هيبة الدولة، الانتماء، ومقترحات عملية
محمد يحيى الرخاوي
فى ظل غربة تجريبية الطابع، حاولت أن أجرب فيها معايشة معنى التخلى إلى مداه، كما يجرب أغلب المصريين الآن فى رأيى إلا لو لم تتح الفرصة قهرا من أى نوع، وفشلت بأسرع وأرضى وأسعد وأفخر مما توقعت، وصلتنى الأنباء
لم أتألم نفس نوع الألم الذى عايشه من بالداخل، ولم أجزع نفس الجزع، ولهذا أسبابه السياقية والإعلامية فى الأغلب، ولكنى حزنت كما لم أحزن من قبل على شيء.
ثم قرأت بعض مقالات معقبة ومعلقة، أتصور أن من الصعب إحصاء عدد المقالات المشابهة التى نشرت فى الصحف المصرية فى تلك الآونة، وشعرت بلا جدوى كل تلك الكلمات التى أشعرتنى بأن أى تعقيب أو تعليق ليس إلا عبثا لا طائل من ورائه إن لم يتحول (وأغلبه غير مؤهل لأن يتحول) إلى تغير حقيقي. ولكن أى تغير وفى أى اتجاه؟؟؟ هل يعرف أحد؟؟ هل طرح أحد شيئا ممكنا؟ لماذا لم يعد يطرح أى شيء فعلا؟ طرح حقيقى وليس إعلان آراء وانتماءات وتشخيصات وتحليلات و… و … و… مما ليس له آخر.
ثم وصلنى مقال للدكتور يحيى الرخاوى يشير فيه إلى ضعف الدولة، وتصورت أنه يطالب بأن تكون الدولة قوية. وأخيرا، وصلتنى دعوة لإبداء الرأى فى إستفتاء عن مسألتين مهمتين: كيف ننمى الانتماء؟ وكيف تستعيد الدولة هيبتها؟
وهناك شيء غير مريح فى طرح السؤالين بهذه الصيغة تحديدا، وهى الصيغة التى بقيت فى ذاكرتى، وإن كنت أشك أن تكون هناك صيغة أخري. وهذه الصيغة تمثل لى أحد أشكال الخطابات المغلوطة التى تخلط السبب بالنتيجة والهدف بالأداة فى ظل استعجالها تحسين الصورة ورغبتها فى إنقاذ مايمكن إنقاذه إلى أن يحلها الحلال.
ليس السؤال كيف تستعيد الدولة هيبتها، وليس السؤال كيف ننمى الانتماء.
واعتراضى على صياغة هذه الأسئلة ليس من باب التدقيق، ولكن استعمال المعانى والكلمات (انتماء – هيبة) كأدوات، لا كتجليات، يبدو لى من أخطر ما يكون، فهو انجرار نحو نفس الطريق الذى أفضى بنا إلى ما نحن فيه عن طريق الكذب المتمثل فى استعمال أدوات منفصلة عن جوهر حقيقتها. وكأنه قد وصلنى من هذا التساؤل أنه من المرغوب إيجاد استراتيجيات تستعاد بها هيبة الدولة وانتماء الأفراد لها كأداتين لإقرار استقرار أمنى ما، ثم نري.
ولكن هل غياب الانتماء وضياع الهيبة هو سبب ما يحدث؟ أم هو بعض نتائجه التى تشتبك مع غيرها من النتائج لتزيد الطين بلة يوما بيوم؟ ونحن سلمنا للأيام منتظرين اليوم إياه، الذى يؤجل كل منا تصور ملامحه، فى حين يجهز حقيبة متاع يأمل فى أن تكون له زادا يعينه على مصائب ذلك اليوم. ولكن -آمنت بالله- يومئذ لا ينفع مال ولا بنون.
هكذا تطرح هيبة الدولة والانتماء وكأنهما وسيلتان، لا دما نازفا ينسكب منذ زمن بعيد، ونحن ننتظر، وبين انتظار وانتظار ندهش للتجارب ونخرج من دائرة الزمن، ولا يعود الانتظار انتظارا لكن يشبهه.
