للتذكرة والتصحيح
(1) عن التفريغ والفضفضة، فى العلاج النفسى
(2) غســـيل دم المدمن أو استبداله !!
[1] يقولون: التفريغ (الفضفضة) هو أساس العلاج النفسى
كلما سألت أحدهم لماذا يذهب إلى الطبيب النفسي، أو ما فائدة جلسات العلاج النفسى التى ينتظم عليها، أو ماذا يتصور أن الطب النفسى أو العلاج النفسى يمكن أن يقدم إليه، أجابك إجابات أغلبها يصب فى: إنه يريد أن يفرغ ما بداخله، أن يخرج مخزونه، أن يجد من يسمعه، أن يكشف عن مكنونه إلى آخر مثل هذه التعبيرات التى تشير إلى ما يسمى التفريغ، أو الفضفضة
وكل هذا صحيح مفيد، ولكن
ولكن ماذا؟
قبل أن نلكنها، نقول إن مفهوم التفريغ شائع من قديم، وأشهر من استعمل كلمة التفريغ فى العلاج النفسى الإسعافى الفورى لم يكن طبيبا، كان ضابطا صغيرا فى الحرب العالمية الأولي، حين لاحظ أن بعض جنوده يصيبهم نوع من البكم كجزء من الجمود الكلى إثر غارة ساحقة بالقنابل تتم بجوارهم وتصيب زملاءهم دونهم، ثم إنه راح يلاحظ أن هذا التكتم والبكم والجمود له آثار سلبية فى هؤلاء الجنود على المدى القصير أو البعيد، فكان يبادر بعد انتهاء الغارة فيأمر جنوده هؤلاء بالتوجه والصراخ ألما أو فزعا أو أى شيء، كان يمسك بالجندى ويهزه قائلا: توجع، لماذا لا تتوجع agonize، why dont, you agonize ونفس الفكرة كانت تستعمل فى باريس فى العلاج النفسى لحالات الهستيريا، ثم استعملها فرويد تحت اسم ‘التفريغ’catharsis مباشرة.
وحتى فى الأدبيات غير الطبية نلاحظ الدعوة إلى البوح بشكل متكرر، يقول الشاعر:
فلا بد من شكوى لذى مروءة يواسيك أو يأسوك أو يتوجع
نقول مرة أخرى: كل هذا صحيح، ولكنه ليس كل الصحيح، هكذا بهذه البساطة،
فنقول:
1- إن التفريغ هو مجرد بداية، وليس هدفا فى ذاته، ولك أن تتصور أن أى إناء مملوء يمكن أن يتم تحسين وظيفته بتفريغ محتوياته، لا أكثر !!!، وحتى كلمة تفريغ هى مشتقة من كلمة ‘فراغ’، ولا أحد يطلب الفراغ لذاته، وإنما حين يكون التفريغ خطوة أولى: إما لإعادة فرز وتنظيم المحتوى الذى تم تفريغه، وإما لإعادة التعامل معه بطريق أفضل، وإما لإعادة ملء الإناء بما هو أنفع، بل لكل هذا، فهنا يكون التفريغ إيجابيا. فالتفريغ فى حد ذاته، وكنهاية للمطاف ليس مقصدا لا فى العلاج النفسى، ولا فى أمور أخرى كثيرة.
2- إن التفريغ يكون عادة للفائض المضغوط الزائد عن الحاجة، وليس لكل المحتوى أو كيفما اتفق، وأحيانا ما يمثلون عملية التفريغ النفسى الصحيحة بصمام وعاء البخار، الذى يخرج فائض البخارمن خلال صمام منضبط على مستوى مناسب.
3ـ إن التفريغ لا يكون مفيدا إلا بالجرعة المناسبة، وفى الوقت المناسب، وفى حضور عقل ووجدان ‘ آخر’، يحسن الاستماع، والاستيعاب، والمصاحبة، ولا يكتفى بالنصح أو الشفقة القاسية . فأحيانا ما يضطر الإنسان إلى عرض نفسه أمام من لا يهمه الأمر، أو أمام من لا يأخذ الأمرمأخذ الجد (حتى لو كان طبيبا، أو معالجا نفسيا)، وفى هذه الحال يصبح التفريغ أكثر إيلاما بدلا من أن يكون أكثر إراحة وطمأنة، والأطباء الذين يبالغون فى دور الدواء دون حسن الاستماع، والصبر على ما يقول المريض قد يؤذون مرضاهم ليس بما يعطونهم من عقاقير، وإنما بما يغفلونه من حسن استماع.
