الموسوعة النفسية
حرف الواو
الوقاية (فى المرض النفسى)
يحيى الرخاوى
الوقاية: هى تجنب المرض، وإجهاضه، فالبرء السريع منه، فالحيلولة دون مضاعفاته، ودون رجعته. هل يمكن أن يتقى الإنسان المرض النفسى أصلا ؟ وما فائدة معرفة الأسباب إن لم يكن الهدف الأول لذلك هو أن نتجنبها ( أى نتقيها) ؟ وإذا كان المرض النفسى هو جزء من الوجود البشرى وكنا قد وصلنا فى الحديث عن السببية إلى فرض آخر يقول إن المرض النفسى هو جزء لا يتجزأ من طبيعة الحياة، وهو كامن فى الوجود الكلى للبشر ولا يسمى حينذاك مرضا، فإذا حدث أن أطلق منفردا، جزءا على حساب الكل، كان ثمة مرض، فما هو الحال بالنسبة لتجنب هذا النشاز المحتمل، أو بمعنى آخر كيف يحافظ على أن يظل النجم دائرا فى المجرة حتى لا يسقط نيزكا هامدا ضارا ومنعدما ؟
هذا هو مدخلنا إلى مادة الوقاية.
أولا:
المراجعة الواجبة تقول: ظل الأطباء النفسيون يبحثون عن السبب والأسباب وهم يحسدون زملاءهم الذين عرفوا أن التيفود يحدثه ميكروب التيفود، وأن مرض البول السكرى يحدثه قصور فى إفراز غدد لانجهام للإنسولين، ظلوا كذلك حتى خيل إليهم أنهم يقتربون من النموذج الطبى (الكيميائي) -كما أشرنا فى العدد السابق- وبالتالى راحوا يضعون الفروض كأنها الحقائق ويبنون عليها خططهم الوقائية والعلاجية بحماس لا تفسير له من نتائج باقية وحقيقية، ذلك أن فهم الأسباب بالصورة التقليدية – سواء تكلمنا عن السببية المباشرة أو حتى السببية ذات العوامل المتعددة- هو فهم يوحى بإمكان التخلص من السبب. وقد وصل الأمر إلى تفسير يكاد يكون أحاديا لإرجاع الأسباب إلى نقص كيميائى معين، أو زيادة فى إفراز بذاته، وهذا وذاك يوحى بأن العلاج -إذن- هو تعويض هذا النقص أو تخفيض تلك الزيادة، وقد أدى تضخم هذا الاتجاه الاختزالى الخطى إلى مضاعفات الإفراط فى استعمال العقاقير من ناحية، والاعتماد عليها من ناحية، ثم تحويل كثير من الأعراض والزملات الإيجابية الصريحة التى تعلن حركية الحياة واحتمال تحويل مسارها، إلى أعراض وزملات خفية يسهل وضعها بعيدا على جانب مهمل من مسيرة الحياة. وهذا الاتجاه الذى تنامى منذ الخمسينيات حتى العقد الماضى ثم بدأ فى التراجع بعد رصد مثل هذه المضاعفات بطريقة موضوعية أمينة، هذا الاتجاه قد قام بدور آخر يتعلق بديناميات الطبيب النفسي، لأنه خفف من أعبائه، وقلل من شعوره بالتقصير- أو بالذنب أحيانا- لعجزه عن مواكبة حركة مريضه وتحويل مسارها، وبالتالى أدى للأطباء خدمة – ضارة فى النهاية- وهى أن يمارسوا مهنتهم -حسب الكتاب (وليس مواكبة للحياة)- مثلهم مثل زملائهم .
ثانيا: إن كل هذه الانتقادات لا تعنى طرح النظرفى السببية جانبا، أو التخلى عن أمل أو حلم الوقاية من الأمراض النفسية، بل إن الأمريتعدى ذلك إلى طرح القضية على الوجه التالى:
1) مادامت معرفة سبب واحد لمرض واحد يكاد يكون مستحيلا (إلا فى حالات أمراض نتيجة لتسمم أو أسباب عضوية محددة) فالجدير هو الاهتمام بكل الأسباب بأى صورة ممكنة- حتى لو ثبت أنها ليست الأسباب.
