تقاسيم على أصداء
نجيب محفوظ
د. يحيى الرخاوى
الفصل الثالث (1)
“إبن حظ”: طفل تائه (ياأولاد الحلال)
فى ثوب كهل يعبد ربه
مقدمة:
ظهر عبد ربه التائه فجأة- دون مناسبة – من وجهة نظرى فتغير مزاج التلقى عندى بعض الشئ، لست أدرى لماذا، وقد جاء حضوره وحواراته قبل ظهوره فى ما نشر مسلسلا فى الأهرام، حيث نشرت الأهرام-خطأ- حلقات قبل حلقات، كان من بينها حلقات يتكلم فيها عبد ربه التائه مباشرة دون أن نعرف ما هى علاقته بالأصداء أو بالسيرة ولا متى أو من أين جاء، حتى حسب من يسمون بأصحاب الحداثه أن ذلك مقصود، وأن محفوظ أصبح حداثيا (حداثيتهم يعنى)، وحين حصلت على الأصل وسألت المؤلف صحح الموقف بالشكل الذى نــشر به العمل مكتملا بعد ذلك، وهو نفس الشكل الوارد فى هذه الدراسة.
أما لماذا تحفظت على ظهور عبد ربه حتى الرفض أحيانا، فهذا مالم أدركه حتى الآن تحديدا، وإن كان لابد سيظهر فى قراءتى التالية، وبداية أعدد تحفظاتى مجتهدا غير مصر.
أولا: تصورت أنه بظهوره سنقترب أكثر من السيرة الذاتية، المباشرة، وأنا كنت ومازلت أفضل أن أعيش الأصداء أرددها وأتردد معها، رافضا أن أواجه مصدرها الأصلى مباشرة، وبحضور الشيخ عبد ربه اقترب محفوظ شخصيا من وعى القارئ فتراجع خيال التلقى نسبيا.
ثانيا: توقعت درجة ما من المباشرة، وربما الخطابة أو إلقاء الحكم أو الأحكام (وقد تحقق بعض ذلك نسبيا).
ثالثا : ساورتنى غامضة نحو حضور الشيخ الطفل هكذا، وقد تبينتها بعد ذلك، وسترد هنا وهناك مع قراءة تفاصيل الفقرات.
القراءة
120 – عبد ربه التائه
كان أول ظهور الشيخ عبد ربه فى حينا حين سمع وهو ينادى “ولد تائه يا أولاد الحلال”
ولما سئل عن أوصاف الولد المفقود قال.
- فقدته منذ أكثر من سبعين عاما فغابت عنى جميع أوصافه.
فعرف بعبد ربه التائه، وكنا نلقاه فى الطريق والمقهى أو الكهف، وفى كهف الصحراء يجتمع بالأصحاب حيث ترمى بهم فرحة المناجاة فى غيبوبة النشوات، فحق عليهم أن يوصفوا بالسكارى وأن يسمى كهفهم الخمارة.
ومنذ عرفته داومت على لقائه ما وسعنى الوقت وأذن لى الفراغ، وإن فى صحبته مسرة وفى كلامه متعة، وإن استعصى على العقـل أحيانا.
لم أتصور لحظة أن محفوظ الطفل تاه ولا ثانية واحده، ولا أن ملامحه غابت عن محفوظ عبد ربه، فإن كان قد تاه حتى ضاعت ملامحه فهو تاه “فى” الشيخ (أكرر “فى“) فأصبح الشيخ هو هو الطفل، ولم تعد ثمة حاجة به إلى طفل بداخله، وبالتالى فقد تصورت نداء الشيخ “ولد تائه يا أولاد الحلال” ثم إنكاره معرفة أوصاف الولد هو نوع من التمويه الشعورى أو اللاشعوري، حتى يصدق الناس أن الطفل اختفى، وبالتالى يأخذون الشيخ باعتباره شيخا ليس إلا، وهو ليس إلا الطفل الذى أوهمهم أن يبحثوا عنه ليمارس طفولته على راحته، يجتمع بالأصحاب فى كهف الصحراء، ويستعذبون المناجاة فى غيبوبة النشوات.
ثم إن هذا الذى يحكى عن عبد ربه وهو ينادى -تمويها – عن طفله التائه، الذى أخفاه بتقمصه كما ذكرنا، هذاالذى يحكى هو ثالثهم، أى أنه -فى تقديري- هو شخص ثالث (حالة ذات ثالثة ) وبالتالى يكتمل ثالوث “إريك بيرن” صاحب مدرسة التحليل التفاعلاتى بظهور حالات الذوات الثلاث: الطفل(التائه) / الناضج(الحاكى)/ الوالد(المنادى)(2) وهو الناضج (الكاتب) الراصد الذى يمـسك بالقلم ويصف الاثنين الآخرين: وهو إذ يصف عبد ربه الشيخ، يصفه وهو يتصالح معه أشد التصالح وأنقاه، “وإن فى صحبته مسره، وفى كلامه متعة”
ثم نأتى للجملة الأخيرة “وإن استعصى على العقل أحيانا” فيكاد محفوظ أن يعترف بغموضه المقصود نسبيا، وهو يختبيء فيه قصدا أو عفوا وعلينا نحن الباقي.
ليكن، قبلنا أن نلقف الكرة.
121- التعارف
وكان لى صديق خطاط ومن مريدى الشيخ، فرجوته أن يقدمنى إليه فمضى بى إلى الكهف مخترقين صحراء المماليك، وهناك رأيته وسط صحبة يتبادلون أنخاب المناجاة فى نشوة هادئة نقـية، فقدمنى صديقى بين يديه ولكنه استمر فيما كان فيه غير ملتفت إلى مما أضرم الحياء فى قلبي، ولكن صديقى أخذنى من يدى وجلسنا فى آخر الصف، وهمست فى أذنه:
- الأفضل أن نذهب…
فهمس فى أذني:
- لقد قبل صداقتك، ولو كان رفضك لطردك بإشارة من يده
وختمت الليلة بغناء طويل جميل، ولدى العودة سألنى صاحبي:
- ما رأيك فى المكان وأهله؟
فقلت
- دخلوا قلبى بلا وسيط، عروتهم ساحرة، أصواتهم عذبة، والمكان جذاب هاديء ورائحته زكية..
هنا يتأكد التصالح الذى تم بين الذوات الثلاثة، وقد أكد إريك بيرن، ، أن المعركة لا تنتهى بانتصار ذات على أخرى، وإنما بتصالح خلاق، وهنا نرى أنه لم ينتصر الوالد (الشيخ) على الطفل كما لم يستبعده، ولا سادت بلادة وحسابات وشطارة الناضج على حساب تلقائية الطفل وحكمة الوالد، ولا طاح الناضج فى الاثنين (الشيخ والطفل).
وللتصالح شكلان أساسيان:
(أ) تصالح بالتبادل التوافقى، إذ يحل الطفل فى الوعى الظاهر، ويمسك الدفة فى الوقت المناسب لظهوره، وفى الموقف السامح لشطحة، وبين الجو المحتمل لشقاوته، فى حين يحل الوالد فى الشعور الظاهر ليقود الدفة حين يحتاج الأمر إلى الرعاية والحكمة أو إلى النهر والكف، أما الناضج فيقود ويحل فى الوعى حين يحتاج الأمر إلى حاسب واقعى لا ينفعل إلا للمصلحة ولا يتمنطق بإطلاق الحكم المثالية أو إظهار التضحية، وهذا التصالح بالتبادل يحدث عند أغلب الناس الأصحاء، وهو يتم تلقائيا دون تفكير أو قرار، ولكن مع مضى الزمن والتقدم فى العمر يصبح التبادل محسوبا وإراديا أكثر وأكثر، دون أن تختلط الأدوار أو تتداخل.