4- إن مجرد التفريغ دون أن يلحقه إعادة تنظيم وتمثل وبناء كما ذكرنا، قد يصبح هدفا فى ذاته، فيثبـت المحتوى المؤلم الذى تم تفريغه، بدلا من أن يخفف منه، وهذا الأمر قد نراه فى بعض المرضى والشخصيات التى تتصف بكثرة الشكوى حتى النعابة، فالواحد منهم قد يكرر وصف آلامه طول الوقت، أو ينعى وحدته بشكل يؤكد وحدته أكثر، حتى تصبح هذه الشكاوى التفريغية عادة فى ذاتها، لا ينفع معها فهم أو تنظيم أو صحبة أو مواساة، وقد يصل الأمر فى هذه الحالات أن تكون النصيحة العلاجية هى الكف عن والحديث عن الآلام والوحدة والظروف بهذه الطريقة اللفظية المعادة، أى بالكف عن الشكوى وعن التفريغ، وكثير من المرضى يرفضون ذلك، ويصرون على أن مهمة الطبيب النفسى هى الاستماع لهذه الشكاوى، هكذا، طول الوقت. ويسمى مثل هذا المريض بالمريض النعابnagging، بغض النظر عن التشخيص الأساسى (وسواس، أو اكتئاب، أو قلق مزمن ..إلخ)
5 ـ إن التفريغ هو أمر يتعلق بالماضى أساسا، والحديث عن الماضى بقدر ما هو مفيد، يكون أحيانا تثبيتا لما حدث فعلا ولا يمكن التراجع عنه إلا بفعل الحاضر ‘الآن’، ولذلك وجب أن يتواكب الحديث عن الماضى بدعوة مباشرة أو غير مباشرة إلى المبادرة بـ ‘إذن ماذا ؟’، ماذا يمكن -إذن- أن نفعله سويا الآن؟ وهكذا
6- إن كثيرا من أشكال التفريغ توظف للتبرير وليس للحفز إلى التغيير، ويندب المريض هنا حظه ذاكرا الظروف هى هى لكل من يلقي، بما فى ذلك الطبيب والمعالج، فإذا تركنا المريض يحكى ويحكى ويحكى، ويعزو حالته إلى عوامل خارجية، وحوادث سابقة، وظلم لحق به دون وجه حق، فإن ذلك قد يجعله أكثر اعتمادية، وأقل مسئولية، وأضعف مبادرة للإسهام بجهد إرادى حالى لرأب الصدع، والبداية من جديد.
7- إن كثيرا من العلاجات النفسية، وخاصة العلاج الجمعى، تركز على مبدأ الـ’هنا والآن’ من باب تجنب الآثار السلبية للتفريغ، لمجرد التفريغ.
[2] يقولون- ويعلنون-:
’إنه يمكن غسيل دم المدمن أو استبداله بدم نظيف -أى والله- وبهذا يشفى المدمن فى 24 ساعة أو 48 على الأكثر’
ونقول:
إن قضية الإدمان ليست بهذه البساطة، وإن جسد المدمن، أو دمه ليس إناء تصادف أن ألقيت فيه بعض القاذورات أو السموم، وبالتالى نفرغه منها، ثم نغسله بمسحوق إيريال الطبى (أوو..أوو..).، فيعود الجسم سليما كما نزل من رحم أمه
فإذا كان الأمر كذلك، فلماذا انتشرت هذه الشائعة؟ ولماذا أقبل الناس على هذه الخدعة (العلاجية) رغم أنها تكلف الفرد الواحد فى يوم واحد بضعة آلاف من الجنيهات أو الريالات أوالدولارات (قيل عدة عشرات الألاف أحيانا: ربما حسب درجة ‘قذارة الدم’ !!!!، وخاصة أن من يقوم بمثل هذا العمل العظيم، يرتدى قناع حجرة العمليات (وهو ليس جراحا، ولا طبيب تخدير)، ويظهر فى التليفزيون هكذا، وكأن بيده الآلة السحرية التى تحل كل الإشكال بهذه الآلاف البسيطة، التى لا تقارن عادة بما أنفقه المدمن على إدمانه سنين عددا، نقول ما السر فى إقبال الناس على مثل هذا العبث البادى الفساد، البعيد عن العمل، الثابت فشله بالمتابعة وحساب النتائج؟
نحاول الإجابة:
تمهيد:
بداية لن نحاول أن نتهم هذا الذى يقوم بهذا العمل بالنصب والاحتيال، أو بالتهريج والكذب، أو بالابتعاد عن القيم الطبية وانعدام الضمير.
