حوار العدد (2):
أهازيج شيرين
من كوم أمبو
شيرين:
اطلعت بمزيد من الإهتمام على العدد الأخير من مجلة “الإنسان والتطور” وتابعت بعينى وبقلبى كل صفحة وكل كلمة بشغف وتأثر، فانتقلت عبر أبواب المجلة المتنوعة فى رحلة شيقة وممتعة .. تارة يرسى مركبى لدى “الكتابات الطليقة” مثل التداعى الحر والشعر وتارة لدى شاطيء الرحاب الصوفية فتأسرنى عبارات مولانا النفرى الرقيقة الشفيفة:
“قرب طلوعك يتحقق أكثر من طلوعك”
“كنزك يهدينى نوره أكثر من أن يثرينى الحصول عليه”
المحرر:
ربنا يخليك يا شيرين، والله لو لم نصدر إلا ليصلنا مثل ذلك لكان الأمر يستأهل.
شيرين:
عندما نحب حبا صادقا متدفقا من الأعماق فنكتفى ممن نحب باقترابه وبمتعة الشعور بأنه قريب من قلبنا نراه بالبصيرة حتى وإن لم يكن بالإمكان …
المحرر:
ولكن يا شيرين إياك أن تتصورى أن الاقتراب يغنى عن القرب، تصوف مولانا النفرى ومن يكتنف برحابه أو يستدفئ بوهجه شيء، وحقيقةالمشاعر بين البشر العاديين البسطاء شيء آخر، الله وحده سبحانه هو الحاضر فى غيابه الظاهر، ماذا وإلا روجنا لمثالية خطرة، والواقع هو زادنا وزوادنا مهما شيحت الآمال.
شيرين:
يرسو مركبى لدى مقالة د. رمضان بسطاويسى فى نقاشه لندوة جمعية الطب النفسى التطورى حول كتاب هيجل “حياة يسوع”…مع سطورتقول:
“حين يجسد الإنسان نفسه فى الخارج .. ليحاول أن يفهم ذاته التى اختبرت حواسها فى الإدراك من خلال موضوعات الخارج” ولعلنى لايكون قد جانبنى الصواب حين أفهم أن هذه الكلمة إنما هى دعوة لممارسة الحياة بأنفسنا والدخول فى غمارها وليس فقط الاكتفاء بسماع خبرات الآخرين أو قراءة نتائج تجاربهم.
المحرر:
هو ذاك، ود. رمضان غادرنا إلى سفر قصير، وحتى عودته بالسلامة نقول لك بالنيابة : هو ذاك ما وصلنا أيضا، أما ما عناه تفصيلا فنحن فى انتظاره.
شيرين:
….. رسوت لدى شاطيء “حالات وأحوال” (وفهمت أنه ) :…قد تكون الخبرة الوجدانية القائمة هى أقل من التعبير، أو غير متناسقة معه أو غير ذات فاعلية” وفكرت فى أمى – أمد الله وأطال فى عمرها – هل أمى لديها الخبرة الوجدانية والإحساس وحده أم أن لديها التعبير والإبداء الشكلى وحده؟ أم لديها الإثنين؟ أم أنه ليس لديها لا هذا ولا ذاك، أتوق أن أسمع منها يوما الرد على هذا السؤال بالتحديد .. يا سيدى . يا إلهى هل لا أعرف حقيقة أعماق أمى إلى اليوم (؟)
المحرر:
هذا أمر فى غاية الإقدام والدقة، حين تكون علاقة الإنسان بأمة غامضة هكذا، تحتد الحاجة لدرجة قد يترتب عليها ما يترتب، يذكرنى ذلك بشعر عامى كتبته، وأظن أنه ظل مجهولا لم يطرق وعى أحد، وهذه فرصة أقتطف منه لك بعض ما أتصور أنه يعيننا، كان فى شكل حوار مع أمى يقول:
- ليه يامه ؟ كان ليه؟
لما انت مانتيش كان ليه.
أنا ذنبى إيه؟
أنا مين؟ أنا فين؟ أنا كام يامه ؟ أنا إيه
فترد الأم التى ليس على بالها قائلة:
جرى إيه يابنى يا حبة عينى . طب مانت أهه، بقى دا اسمه كلام؟، ما هو كله تمام، جرى إيه؟
ماتفكرشى دا الفكر مرار
ودا بير يابنى ومالوهشى قرار
-بس يامه لو قلتى ليه ؟ كان ليه؟
= جرى إيه؟ فيه إيه؟ (كان ليه ؟ كان ليه؟) هى دى عامله؟ ولا انا قصدى، دهدى !!
