الافتتاحية (2)
الحوار يمهد الطريق
أ. فريد زهران
عرضنا فى حديث سابق كيف أن الفردية هى الآفة التى نخرت بنيان المجتمع المصرى فى العقدين الآخرين، وأوضحنا أن هذه الفردية قد ارتبطت بعاملين أساسيين، الأول هو الاستبداد الذى صادر حق الناس فى المساومة الاجتماعية من خلال جماعات النشاط الأهلى المختلفة (أحزاب – نقابات … إلخ)، والثانى هو هجرة الملايين بصورة عشوائية ومن مختلف الطبقات الاجتماعية إلى بلاد النفط بحثا عن خلاص فردى من الأزمة الإقتصادية التى يعيشها السواد الأعظم من شعبنا، ومن ثم فقد أعتبرنا أن صياغة مشروع – أو مشروعات – جماعية هو المهمة الملحة الملقاة على عاتق المثقفين المصريين اللذين ارتاح أغلبيتهم – بكل أسف – إلى ما وصلت إليه من تحقق فردي.
إن موجة التدين الراهن بكل سماتها العدوانية والتطهرية المغايرة لطبيعة التدين المصرى تعد- فى كثير من جوانبها – وثيقة الإرتباط بانهيار الروح الجماعية ومؤسسات العمل الجماعى فى مصر وما ارتبط بذلك الإنهيار من ممارسات فردية معيبة وغير أخلاقية بدءا من العمل وفقا لنظرية “على قد فلوسهم” وانتهاء بــ “تفتيح المخ”، كما تعد موجة التدين الراهنة من زاوية أخرى إحدى نتائج انتقال بعضا من سمات التدين الصحراوى القادم من بلاد النفط إلى بلادنا مع الفيديو والكاسيت.. والمدخرات المغموسة فى المهانة والباحثة لنفسها عن تبرير يقنع أصحابها – لكى يقنعوا من حولهم- بمواصلة رحلة البحث عن الحل الفردى فى بلاد النفط.. والغربة.
فى هذا المناخ الرديء تصبح الحلقة الرئيسية ونقطة البداية لأى نهضة ممكنة أمر مرهون إلى حد كبير بقدرة النخب المصرية – فى كافة المجالات ومن كافة الاتجاهات – على إحياء روح العمل الجماعى، وذلك من خلال الوصول إلى مجموعة من الرؤى القادرة على إشاعة مناخ من الاستنفار والاستقطاب بحيث يخرج البعض من لامبالاتهم إلى الاهتمام بالشأن العام، ويخرج البعض الآخر من قمقم التحقق الفردى إلى آفاق الانتماء إلى جماعة.
إن صياغة مشروع-أو بالأحرى مشروعات – عمل جماعى يحتاج أولا وقبل كل شيء إلى حوار خصب ومثمر هو أمر مختلف إلى حد كبير عن الحوار الدائر الآن بين النخب المصرية لثلاث أسباب هامة هى بالتحديد:
الأول: أن الحوار الذى دار (ولعله لا يزال يدور!) فى فترة من الفترات (ولا يعلم مداها الزمنى حتى الآن إلا المولى عز وجل وطرفا الحوار فحسب!) بين الدولة والجماعات الإسلامية المتطرفة لم يكن فى حقيقة الأمر سوى نوعا من المفاوضات بين خصمين بهدف الوصول إلى فض اشتباك أو هدنة أو اقتسام النفوذ فيما بينهما، وكل هذه الأهداف تندرج تحت عنوان التفاوض وليس الحوار حيث لا تفترض الأطراف المشاركة فى مثل هذا الحوار أنها ستتعرف على وجهة نظر الطرف الآخر كما لا تفترض احتمال التأثر بوجهة نظر الطرف الآخر أو التأثير فيه حيث يصبح الوصول إلى حلول وسط وتغير مواقف هذا الطرف أو ذاك مرتبط بميزان القوى والمصالح وليس بالإقناع والإقتناع.
من ناحية أخرى ينبغى أن نشير هنا إلى أن هذا “الحوار” – أو بالأحرى المفاوضات – بين الدولة وجماعات التطرف الإسلامية قد جرت فى إطار من السرية والكتمان، وربما يشير ذلك إلى خجل طرفا “الحوار” من إعلان تورطهما فى عقد صفقات المصالح المتبادلة فيما تتشدق مواقفهما المعلنة بالمباديء “الدينية” أو “القومية” العليا التى تمنعها من تقديم أى تنازلات لــ “الأعداء”، ونحن من جانبنا نرى أن الحوار الجاد الذى يتوخى المصلحة العامة – شأن المفاوضات الجادة التى تتوخى المصلحة العامة أيضا – لا يمكن أن تتم بصورة سرية وفى غيبة القواعد العريضة لأطراف الحوار – أو المفاوضات – بل ويحتاج نجاح الحوار – أو المفاوضات – إلى عيون الرأى العام الساهرة ومشاركته النقدية المفيدة – مهما بلغت حدته – فى تصحيح المسار وضبط الإيقاع.