ثم: (ب) تصالح بالاندماج النامى أو التكاملى : مع مرور الزمن، وسلامة التبادل، يتم تصالح أعلى تذوب فيه الصفات الطفلية فى صفات الوالدية ويتداخلان بدورهما فى ذات أنضج وأقدر، ويصبح الإنسان شيخا طول الوقت، يطل من بين ثناياه ( وهو شيخ) طفل ظريف ذكى حاضر فنرى فى عينيه -شيخا- نظرات الطفل وضحكته وبراءته وإبداعه، ويظل الطفل حاضرا فى تصرف الشيخ بحيث لا يحتاج إلى نكوص خاص به، لا يمكن ممارسته إلا فى مجال طفلى مناسب. كل هذا -كما أشرنا- فى حضور وســماح وإحاطــة ما يسمى “الناضج المتكامل” Integrated Adult وما رأيناه فى هذه الفقرة هو تأكيد على أن التصالح الذى وصل إليه محفوظ قد تم بين الطفل التائه وبين الشيخ الذى قبل الطفل والناضج معا، هو تصالح أقرب إلى النوع الثانى، وقد تم دون إعلان صريح، وهذا النوع من التصالح لا يقتصر على الداخل، فهو يظهر فى السلوك، فيبدو الشيخ طفلا رائعا دون طفولة، ويقفز الطفل بريئا مبدعا دون عبث، ويذوب الناضج فيهما فلا يتميز بذاته، إذن فهو تصالح أقرب إلى الاندماج النامى الذى لم يعد يحتاج إلى تعدد ذوات وتبادل أدوار ( اللهم إلا فى تبادل النوم واليقظة)، وهذا هو تفسيرى لماهية الشيخ عبد ربه، لكنه تفسير غير مطلق، فاعتراضاتى على حكمة الشيخ المباشرة والسطحية فى أحيان كثيرة -مثلا- تنفى هذه الدرجة المباشرة من التصالح.
122- عندما التقت العينـان:
مضى زمن قبل أن يلتفت إلى وتلتقى عينانا، ولما شاعت ابتسامة فى ملامحه وثبت إلى جانبه وقلت
- إقبلنى فى طريقتك..
فسألني
- ماذا يدفعك إلينا؟
فقلت بعد تردد
- أكاد أضيق بالدنيا وأروم الهروب منها
فقال بوضوح
- حب الدنيا محور طريقتنا وعدونا الهروب
وشعرت بأننى انطلق من مقام الحيرة.
تكررت هذه القيمة فى الجزأين السابقين، كما أعيد شرح كيف أن حب الحياة هو نوع من العبادة بشكل أو بآخر، وإذا كان الجزء الثانى من هذه الدراسة -العدد السابق – قد امتلأ بالحيرة فى الدروب، وبالإصابات فى المعارك، حتى أسميت عنوانه مقام الحيرة، فالإعلان هنا عن أن هذا التصالح قد حقق الخروج من مقام الحيرة بشكل صريح ومباشر “وشعرت بأننى أنطلق من مقام الحيرة”، ولكنه إعلان لا يكفى والخروج من مقام الحيرة ليس نهاية مسار النضج، وإنما اختلاف نوع وروعة ومساحة الحيرة، فجاءت الفقرة مكررة أبسط من المرحلة التى رسمت بها عبد ربه.
123- الإنتظار:
ولكن لماذا هذا الكهف بالذات؟ قيل إن سيدة المكان كانت تطوف بالموقع حول الكهف فى المواسم، وكثيرون قد جنوا بسحر جمالها وجدوا فى البحث عنها دون جدوي. وقيل إنها قد تختار قرينها ذات يوم فى الكهف. وقصد الكهف أناس لا حصر لهم ولكن عبد ربه التائه ومريديه هم الذين صمدوا إلى النهاية.
أغلب أحاديثهم وأغانيهم عن المرأة الجميلة ينتظرون الرضا، ولا يعرفون اليأس.
هذه المرأة، سيدة المكان، حاضرة عند محفوظ فى كثير من أعماله، وهى الحياة مرة، وهى المتعة المتكاملة مرة، وهى اللذة الغامرة مرة، وهى الوعد الآمر الناهى مرات.
ولكن لماذا تطوف “الحياة” هنا حول الكهف هكذا ؟
بدت لى الحياة /المرأة هنا مثل الرحم الآمن،، حاضرة محيطة، تطوف بالموقع حول الكهف، دون أن تفرض نفسها ظاهرة، فتنقلب عزلة الإنسان المختارة إلى ائتناس بمن فى مثل عزلته معه وبه نحوها فى انتظارها، ويلاحظ أن المرأة هنا لا تقتحم الكهف وهى تنادي(مثل النداهة) من يريدها يدفع مهرها، ولكنها لا تستجيب تلقائيا لكل من يلبى النداء، فهى تختار فى النهاية، وسواء كانت هى الحيوية الحسية التى دافع عنها محفوظ طول العمل (بل طول الحياة) أو كانت الحقيقة الكشف، أو كانت زخم الحياة الكل بلا تفسير، فإن محفوظ يشير هنا إلى أن المسألة ليست ثمرة تقطف، ولا هى من نصيب المتلهف المتعجل، وإنما من أراد صحبتها حقيقية وفعلا فإن مهرها هو الصبر والمثابرة، وقد نجح محفوظ شخصيا فى هذا المضمار بشهادة الشهود، فهو يتمتع بصلابة الموقف وحب الحياة وشجاعة الرأى مهما كان، ولذلك فهى من نصيبه ونصيب صحبته من أمثاله.
ومع ذلك لا يوجد تأكيد على أن المرأة اختارت قرينها من بينهم هو وصحبه تحديدا، ولا على أنها سوف تختار أحدهم دون الآخر، ومن هنا هم ينتظرون الرضا ولا يعرفون اليأس، وكأن الوصول الحقيقى هو فى الانتظار المصر، الذى يحافظ على قيمة الهدف وحيويته بصفة دائمة.
[ملحوظة: تمنيت فى هذه اللحظة أنى كنت كتبت هذا النقد قبل أن أصبح أحد الحرافيش الحقيقيين، ، كما تمنيت ألا أكون قد ألزمت نفسى أن أبعد عن بعض ما عرفت من سيرة محفوظ الذاتية شخصيا مكتفيا بما ورد حرفيا فى الأصداء، ولولا هذا وذاك لقلت ما سمعت، مما كان يمكن أن يضيء أكثر حتما، لكن…… ].
124- مأمور:
وجذب انتباهى شخص لا مثيل لنشاطه فى خدمة الإخوان، فسألت عنه فقال عبد ربه التائه: له حكاية فاسمعها.
ما ندرى ذات ليلة إلا وقد اقتحم علينا خلوتنا ويقول:
- صدر الأمر بإغلاق الخمارات !
فقلت له :
- شرابنا النجوى فاشرب هذه الكأس.
وقدمت له شرابا. وكان سحر المكان قد شاع فى جسده وروحه فشرب. ثم تركنا وذهب. وفى ليلة تالية رجع مرتديا ملابس عادية وقال باستسلام
- تركت الخدمة وجئت إليكم..
فهللنا وكبرنا. ومن ساعتها وهو مندمج فى مودتنا. وفى المواسم يغنى ويرقص حتى مطلع الفجر.
يصل التصالح قمته حين يفرض نفسه حتى على النذير الذى جاء يـغـلقها فأصبح منهم وقد استبدلوا بالخمر شراب النجوي، والعنوان يذكرنا أنه كان مأمور القسم فصار أحد المريدين بل وكاد يسبقهم فى الرقص والغناء – فى المواسم – حتى مطلع الفجر. ومحفوظ يضيف هنا بعدا آخر لما هو نضج حقيقى، فعندما يكتمل النضج لا يوجد محل لتأنيب الضمير، (المأمور)، بل إن الضمير نفسه يصبح صاحب حظ مسئول، وهذا يلفت النظر إلى أنه فى كل الأصداء، لم نلاحظ مغالاة فى الشعور بالذنب، أو تأنيب الضمير، رغم وجود الندم، وبعض الأسى لضياع الفرص.
125- داء
قال الشيخ عبد ربه التائه
بالأمس وأنا راجع من السهرة قبيل الفجر اعترضنى فى ظلمة الحارة شخص لم أتبين معالمه وقال لي:
- أنا قادم إليك من وراء النجوم
فهزتنى العزة قلت بفرح
- من أجلى أنا هبطت؟
فقال بنبرة لم تخل من امتعاض.
- لم تسلم بعد من الخيلاء!
واختفى صاعدا بسرعة البرق
فمن يعيده إلى ومعه الغفران؟!