[أسمع فى هذه اللحظة قصيدة (ملحن بعض أجزائها، ويلقى أدونيس بصوته أجزاء أخرى، ومسجلة على شريط كاسيت) للشاعر البحرينى قاسم حداد. قال المذياع وأنا أكتب المقطع السابق:
جسد يهوى، فتنهره الروح
فقلت أكتبهما وأتساءل:
بأى آلاء ربها تنهره الروح؟؟]
هيبة الدولة:
لفظ “هيبة” لفظ جميل، يرجع داخلى (دون الرجوع إلى أى معاجم) أصداء معانى الاحترام والقوة الممتلئة بالمعنى المستعد لفرض وجوده كمعنى لا كقوة، أكثر مما يرجع أصداء معانى الخوف والخشية.
”الدولة” (كانت فى تصورى، وفى عهود ماضية) وجود يمثل وتتجلى فيه الكينونة السياسية لجماعة بشر تحدهم حدود جغرافية (كحد أدنى). ولذلك فإن شرطا أساسيا لصحة دولة (بمعنى العافية قبل ومع معنى الصواب) هو أن تكون تمثيلا لجماعة البشر هذه، تمثيلا لمعناهم الذى هو غايتهم والذى هو ما يمثلونه هم بدورهم فى هذه الأرض.
فهل أى من هذه المعانى للهيبة أو للدولة متوفر فى الوضع المصري؟
أى معنى هذا الذى تمثله السلطة المصرية لتكتسب منه قوتها؟
ما المعنى الذى تمثله وتسعى لجعل المصريين يصدقونه؟
أية دولة؟ أية دولة هذه التى يراد لها هيبة؟ هيبة الدولة مظهر حتمى لوجودها، وغياب هيبة الدولة علامة واضحة على انهيارها. فبالله هل يمكن أن نفكر فى استدعاء “مظهر” (سلطوى وخطير) لنحمى به كيانا مضطرب المعالم بما لا يسمح له أصلا بالمسمى الذى نتعامل معه به.
وعلى الرغم من كل ما اعتدنا عليه، نحن المصريين خاصة، من احتقار متبادل بين الحكومة والأهالى (نعم احتقار، ثم تبحثون عن الهيبة؟؟ لا يمكن)، فغياب المعنى والانتماء ظاهرة عالمية ننساق إليها بحدة جسيمة تتناسب طرديا مع احتقارنا لذواتنا الذى هو السبب، لا فساد سلطتنا كما اعتدنا أن نعول وننسى وننتحر.
يتشظى وعى ناس العالم (فى مقابل سلطات العالم، وهنا الإشارة لوظيفتين أكثر منها لكيانين، فكل منا يلعب دور السلطة حينا، ودور الناس أحيانا) الآن بعيدا عن أى محاور كبيرة قديمة، بشكل يبدو انتقاميا (لا أعرف ممن، ولذلك كثيرا ما يبدو لى انتحاريا)، كافرا ومدمرا، بعنف ونظامية، كل التصورات أو المعتقدات أو حتى اليقينيات التى عاش عليها الجنس البشرى حتى الآن، وعندنا أمثلة واضحة فى الدين والأسرة والدولة والطبيعة، لدرجة الكفر حتى بصيغة أن العلاقة الجنسية بين الرجل والمرأة هى العلاقة الجنسية الطبيعية.
يتم كل هذا فى العالم الغربى فى إطار تاريخ متسق مع نهضة وعى بدأت بالنقد والثورة على كل سلطة، مع ثقة متزايدة بقدرة الجنس البشرى خاصة فى ظل مزيد من التنظيم والسستمة (من system) أنتجت تحولات فـــى طبيعة الكون والحياة والبشر لا يمكن التراجع عنها اختيارا. والنتيجة كانت التمادى أحادى الاتجاه فى التنظيم، حتى وصل إلى ما وصفته آمال طنطاوى (رسالة دكتوراة فى طور الإنهاء) بـ “تحويل العلاقات الإنسانية إلى شكل قانوني”.
هذا من ناحية
ومن ناحية أخرى تحول هذا التنظيم ذاته إلى سلطة أخرى يتم نقضها بأعنف الأشكال كما أشرت، حتى بدأ النقد والنقض يطول مقومات أكثر أساسية يظهر معها استعداد العالم لنقض حياته ذاتها، أى الانتحار.