الثانى: أن الحياة السياسية فى مصر تنقسم ومنذ الحرب العالمية الثانية – وحتى الآن – إلى أربع اتجاهات فكرية وسياسية هي: الماركسية، والقومية، والليبرالية، والإسلامية، وقد أجادت الدولة منذ 1952 – وحتى الآن – الاستفادة من كل هذه التيارات إما بــ “سرقة” بعضا من شعارات هذا الاتجاه أو ذاك – حسب الحال والهدف – أو باستخدام هذا التيار أو ذاك ضد تيار أو تيارات أخرى، والملاحظ – بصفة عامة – أن الصراع السياسى الدائر بين هذه الاتجاهات الفكرية والسياسية هو صراع بين تيارات شاخت أفكارها ورموزها وأصبح ما تتبناه وتدافع عنه قديم إلى حد كبير، وفقير إلى حد مفزع، ومكرر إلى حد ممل، وتفتقد هذه التيارات إلى أفكار جديدة أو حتى رموز شابه فتطل علينا ملصقات دعايتهم الانتخابية برموز رحلت منذ سنوات مثل حسن البنا وسعد زغلول وعبد الناصر، والحوار بين هذه التيارات هو فى أغلب الأحوال حوار بين “طرشان” أو نوعا من التراشق بالكلمات اللهم فى بعض المناسبات العارضة التى يتوصل فيها اتجاهان – أو أكثر – لصفقة عارضة أو تحالف مؤقت ضد طرف أو أطراف أخري.
ويمكننا أن نصف حوار الطرشان الدائر بين التيارات الفكرية فى مصر بأنه حوار “ماضوي” وليس “مستقبلي” حيث يدور الحوار فى الأغلب بين رؤى تم صياغتها فى فترات تاريخية سابقة واستهدفت بالأساس تحقير الآخر واستبعاده، ومن ثم فإن هدف “قصف الخصم بالكلمات” إنما يستهدف “محاصرته” و “هزيمته” ولا يستهدف التأثير فيه.
الثالث: أن هناك حوار آخر منفتح يدور فى المجتمع المصرى الآن خارج أطر حوار الطرشان الدائر بين التيارات الفكرية الماضوية، وهذا الحوار البناء والمنفتح والمستقبلى لا يعيبه سوى عدم اكتماله، حيث يبدأ هذا الحوار – غالبا – بحدث يفجر الطاقات الإبداعية الفردية لمجموعة من المفكرين التى تشتبك فى سجال بناء ومثمر، ولكنه يظل حوار مجهض ومبتسر لأنه سرعان ما يخبو مثلما بدأ دون أن يصل إلى شاطيء التبلور.
إن إنضاج الحوار والسهر على الارتقاء به وبلورته بعد أن تتعمق المعرفة وتتضح أبعاد القضية المثارة وكذا مواقف كل الأطراف هو مهمة تحتاج إلى جماعات تعى أهمية ذلك وتسعى من أجله، وإلقاء هذه المهمة على عاتق الأفراد والمبادرات والاجتهادات الشخصية لن يصل أبدا إلى ما هو مطلوب منه.
من خلال كل ما تقدم يتضح أن شروط الحوار المستهدف هي:
أولا: أن يدور الحوار -وليس المفاوضات! – بين أطراف يتوفر لديها درجة مناسبة من الثقة والود والاحترام المتبادل، وبالتالى من غير المتوقع أن تندفع كل الأطراف للدخول فى حوار موحد، بل من الطبيعى أن يكون هناك أكثر من دائرة حوارية بشرط أن يعكس هذا التعدد خلاف موضوعى بين هذه الدوائر وليس مناخ شللي.
إن توفر هذا القدر الضرورى من الود والثقة والاحترام هو ما يضمن أن لا يكون الحوار “حوار طرشان” وهو ما يضمن أن يكون هدف الحوار هو التعرف العميق على وجهة نظر الآخر مع عدم استبعاد احتمالات التأثير أو التأثر أو الوصول إلى حلول وسط لكثير من القضايا موضع الاختلاف بدلا من أن يكون هدف الحوار هو استبعاد الآخر وتحقيره وهزيمته، حيث يصبح الحوار فى هذه الحالة – الأخيرة – لا معنى له سوى إضاعة الوقت من خلال تحقيق انتصارات صغيرة لا يسعد بها إلا من غابت عنه رؤية المعارك الكبيرة التى ينبغى أن نخوضها فى سبيل التحديث والنهضة.
ثانيا: أن يتطلع هذا الحوار إلى المستقبل حتى وهو يناقش الماضى الذى لابد من مناقشته بعمق حتى يمكن تجاوزه.
ثالثا: أن يهتم المثقفين المصريين – أو بعضا منهم – باستكمال الحوار المجهض والمبتسر، وأن يدفعوا بالتدريج وبشكل قصدى فى اتجاه الوصول بالحوار إلى أقصى درجات الوضوح والعمق والاكتمال حتى يتسنى للاستنفار أن يأخذ مداه وحتى تستطيع كل الأطراف أن تقدم نفسها بأعمق صورة ممكنة لكى يتمكن الجمهور الواسع من المثقفين من القيام باختيار حقيقى بين بدائل حقيقية قد شرحت نفسها جيدا.