2) مادام منع حدوث مرض بذاته لشخص بذاته يكاد يكون مستحيلا، فالأمل قد يصل إلى أن جهود الوقاية قد تؤدى -على أحسن الفروض- إلى تحسين أحوال النوع (النوع البشري) بتحسين ظروف التعايش نتيجة للمتاح من الوعى والمعلومات.
3) مادامت معظم الأسباب حدثت فى الماضى (من منظور السببية الحتمية) , والماضى لا يرجع، وإنمايتجاوز، وجب التركيز على الأسباب الحالية، وكيفية استيعاب “الماضي” فى “الآن”, بأكبرقدر من العناية.
4) مادامت الأسباب بهذه الكثرة والتداخل والتعقيد، وجب ترتيب أهمية كل نوع من الأسباب (وكل منظورللسببية) ترتيبا خاصابكل فئة، أو مجموعة فئات.
5) مادام الهدف من معرفة الأسباب هو مساعدة المريض (بعد التواضع فى محاولة منع المرض) وجب ترتيب أهمية الأسباب حسب القدرة على مواجهتها بأنجح الوسائل وأكثرها عملية لتحقيق أهداف العلاج.
6) مادام تقييم دور الوقاية يعتمد أساسا على كفاءة الأبحاث الانتشارية، سواء الأبحاث القاعدية (التى نبدأمنها كقاعدة للقياس التالي) أو الأبحاث التتبعية التى سوف نقيس بها فاعلية الإجراءات، لذلك وجب -ابتداء- تحديد حدوث أى مرض يراد الوقاية منه، ومدى تواتره، وطريقة تعيين الحالات المستهدفة، ووسائل قياس نتائج العلاج، وتتبع آثار المرض المتبقية ومدى الإعاقة، وكل هذه مهام شديدة الصعوبة وخاصة فى الدول الأقل تقدما (ماكان يسمى بالعالم الثالث).
وفى هذا الشأن لا بد أن نتذكر أمرين:
(ا) إن الوقاية هى من أهم ما يبرر ويدعم الأبحاث الانتشارية لتحديد تواتر وحدوث الأمراض المختلفة مع سائر ترابطاتها.
(ب) إن الحد الفاصل بين السواء والمرض فى المرض النفسى هو إشكال عملى لم تحله مناهج البحث بعد، برغم الاجتهادات.
ثالثا: من منظور الفرض التطورى الذى طرحناه يمكن إعادة النظر فى موضوع الوقاية على الوجه التالى:
1- إنه مادم هناك تطور، فلا بد أن يكون له مضاعفات، وبنسبة تكاد تكون ثابتة عبر التاريخ، وربما: على مدى عرض الجغرافيا. وهذا يفسر-مثلا- توحـد نسبة حدوث الفصام طولا وعرضا.
2- إن المرض النفسى من هذا المنطلق هو إعلان عن وجود حركة لها مضاعفات ويمكن تشبيه هذه الجزئية فقط: بحوادث الطريق، فبرغم أن لحوادث الطريق أسبابا محددة مثل السرعة وسوء الإضاءة والزحام ومخالفة تعليمات المرور، إلا أنه ستظل هناك نسبة حتمية لحدوثها مهما اتخذنا من احتياطات، حقيقة قد تقلل الاحتياطات منها بشكل أو بآخر لو تم رصد الأسباب الحقيقية والمباشرة والإقلال منها، ولكن يستحيل أن تلغيها من حيث المبدأ كما يحلم البعض شطحا أحيانا.
3- على هذا القياس، فإن الافراط ف تصور إمكانية تمام الوقاية (بالطريقة التقليدية التسكينية المانعة) قد تمنع من يتبع التعليمات من أن يكون هو الممثل لنسبة الحوادث شبه الثابتة، ولكن قد يكون ثمن ذلك غاليا إذا تصور الجميع إمكانية اتباعه، إذ لا يمكن القضاء على الحوادث تماما إلابتوقف السيارات نهائيا عن الحركة، فلابد أن نتحمل قبول نسبة من الحوادث ما دام لابد أن نتحرك.