وبعيدا عن التشاؤم أو التفاؤل، وبعيدا عن الأحكام المعيارية بالصواب والخطأ، يظل هذا التاريخ الغربى متسقا مع ذاته وواضحا لدرجة الإغراء بالتقليد، ومتسلطا بقدر ما تقدم وسبق. وتنتشر العدوى، فتخور قوة السلطة لدينا بعد أن سلبت معناها دون أن نشارك نحن بأى دور حقيقى فى هذا السلب (الذى قد يمارس بعض الإيجابيات عند غيرنا فى ظل شمولية التنظيم و”السستمة”)، أى دون أن نشارك بأى دور فيما يحدث. وندرك -نحن الطيبين المنتظرين- أن سلطتنا التى تقودنا قد اهترأت بلا معنى، وتفشل هى (أى السلطة) فى البحث عن معان تضفى عليها أية شرعية. ولا يجد من يبحث له عن كبير يشتريه كبيرا يستأهل الشراء. فهل يكون الحل هو البحث عن شراء ملابس كبيرة يلبسها الصغير؟ هل سيعطى هذا للصغير أكثر من حجمه؟
باختصار، نحن نجد أنفسنا فى منتصف طريق لم نر بدايته، ولم نشارك فى رصفه. وبالتالى، فلا نحن نملك الخريطة، ولا نحن نعرف أصول القيادة فيه، وفى نفس الوقت نخشى أن تتركنا كل المركبات الأخرى (أو تدهسنا) فنسارع باللهاث متشبثين بصداماتها الخلفية متحملين كل بصاق ماسورة العادم.
هل هناك طريق آخر؟؟
الأكيد بداية أن أى تراجع لواحات السكون ليس حلا، لأنه -باختصار أيضا- ضد الله. وبنفس درجة التأكد هذه، أصبحت متيقنا -فى ظل الغربة التجريبية إياها- أن هذا الطريق ليس لنا. نحن لم نشارك لا فى رصفه ولا فى تخطيطه، وينبغى علينا التوقف عن أحلامنا بعوائد شقه.
باختصار مرة أخرى:
- الدولة هى المؤسسة السياسية التى يتجلى بها معنى الناس، سواء فرضه الناس أو بادرت هى بطرحه وقيادتهم فى اتجاهه. ومن إدراك الدولة لهذا، ومن تحملها مسئولية تحقيقه العملى، تنشأ هيبتها، ولن تنشأ الهيبة من إجراءات أو اقتراحات مهما صلحت النيات.
- نحن تهنا مع ما بدا لنا أنه (وصدر لنا بوصفه) “استراتيجية موضوعية لضياع المعنى الكبير”، وسلمنا بأن هذه هى طبيعة الأمور، على الرغم من أنهاليست طبيعة أمورنا.
- يحتمى توهانهم -كذابا ومناورا- بمسيرة النظام وسلطته اللتين تتسقان مع تاريخ معناهم. أما توهاننا فلا يصب فى أى نظامية، أى لا يصب فى أى جماعية بنيوية، ومن ثم لا يغذى إلا كل ما هو فردي. وفى هذا الإطار لا يصبح مدهشا على الإطلاق انتشار إشاعات الفساد التى لم تفهم السلطة بعد خطورتها على هيبتها، بغض النظر تماما (وأكرر: بغض النظر تماما) عن حجم ما يستند منها إلى حقائق فى مقابل حجم ما هو من إبداع الشارع يفهم به ما يستعصى على الفهم.
- مع هذا التوهان المستسلم وذاك التعريف للدولة وهيبتها، إنهرنا. ولا يمكن البدء بالطلاء لإعادة شكل العمارة للأنقاض.
هل هذا تشاؤم؟؟
أنا شخصيا لست متشائما، ولهذا علاقة بما أخط الآن فى ظل فشل هجرتى التجريبية. (وأظن أنه لا يفرقنى عن أغلب من نجح فى هجرته مضطرا إلا فرصتى فى هذه الكتابة التى أخطها ومثلها. وهى ليست فرصة الكلام، ولكنها فرصة المحاولة، حتى ولو كانت مجرد محاولة للفهم).
إذن ما زالت هناك فرصة للمحاولة. نعم. فنحن مبدعون، أى والله مبدعون جدا، والمصيبة أننا نحاول الإبداع فى مجالات ليست هى المطلوب منا الآن لنا. فالذى نتصوره مطلوبا منا، هو ما وضعناه قيما لنا وهى ليست لنا. يصدح المذياع بجانبى:
”ساحاتك يهندسها روم كثيرون.”