إلى أن قالت :
والله يابنى مانى فاهمة، يمكن عامية، دى الدنيا ضلام، والناس الشر، لم يبطل يوم فى لسانهم قر، ياكلوك يابنى لحمة طرية، ويقولوا يا روحى عليه كان زين، ليه يابنى كده، بتعرض نفسك لنيابهم، ياكلوك يابنى، ويغمسوا بى ورحمة ابوك.
أما النهاية التى أريد أن تشاركينى فيها فكانت هذا الرد الأخير الذى رددت به عليها:
- لأ ياختى مانيش خايف منهم، أنا مستبيع، الدنيا بخير، ونا مستبيع، أنا حابقى أبويا وأمى كمان، أنا حابقى كتير، أنا حابقى الناس، أنا حابقى الحب، أنا حابقى “أنا”
وحين تـبسـبـس لى أن :
أنا نفسى أشوفك سيد الكل، “..بس”
أقاطعها قائلا:
-مابسش، ولا سيد الكل ولا ديلهم، أنا حاخذ حقى من عينهم، من بسمة طفل، أو حنية خالتى أم الخير، بياعة الفجل، أو عم على واقف يضحك ورا قددة فول…..أو من همسة ورقة وردة، أو حتى نهيق جحش العمدة، من أيها حاجة اسمها عايشة…حاشعر بالنبضة وبالرعشة من أى كلام، وحاعيش.
شيرين:
(دعنى أقتطف لك ما يملؤنى أو يعزينى)، حين لا أجده (… حبيبى الذى فقدته)، أو لا أجد جوابا لسؤالى، ولعلنى لم أذهب بعيدا(1) يقول جمال الغيطانى فى تجلياته (ص 465)
“آخر مقامات الوصول والقرب
حيث لا عاشق ولا معشوق
ولا يبقى إلا العشق وحده
الذى لايدخل تحت رسم أو إسم ولانعت ولا وصف: حيث لا عاشق أو معشوق”.
المحرر:
يعنى …. !!
شيرين:
(هل تسمح لى أن أعبر لكم عن إحساسى بتلك البلدة: كوم امبو) والذكريات التى ارتبطت بقلبى وعقلى فيها، إننى كمرشدة سياحية – أجوب أقاليم هذا البلد الحبيب من أقصى الشمال إلى أقصى الصعيد .. وكل بلدة أزورها بحكم عملى تصنع بداخلى حلما وتترك جرحا يفيض حزنا شفيفا رقيقا وحبا وشوقا لكل الناس.
المحرر:
تذكرينى بما أردت توصيله فى “الناس والطريق”، وكذا بما كتبه بشلار عن شاعرية المكان.
شيرين:
كوم امبو التى تقع شمال أسوان هى أكثر بلاد الصعيد تأثيرا فى مشاعرى ولمسا لأوتار قلبى المتلهف المتشوق، وهى بلدة صغيرة تعيش على زراعة قصب السكر وتستقبل السائحين الذين يأتون لزيارة معبدها الجميل الذى يرجع بناؤه إلى العصر البطلمى أى حوالى 332 ق . م. أصطحب الأفواج السياحية إلى معبد كوم امبو، وأثناء الطريق الموصل إلى المعبد تمر فى ذهنى خواطر شاجنة، وأحد الشجن ماشف ورق ..
ويسعدنى أن تطلع على إحدى القطع التعبيرية التى أذرف فيها مشاعرى الصادقة تجاه كوم امبو فوق الورق، لكى أبوح مرة أخرى بداخل الأوراق بحب رقيق ترك فوق شعورى ندبة لم تلتئم، بالرغم من مرور ثلاث سنوات على وفاة الإنسان الذى من أجله كتبت تلك القطعة
“أهازيح فى كوم امبو“
أكثر بلدة تذكرنى بك : كوم امبو..
الطريق الأسفلتى أسفل معبد كوم امبو والذى يوصل إلى المعبد هو أكثر مكان يذكرنى بك ..