أولا: لأن هذه ليست مهمتنا.
ثانيا: لأن مثل هذه الاتهامات لا تجدى ولا توقف الظاهرة.
ثالثا: لأن هناك من القوانين واللوائح ما عجز عن إيقاف هذه الممارسة الخطيرة استنادا إلى أن مجلة علمية هنا، أو هناك، ألمحت إلى أن عملية’إزالة التسمم السريع’ أى تنقية الجسم من وجود المخدر (وليس من آثاره)، وهى العملية التى تتم بطرق مختلفة أبسط، وأعمق، وأرخص، وأدوم، حتى أنها تتم فى كثير من الأحيان تلقائيا بمجرد انقطاع المدمن عن التعاطى بأى طريقة، قيل فى الدفاع عن هذا النوع من الإزالة المؤقتة السريعة إن المجلة الفلانية قد ذكرت أن ‘إزالة التسمم يمكن أن تتم أسرع تحت تخديرعام’، وبالمتابعة، ثبت أن هذه الطريقة ليست أفضل الطرق، ولا هى أضمنها، وأنها مازالت مجرد خطوة على الطريق، ولكن ما دامت قد ذكرت فى مجلة علمية، فإن من يقوم بها يمكن أن ينفى عن نفسه تهمة النصب بأنه لم يقل لمرضاه أنها نهاية المطاف، بل عليهم أن يتبعوا بعدها كذا وكيت، وهذا الكذا وكيت ليس من اختصاصه لأنه ليس طبيبا نفسيا ولا معالجا نفسيا ( كما أنه -كما ذكرنا- ليس جراحا ولا طبيب تخدير)، وسواء قال ذلك أم أوهم فى الإعلانات والممارسة غيره، فالكرة لم تعد فى ملعبه، بل فى ملعب من يذهب إليه، ويصدقه.
لكل هذا نقول إننا سنتجنب الاتهامات الأخلاقية لنركز على محاولة فهم لماذا يقبل الناس عندنا على مثل هذا الإجراء بهذا الاندفاع التخريبى ؟
ثم نقول:
1- إننا مجتمع يؤمن بالحلول السحرية السريعة، وهذا العلاج ‘السريع السريع’ يبدو كذلك.
2- إن المدمن ينفق مبالغ طائلة على إدمانه، وهو يتصور- هو وأهله – أن أى مبلغ يدفعه ‘سريع سريع، مرة واحدة ‘ سوف يوفر له المبالغ التى ينفقها على إدمانه.
3 – إن إشاعة أن الإدمان ليس إلا ‘مسألة تسمم’ جسدى وأن الجسد بمجرد أن يخلص من ‘السم الدخيل’ سوف يحل الإشكال، يعطى للمدمن تبريرا لإدمانه، إذ ماذا يملك هو إزاء تسمم دخل جسده، وكل ما عليه – عليكم- أن تزيلوه (وهو يتفرج)
4- أن فكرة تفسير المرض النفسى (والإدمان، وسلبيات الوجود) بتأثير خارجى عنا لا تفسرالتفسير التسممى للإدمان، ولكن تفسر أيضا تفسير المرض النفسى بالمس بالجان، بل إن المبالغة فى التفسير الكيميائى المادى للأمراض النفسية قد يمكن إرجاعها إلى الحلم بالحل السحرى أيضا، وكل هذه التفسيرات تقوم بوظيفة إعفاء الإنسان من مسئوليته، وبالتالى حرمانه من موقفه الإرادى فى التخطيط للعلاج.
5 ـ يحتمل أن يحتوى لاشعور المدمن نحو أهله – الذين يدفعون ثمن هذا العلاج الخادع- ميلا إلى عقابهم بشكل أو بآخر، ولسان حال لا شعوره يقول:’تريدونى أن أكف، فهيا ادفعوا الثمن’، أو ‘ إن الإدمان أرخص’.