فى ظل متاهة طريقهم، نطلب من أنفسنا ما يطلبونه منا، لا ما ينبغى أن نطلبه من أنفسنا. وحين نفشل فى أى لحاق وفى كل مقارنة (وهذا طبيعى بداهة)، نكره أنفسنا. إن ما علينا الآن هو إبداع معنانا بالذات، إبداع سفينة نوح لنا، فسفائنهم ليست لنا. ليست الأولوية لإبداع اقتصادنا (اقتصادهم) أو هيبتنا (نظامهم) أو تكنولوجيتنا (تكنولوجيتهم)، بل انتماءنا (الذى هو ليس هويتهم) لمعنانا (الذى هو ليس معناهم).
حتى لو جعنا؟
نعم حتى لو جعنا مؤقتا.
هل نحن مستعدون؟
لا.
إذن؟
إذن سنظل ندفع الثمن غاليا لو لم نستعد.
ثم سوف نجوع.
ثم سوف يموت كل منا وحده.
لا منتمي.
ومن ثم فإن إجابتى عن المطلوب الذى وصلنى فى صيغة البحث عن مقترحات تستعيد الدولة بها هيبتها، هى أنه لا توجد مقترحات. يجب أن نخلق معنى للدولة، ومعنى لمعيتنا فيها، عندئذ سيكون لهذا المعنى هيبته، وسيكون لكل هيبة شرعيتها.
كيف نجد هذا المعني؟
فلنبدأ بالصدق. نحن كذابون وخائفون أكثر مما يسمح به الله. وأظن أن حملة أخرى لممارسة الصدق، (مع التركيز على سماع الذين لم يتكلموا بعد، واسألوا جيلى خاصة، واسألوا المهاجرين خاصة) على غرار المحاولة الحالية عن الهيبة والانتماء قد تأتى بإضاءات كاشفة.
أيضا فإن كلا من “المعني” و”الدولة” ينطوى على دلالة “المشروع”، وأتصور أن هذا هو ما جعل د.الرخاوى يجمع فى هذا الاستبيان (؟؟) بين هيبة الدولة من ناحية، والانتماء من ناحية أخرى، لذلك أنتقل للحديث عن الانتماء.
فى الانتماء:
أرى الصيغة التى وصلتنى عن الانتماء أيضا صيغة معيبة، وإن كان الأمر يبدو لى هنا أكثر معقولية وصدقا من البحث عن هيبة الدولة. ولكن أولا، ويبدو أن هذا ما رفضته فى الصيغة التى وصلتنى، لا ينبغى البدء من نقاط مظلمة، حتى لا نكرر نفس الأخطاء ولا نقطع إلا أنصاف الطرق، فنرقص على السلم ونفسد معانى الكلمات.
فأنا لم ألحظ طرح سؤال عن العوامل التى أدت إلى تدمير انتماءاتنا التى أعرفها وأذكرها وأفتقدها، ولا أظننى وحدى فى هذا. والأمر هنا ليس دعوة للتحليل مرة أخرى، ولكنه مرتبط تماما بطبيعة الانتماء التى أراها فطرية، وبأن علاج مريض بأمراض متعلقة بالقذارة وهو نائم على أرضية حظيرة للخنازير أمر غير مقبول.
الانتماء ليس نتيجة عمليات تربية وتعليم، ولكنه ضرورة بحكم التعريف، أى تعريف. ومجالات انتماءات البشر متعددة ومتباينة. فمثلا، ينتمى الإنسان للحياة وللبشرية بالضرورة، وينتمى للبيض أو للسمر أو للصفر، وينتمى لفئة الآباء أو لفئة الأبناء أو لكليهما، وبقدر ما يتدخل عامل فى تكوينه، فإنه ينتمى لتلك الفئة التى يتدخل فى تكوين أفرادها نفس العامل. أما وعيه بانتمائه فإنما يستدعى أساسا فى اللحظات التى تستدعى فيها حقيقة انتمائه الذى يميزه عن غيره من غير المنتمين لنفس الفئة، أى فى أغلب الحالات، فى اللحظة التى يفخر بها بانتمائه أو يحتمى به. أما رفضه لهذا الانتماء، فمرحلة فى طريقه للاغتراب عن تلك الفئة، حين لا تمثل معناه، ولا تستوعب انتماءات أخرى، حتى ولو لم تتبلور، لديه.
