مقتطف وموقف
المقتطف [الأهرام/ 26يناير 1994]
الدكتور: عبد العزيز حموده أستاذ الدراما،
وعميد كلية الآداب- جامعة القاهرة سابقا.
…..وقد زاد الطين بلة أن معظم مفرداتنا الفكرية والسياسية مستوردة أصلا، وهى حقيقة تاريخية خاصة بنا منذ بداية عملية التحديث فى عصر محمد على، معنى ذلك أنه إذا كان من الطبيعى على العالم الخارجى أن يستغرق بعض الوقت حتى يولد مفردات جديدة للخطاب السياسى والفكرى فإننا سننتظر وقتا أطول حتى نقوم بنقل تلك المفردات الجديدة واستخدامها فى قاموسنا الفكرى والسياسى، مما يعنى استمرار الفجوة بين المسميات والمفاهيم لفترة أكثر إرهاقا وتشتيتا للفكر القومى، وسوف يبقى الأمر كذلك إلى أن نطور فكرا قوميا خاصا بنا، فكرا غير مستورد يضرب فى أعماق المكان والزمان الخاصين بنا، وبدون ذلك البديل الفكرى القومى ستظل مفردات الخطاب الثقافى غريبة ومستوردة تفرضها علينا قلة سريعة الاتصال متسرعة فى النقل.
وليس من قبيل المبالغة القول بأن مفردات الخطاب الأدبى والنقدى ذاته تعبر عن نفس الأزمة، فبعد أن عشنا الشطر الأكبر من القرن الحالى نردد مفردات غربية غريبة علينا كالرومانسية والكلاسيكية والميتافيزيقية والواقعية الاشتراكية والتحليلية. بدأنا فى السنوات الأخيرة، وبفضل سرعة الاتصال والنقل نستخدم مفردات تتفاهم بها القلة الناقلة لها فقط كالحداثة وما بعد الحداثة والبنيوية والتفتيتية والسيميوطيقا والهرمونيطيقا وغيرها.
لم نقصد أبدا بتلك الكلمات رسم صورة قاتمة لواقع الفكر القومي، لكن الحقيقة أن الواقع يضعنا أمام اختيار وحيد “إما النظام أو الفوضى’.
الموقف:
(1) هذا الكلام شديد الأهمية، سواء قيل فى مجال السياسة أم الاقتصاد أم الأدب أم الطب .
(2) وهو كلام قديم جدا له علاقة وثيقة بالوسواس المعاد حول إشكالات: الذات والآخر، الأصالة والمعاصرة، القومية والعالمية، الكلام والممارسة، إلى آخره
(3) ثم مشكلة أخرى متعلقة بهذا الكلام وهى التفرقة بين المسمى والمفهوم
(4) ثم أيهما يأتى أولا: المصطلح أم استعماله، وبألفاظ أخرى: هل الممارسة هى التى تبحث لها عن لفظ جامع مانع يحددها، أم أن اللفظ (المصطلح) هو الذى يحدد طبيعة الممارسة، وهذه قضية ترجعنا إلى نشأة اللغة، وتطورها، وضمورها، وتخلفها، وسجنها، وتحللها، وكل ذلك أمور حياتية جوهرية لا مفر من مواجهتها بالشجاعة الكافية والمسئولية المناسبة.
(5) والمخاطر بلا حدود، وليس لها حل سهل، فإذا نحن تحفظنا على هذه المصطلحات المستوردة فعلا، البعيدة عن واقعنا أصلا، فكيف نتحاور معهم، بل كيف نتحاور معنا نحن، وهل عندنا بديل ؟ وإذا نحن استعملنا نفس المصطلحات ولكن بمضمون خاص، ولهدف خاص (يصب فى العام طبعا) ، فمن أين لنا النظام والالتزام الذى يحقق أى قدر من الاتفاقية فيما بين غالبية ما “تتعامل مع هذا المصطلح أو ذاك ؟ وإذا نحن ابتدعنا، أواكتشفنا مصطلحاتنا من واقعنا، فكيف نقى أنفسنا مخاطر العزلة فالضمور؟
(6) ثم لا ينبغى أن نتصور أن مثل هذه المصطلحات هى مقدسات ثابتة عند أصحابها، بل لا ينبغى أن نتصور أنهم يعرفونها تحديدا هم أنفسهم ، وقد وقع فى أيدينا مؤخرا كتاب مبسط من سلسلة “للمبتدئين”(لاحظ كلمة للمبتدئين for (1)beginners)، عن “ما بعد الحداثة”حيث أتى فى كلمة مقدمة الكتاب أن أول استعمال لكلمة”ما بعد الحداثة كان قبل سنة 1926 حيث يمكن إرجاعها إلى سنة 1870 حين استعملها الفنان البريطانى جون واتكنز شابمان، وإلى سنة 1917 حين استعملها رودلف بانوتز ..إلخ. ثم يناقش الكتاب فى أول صفحة كلمة “ما بعد Post وهل تعنى أنها نتيجة الحداثة، أم أنها تلى الحداثة زمنيا، أم أنها تطور الحداثة ،أم أنها إنكار للحداثة ، أم أنها رفض للحداثة ؟ مرة أخرى .إلى آخره.