4- وقياسا لا يمكن القضاء على المرض النفسى تماما ( الوقاية المانعة الكاملة) إلا بتوقف الحياة كلها.
5- إن المبالغة فى إعطاء العقاقير فورا وبكميات جسيمة وطول العمر هو نوع من توقيف الحياة خوفا من حوادث المرور.
6- إن هناك علامات تشير إلى أن الهجوم الأحادى التوجه على بعض الأسباب دون غيرها، أو على بعض المظاهر دون غيرها، لا يمنع المرض النفسى , وإنما يغير من صورته فيجعلها أكثر خفاء، وربما أخطرمسارا.
وأبسط مثل على ذلك ربط النقص الذى سجل مؤخرا فى حدوث incidence (وليس فى تواتر prevalence) الفصام، ربطه مع الملاحظات والفروض التى تقول إن ذلك تم على حساب زيادة تواتر وحدوث اضطرابات الشخصية بأنواعها المتنوعة الخطورة)
منظور تطورى فارقى للوقاية:
أولا: تقسـم الأمراض بحسب نموذج سببيتها، فالأمراض التى لها أسباب مباشرة مثل فيروس أو تسمم أو حادث سيارة أو كارثة محددة، يمكن تناولها – بشكل عام – من منظور تقليدى يكاد يكون مماثلا للمنظور الطبى التقليدى بالتركيز على تعداد الأسباب لنفيها بالمعنى الذى يمنع حدوث المرض، وهنا ينبغى التركيز على الوقاية المباشرة، بالنسبة للأسباب المباشرة، مثل الالتهابات، والأمراض المعدية، والعامة، التى تصيب الجهاز العصبى مباشرة، وكذلك مثل منع الأسباب التى تضر بنمو الجنين، وتلافى الأسباب التى يمكن تلافيها مع الولادة وفور الولادة مما ذكرنا، وكل هذا يرتبط بنوع الأمراض العضوية، والخلقية التى يسببها خلل واحد معروف يمكن تلافيه، وبالتالى التى لا ينطبق عليها فرض “إن المرض النفسى هو مضاعفة حركية الحياة” كما سبق أن أشرنا.
ثانيا: فيما عدا ذلك يعاد النظر فى مسألة الوقاية من منظور آخر يقول:
1- نبدأ بالاعتراف بالطبيعة النبضية للحياة البشرية.
2- يترتب على ذلك أن تكون التربية متجهة إلى إعطاء الفرص الحقيقية لنبض طبيعى (أى للتراوح بين الإبداع والاستيعاب، أى بين الحصول على المعلومات فتمثلها وبين بسطها وإعادة تنظيمها).
3- يسمح ذلك أن يقوم النبض الحيوى اليومى العادى بدوره فى استيعاب، وإعادة تنظيم المستويات بالقدر القادر على إعطاء كل مستوى حقه ضمن الكل، حتى لا يتراكم أحد شقى المعادلة فينطلق مستقلا عن الكل (وهذا هو المرض).
[ المسألة ليست توازنا كميا بين التربية التقليدية وتدريبات الإبداع، وإنما هى تمتد إلى النظر فى ضبط طريقة وجرعة التناوب، وليس فقط التناسب].
4- هكذا تتم الوقاية ليس بمنع الحركة الخطرة، وإنما بتنظيم خطاها وجرعتها ابتداء، فلا تكون خطرة، ثم تعديل مسارها واستيعابها مبكرا فلا تستمر فى اتجاه خطر.
5- فإن لم يمكن ذلك (وهذا عادة غير ممكن بعد بداية المرض وتقدمه) فينبغى أن تتوجه العناية إلى القبول بصور من المرض أقل إماتة لحركية الحياة حتى على حساب الصبر على بعض الأعراض بعض الوقت.
6- فإن لم يمكن ذلك ( أو أمكن بطريقة جزئية) فتأتى بعد ذلك محاولة إخفات حـدة حركية الحياة ولكن لفترة محدودة (بالعقاقير المناسبة ) على أن يجرى أثناء ذلك إعادة تنظيم المحيط بحيث يستقبل الطاقة المنطلقة مع الإقلال المنظم لهذه الجرعة المهدئة ( لا اللاغية لها).