إذن فبحكم التعريف أنا منتم لمصر، وبحكم التعريف أيضا أنا منتم للشارع الذى أسكن فيه، أو بتعبير أدق منتم لسكانه، فأنا “من سكان” شارع كذا فى حى كيت. أما بحكم الحال الذى أصبح، والذى تبحثون عن علاجه، فأنا أقاوم هذا الانتماء وأحاربه وأبحث عن بديله. لماذا؟ لأن هذا الانتماء -الذى هو أصل فى وفى هويتي- يهيننى كل يوم. الأمر إذن، أقصد أمر ضعف الانتماء- فعل إيجابى مدمر، وليس غيابا سلبيا متخاذلا. هذا هو المهم لدى هنا والآن.
هذا الفعل السلبى المدمر ألصق -فى الخطاب السياسى الشعبى على أنواعه، والذى تمتلئ به ذرات الهواء فى مصر- بالعدو تارة، وبالحكومة ذاتها تارة، وبفسادها تارة، وبأمريكا والاستعمار وخطوة السلام مع إسرائيل تارة وهكذا. وقد يصح كل هذا أو بعضه أو لا يصح، ولكن المهم هو هذا الإدراك العام بوجود عامل أو عوامل تعمل بفعالية على خلخـلة هذا الانتماء وتفريغه. لأن الأمر بشكله المدرك فيما وراء ذاك الخطاب الأقل سياسية والأكثر شعبية عن “فين أيام زمان، (أيام الخير والدين والأخلاق والانتماء ومصر وعبد الناصر -بالمرة-)”، هذا الشكل للإدراك يمثل خطورة على كل نية فعل.
الأمر مدرك -فى بعض الأحيان على الأقل- إذن بوصفه تدميرا فاعلا، لا مجرد نتيجة عوامل الزمن والتعرية التكنولوجية. وهذا الإدراك هو ما رغبت فى الإشارة إليه هنا والآن.
حين كنت صغيرا، فى سن نحو الخامسة، كنت أسأل أبى عن “مين غلب إحنا ولا إسرائيل”، كنت منتميا، وحين حزنت لمعرفة أنها إسرائيل، حزنت وتساءلت عن عدد المرات التى غلبنا فيها إسرائيل وعدد المرات التى غلبتنا فيها هى، كنت أريد أن أعرف نتيجة المباراة لأننى كنت منتميا. ولا أذكر أن أحدا كان قد علمنى الانتماء قبلها، لكننى كنت فى حاجة للفخر والفرح بما أنا منتم له، بما أنا جزء منه حتى ولو لم أختره، وإن كنت حينئذ أعيش الخبرة الوجدانية وكأننى اخترته تماما.
أذكر أيضا بعدها بحوالى عام أو أقل، أن كان أحد أقاربى يرينى بعض دول العالم مرسومة على خريطة صغيرة. كانت حدود كل دولة مميزة بلون يميز مساحة الدولة بأكملها. فتغاضيت عن مصر لأنها كانت أصغر من أن تفرحنى الإجابة، وتساءلت عن أكبر دولة فى العالم، وكانت روسيا (الاتحاد السوفييتى حينئذ)، وكانت روسيا “معانا” وكانت أمريكا “مع إسرائيل وعلينا”. ففرحت جدا، وأصر قريبى على أن يعطينى معلومات أخرى لمقارنة أدق، لم أكن أرغب فى سماعها، ولكننى اضطررت، فأمريكا فيها ناس أكثر، والصين (لا معانا ولا علينا بس طيبين) فيها ناس أكثر وأكثر. ولكننى اتخذت معيار المساحة أهم معيار، فقط لأن الدولة ذات المساحة الأكبر معانا. لقد كنت منتميا وأبحث عما يفرحنى ويجعلنى أفخر بهذا الانتماء.
يسألنى ابنى عمر حين كان فى الثامنة من عمره، “مين اللى اخترع الأفلام”، “مين اللى اخترع الطيارة“ طب “مين اللى اخترع العربية”، “طيب أمال مصر اخترعت إيه”؟ لم يرض بكرة السرعة إجابة، (هو لا يعرف ما كرة السرعة)، وسعد بعض الشيء، وبقدر من المجاملة لإصرارى، بأحمد برادة بطل العالم للناشئين فى الاسكواش، ولكنه لم يكتف أبدا، وحين جاءت سيرة الأهرامات قال: “لأ يا بابا قصدى دلوقتى دلوقتي”. ويبيت يحلم بمطاردة الأشرار، بانتصار يفرحه.