فسألته:
- وماذا كنت تنوى أن تطلب منه ؟
فأجاب متجاهلا سؤالي:
“الحياة فيض من الذكريات تصب فى بحر النسيان أما الموت فهو الحقيقة الراسخة”
وبظهور الشيخ عبد ربه التائه أمكن أن تتعدد الأصوات فيتم حوار له أطراف كـثر
وما لفت نظرى فى هذه الفقرة هو أن طلب الشيخ عبد ربه من الشخص (ذلك الطلب الذى حرم من إعلانه أثناء تجليات اللقاء) كان هو الموت لا الحياة، فبدا لى أنه من الجائز أنه يعلن بذلك الاكتفاء الراضى، وأنه قد اكتشف أن أى مزيد ليس إلا إضافة صفحة يقابلها تمزيق صفحة قديمة، فيظل كتاب الحياة هو هو (ذكريات تصب فى بحر النسيان)، فما فائدة الاستزادة منها، ومع ذلك فليس ثمة يأس، بل ما وصلنى هو ما أسميته “الاكتفاء الراضي”، أى أنه “يود لو كفي” فتتحقق الحقيقة الراسخة (الموت).
ورغم أن هذا يبدو فى ظاهره قمة التصالح إلا أن دلالته ليست فى نفس اتجاه البهجة والنشوة وشراب النجوى ورقص المواسم الذى غلب على الفقرات السابقة,
ومع ذلك فليس هو اليأس أو السخط أو الانسحاب كما ذكرنا.
126- الشكوى:
كان الكهف عامرا بالخلان والنشوة تذيب الأحجار.
ونفخ نافخ فأطفأ الشموع وترددت الأنفاس فى ظلام دامس
وتهادى صوت إليهم يقول “فى السماء ضجروا من الأفعال الخسيسة والروائح المنكرة”
وذهب تاركا صمتا ثقيلا فقال أحدهم
- أهى رسالة؟
فقال آخر
- بل هو أمر.
وانطلقوا فى الأسواق يحمـلون على كل خسيس ومنكر،
وغضب السادة فزمجرووا بالغضب ولوحوا بالعصى.
وعلى الرغم من أن نشوة الكهف بدت لنا من أرقى المشاعر، وعلى الرغم من أن شرابهم النجوى وودهم السماح، إلا أنهم بدوا وقد تخلوا عن حرب الضلال والانحراف، فجاءهم النذير، لا ناصحا بل آمرا، فتفجرت فيهم الثورة، وهم يمارسون فعل الإصلاح، ويواجهون السلطة، ويتحملون التهديد.
هل يريد محفوظ أن يربط بين حق النشوة وشرف الثورة ؟
هل يريد أن يشير إلى أن عزلة الكهف البهيجة، وروعة النشوة التى تذيب الأحجار هى فى نفس الوقت وقود رفض الخسة والمنكر؟ بمعنى أنه لا يكتمل شرف الوجود إلا فى مواجهة السادة، ولو زمجروا بالغضب ولوحوا بالعصي؟
نعم.
127- الرقص فى الهواء:
ومرة قال لى الشيخ إن القصص التى تنشر ليست بالقصص الحقيقية، وأراد أن يقدم لى قصة صادقة فقال:
فى أحد أصابيح الربيع جذبتنى ضجة نحو الباب الأخضر. خضت حاجزا من البشر يلتف حول رجل وامرة قيل أنهما كانا من مجاذيب الحسين، ثم أغواهما الغرام فهجرا دنيا الأسرار إلى دنيا العشق، ورئيا وهما يترنحان من السكر ويترنمان بالأغانى الساخنة.
وكاد الناس يفتكون بهما لولا تدخل الشرطة.
ونسى الأمر مع الزمن. وذات صباح وأنا أسير فى الصحراء رأيت سحابة تهبط كالطائرة أو السفينة حتى صارت فى متناول الرؤية الواضحة، ورأيت على سطحها رجلا وامرأة يرقصان وسمعت صوتهما قائلا:
- متى تصعد يا عبد ربه!
تتكرر هنا فكرة الغفران للخطاة، لا، ليس هذا فحسب، بل إن الذى يريد محفوظ توصيله المرة تلو المرة هو أن الخطاة، أو الذين يسمونهم خطاة، هم فى أعلى عليين وأن الشيخ عبد ربه نفسه يتوق إلى مرتبتهم.
هذا وقد استقبلت نداء “متى تصعد يا عبد ربه” باعتباره إسقاطا منه وحنينا للصعود، للموت التكاملي، دون رغبة فى الموت الذى نعرفه، وهو ما يؤكد ما ذهبت إليه من أن تمنيه طلب الموت -لا الحياة من الهابط من السماء,-(فقرة 125) هو طلب للحياة أكثر منه هرب فى الموت، ولا أملك إلا أن أكرر بإلحاح مرة أخرى أن الموت هنا ليس هو الموت النهاية، وليس هو الموت العدم، ولكنه الموت الرضا، الموت الكفى شبعا وحمدا…الموت الصعود
128- عبير من بعيد:
قال الشيخ عبد ربه التائه
ساقتنى قدماى إلى القبر المهجور الذى رحل جميع من كانوا يعنون بتذكره، وجدته آيلا للسقوط، وعليه طابع العدم. وصدر نداء خفى من الذاكرة، فأقبـل نحوى جمع من النساء والرجال كما عهـدهم الزمان الأول. وردد أحدهم ما قاله لى مرارا “لا أغير ريقى قبل أن أسمع أغنية الصباح فى الإذاعة”
حين قدم لنا محفوظ الشيخ عبد ربه التائه، قال يصف كلامه (فقرة 120) “وإن استعصى على العقل أحيانا”، وقد استعصى كلامه فى هذه الفقرة على، فلم يعد عندى إلا أن أطرح تساؤلات محددة تقول:
هل يمكن أن تكون هناك علاقة بين هذا القبر المهجور الذى رحل جميع من كانوا يعنون بتذكره، وبين موجة الإلحاد المرحلية التى سادت حين التهى الناس بإنجازاتهم الحاضرة، وملك الغرورالكائن البشرى حتى استغني، ثم دفن كل ما عداه، ثم راح ينسى أو ينسى نفسه حتى ساكن القبر؟
هل يذكرنا ذلك بإلحاح نجيب محفوظ على إحياء الجبلاوى الذى قتله عرفة صدفة، ثم راح ينذر بقية حياته لإحيائه، وهذه الفقرة هى نذير بأن عرفة انصرف عن محاولته، ولم ينجح ؟
هل يمكن أن يكون ترديد أحدهم لهذا القول البسيط “لا أغير ريقى حتى أسمع أغنية الصباح فى الإذاعة”، ترديدها فى هذا المقام بالذات، هو تنبيه إلى أن هروبنا من الأسئلة الصعبة، وعدم عنايتنا بتذكر القبر، أو صاحبه، (بفرض أنه مات) هو تنبيه ضمنى إلى أن أبسط الأشياء هى الجديرة بأن تصل بنا إلى أعمق الوجود؟
شئ أشبه بإيمان العجائز، لا تسليما، ولكن يقينا بسيطا لا يحتاج ليقين آخر يثبته
هل يمكن أن يكون بعض ذلك كذلك ؟ ربما، دون حسم !!!
129- الخلود:
قال الشيخ عبد ربه التائه
وقفت أمام المقام الشريف أسأل الله الصحة وطول العمر، دنا منى متسول عجوز مهلهل الثوب وسألنى “هل تتمننى طول العمر حقا؟ “.
فقلت بإيجاز من لا يود الحديث معه
- ومن ذا الذى لا يتمنى ذلك؟
فقدم لى حـقا صغيرا مغلقا وقال
- إليك طعم الخلود، لن يكابد الموت من يذوقه!
فابتسمت باستهانة، فقال
- لقد تناولته منذ آلاف السنين ومازلت أنوء بحمل أعباء الحياة جيلا بعد جيل.. فغمغمت هازلا
- يالك من رجل سعيد!
فقال بوجوم
- هذا قول من لم يعان كر العصور وتعاقب الأحوال ونمو المعارف ورحيل الأحبة ودفن الأحفاد.
فتساءلت مجاريا خياله الغريب
- ترى من تكون فى رجال الدهر؟
فأجاب بأسي
- كنت سيد الوجود، ألم تر تمثالى العظيم؟ ومع شروق كل شمس أبكى أيامى الضائعة وبلدانى الذاهبة وآلهتى الغائبة!
هنا إيجاز يكاد يكون مباشرا لفصل “جلال صاحب الجلالة” فى ملحمة الحرافيش، ومن يرجع إلى حوار جلال مع شاور الساحر يجد الحوار هنا يكاد يتطابق، الفرق الوحيد الذى يستأهل وقفة ما، هو أن الخالد هنا كان سيد الوجود، حتى غابت آلهته فلم يبق إلا هو، وأن هذا الخالد لم يدفع ثمن هذا الضلال الذى اختاره كما دفعه جلال صاحب الجلالة. فقط عوقب بالتسول والحرمان من دورات النهاية البداية .