7- فإن لم يمكن ذلك فعلينا أن نتعلم القبول بنكسات أقل فأقل.
8- فإن لم يمكن ذلك فلا بد من التنبه إلى محاولة الإقلال من بقايا الأعراض فى شكلها السلبى المعوق، وهذا يتركز أساسا فى الاهتمام بالعوامل الـمـبقية والدوامية.
وبرغم أن معظم هذه الخطوات لا تختلف - فى شكلها الظاهرى- عن طرق الوقاية العادية بمختلف مستوياتها المتعددة الأولية (لمنع المرض أصلا) والثانوية (للعلاج المبكر النشط والناجع) والثالثوية (بالتأهيل المناسب ومنع النكسة) ولا عن التخطيط العلاجى الطويل المدى والتأهيل المنظم، إلا أن الذى يقدمه هذا المنظور قد يغير من موقفنا تجاه الأمر برمته، مما قد يترتب عليه فى المدى الطويل تعديل فى طرق التربية، والعلاقة بالطبيعة، وتوقيت التداوى الكيميائى والفيزيائي، ومن بعض ذلك ما يلى من تغيرات فى مواقف نرى أنها جوهرية بشكل أو بآخر، فنعددها على الوجه التالى:
الأول:القبول بضرورة المرض النفسى كجزء لا يتجزأ من طبيعة الحياة. وهذا قد يغير من نظرتنا للمرض النفسى فى عمق وجودنا (أخلاقيا وعمليا وعلميا).
الثانى: القبول بحتمية دورية الحياة واحترام الإيقاع الحيوى النفسى الذى أحد مظاهر سوء استيعابه هو المرض النفسي، وبالتالى القبول باحترام النكسات وتحويرها أولا بأول (انظر بعد).
الثالث: القبول بالتفرقة الحاسمة بين نوعين من الأسباب فى مقابل تفرقة حاسمة بين أنواع المرض بحسب نوع السببية.
الرابع: التعامل مع الأسباب بتحديد دورها: ليس فى إحداث أو نفى المرض النفسى بمنعها، وإنما فى احترام وجودها، والتنبؤ بما قد يترتب عليها، فى كل أسرة على حدة، بل فى كل فرد على حدة، ومن ثم العمل على استيعاب طاقتها فى مسار إيجابى مناسب لفرط الطاقة ومواقع الإغراء بالتوقف أو الانسلاخ المرضي.
ومن هذا المنطلق، يصبح التعامل مع الأسباب كما ذكرت فى المنظور التطورى على الوجه التالى:
1- الوراثة: يؤخذ فى الاعتبار – ومنذ الولادة- كم الطاقة الجاهزة للحركة، وشدة المستوى المحتمل (يعرف ذلك من التاريخ الأسرى تفصيلا لكل من المرض النفسي، نوعه واستمراره، وأيضا للإنجازات الإبداعية والمظاهرالدورية الجسيمة فى العائلة).
ونقطة البداية هذه إنما تحترم الوراثة، وتدخلها فى الفروق الفردية فى حسابات التربية، لكنها مختلفة عن الوقاية التى تبدأ باعتبار الوراثة علامة سلبية منذرة من البداية ينبغى توقى آثارها تماما ( لدرجة التعقيم الذى فكر فيه أو قام به مختلون مثل النازى ..إلخ)
2- جرعة التدعيم: يراعى فى كل فرد-إذن- أثناء تنشئته أن يأخذ كل مستوى حقه من التدعيم، دون الاستجابة لغلبة مستوى على الآخر، حتى ولو كان الاستعداد الوراثى يغرى بذلك:
فمثلا: الطفل الذى ولد وعنده المستوى الشيزيدى متضخم – كما ثبت من دراسة الوراثة والسلوك الأولى منذ الطفولة- يعطى حقه فى الانسحابية والاعتماد، وإنما دون إفراط أو تطويل فى نقلته إلى المستوى التالى (المستوى البارنوى: أى الكر والفر) وهكذا.