وقد بلغنى مؤخرا أنه قد انضم لقائمة أشراره الخياليين الآن أشرار ليسوا خياليين، يريد قتلهم بالرشاش والطائرة والمطاردات، كما يفعل “فان دام”، وهم الأشرار الذين قتلوا سواح الأقصر لأنهم: “حيخلوا الأجانب يقولوا على مصر وحشة”.
عمر انتمى لمصر يوم أدرك أنه مصرى، ليس هناك جهد ينبغى بذله فى هذا. ولكنه حين اكتشف أن ما يعيشه فعلا، ما يعيشه بشكل يومى، ما يفرحه وينمى خياله (مهما كان رأينا فى الاتجاه الذى ينمو فيه خياله) ليس مصريا، تشكك.
كان يريد أن يفخر أمام العالم بأن ما يعيشه هذا العالم هو من صنع ما ينتمى هو إليه، أى من صنعه، دون أن يعلمه أحد هذا. ولكنه لم يجد ما كان يبحث عنه، وتناسى، مؤقتا بالطبع.
فما بالك حين سوف تصله الإهانة تلو الإهانة، حين يكتشف أنه ينتمى “لأنه مصري” لفصيلة البهائم حين يطلب منه فى الفصل أن “اسكتوا يا بهايم”، وأنه حين كان نيوزيلانديا لم يكن ينتمى للحمير، ولكن للقادرين المخترعين البيض أبطال أفلامه المفضلة، أبطال ما يصله أنه الأقوى فى هذه الحياة.
وما بالك حين سوف يهان لأنه -بوصفه مصريا، ينتمى للمصريين- قد ضرب على قفاه حين شاهد بعينى رأسه أخاه المصرى عسكرى المرور يضرب على قفاه من ضابط ليس مصريا (حتى لو ادعت بطاقته الشخصية كونه كذلك).
وما بالك حين سوف يهان ويحتقر لأنه لا يستطيع أن يجارى من تصور أنه ينتمى إليهم، لا فى حمل الموبايل فى سن الـ 16، ولا فى شراء غذاء يومى من ماكدونالد، ولا فى الاكتفاء برفع طن أسمنت على كتفه إلى الدور الخامس والنوم فى مدخل العمارة متلفحا ببطانية دون أن يتساءل كثيرا بغير فائدة؟
وما بالك حين سوف يهان ويحتقر حين سوف يحاول، كفعل طبيعى وفطرى تماما، دون دعوة للمشاركة، ودون استفتاء أو خلافه، أن يبحث عن دور به يصلح شيئا مما يراه يعيب ما ينتمى إليه، فلا يجد مكانا ولا يعرف وسيلة، ولا يرشده أحد إلى أى شيء يفعله، ولا حتى يجد أحدا مؤمنا بأى شيء يفعل فى هذا الاتجاه؟ إلى من سوف ينتمي؟
وما بالك حين سوف يهدد فى كل ما يرغب فيه كفرد إذا استمر فى المحاولة؟ إلى أى شيء سوف ينتمي؟ إلى المهددين باختيارهم؟ الذين سيتحولون يومها من قائمة أشراره إلى قائمة المؤمنين بشيء ما، حادث، وحي.
الانتماء معية فعالة، وأن تنتمى هو أن تفخر بأنك تنتمى، أن يكون ما تعيشه وتنتمى إليه مدعاة لفخرك أمام نفسك ولفرحتك أمام الآخرين. لا يمكن المحافظة على الانتماء بدون فرحة وفخر. ولولا فرح الأجانب (الذى يمشون به فى الأرض مرحا بالمخالفة) ما حسدناهم على شيء.
ثم إن الانتماء مشروع أيضا، فأين هو المشروع المطروح؟ وهل هناك أمان فى طرح أى مشاريع؟
عمر وأنا منتميان دون محاولات الإنسان والتطور الشعبية، وأى انتماء أقل من هذا الذى كنت أعيشه دون إجراءات، أو دون إدراك ما يعيشه عمر الآن من هدم لانتماءاته وخلق انتماءات جديدة لأبطاله البيض الذين يقاومون الأشرار وينتصرون عليهم، والمدرسة البيضاء التى تلاميذها ليسوا حميرا، والاختراعات البيضاء التى تغير شكل العالم فتعز المخترع وتذل المستعمل، هو “أقل مما يجب”.