6- إن المدمن مستسهل بالضرورة، فمن أسباب إدمان الكثيرين هم أنهم عاجزون عن التأجيل، فإذا كان المدمن قد تعجل الحصول على اللذة، أو تغيير الوعى، أو تغييبه بالمخدر، فهو أقرب ما يكون إلى الحرص على الاستعجال فى الحصول على نتيجة العلاج بأسرع ما يمكن (من باب الاستعجال الأساسى فى شخصيته).
7- ثم إنه لا يمنع أن تكون هناك دوافع خفية أخرى تبرر اللجوء إلى هذه الوسيلة السريعة المضمونة الفشل، وهوأن لا شعور المدمن يريد هذا الفشل ليستمر فى الإدمان، تحت عنوان ‘ لقد عمل ما عليه، لكن جسده أبى أن يتخلص من السم، أو أن الدم الجديد ثبت أنه ليس أحسن من القديم’، وهات يارجعة، وهات يا نكسة، وهات يا إدمان، والذنب ليس ذنب المدمن إذن، بل هو ذنب جسده، أو ذنب السم، أو ذنب العلاج.
8 – ثم إننا نحب أن نقدس دور الطبيب ونأخذ علاجاته باعتبارها معجزات لا تبارى، وليس غريبا عنا من يصف كيف شاهد الجراح وهو يستخرج الحصوة من كلى قريبه، وكيف أنه أخرج الكبد ووضعها على جنب، ثم أخرج ‘الفشة’ ووضعها على جنب، ثم مد يده لبيت الكلاوى، فأمسك الكلية وشقها بضربة واحدة، وأخرج حجرا (حصوة) بهذا الحجم، ولفها وناولها للقريب الحاكي، الذى لا مانع أن يقسم أنه دخل إلى حجرة العمليات ورأى كل ذلك بعينى رأسه، ومن هذا المنطلق فالمدمن وأهله يميلون إلى تصديق هذا الدور الإلهى المعجز للطبيب النطاسى ذى الكمامة البيضاء، الذى أخرج الدم كله، وغسله بمعرفته مرتين (فـمين) حتى صار لامعا نظيفا، وأعاده أكثر بياضا(أو حمارا، أو حلاوة!! إلخ)، أو كيف أنه ألقى بالدم الفاسد بعيدا بعيدا، مستعيذا بالله من كل شر وسم، ثم أحضر زجاجات الدم الناصعة النظيفة ووضعها بأكملها من خلال قمع شفاف كأنه مصنوع من لؤلؤ خاص.
وهكذا يلعب خيالنا، مع جهلنا، مع ضمير صاحبنا وأمثاله، مع عجز قوانينا، تلعب هذه القوى جميعا فى استنزاف أموال الناس، بعد أن استنزفها المخدر، تلعب كل هذه العوامل لتزيد من ضياع وخراب من تورطوا فى تعاطى هذه السموم.
ولا نقول إن رزق الهبل على المجانين
ولكن نكتفى بالقول أن رزق الشطار على المستسهلين (الأثرياء منهم خاصة)
ولن يوقف مثل هذه الممارسات -بعد وقبل القانون- إلا وعى عام، وموقف عام، وحضارة حقيقية، وتفكير علمي
إن عقاب من لا يصدق هذا التحذير هو أن يدفع الثمن مالا وفشلا .
وباختصار شديد نقول:
1- مرة أخرى:إن الإدمان ليس جسما غريبا دخل مصادفة إلى دم مسفوح، بل إن له أسبابه وظروف تماديه، ومبررات استمراره.
2-إن إزالة التسمم تتم بمجرد الانقطاع، تحت أى ظرف دون حاجة إلى عملية أو غسيل، وكل ما على الطبيب هو تحديد طريقة الانقطاع، ثم تجنب وعلاج أعراض الانقطاع، ثم بداية العلاج الحقيقى لعدم العودة.
3- إن حرص المدمن وأهله على العلاج ينبغى أن يكون حرصا محسوبا بالعلم، وليس مجرد حماس وأحلام وأخيلة واستعداد للتضحية المادية وحسب.
4- إن أى جريمة لها طرفان، وعلم الضحية يقول، بـظـلم أحيانا، إن المجنى عليه ليس أقل مسئولية من الجاني.
5- إن التتائج الطويلة المدى هى التى ينبغى أن يعول عليها فى مثل هذه المسائل.