وعلى الجانب الآخر، لا بد من فهم المسار ومعنى وصفات كل مستوى غالب لضبط جرعة السماح والتدعيم:
ولشرح ذلك أقدم نموذجا أطول (مع درجة من التكرار):
فالفرد من عائلة يغلب فيها الفصام يعلن أن ثمة تحفزا جاهزا مع الولادة لقوة مستوى بدائى يمكن أن يتلكأ فيتدعم أكثر – متى ما أتيحت له الفرصة- أثناء النمو (فيؤكد هذا المستوى الشيزيدى نفسه ويدعم دوره) كما يمكن أن ينقض هذا المستوى منفصلا، كبديل طاغ فى أوقات الضغوط مستقبلا عن الكل، ومواجهة مثل هذه الاحتمالات لا تأتى برفض قوة هذا المستوي، وإنما بفهم معنى قوته إذا تداخل فى التكامل الأكبر، فصاحب هذا المستوى البدائى غامر الحيوية يمكن أن يحتاج درجة من التدريب على التفرد أكثر مما يحتاج إلى درجة من التحصيل المعلوماتى الراتب، والتفرد هو احتياج يختلف من فرد لآخر ليس فقط باختلاف سماته الظاهرة، وإنما أساسا حسب غلبة تنظيماته المتميزة بهذا التفرد، الأمر الذى يختلف من فرد لآخر، ومن عائلة لأخري، فإذا نحن ساوينا بين الأفراد فى التربية والتوجه والتدريب المناسبين دون النظر إلى معنى الوراثة، فإن النظرة الوقائية (من منظور تطوري) تكون قاصرة.
3- نوع ومدى وجرعة التراكم:
مع احترام الوراثة والانتباه إلى جرعات التدعيم المناسب الذى يهدف إلى إعادة تنظيم القوى النسبية بين المستويات، وكل ذلك صعب إلى درجة الاستحالة أحيانا، لابـد أن تراعى نوعية المعلومات الـمدخلة، فكلما كانت المعلومات ذات معني، كاف ومناسب (بعكس فقرالمعلومات أو زحمتها بلا استيعاب) كان ملأ الوعى أبعد عن احتمال تخطـى عتبة الانجراح، ومن ثم المرض أى أقرب إلى الصحة.
وهذا العامل يبدو أقرب العوامل إلى التناول التربوى، فلا نحن قادرون على منع الوراثة (إلا بتغير نوعى على مدى أجيال عديدة) ولا هو ممكن ضبط جرعة التدعيم لمستوى من تلك المستويات المهـددة، خاصة أن الوالدين أحدهما أو كليهما يكونان حاملين المستوى نفسه المراد تخفيفه (فيتعذر عليهم ذلك بداهة) – أما هذا العامل، (معنى المعلومات وترتبها) فإنه يمكن أن يؤدى الاهتمام به إلى تخفيف حقيقى لاحتمالات المرض وذلك باتباع بعض مناهج التربية والتنمية التى تراعى ذلك. وهاكم بعض أمثلة لابد أن تحتاج إلى تفصيل ممتد، فأكتفى برؤوسها كما يلى:
(1) البعد عن الاغتراب بأنواعه.
(2)التعليم الهادف المسخر، والمختبر: أولا بأولا ما أمكن (انظر بعد: ;5;).
(3) ضبط جرعات المعلومات الداخلة وأنواعها المناسبة لكل المستويات،
(4)استقرار مصدرالمعلومات المحيط -مع مرونته حتما (لا يوجد تعارض بين الاستقرار والمرونة).
(5) استيعاب المعلومات أولا بأول فى تشغيلها والنمو من خلالها.
(6) الحفاظ على الأفكار المحورية القابلة للتفرع والتوليد.
(7) الارتباط بسلوكيات هادفة معظم الوقت (هادفة على أى مستوى من مستويات الوعي).
(8)الاهتمام بالعائد ذى المعنى المدعم للتمثيل.
4- إتاحة الفرص الكافية للنبض الدورى السليم (ويشمل فرص الإبداع):
تحديد أدق:
ومادامت الوقاية هى أن تمنع نبضة جسيمة أن تخـرج مستوى مليئا وشديدا، مستقلا على حساب الكل الواحد.
