تسمرت فى مكاني. هبطت بعينيها من على نحو يديها. ما برحت إلا برهة حتى خطفتنى بنظرة أخرى سريعة عادت بعدها نحو أصابعها. حركت يدها اليمنى فى تمهل نحو يدها اليسرى وأحاطتها بأصابعها. الابهام من أسفل على ظهر الكف وبقية الأصابع من أعلى ثم بدأت تسحب قفازها من على يدها فى تدرج جميل كما تنسحب الموجة الهادئة من على الشط. أخذ فضاء يدها يزداد بهاء وتسطع أنواره حتى بان كله وصارت أصابعها حزم من الضوء تبرق فى عينى.
رمتنى بنظرة حارقة.. ثم خفضت عينيها نحو يدها اليمنى التى مازالت مستورة بالقفاز الأسود..
أحاطت أصابع يدها اليسرى العارية بالكف الأيمن كحزم ضوء تحيط بسماء معتمة. بدأت فى فك تلك العتمة فى تمهل أيضا فظهر جمال اليمنى ناميا كالورود التى تتفتح أوراقها. وبدت يدها اليسرى العارية وهى تسحب القفاز كنهار يولد نهارا حتى صارت اليدان عاريتين تماما. شعرت أن كيانها بأكمله عاريا فى هاتين الراحتين. لم أملك نفسى من الإمساك بأنوار النهار.. فاحترقت بلهيبها.
سحبت يدها على الفور. انزعجت من تصرفها واستثرت، فقلت لها غاضبا:
- تقومين بهذا العرض المتكامل وتحركين حواسى ناحيتك. فإذا اقتربت منك تفرين هاربة.
صمتت.
- ردى على .. أنا أحدثك
- لقد ارتديت القفاز وانتهى كل شئ.
- أريد أن أفهم.
- لا تفهم أنت مشاغب
- مشاغب.. مشاغب.. كيف أظل صامتا.. ساكنا أمام هذا العرض الشائق الذى قدمته.
قامت من أمام مكتبها وقالت وهى تبتعد:
- سأتوقف عن خلع قفازى نهائيا. حتى تتعلم احترامى.
إنها تطلب منى احترامها برغم الذى تقدمه ، على العموم أدركت أخيرا القواعد المطلوب اتباعها معها. فكما فى عرض الاستربتيز.. مهما خلعت المرأة من قطع ثيابها التى تستر بها نفسها. لا يصح أن يقترب منها أحد من المشاهدين، تنطبق نفس القاعدة على العرض الذى تقوم به شروق.
ارتدت شروق القفاز وأنهت عرضها. وظلت علاقتى بها جادة تختص بشئون العمل فقط ولا يشوبها أية نظرة بها تلميح منها للعرض الذى قدمته برغم الابتسامات العابرة الملمحة إلى ذلك الشئ الذى كان بيننا كأننا كنا شخصين آخرين مختلفين عما نحن عليه الآن.
تتعامل معى كما يتعامل الفنان بجفاء مع جمهوره بعد الانتهاء من عمله الفنى.. الجمهور يريد أن يظل النجم فنانا يبدع كما كان فى عرضه، سواء كان تمثيلا أو غناء أو رقصا. والنجم يريد أن يحفظ لنفسه استقلاله وهيبته ولا يصبح دمية فى يد الجمهور.. بل متعاليا عليه برغم توسلات محبيه أن يظهر فنه دوما.. حتى لو كانت نوعية الفن متدنية كفن الاستربتيز.
استمرت شروق تعاقبنى بارتدائها الدائم للقفاز. وظللت كالطائر الحزين الذى ينظر إلى السماء المعتمة ينتظر ظهور خيوط النهار الأولى بفارغ الصبر. وأنا فى تلك الليالى الحزينة أعيش على صور عرضها السابق.. أهيم بفن الظهور والخفاء الذى مارسته يدها. ليست القضية فى التطلع إلى هذا الجزء المحدد العادى من جسدها.. فأنا أشاهد كل يوم المئات منه. لكن فى العرض الذى تقدمة تلك الفتاة.. وخصوصا أنها مختمرة فيكتسب أهمية أكبر.. وجاذبية قصوى لم أجرؤ طوال أيام انقطاعها عن العرض على السؤال عنه سوى مرة بمداراة وحذر شديدين.
- ألا تشعرين أن حرارة الجو تستدعى خلع القفاز… ولو لوقت قصير.
- نظرت نحوى بنظرة وديعة توحى أن الفرج قريب.
- أنا لا أطمئن لك.. إنك مشاغب كبير.
- صدقيني.. لن أعود للشغب مرة أخري.
وفعلا طوال فترة الانقطاع كلما استعاد ذهنى مشاهد العرض الذى قدمته أدرب نفسى على المشاهدة دون الاقتراب.
وفعلا بعدها بعدة أيام جاء الفرج. انهل الغيث من السماء بعد طول جدب.
وبدأت فى نعومة وهى جالسة أمام آلتها تسحب بتمهل جميل قفاز يدها..