ونلاحظ كيف تأتى هذه الفقرة هنا بعد تمنى الموت الراضي، ونداء الصعود التكاملي، فى مقابل الخلود الغبى “هكذا”.
130- السمع والطاعة:
قال الشيخ عبد ربه التائه:
قلت له بخشوع وعيناى لا تفارقان طلعته
- لم أر احدا فى مثل بهائك من قبل، فقال باسما.
- الفضل لله رب العالمين.
- أريد أن أعرف من تكون يا سيدي، فقال بهدوء وكأنه يتذكر
- أنا الذى كان يوقظك من النوم قبل شروق الشمس
أصغيت باهتمام فواصل
- أنا الذى ناصرتك على الكسل فانطلقت مع العمل.
فكرت بعمق فيما قال واستمر هو
- أنا الذى أغراك بحب المعرفة
فهتفت
- نعم .. نعم
- وجمال الوجود، أنا الذى أرشدتك إلى منابعه
- إنى مدين لك إلى الأبد
وساد صمت متوتر، وشعرت بأنه جاء يطالبنى بشيء فقلت
- إنى طوع أمرك
فقال بهدوء شديد
- جئت لأضع فوق عملى نقطة الكمال.
فى محاولة للتعرف على الشيخ عبد ربه أكثر، نجد السائل هنا قد سأله نيابة عنا عدة أسئلة أجاب عنها إجابات مرشدة ومحيـرة فى نفس الوقت، فالذى أيقظ، وحفز ضد الكسل وأغرى بحب المعرفة وأرشد إلى منابع جمال الكون لا يمكن أن يكون شيخا (والدا) هاديا وجدا جاهزا هكذا، وبالتالى لابد أنه ليس مجرد شيخ والد، وأن الشيخ الذى يلبسه يمثل فطرة إيجابية سابقة، تجلت فيه (فى داخل النفس وخارجها، وهنا فى داخلها أساسا)، وأن هذه الفطرة الإيجابية لا تبتعد كثيرا عما يسمى فى علم النفس الإنسانى (أبراهام ماسلو مثلا) “الوجود شبه الإلهى”God-like existence، بمعنى أنه التكامل بين كل الذوات مجتمعة (ما يقابل الناضج المتكامل عند إريك بيرن) وهو احتمال حفزى ليس للتحقيق، وإنما للجذب طول الوقت، ذلك لأنه غاية دائمة الدعوة لتحقيقها، وأن هذا وذاك مرتبط باللحن الكلى للفطرة السليمة التى تهدى إلى كل ما قال، فهو وجود لا يتحقق أبدا، وإن كان التوجه إليه يكفى لاعتباره قد تحقق.
إذن ما العمل وكيف النهاية بعد كل هذا الدفع الحسن، وأيضا بعد الاعتراف بالجميل هكذا.لم تبق إلا نقطة الكمال يضعها فوق عمله ولعلها الموت النبيل إلى أعلي.
131- سؤال عن الدنيا:
سألت الشيخ عبد ربه عما يقال عن حبه النساء والطعام والشعر والمعرفة والغناء، فأجاب جادا.
- هذا من فضل الملك الوهاب.
فأشرت الى ذم الأولياء للدنيا فقال
- إنهم يذمون ما ران عليها من فساد.
تكرار لفقرة (122) ولكن على لسان عبد ربه هذه المرة، فجاء بالنسبة لى أكثر فتورا، وحتى العنوان الذى خفف من الفتور قليلا فى الفقرة 122 جاء هنا ماسخا أكثر.
132- المشى فى الظلام:
قال الشيخ عبد ربه التائه
عرفت الرجل فى طورين فى حياته الطويلة :
عرفته فى شبابه محبا للعبادة ملازما للمسجد مأخوذا بسماع القرآن الكريم، وفى شيخوخته ساقه قدره الى الخمارة فأدمن الخمر متناسيا مالا يهمه، وكان يرجع الى بيته فى الهزيع الأخير من الليل ثملا يترنح ويغنى أغانى الشباب خائفا الظلمة الحالكة.
وحذره محبوه من المشى فى الظلام فقال.
- حراس من الملائكة يحيطون بي، ويشع من رأسى نور يضيء المكان .
[ملحوظة: مازالت علاقتى بظهور عبد ربه التائه فاترة أو رافضة، يخطر ببالى أحيانا أن أشطب البداية التى تقول”قال الشيخ عبد ربه التائه” من كل الفقرات التى لا يظهر فيها الشيخ محاورا بشكل صريح مباشر داخل الفقرة وليس فى أولها، ونجحت الفكرة، ووجدت نفسى أقرب إلى النص مما لو بدا بهذه الوصاية، لأن النص يرجع – بذلك إلى الكاتب مباشرة، وهناك فرق حتى لو كان عبد ربه هو الكاتب، وهذا هو الأرجح].
ما قاله الشيخ الذى أدمن الخمر وهاص بها ومعها على كبر، ما قاله فى النهاية من أن الملائكة يحيطون به.. إلخ. لا يضيف شيئا إلى ما سبقت الإشارة إليه من أنه ليست كل الأخطاء بالضرورة علامة الضياع أو الفساد أو الكفر، وأنه يوجد مع الخطأ احتمال الوعى الأعمق والتماس الغفران، إذن فهده الفقرة لم تضف شيئا، بل إنها هزت هذه القيمة التى دافع عنها محفوظ سابقا بذكاء وعمق، لأن صورة هذا العجوز السكران الخائف من الظلام تجعلنا نأخذ زعمه هذا باعتباره مجرد هذيان سكران.
ربــما !!
133- قول:
قال الشيخ عبد ربه ذات ليلة فى سهرة الكهف
ما أجمل قصص الحب، عفا الله عن الزمن الذى يحييها ويميتها.
الجملة الأولى مقبولة بفتور “ما أجمل قصص الحب”، فتور لأنه لا يذكر “أيام” الحب أو “عهد” الحب، أما الجملة الثانية “عفا الله عن الزمن الذى يحييها ويميتها”فهى تحتاج إلى وقفة لأن الموقف الذى يسمح بتذكر قصص الحب (وليس أيامه أو عهده) يجعل الزمن هو خالقها وقابضها، جمال قصص الحب لا يكون جمالا حقا إلا من خلال بعد الزمن الدوار الذى يرتفع بها وينخفض، فلا جمال لدوام، ولا جمال لسكون حتى لو كان الخلود ذاته.
ثم ثمة ملاحظتان : أن الشيخ عبد ربه هو أحد سهرانى الكهف
وأن العنوان هو : قول – مجرد قول، بما يوحى بالتأكيد على أن قصص الحب غير الحب، أو لعل الحب ليس إلا قصصا لا تتحول إلى واقع إلا بفعل زمن يحييها ويميتها.
134- تعريف:
سألت الشيخ عبد ربه
- ما علامة الكفر؟
فأجاب دون تردد
- الضجر
فجأة، ليس فجأة تماما، وجدتنى أصالح الشيخ عبد ربه أكثر فأكثر جدا !!!! “علامة الكفر الضجر“، وهل تحتاج هذه الفقرة إلى تعليق؟ نعم تحتاج إلى بعض التباديل والتوافيق هكذا (شكرا يا عم الشيخ) :
كل ضجر كافر، فهل كل كافر ضجر ؟
فإن كان ثمة كفر دون ضجر، فهل يوجد ضجر دون كفر ؟
وهل الكفر كفر بنعمة الله أم هو كفر بالله ؟
وماعكس الضجر؟الرضا أم القناعة أم البهجة أم الأنغام أم التكامل الآمل الخلاق؟
وما عكس الكفر؟ التدين أم الإيمان أم الذكاء الخلاق أم الرقص مع دورات الحياة
يا عم الشيخ :
نعم علامة الكفرالضجر، والملف مفتوح ملء الوعى .
135- سيدتى الجميلة
قال الشيخ عبد ربه:
حدث ذلك وأنا أسير بين الطفولة والصبا.