وما دام إلغاء النبض (بالمهدئات والمغربات) هو إلغاء الحياة نفسها، (لما كان كل ذلك كذلك فإنه يمكن تقديم الوقاية -فى إيجاز حتمي- على الوجه التالى:
(1) احترام الحلم: (ليس بتفسير محتواه، وإنما بمواكبة حركته):
فالأحلام تقوم بدورها حين يكون الاهتمام بها بعيدا عن مسخها بالترميز، والتفسير، وفحص المحتوي، بديلا عن احترام أثرها، وقربها، وكفاءتها.
(2) السماح بالتناوب: فى الحياة العادية بين العمل والراحة، بين النوم واليقظة، بين الكمون والإبداع، بين النشاط الإقدامى والانسحاب، ومن ذلك أيضا برغم إفراد فقرة مستقلة له:
(3) إتاحة فرص: الإبداع فى مرحلة البسط، وفرص التغذية بالمعلومات غير المغتربة فى مرحلة الملء السلبى.
5– تناسب التربية: مع الاستعداد الوراثى (تكرار مقصود):
من منظور إيقاعى تطورى لا يجوز تصور خطة واحدة لكل البشر تصلح لوقايتهم من المرض النفسي، فالمولود الذى عنده طاقة دفع حياتية هائلة (تعرف من واقع التاريخ العائلى الإيجابى والسلبي) يحتاج إلى إحاطة أكبر وفرص أرحب لإطلاق هذه الطاقة فى مجالات الإبداع مثلا، خاصة إذا كان المصاحب لذلك هو شدة مستوى من المستويات الأقدم (الشيزيدى أو البارنوى أوالدورى ..إلخ), وكلما بعد المستوى الموروث هيراركيا(أى كان أكثرعمقا وبدائية), زادت الحاجة إلى مساحة أكبرلاستيعاب هذه الطاقة وتوجيهها نحو إبداع أعمق.
6-الاهتمام بالمراحل المفترقية:
إذا انتقلنا إلى مستوى الوقاية الثانوية أمكن القول:
إن أهم ما تعتنى به هذه النظرة التطورية التى نقدمها حالا: هو رصد بدايات البسط، بـعيد البزوغ من عتبة الانجراح، فهذه البدايات هى إعلان ضمنى أن طاقة كبيرة لم تـستوعب، وأن مخزونا هائلا من “المعلومات الجسم الغريب” قد تراكم، وأن بسطا شاذا سوف ينطلق.
والتشخيص المبكر ( ليس بذكر اسم مرض بذاته، وإنما برصد هذه الإرهاصات) هو السبيل الأمثل للإسراع بتحويل المسار إلى ناتج إيجابي، وذلك من واقع فكرة أن ما فات ضبطه وتنظيمه تربويا يمكن أن يلحق ويصحح علاجيا، فتتواكب فكرة السماح مع الجرعة مع التنظيم بالكيمياء، والكهرباء والصحبة، والمعني، والناس، والوقت لتحقق ما يمكن من إعادة توجيه المسار .
ولا تعلن مثل هذه الإرهاصات فى بدايات المرض فحسب، وإنما فى كل أزمة من أزمات النمو طوال العمر ( بما فى ذلك أزمة نمو دخول المدرسة، فما قبلها، إلى أزمة الإحالة إلى المعاش وما بعدها، وأهم تلك الأزمات الأقرب إلى عدم التوازن المرضى هى ‘ أزمة المراهقة ‘ حتما).
وتناول الإرهاصات لا يختلف إلا فى الجرعة والتخطيط المناسب، أما الفكرة العامة فهى واحدة.