أما انتمائى فلم يضع، ولكنه يؤلمنى، ولست أقول جديدا ولا أكشف سوءة حين أعيد كتابة ما سمعت مرات ومرات عديدة، وفى كل مرة يكون القائل من نفس المرحلة العمرية (بين 15 و 19 سنة). ينسب فى ذاكرتى لمصطفى كامل قول: “لو لم أكن مصريا لتمنيت أن أكون مصريا”. ويقول القائل الحديث، الذى نبحث عن تنمية انتمائه “لو لم أكن مصريا لحمدت ربنا”. ماذا فعلنا بهم؟؟ ماذا فعلتم بنا؟؟
يصدح المذياع بجانبى الآن (فأنا أعيد قصيدة “قاسم حداد” -المكتوبة للبحرين- مرات ومرات)
تسألنا الأرض عن العرس الذى وعدنا به
فنتلعثم ونختلف
أفواهنا مملوءة بالتراب
لا نعرف هل كنا نقبل الأرض
كى تصفح عن سهونا
وغفلة قلوبنا
أم كنا نكبت صرخات الذعر.
مقترحات عملية:
بعد كل هذا التشاؤم (ولست متشائما والله العظيم، ولكن لن ينفع أى كذب أو مناورة)، أعلن احترامى الشديد والحقيقى للرغبة والحماس اللذين وصلاني. وكما وصلنى فالمطلوب اقتراح عملى، وهذا ما جاءنى، (وهو حلم قديم، رجعت فى إجازتى السابقة من هجرتى التجريبية الفاشلة وهو يملؤنى بتفاصيله، وكالعادة، لم أجد الفرصة لتحقيقه، عادى يعني!!).
بما أن الانتماء معية، والشعور بالانتماء شعور بالمعية والفخر، ولا فخر لا فى السكون ولا فى القبح، فأنا أقترح:
حملة قومية، تطوعية تجريبية، ثم ملزمة وغير تجريبية، للنظافة والجمال.
صدقونى، لقد علق “عمر” وجرح من قذارة القاهرة، وما زال مجروحا. أما “هنا”، أخته الصغيرة، فهى “مش بتحب” (فى سن الرابعة وحسب) “الناس اللى فى مصر اللى بيضيقوا الحتت” (تقصد استعمار القبح للمساحات/المكان).
فيما يلى مجموعة من الأفكار التى جاءتنى فى عجالة، ليس المقصود منها تشكيل قوام للاقتراح، بل هى مجرد نقاط تحتاج لإعادات صياغة واستكمال، لتوضع فى قوام متكامل ليس لدى فى هذه العجالة ما يسمح بالبدء فى تشكيله. ولكن المقصود منها إعطاء لمحات عما أشعر به وأحلم به (هل هناك أمل فى أن تتخطى محاولة الإنسان والتطور عتبة أحلام اليقظة؟).
أولا: المرحلة التطوعية.
- يساهم فى المرحلة التطوعية كل من يريد أن يتطوع دون استثناء.
- يراعى ألا تتكون تكتلات طبقية أو عمرية أو فئوية من أى نوع، منذ المرحلة التطوعية ووصولا إلى المراحل الإلزامية.
- تعمل المرحلة التطوعية كمرحلة دراسة تجريبية تمهيدية (pilot study)، ترصد فيها معدلات الإنجاز، والإمكانيات المطلوبة، وقيم العناصر المشاركة، وهكذا.
- تبدأ الحملة بتخصيص يوم فى الأسبوع (وهذا ليس كثيرا، وتذكروا القرارات المتلعثمة بيومى الإجازة الأسبوعية) لأعمال النظافة فى الأماكن العامة فى جميع أنحاء الجمهورية (حذار من التركيز على القاهرة والمدن، نحن ننسى كثيرا أن مصر 26 محافظة).
- يتم تعميم زى موحد محترم وجميل ومدروس فى علاقته بطبيعة المهام المطلوبة، ولا يسمح بملابس مختلفة.