رأيت فوق الكنبة الوسطى تحت البسملة امرأة جالسة، لم أشهد فى حياتى شيئا أجمل منها. ابتسمت لي، فذهبت اليها فحنت على وقبلتنى ووهبتنى قطعة من الملبن، وكتمت السر ليدوم العطاء، وكلما ذهبت إلى الحجرة رجعت مجبور الخاطر بقبلة وقطعة من الحلوي.
ويوما ذهبت كالعادة فوجدت الحجرة خالية
هل أفقد الجمال والسعادة؟
وسألت أمى عن الضيفة الجميلة الكريمة.
فدهشت لسؤالي، كما دهش أبي، وجعلت أحلف بأغلظ الإيمان، ولم يصدقا حرفا مما حكيت وساورهما القلق طويلا، وظلت الكآبة كامنة فى الأعماق حتى هلت ليالى القمر.
هلوسة الأطفال خيال مشروع وخيال الأطفال قد يكون واقعا أوقع من الواقع، لذا لزم التنويه.
فقط أود أن أضيف أننى استقبلت ليالى القمر وهى تهل داخلة كإعلان رائع لنجاح تمثل خبرات الطفولة بعد جرعة من التأجيل الواجب، بمعنى أنه بعد أن كبت خياله استجابة لرعب (وقمع) الوالدين، حبس خياله طويلا حتى تمثله فأشرق به ومعه، وهذه المسيرة التى تحول خيال الطفل إلى إبداع المتكامل هى الحل الأمثل للكبت الضرورى أحيانا، بمعنى أنه لو سمح له أن يتمادى فى تلقى الملبن والقبلات دون خوف الوالدين أو رفضهما، لظل طفلا دون كآبة كامنة، وأيضا لما هلت ليالى القمر داخله تضئ له وبه.
136- على وشك الهروب:
حدث الشيخ عبد ربه التائه قال :
- أغرتنى نشوة الطرب ذات مرة بالتمادى فى الطرب حتى طمعت أن أبعث من الطرب الأصغر إلى الطرب الأكبر، وسألت الله أن يكرمنى بحسن الختام، عند ذاك همس فى أذنى صوت “لابارك الله فى الهاربين”.
الشوق إلى الموت/الحياة (الطرب الأكبر) يطل مرة ثانية، فنشوة الحياة الممتلئة بالطرب تسمح بأن نقول “أن كفى : حمدا راضيا يقبل النهاية”، وهذا بعض ما أشرنا إليه فى شرح طلب الموت التكاملي- إن صح التعبير-، وحتى لو كانت النقلة إلى أعلي.
(راجع فقرة 127، وإن كنت قد أجلت جمع الترابطات -ومن بينها، ومن أهمها، الموقف من الموت – إلى الفصل الخامس).
لكن هذه الفقرة تعود إلى التنبيه إلى ضرورة الحذرمن التبرير، فمهما تزين الموت الـ “كفى حمدا “، ومهما كان الوعد بالطرب الأكبر يقينا، ومهما كان الرضا قناعة بنهاية سلسة ذائبة فى مطلق متناغم، إلا أن الحياة الدنيا (الطرب الأصغر) هى الأصل، والشبع منها تحت أى عنوان هو هرب لا محالة، إن الطرب الأصغر(الحياة) إن صح تكامله يؤدى إلى الطرب الأكبر كما تتفتح البراعم، أو تفقس الشرانق، وليس فى أى من هذا ما هو “حسن الختام”، لأنه ليس هناك ختام، بل بدايات كامنة.
ومن ثم : لا بارك الله فى الهاربين، حتى بالرضى المنغلق النهاية، حتى لو كان حسن الختام.
137- عندما:
سألت الشيخ عبد ربه التائه
- متى تصلح حال البلد؟
فأجاب
- عندما يؤمن أهلها بأن عاقبة الجبن أوخم من عاقبة السلامة.
حكمة سياسية تبدو مباشرة لكنها ليست كذلك تماما:
فالسلامة ليست عكس الجبن، بل إن الجبن أحيانا يكون طريقا إلى سلامة ما، والمعروف أن الجبن إنما يبرر نفسه طلبا للسلامة.
فكيف تختلف عاقبة الجبن عن عاقبة السلامة ؟ وكيف يكون صلاح حال البلد فى رفض الجبن طلبا للسلامة؟ إليكم اجتهادى :
إن السلامة التى يؤدى إليها الجبن ليست سلامة أصلا، ولا ينبغى أن توصف بهذه الصفة مهما بدا الأمان ظاهرا، فعاقبة الجبن جبن أكثر، وإن تخفى وراء قشرة من سكون خادع، فهى سلامة وخيمة وليست حقيقية، وأوخم منها الدافع إليها وهو الجبن، وهذا الموقف يضاعف الوخامة ولا يصلح حال البلد، وهذه الرؤية خليقة أن تحفزنا إلى رفض كل من الجبن والسلامة الزائفة، الأخيرة وخيمة والدافع إليها أوخم وأضل فلا مفر من البحث عن سلامة أبقى وأرقى، وهذا هو السبيل لإصلاح حال البلد يجوز
138- ساعى البريد:
فى تلك الليلة من ليالى الكهف اشتدت الريح وانهل المطر، ولعـبت دفقات الهواء المتسللة من المدخل ذؤابات الشمع فخفقت القلوب بعنف ومدوا الأبصار إلى المدخل وانتظروا، فازداد خفقان القلوب، وهمس أحدهم.
- يقولون إن ليلة هذا العام مباركة.
وتطلعت القلوب إلى المدخل بكل ما تملك من قوة.
وترامى إليهم صفير فهبوا واقفين، وعند ذلك دخل ساعى البريد بزيه المألوف وحقيبته يكاد يغرق فى الماء الذى تشربته ثيابه.
وبهدوء أعطى كل يد ممدودة رسالة وذهب دون أن ينبس.
وفضوا الظروف ونظروا فى الرسائل على ضوء الشموع.
وجدوها بيضاء لاشية فيها وهتف عبد ربه “العقبى للصابرين”
ترى: علام تدل الورقة البيضاء؟
ربما تقول : إن من ينتظر الرضا، أو الحكم عليه بالبراءة أو الإدانة من خارجه فقد أخطأ. أى أنه فى نهاية النهاية سوف يكتب كل واحد كتابه.
أكتب كتابك : كفى بنفسك اليوم حسيبا، ألست على نفسك بصيرا؟
ربما
139- عزرائيل:
قال الشيخ عبد ربه التائه
استدعانى المأمور يوما وقالى لى :
- كلماتك تدفع الناس الى التمرد فحذار !
فقلت له
- أسفى على من يطالبه واجبه بالدفاع عن اللصوص ومطاردة الشرفاء، فصاح بى
- هذا إنذار نهائى ..
ولما كان عزرائيل يخف لنجدتي، فى الملمات فقد تجلى ثوان للمأمور حتى ارتعدت مفاصله وسقط عن كرسيه هاتفا
- الله بينى بينك !
لماذا هكذا يا عم الشيخ عبد ربه، ما الفرق بينك -هكذا هنا- وبين امرأة مظلومة تقول للباشجاويش النوبتجى “روح يا شيخ الله يهدك، إنت مش عارف إن لك رب حاتقابله، وللا فاكر أنك مخلـد مش حتموت؟!”
بل إن كلامها هذا وصلنى بأصداء رنت فى أكثر مما فعل كلامك يا عم عبد ربه، فرددت كلامها دون كلامك. حتى مع الفرق فى إبداء أسفك الحكيم على ما اضطر إليه المأمور، الأمرالذى قد لا يخطر ببال مثل هذه المرأة،
بل قد يخطر !!! مازلت رافضا
فوت هذه، فقد فوتها أنـا نيابة عنك
140- الاختيار:
قال الشيخ عبد ربه التائه
جاءتنى امرأة جميلة تسألنى الرأى فى مسألة تعنيها ولما وافيتها بالجواب قرأت طالعها فى جبينها الوضاء وقلت لها
أمامك طريقان، طريق العفة والسماء، وطريق الحب والإنجاب ..؟
فقالت بابتسام واحتشام
“لقد أعدنى ذو الجلال للحب والإنجاب، ولن أخالف له مشيئة ..”