7- مواجهة العوامل الدوامية والتخلص منها:
إذا فاتنا كل ما سبق، بل إذا تعذر (وهو بالفكر السائد الحالى فى الطب والمجتمع متعذر فعلا) فإنه يظل أمامنا ما يمكن أن نتقيه، ألا وهو ما أسميناه من قبل الأسباب الدوامية، أى الأسباب التى تديم وجود المرض، وتؤدى إلى الإزمان، وتزيد نسبة الإعاقة، ولن نكرر هنا ما سبق أن أوضحناه فى باب السين فى هذه الموسوعة، فنوجز الأمر قائلين:
إنه إذا لم يمكن أن نعدل المسار، ونحسن النبض، ونؤكد المعني، ونعيد التوازن، فلا أقل من أن يكون موقفنا هو: أن نحول دون ما يقوم بذلك تلقائيا، فالطبيعة لها قواها الإيجابية التى تلتئم بها الجروح والكسور، والتى تستمر بها إلى أحسن، إلا أن كثيرا من العوامل المحيطة بالمريض تحول بينه وبين الطبيعة ودورها الإيجابى الذى عادة – بعد أن ابتعدنا عنها – ما نعجز عن القيام به، فتكون الوقاية هنا هى منع المانع إن صح التعبير ومثال ذلك منع كل من :
(1) الاستسلام لقدرية المرض.
(2) استعمال المريض (من قبل الأسرة عادة، ودون وعي) مسقطا لأمراض من حوله (أمراضهم الكامنة الخفية طبعا).
(3) التداوى المهدئ المستمر على طول الخط.
(4) عدم التداوى المتسيب على طول الخط.
(5) الانخداع بالحفاظ على حرية المريض (الزائفة) على حساب حياته، ونبضه وإبداعه.
(6)الإغداق على المريض بمكاسب تأمينية وإشفاقية طوال الوقت.
(7) الحماس لشفاء المريض من واقع مثالى دون ضبط الجرعة والتوقيت.
وغير ذلك كثير.
وبالرغم من أن كل ذلك يبدو نوعا من العلاج، إلا أنه يدرج تحت ما يسمى الوقاية الثالثوية، وإلى درجة أقل الوقاية الثانوية.
وبعـد
فهل يمكن قياس فاعلية أى من هذا؟
وهل هناك من الدرسات الانتشارية، والتجارب والإحصاء، ما يشير إلى أن هذا المنظور البديل للأسباب والوقاية هو أمر عملى ومفيد؟
وهل يصلح أن نفهم مثل هذا الفهم فى مجال ممارسة الطب النفسي، فى الوقت الذى يعيش فيه المجتمع من منظور آخر أقرب إلى الاستاتيكية منه إلى النبض، وأقرب إلى نمطية السلوك منه إلى مواكبة الفطرة؟
الأقرب والأكثر أمانة للإجابة عن كل هذه التساؤلات هو النفى.
إذن فلماذا هذا التنظير البديل.؟
أولا: لأنه نابع من الخبرة الإكلينيكية، وليس من الأمانة إخفاؤه.
ثانيا: لأن التنظيرالتقليدى فاشل فى تفسير المرض النفسى وفى الوقاية منه بكل المقاييس، فالنسب فى ازدياد دائما (آخر إحصائية لما يسمى العصاب: القلقأ والاكتئاب العصابى …إلخ وصلت إلى 25 % من التعداد العام، فما معنى هذا ابتداء ؟؟؟؟ ألا يغرى ذلك بالإسراع بالبحث عن مدخل مختلف تماما ؟؟ !!).
ثالثا: لأن إهمال مثل هذا التنظير قد أدى إلى ترجيح مفاهيم اختزالية عن المرض النفسى والطبيعة البشرية، ترتب عليها إهمال أغلب من يجرؤ فيعانى , أو إخفات صوته، أو اليأس منه، تحت دعاوى شبه إنسانية وشبه علمية مختلفة.
رابعا: لأن المعانى الحقيقية للفشل والنجاح والاستمرار والتطور – القضية الأساسية لوجود الإنسان- لا تقاس فى الممارسة الطبية العادية بمناهج سليمة، وإنما يكتفى بضمان عدم التهديد بالخطر، وكذا باختفاء الأعراض.
خامسا: لأن هذا التنظيرمفيد بشكل يومى وآنى فى الممارسة الوقائية والعلاجية من منظور تطورى فى الفعل الإكلينكيى الجارى فعلا مستهديا بفروضه.
سادسا: لأن من حق العقل البشرى أن يحاول، وخاصة متى رأى فشل ما هو شائع.
وإلا….