كل خطوة أمضيها فوق أسفلت هذا الطريق الأسود اللامع هى فرجة فى قلبى الذى يشقه سكين حاد صنعه حبى من الذكرى مع مضى خطوى فوق الطريق، تزداد فرجة قلبى عمقا واتساعا وطولا حتى يصبح قلبى بأكمله فرجة تتفجر منها الذكرى وتنسكب على الطريق ويمضى الناس، السائحون والمصريون، دون أن يدروا، يا إلهى، أن خطواتهم تطأ طريقا مغسولا بدموعى، مبللا بشهقاتى المكتومة، منثورة عليه ورود وأجزاء من أعصابى وتترحم مستعيرة أصوات باعة التذكارات السياحية المصطفين على جانب الطريق لا يعرفون أن كل ما يأتون به ضحكات وأصوات وحركات وسكنات، كله، قد تحول إلى أهازيج .. وإلى أراجيز فى حبك ..
بواسطة عروقى وأنسجتى وأعصابى المتناثرة هنا وهناك وفى كل مكان حول معبد كوم امبو، تتحول نكاتهم وتعليقاتهم وضحكهم ووجومهم وتقطيبهم وكل يأتون به إلى قوافى من الشعر الصوفى أهدهد به روحك: بداخل قلبي
مجنونة .. ربما عاشقة .. أكيد
مرت ثلاث سنوات، وعشقى لك ليس سوى فى ازدياد، وجنونى بك لا إفاقة لى منه ..
أحترق .. أحترق .. أحترق ..
أسقط رمادا متناثرا فوق مجمرة حبك الأحمر، فترتفع أدخنة الشوق القرمزية، معطرة كوم أمبو بأكملها، وسط ترانيم وتراتيل باعة التذكارات السياحية، وقد تواصلت همساتهم فى دعاء طويل، ممتد حتى جوهر الكون السمائى مع كل المآذن وبداخل كل القباب .
وبعد ذلك ماذا يتبقى مني؟ أذوب.
يا إلهى، بعد ذلك لا يتبقى منى شييء..
المحرر:
لا لا لا لا، لا يا شيرين لا، بل نعم نعم، معك كل الحق، بل لا أبدا، ما هكذا يكون، ونعم أيضا، كنا نتمنى من قديم أن نكون فى متناول البشر أصحاب الحاجة ممن هم ليسوا مرضى، أو ليسوا قادرين، يتوجعون فنستمع، ويشكون فنجيب على الورق، لكننا خفنا من أن تنقلب المسألة إلى نصائح وإرشادات مثل أبواب مشابهة فى مجلات كثيرة، لكنك جئت هكذا الآن تفرضين علينا التجربة، فلنحاول.
يا بنيتى الصادقة، دعينى أذكرك بموقفك التساؤلى من عواطف أمك (تعبيرا ومعايشة)، إذا أحسب أن هذه هى الأرضية لما أنت فيه هكذا، ثم دعينى أحذرك من أن تصبح فرجة القلب المكسور كهفا تغور فيه نبضاته هكذا إلى سحق مجهول، ولعل ما اقتطفته لك من حوارى مع أمى كان يريد أن يذكرك أن علاقتنا الحقيقية، هى علاقة مع الحياة ذاتها، لا مع الأم ولا مع الحبيب الذاهب أوالحاضر,وأنا لا أقصد أن تصبح الحياة تجريدا بلا موضوع، ثم نسقطها على ما يعن لنا من شخوص وأشياء، وإنما أعنى أن العلاقة الأساسية للإنسان هى بالحياة ذاتها وهى لا تكون كذلك إلا إذا تجسد ت فى أشخاص من لحم ودم (هنا والآن)، ثم نفقدهم أو لا نفقدهم، وفى الحالين لا نفقدهم، لأننا لا نفقد شيئا ما دمنا قادرين على تخليق الحياة من موقعنا المتجدد منها وبها، نحن فى الحياة نخلقها لا نتلقاها ولا نستسلم لها، الحياة ليست مصادفة ملقاة على الطريق، نلتقطها ثم تقع من بين أصابعنا أو ننساها فى أحد جيوب غفلتنا، إن الذى يريد أن “يكون; ليس أمامه إلا أن يقتحم (أنا حاخد حقى من عينهم)، يقتحم إذ يخلق حياة كاملة متجددة هو جزء من حركتها، وما أعنيه بتخليق الحياة لا يقع فى منطقة الخيال أبدا، وإنما هو فى عمق الفعل اليومى العادى.
وأنت تحذقينه كما أرك من الشمال إلى الجنوب، وسط الناس وبهم، رائحة غادية.
صدقينى أنا أحسدك، وأدعو لك، وأثق فيك، وفى كل ما هو حقيقى متجدد.
هيا معا إذ يبدو أن الأمر يستأهل.
[1] الكلام بين قوسين مضاف من المحرر لتواصل السياق بعد التقطيع..!