لم يعودنا محفوظ على مثل هذا الاستقطاب، العفة والسماء فى ناحية والحب والإنجاب فى ناحية أخري، مع أنه طول الأصداء (سوف أعود لذلك فى الفصل الخامس)، بل طوال أعماله، كان يحرص على أن يجعل الحب والجسد هما الوصلة إلى الرضا ووجه الله، وهما سلم الترقـى فى السماء، فما الذى جرى هكذا؟
ثم إ ن جمع الحب مع الإنجاب هو نكسة إلى توظيف الجنس لحفظ النسل ليس إلا
كذلك جمع العفة مع السماء هو منظور مسيحى كاثوليكى لم ينـتم إليه محفوظ أبدا
مرة أخرى : ما الحكاية ؟ ؟
يالله !!! هذه أخري
141- الرحمة:
– سألت الشيخ عبد ربه التائه.
- كيف لتلك الحوادث أن تقع فى عالم هو من صنع رحمن رحيم؟
فأجاب بهدوء
- لولا أنه رحمن رحيم ما وقعت !
رحمة الله سبحانه تسبق وتلحق ما لا نـفهم، والحوادث التى نقف أمامها مشدوهين لا نفهمها لا يمكن تحمـلها أو تصور العدل فى تفاصيل أحداثها إلا إذا أطلقنا لخيالنا العنان نبحث عن حكمة أعلى هى خلاصة رحمة أرقي، وقـصة سيدنا الخضر عليه السلام، تقول مثل ذلك
ولكن أين محفوظ الأصداء من كل هذا ؟ لماذا وضعه عم عبد ربه فى هذا الموضع العادى هكذا؟ لا تعليق أكثرمن ذلك
142- الواعظة:
قال الشيخ عبد ربه التائه
اعترضتنى فى السوق امرأة آية فى الجمال,وسألتني
- هل أعظك أيها الواعظ؟
فقلت بثقة
- أهلا بما تقولين
فقالت
- لاتعرض عنى فتندم مدى العمر على ضياع النعمة الكبري
عاد الشيخ عبد ربه يكرر ما ينبهنا إليه محفوظ بطريق أعمق وأجمل من ألا ندع الفرصة تفلت، وهذا التكرار هو تأكيد لما أشرنا إليه من أنه لا مجال فى وعى محفوظ/عبد ربه (حالة كونه متكاملا) لشعور معوق بالذنب، بل إن دعوته الملـحة لانتهاز الفرص إنما تحمل طمأنينة عميقة لعفو هائل عن أخطاء محتملة، وهذا موقف حياتى بهيج، و ليس موقفا لذيا نكوصيا خالصا أبدا.
143- فى الحظـيرة:
قال الشيخ عبد ربه التائه:
حلمت بأننى واقف فى حظيرة أغنام مترامية الأطراف، وكانت تأكل وتشرب وتتبادل الحب فى طمأنينة وسلام، تمنيت أن أكون أحدها فكنت جديا بالغ القوة والجمال، ويوما جاء صاحب الحظيرة يتبعه الجزار حاملا سكينه.
جاءك كلامي؟
ألم أقل توا إن دعوة محفوظ لـلنهل من الحياة دون إعاقة إلحاح الشعور بالذنب ليست نكوصا، لأن النكوص المطلق عدم خائب مهما بدا لذيذا مغريا، فتأتينا هذه الـ “إلا” ذبحا خالصا لا مفر منه.
فمن منا يمكن أن يطمئن إلى مجرد الأكل والشرب وتبادل الحب دون أن يلمح حد هذا السكين اللامع هكذا ؟
144- إنتهاء المحنة:
سألت الشيخ عبد ربه التائه
- كيف تنتهى المحنة التى نعانيها
فأجاب
- إن خرجنا سالمين فهى الرحمة، وان خرجنا هالكين فهو العدل
لن يدخل أحدكم الجنة بعمله إلا أن يتغمده الله برحمته
فهل هذا ما يعنى محفوظ ؟ وخلاص ؟
حلال عليه، علينا، ولكنه قيل ….!!!
145- لا تصدق:
قال الشيخ عبد ربه التائه:
جاءنى رجل وقال لى “لا تصدق .. ما أنت إلا ابن الصدفة العمياء.. وصراع العناصر .. بلا هدف جئت .. وبلا هدف تذهب .. وكأنك لم تكن” فقلت له “سبق أن صدق أبوك مالا يجب تصديقه فخسر الراحة والنعيم”
وصلنى من هذه الفقرة تنبيه يقول :
إن هذا الكلام الذى يبدو معلنا ومنظما وعلميا “… صراع العناصر،، هو من عمق آخر نفى لحكمة الوجود: إذن فالوجود بلا هدف .، ثم الذهاب بلا غاية، هو نفسه ما لا يجب تصديقه، وحين صدقه أبو السائل (الجيل السابق والأسبق) وكفر باليقين المباشر الذى لا يحتاج إلى مثل هذا الحديث عن تفاعل العناصر، خسر الراحة والنعيم.
ومع هذا الذى وصلنى فإننى لم أسمع خلال الفقرات المتتالية السابقة إلاترديدا لأصداء قديمة، قادمة من بعيد، كادت تفقد تأثيرها لكثرة ما ترددت، فأين لحنك الخاص جدا يا عم عبد ربه، محفوظ، هل لحقك الإرهاق ؟
146- الفعل الجميل:
حدث الشيخ عبد ربه التائه قال:
عثرت يوما على حقيبة تحوى كنزا من المال وفيها ما يدل على شخص صاحبها وعنوانه، وكان من المنحرفين الذين ابتليت بهم البلاد، فقررت إلا أردها اليه. وأودعتها سرا بدروم رجل فقير من أصحابنا عرف بالتقوي، وأنا لا اشك فى أنه سينفقها فى سبيل الله، ثم علمت أنه ردها إلى صاحبها نازلا عن حقه الشرعى فيها، فحزنت وأسفت، ثم توفى صاحبنا التقى الفقير فهرعت إليه وغسلته وكفنته وحملته الى الجامع وصليت عليه، ولما انتهت الصلاة لمحت بين المصلين خلف نعشه الرجل الغنى المنحرف وهو يبكى بحرارة.
واهتز فؤادى وقلت “سبحانك يامالك الملك، تعلم ما لا نعلم”، وربما جاءت الصحوة بإذنك من حيث لا يدرى أحد.
خطبة جمعة قد تكون مفيدة فى غير هذا الموقع، ليس لها أصداء أصلا .
147- دعاء:
أصابتنى وعكة فزارنى الشيخ عبد ربه التائه ورقانى ودعا لى قائلا :
“اللهم من عليه بحسن الختام، وهو العشق”
حين أشرت فى قراءتى لفقرة 126 إلى رفض مسألة حسن الختام باعتبار أنه ليس ختاما هذا الذى نأمل فيه، حتى لو كان الموت، أكد لى ذلك ما حذر منه محفوظ حينذاك من أنه “لا بارك الله فى الهاربين”، لكنـــه هنا يعود ليعرض ختاما آخر، أحسن، وهو العشق، الذى هو بالذات، أو بالضبط : عكس الهرب .
148- العريس:
سألت الشيخ عبد ربه التائه عن مثله الأعلى فيمن عاش من الناس فقال:
– رجل طيب، تجلت كراماته فى المداومة على خدمة الناس وذكر الله، وفى عيد ميلاده المائة سكر ورقص وغنى وتزوج من بكر فى العشرين.
وفى ليلة الدخله جاءت كوكبة من الملائكة فبخرته ببخور من جبل قاف.
وهذه إضافة شارحة، ومفصلة لـ “حسن الختام ” الذى هو العشق، والصدى هنا يتردد ليؤكد شباب الرجل الطيب وهو يتزوج فتاة فى العشرين ويرقص ويغنى فى عيد ميلاده المائة، وفى نفس الوقت لا يقتصر أن تكون الحكاية طريفة ونادرة، وإنما يجعلها نموذجا يمكن أن يحتذى : مثلا أعلى ؟ ولمن ؟ للشيخ عبد ربه التائه شخصيا.
149- “العزلة”
قال الشيخ عبد ربه التائه
كنت أعبر ميدانا غاصا بالخلق فرأيت مجذوبا يضرب بعصاه فى جميع الجهات كأنما يقاتل كائنات غير منظورة حتى خارت قواه، فجلس على الطوار وراح يجفف عرقه، وطيلة الوقت لم يبال به أحد، فاقتربت منه وسألته:
- ماذا كنت تفعل يا عبد الله؟
فأجاب بحنق
- كنت أقاتل قوة جاءت تروم القضاء على الناس ولكن لم يفهم عملى أحد ولم يعاونى أحد.