دور الدولة والمرحلة الإلزامية:
- لا بد من مشاركة الدولة بقدر من التدعيم، وذلك بتقديم المشروع لها فى شكل متكامل والمطالبة ببعض التيسيرات الإعلامية منذ البداية. وتقدم لها نتائج المرحلة التطوعية فى شكل علمي. فالدولة، دون مشاركتها، ستتعامل مع هذا المشروع كمنافس، وستتفرج على فشله أو تفشله بسعادة بالغة. وأقترح أيضا أن ينتسب المشروع لجهود السيدة المجتهدة حرم رئيس الجمهورية، التى أتصور إمكانية اهتمامها به، ومن ثم إسهامها الهائل بحكم موقعها. خاصة لو قدم فى صورة ممكنة التنفيذ فعلا. ولن يقلل مخاطر هذا التدخل إلا وضوح الخطة وتفصيلها من البداية، بالإضافة إلى دقة نتائج دراسة المرحلة التطوعية، وحسن صياغتها.
- ألا تتسبب المرحلة التطوعية فى أى إحباط. فمن الممكن جدا فشلها فى ظل السياق الحالى، وعندئد يصبح على السلطة السياسية ألا تتردد فى الفرض.
- من المؤكد أنه من المطلوب لهذا الاقتراح شحذ إعلامى نشط، على أن يتناسب تماما مع حجم الأعمال والتخطيط الممكن، حتى لا تجتذبنا دوامات الشعارات التى نعشق الغرق فيها.
- لا بد من التفكير المنظم جدا فى مواجهة حاسمة إلى جانب الحفز الإعلامى، للتسربات التخاذلية وللمحسوبية التى سوف تتم، لا لأنها سوف تؤثر على الإنجاز، ولكنها سوف تدمر قيمة كل ما يحدث، سيتحول الأمر إلى إجبار لا ينفذه إلا الضعيف، أما القادر العفى، فهو القادر على الزوغان، المتعالى على ما يحدث، وهو يتباهى بهذا لدرجة أن يشعر المشارك أنه مظلوم ومهان، لا أنه مشارك ومسهم فى تاريخ بلده، خاصة وأن هؤلاء القادرين المزوغين هم الذين يظهرون فى الصورة ممسكين بزمام الأمور فى البلد.
- يتم عمل خطة إعلامية هادئة تصف المتخاذلين والمتقاعسين بصفات جارحة، فالمشارك هو المحترم (مثلا) أما غير المشارك فهو غير إييييه…….؟ المشارك نظيف أما غير المشارك فهو إييييه…؟ المشارك راجل وجدع، يبقى غير المشارك إيييه…..؟
- الإصرار التام منذ البداية على أن هذا المشروع لا ينتهى أبدا، فهو ليس مشروعا مؤقتا، ولكنه بداية. فمن الممكن أن يتحول، فى مرحلة لاحقة إلى شيء أشبه بالخدمة الإلزامية العسكرية يمر بها كل شاب فى مرحلة الإعدادية والثانوية (تذكروا، الأمر يتعلق بيوم فى الأسبوع).
- من الأفضل جدا التفكير فى تدبير مصادر تمويل عالمية من كل الدول والجهات العالمية المهتمة بالبيئة أو/و بالصحة، أو/و بمصر، وذلك لتمويل المرحلة الإلزامية، على أن يتم عمل تقارير متابعة واتصالات من أول مرحلة لتيسير الإقناع بأهمية التمويلات وجدية الأعمال (فسمعة جديتنا فى الحضيض).
- يتم عمل تقارير متابعة أسبوعية (لا يومية، أسبوعية فقط) علمية لا إعلامية، تذاع فى التليفزيون وتنشر فى الصحف. يتم فيها إعلان ما تم إنجاره، علاقته بالمستهدف فى كل محافظة بشكل مستقل.
وأخيرا، ما زال المذياع يغنى قصيدة قاسم حداد بجانبى:
أخرج من النوم
واخرج عليه
تصادف طرقا مسقوفة بالرعب
فاحرسها بزعفران المرايا
تطلع تاجات الأعالى
مكنوزة بالغيم والفضيحة المؤجلة
ففى الحب شيء من الجنة
…….
لنا دلالة الحزن،
والدم درج لمراراتنا
لا النيران تغسل القميص
لا الذئاب تألف الجب
لا البحر يسعف السفن
ولسنا للنسيان
……….
[1] – أنباء حادث الأقصر