هذه مراجعات أولية للمبتدئين، مدعومة بالرسوم الكاريكاتيرية ,(كما نعلم أطفالنا بالصور كيف يذهب عادل وسعاد إلى المدرسة).
فإذا كان الأمر كذلك عندهم، فأين نحن من كل ما ورد فى المقتطف الحالي؟ ياخبر !! وهل يوجد عندنا من يعترف أنه مبتدئ، ناهيك عن ضرورة التساؤل عند غير المبتدئ عن مدى إلمامه بألف باء لغتهم، فما هو الحال عندنا ؟ وهل مراجعتنا لهذه المصطلحات تعتبر رفضا لها؟ أم تعميقا لفهمنا إياها؟ أم محاولة للحوار معها؟ أم بحثا عن قضايانا الخاصة المقابلة أو الموازية لها؟
(7) إن احتمال التوقف عند بحث أصل وحدود مصطلح ما، خاصة إذا لم يكن نابعا منا، قد يجعلنا نضيع وقتا نحن أحوج ما نكون إليه، إذ قد يجرنا إلى مناقشات نظرية، تلهينا عن القضايا الموضوعية التى يتناولها هذا المصطلح أو ذاك، ولذلك فنحن لا ندعو إلى تنطع مذهنن حول معنى لفظ بذاته، ولكن إذا كنا سنستعمل هذا المصطلح أو ذاك لنفس استعمالهم، فليس لنا خيار فى أن نعرف كيف يستعملونه، أماإذا كنا سنستعمله كما يرن فى وعينا والسلام، فهذا أخطر لأننا نتعرض بذلك إلى أخطاء ليس لها مثيل، لدرجة يصبح الجهل بها، وتجنبها أشرف وأصدق سبيل لمعرفة ما تدور حوله. (مثلما يستعمل البعض مصطلح “ما بعد الحداثة”بمعنى أنه أمر أحدث من الحديث !!)
(8) مثال من التخصص:
فى الطب النفسي: كاد انجرارنا وراء مصطلحاتهم التصنيفية جملة وتفصيلا أن يفسد كل تدريب لدينا، وأن يخل بكل مفهوم مفيد للإنسان وللمرض على حد سواء، ذلك لأن دليلا تصنيفيا أمريكيا للأمراض النفسية قد ظهر منذ 1980 (هو الدليل التصنيفى الثالث DSM III وعدل حتى ظهر الدليل الرابع DSM IV سنة 199وقد نتشر انتشارا خطيرا فى كل العالم قبل حكاية النظام العالمى الجديد، ولم ينجح حتى التقسيم العالمى العاشر ICD 10 الذى صدر مؤخرا.1995فى أن يحل محله، وهذا الدليل مثال صارخ لمدى الإفساد الذى حل ببرامج التدريب فى الطب النفسى عندنا، حتى لم يعد الطالب والطبيب الصغير يعرف الأمراض، لكنه يشخصها، بأن يتعرف على المرض والإنسان من قشور طفح أعراض متناثرة هنا وهناك، ويغفل قبل وبعد ذلك ضرورة التعرف على طبيعة المرض، وحقيقة الاضطراب، التى نتج عنها هذا الطفح الأعراضى هكذا.
والأهم من هذا الاستشهاد أن أصحاب الدليل أنفسهم لا يفعلون مثلنا أصلا، بل إنهم يستعملون هذا التصنيف لأغراض تأمينية، وقانونية، وإحصائية أساسا.
(9) بقيت كلمة أخيرة فى موقفنا من هذا المقتطف وهى إعلان اتفاقنا من حيث المبدأ مع آخر جملة فى المقتطف، وهو أنه :”إما النظام أو الفوضي”لكن علينا أن نتساءل:أى نظام؟ وهم ملوك النظم والمنظومات؟ وأى فوضى؟ وقد أصبح للفوضى قوانينها الرائعة من خلال ما سمى بعلم الشواش والتركيبية؟
المسائل أصعب من كل تصور,
ولا سبيل إلى اختزالها أو التغافل عنها.
[1] -*Postmodernism : FOR BEGINNERS 1995 Icon Books Grange Road, Oxforol , Cambridge CB2 4QF
وهى ضمن سلسلة هائلة ‘للمبتدئين’ للتعريف باللغة العلمية الأساسية المتعلقة بقضية حديثة أو قديمة، أو بشخص مشهور , لا سيما من أخذ مأخذا سطحيا مثل سيجموند فرويد أو كارل يونج ., هذا عندهم، فكيف يكون الحال عندنا ؟