كان لا بد أن يظهر “دون كيشوت” فى هذه الأصداء، فمن عاش هذه الخبرات، ومن احترم الخيال حتى عامله كالواقع وأكثراحتراما والتزاما، ومن أحب الحياة والناس كل هذا الحب الذى أطل علينا طوال الأصداء، لا بد وأن يلبس قميص دون كيشوت بشكل أو بآخر، ويمسك بسيفه الخشبى عصا يقاتل بها كائنات حقيقية رغم أنها غير منظورة دفاعا عن حق الناس فى الحياة.
وهكذادبت الحياة من جديد فى الأصداء.
150- صوت القبر:
قال الشيخ عبد ربه التائه :
كنت أسير فى طريق المقابر راجعا من سهرة الخمارة.
تسلـل إلى صوت من قبر وهو يسأل.
- لماذا انقطعت عن زيارتنا والحديث معنا؟
فأجبته:
- لا يحلوا لكم الكلام الا عن الموت والأموات، وقد مللت ذلك.
يجدر بنا أن نقارن بين حديث الموتى – هنا- عن الموت والأموات، وبين تمنى عبد ربه التائه للموت الرضي، وندائه للصعود إلى الطرب الأعظم، فمعايشة الموت دفعا إلى الحياة، ذلك الذى شرحه لنا محفوظ فى أكثر من موقع كما أشرنا هو الدافع الرائع لاستمرار زخم الحياة، أما الذين لا يتكلمون إلا عن الموت، فهم الأموات فعلا، بلا عظة، ولا إحياء، ولا جمال .
151- صفحة القلب:
قال الشيخ عبد ربه التائه :
رحت أشاهد قلبى فى مرآة كأسي، فهالنى صفاؤه، وقلت له “من يصدق أنك خفقت بذلك الحب كله؟ .. كيف كنت عالما يموج بالنساء والرجال والأشياء؟
ولم يبق من دليل يا قلبى على حقيقة ما كان إلا دموع تفجرت فى الهواء وتلاشت فى الفضاء.
رفضت هذا الصفاء المزعوم، عندى أن صفاء القلب – هكذا -ليس مطلبا، فالصفاء ليس مزية فى ذاته، بل إنه يكاد يرادف الفراغ والخواء، وهذا ما راع الشيخ لأول وهلة، وكأنه يقول : إن قلبه كان حقيقة قلبه حين كان يموج بكل هذا الحب، وبالرجال والنساء والأشياء، أما هذا الذى بدا صافيا رائقا فهو يكاد يتنكر له.(3)
ثم إنه يعود يبحث عما افتقده، فلا يجد إلا آثارا، أو ذكرى، دموعا تفجرت فى الهواء وتلاشت فى الفضاء
وقد رفضت هذا الجزء الأخير أيضا، لأن الدموع التى هى جزء لا يتجزأ من لحن “الحب كله ” الزاخر بالناس والجمال والنساء، لا تتلاشى فى الفضاء، وإنما هى تذوب فى اللحن الخاص الممتد الذى يعطى للقلب صفاء أكثر شمولا، لا يرتبط بناس دون غيرهم، وإنما يتخلق من نبض الحياة الأشمل الذى يفرز الناس ويتوهج بالوضوح الإيجابى الذى هو الصفاء الخليق برحلة عبد ربه التائه.
فلماذا قبلت يا شيخنا عبد ربه أن يكون تلاشى الدموع فى الفضاء تفسيرا لصفاء أدهشك حتى أنكرته، ألم يكن الأولى أن ترفضه صراحة لتحتفظ بعالم يموج بالحياة : نساء ورجالا وأشياء,
صفاء القلب الإيجابى، عند التكامل الأعلي، مقبول، وهو يظل مليئا بالرجال والنساء والأشياء، أما صفاء القلب الفراغ نتيجة لتلاشى الدموع والناس والأشياء فهو ليس صفاء بل عدما.
فلعلها لحظة دهشة :وصفت لمحة هروب عدمى لا شك أنه مرحلى، وسرعان ما ستتفتق عن حقيقة صفاء يستحقه شيخنا ويمثله غالبا.
152- الثبات:
رأيت الشيخ عبد ربه التائه ماشيا فى جنازة. ولعلمى بأنه لايشيع إلا الطيبين انضممت إلى صفه حتى صلينا عليه معا. ثم سألت الشيخ عنه فقال :
- رجل نبيل وما أندر الرجال النبلاء، أبى رغم طعونه فى العمر أن يقلع عن الحب حتى هلك
شرط الحياة الحقيقية هو ألا ترتبط بمسار هابط، ومحفوظ بعد أن جعل الشيخ الطبيب يتزوج فتاة فى العشرين وهو يرقص ويغنى فى عيد ميلاده المائة(فقرة : العريس 148)، يعود هنا يؤكد لنا أن النبل الحقيقى هو أن تحيا ما شئت دون أن تقلع عن الحب.
أما مسألة “حتى هلك” هذه فقد بلغتنى خارج هذا السياق، ولعله يقصد، حتى ذهب أو حتى اكتفي، فرجل بهذا النبل، وهذا الفيض الحيوى للحب وبالحب لا يهلك أصلا,. قد يرضى ويستأذن، أو يكتفى ويصعد، لكنه يلغى الهلاك من حسبته، والسنين التى تمر عليه لا ينقص بها عمره إذ تمر، بل إن الحياة النبيلة الزاخرة تزيدها السنين حيوية وتفجرا، بمعنى أن مرورالسنين هو زيادة لا نقصان، فمن أين يأتى الهلاك؟ حتى الموت فى هذه الحالة ليس هلاكا، بل صعودا وتكاملا كما ذكرنا.
153- ذلك الحب:
قلت للشيخ عبد ربه التائه
- سمعت قوما يأخذون عليك حبك الشديد للدنيا .
فقال :
- حب الدنيا آية من آيات الشكر، ودليل ولع بكل جميل وعلامة من علامات الصبر.
تكرار لفقرة 55 (وغيرها، إنتظر الفصل الخامس)
لكن الذى يستحق وقفة هنا هو النظر فى كيف أن حب الدنيا علامة من علامات الصبر، الصبر على ماذا؟ والسؤال يكاد يكون لوما على حب الدنيا، وثلثا الرد منطقي، ومتوقع، ومكرر، لكن كيف يكون حب الدنيا علامة صبر؟ صبر على الشدائد طبعا، صبر على المكروه وهكذا، وهنا يبدو بعد خاص، إن هذا الذى يحب الدنيا بحق، هو الذى يعى صعوبتها، ويعرف مفاجآتها غير السارة، ويتحمل إحباطاتها، ويعانى من ظلمها، ومع ذلك يحبها، فالصبر هنا ليس بمعنى التحمل، ولكن يبدو أنه بمعنى التحدى الطيب، القوى، الواثق، فأهلا بها – بالدنيا – رغما عنها وعن كل شيء.
154- عتاب الموت:
قال الشيخ عبد ربه التائه
مرة ضايقتنى فكرة الموت أكثر من المعتاد. كنت أهم بالنوم فخطر لى أن الموت قد يزورنى فى النوم فلا يطلع على الصباح. وسألت الله السلامة رحمة بأناس ينتظرون معونتى فى اليوم التالي.
واستغفر الله طويلا ثم غمغم “شد ما تشربت عمق التسبيح فى مقام الحيرة”.
يبرر محفوظ هنا حب البقاء تبريرا مسطحا، وهو يعود فجأة ليعامل الموت كفكرة بعد أن أحياه شخصا، وغازله حياة، وحاوره حضورا، واحترمه مصيرا جميلا.
فلماذا تراجعت هكذا يا عم الشيخ عبد ربه، وإلى أين تريد أن تستدرج عمنا محفوظ هكذا.
لكن نهاية الفقرة (السطر الأخير) أعمق من بدايتها، فإذا كان ما ينتظره الناس من معونة هو مبرر أن نستمر ونسأل الله السلامة رحمة بهم، فأين مقام الحيرة، وفيم الحيرة التى تستدعى عمق التسبيح هذا؟ لعلها الحيرة بين رغبة خفية فى الاستئذان، فى النهاية (أن هذا كفي)، وبين تسليم معلن بالدور الإيجابى الذى يمكن أن يؤديه الإنسان للآخرين فى أى دقيقة تمنحها له الحياة، أو لعلها الحيرة بين الخوف الحقيقى من الموت وبين تبرير ذلك بتضخيم دوره للآخرين، المهم أن عمق التسبيح يحاول أن يحل الحيرة مهما كانت أسبابها، ومازالت الفقرة أقل من مستوى الأصداء الأخري.
155- الطوفان:
قال الشيخ عبد ربه التائه
سيجيء الطوفان غدا أو بعد غد، سيكتسح النساء والفاسدين، ولن تبقى إلا قلة من الأكفاء. تنشأ مدينة جديدة تنبعث من أحضانها حياة جديدة، ليت العمر يمتد بك يا عبد ربه لتعيش ولو يوما واحدا فى المدينة الآتية.
حلم المدنية الفاضلة بعد الطوفان تكرر فى الأساطير، والأديان، ولم يضف الشيخ عبد ربه هنا جديدا يستحق.فلماذا ؟
ولماذا جمع النساء مع الفاسدين والعاجزين؟ وهل استدرج حتى جعل النساء رمزا للفساد والجعز كما ذهبت بعض أقوال الأديان والأساطير؟
ثم كيف نقبل أن يكون الشيخ عبد ربه بكل هذا التكامل الذى زعمناه، يصالح الموت، ومثله الأعلى أن يتزوج فى عامه المائة، ويعبد الحياة، ويساعد الآخرين، ويرفض النكوص القح، ثم فجأة نراه مثل واحد منا ينتظر الطوفان، ويحلم بالمدينة الفاضلة، ثم قد نفهم أن حلم إغراق الفاسدين بالطوفان هو حلم مشروع، وخاصة حين يستحيل مقاومتهم أو إصلاحم، فلماذا يكتسح الطوفان العاجزين (ناهيك عن النساء كما ذكرنا)
وأخيرا فكيف تحلم يا شيخ عبد ربه بالمدينة الفاضلة، وهى فى الأغلب كما تعلم، مسخ ذو بعد واحد، وأنت الذى رأيناك تحتوى زخم الأضداد كلها، أم أن ذلك كله أنهكك فتمنيت يوما واحدا (لا أكثر) بعيدا عن زخم الحياة الرائعة التى تمثلها (لى على الأقل)، يوما واحدا، وتعود لمدينتنا الحقيقية التى لا شك أنها أروع من المدائن الفاضلة عبر التاريخ، أروع بما علمتنا وتعلمنا
يعنى !!!
156- فى التجارة:
قال الشيخ عبد ربه التائه
حذار .. فإننى لم أجد تجارة هى أربح من بيع الأحلام.
يحذرنا الشيخ عبد ربه من بيع الأحلام,، ولا يحذرنا من أن نحلم
وشتان بين من يعايش الحلم واقعا رائعا لأنه يكتمل به، ومن يقف من الحلم موقف التأويل أوالدهشة أو الفرجة وكأنه منفصل عنه.
ومن يتاجر بالأحلام لا يحلم، ولا يعايش حلمه، بل ولا يفسره أو يؤوله، بل هو يصنع للناس أحلاما على قدر مقاسات جوعهم واحتياجهم، أحلام بالعدل المطلق، وبالمدينة الفاضلة، وبالطوفان (جاءك كلامى يا عمى الشيخ؟) ثم يبيعها لهم بعد أن يرفع علامة أنها “حلم” صنع حسب الطلب.
ولا أكرر هنا بعض شواهد إثبات جدوى هذا التحذير، من أول حكاية الفيلسوف الحاكم، أو الفيلسوف الملك، الذى يحاول أن يضع أفكاره موضع التنفيذ الفوري، حتى نهاية أروع وأطول حلم عرفته البشرية بانهيار الاتحاد السوفيتي.
157- الزمن الحلو:
قال الشيخ عبد ربه التائه
وجدتنى على ربوة أنظر إلى شاشة عرض مبسوطة فى الفضاء، ورقصت فرقة من الفاتنات وغنت على إيقاع كوني، فنثرن من حركاتهن لآليء النور البهيج”
سألت بصوت جهير
- من أنتن؟
فأجبن.
- نحن الأيام القليلة الحلوة التى مرت فى غاية من البهاء والصفاء ولم يشبها كدر.
إعادة لفكرة : ساعة الحظ لا تعوض”
ولكن المسألة بدت هنا منفصلة عن المعايشة الزاخرة، وحل محلها نوع من “الفرجة” (شاشة مبسوطة فى الفضاء) فهى الذاكرة البانورامية تجتر الأيام الحلوة.
ولكن لماذا هى أيام قليلة ؟ هل لأنها كانت غاية فى البهاء والصفاء
ولماذا يؤكد أنه لم يشبها كدر، مع أن حلاوة الأيام لا تكون صافية صفاء مطلقا هكذا إلا إن كانت خدعة، فالأيام القادرة على الخلود فى الذاكرة لإثراء الحاضر والمستقبل هى القادرة على اختراق الكدر لا على إلغائه، وقد سبق أن رفضنا الصفاء المعادل للفراغ (فقرة 151)
على كل، ليس لنا أن نختار، ولا نستطيع أن نرفض القليل الصافى القادر على نثر النور البهيج طمعا فى كثير مخترق قادر على الاحتواء الخلاق.
158- الراقصان:
قال الشيخ عبد ربه التائه
ماروعنى شيء كما روعنى منظر الحياة وهى تراقص الموت على ذاك الإيقاع المؤثر الذى لا نسمعه إلا مرة واحدة فى العمر كله.
فجأة يشرق الوجه المضيء للإبداع فيتردد الصدى كما تردد، مثلا، فى فقرة 134 حين رنت فى وعيى أن علامة الكفر الضجر، لكن لم تباعدت المسافة هكذا.
يرقص الموت مع الحياة
الشيخ عبد ربه يعود يصالحنا على الموت/ الحياة من جديد
لا حياة إلا فى حضن موت يقظ، ولاموت – بمعنى العدم- إلا لحياة أنكرته أصلا.
لكن لماذا قصر تلك الرقصة الحتمية على مرة واحدة فى العمر كله مع أن هذا هو ما يحدث عند كل ولادة جديدة فى مختلف أعمار الفرد المتولدة من بعضها البعض؟
لعله كان يعنى ندرة هذه الصورة فى شكلها المطلق، مع أنها الأصل، ومع أن سر إعادة الولادة فى كل قفزات النمو فى مراحله المختلفة إنما تكمن فى هذا الإيقاع المؤثرالذى نسمعه ونحن نولد، نبعث، باستمرار .
[1]- كنت قد وعدت القارئ أن يكون هذا هو الفصل الأخير, إلا أننى لاحظت من متابعة قراء الفصل الأول والثانى فى العددين الأخيرن أن قليلين هم الذين استطاعوا أن يتتبعوا قراءة ستين فقرة مرة واحدة, فما بالك بأكثر من مائة وعشرين فقرة, لذلك رأيت أن أقسم هذا الفصل إلى فصلين مؤجلا الفصل الخاتمة إلى بعد ذلك. وهذا فى ذاته قد يعطينا الفرصة أن يكون البنط أكبرقليلا فيمكن قراءته, لعل عسي!!
[2] – مدرسة التحليل التفاعلاتى لـ ‘إريك بيرن’ هى المدرسة التى تقدم التركيب البشرى ليس باعتباره من أجزاء متكاملة أو حتى متصارعة، ولا من قوى دينامية متداخلة.، وإنما باعتبار الكيان البشرى مكون من عدة ذوات، كل ذات تمثل شخصا بأكمله، وعادة تتولى إحدى حالات الذات القيادة لسائر الذوات الأخرى فى لحظة بذاتها، ثم يتم تبادل القيادة باستمرار بين النوم واليقظة، بين العمل والترويح، بين الرعاية والاعتمادية، والذوات كثيرة لا تعد، لكن أهم ثلاث ذوات رئيسية هى : الذات الطفلية، والذات الوالدية، والذات الناضجة وقد ظهرت هنا هكذا.
[3]- هذه الفقرة محيـرة من حيث شكلها لا أكثر، ففيها يتكلم الشيخ عبد ربه ثلاث مرات مع ذكر ‘قال الشيخ عبد ربه، وبالرجوع للأصل (بخط المؤلف) وجد أنه فصل بين كل فقرة وأخرى بشرط شرطة صغيرة وسط السطر دون عنوان، فتبرع الناشر وأضاف عنوانين للفقرتين الثانية والثالثة، لكننى فضلت أن أقرأ الثلاثة مجتمعة كما جاء فى النص بخط اليد.