إعادة قراءة مصطلح شائع:
التطـرف
[ضرورة التمييز بين التطرف والتعصب]
التطرف هو نقطة قصوى فى حركة مستمرة، وهو بذلك ضرورة حتمية كنقطة فى حركة ، ولكنه يمكن أن يكون كارثة مخيفة إذا توقفت الحركة عند هذه النقطة القصوى والحالة الأخيرة هى التعصب والجمود، وليست التطرف.
وفرط هجومنا على التطرف ينسينا ضرورته المرحلية لاستمرار الحركة، وهذا الهجوم يحمل معانى الخوف من الاختلاف أساسا ، فالحوار يحتاج الى طرفين: طرف أول، وطرف آخر، إذن فكل محاور يقف على طرف القضية فى مواجهة الآخر، وهذا أساس مبدئى لبداية الحوار. فالتطرف” حركة” و”آخر”، بل إن علاجا يسمى”علاج الجشتالت” مبنى على أساس تعميق أحد طرفى الموقف المائع فى الصراع حتى تحدد معالمه، أى يصبح شكلا متميزا عما سواه، عن البديل عنه، أى يصبح متطرفا فى حضوره، وبالتالى يتحدد الشكل من الأرضية، ثم يتبادل الشكل بكل ما فيه التحديد مع الأرضية، وبالتالى يستطيع الإنسان (أو المريض ) أن يحدد موقفه من”طرفي” أى قضية أو صراع، ثم يختار بدلا من التأرجح الغامض إلى ما لا نهاية.
وإذا صح هذا التصور فإن المرفوض ينبغى أن يكون التعصب الذى هو”جمود” و”انفراد” وصمم وتشنج .
والتطرف عادة ما يكون بالنسبة للمواقف و الأهداف … أما التعصب فهو عادة ما يكون بالنسبة للوسائل و الأشخاص.
نبينا الكريم كان متطرفا حين قال معنى: والله لو وضعوا الشمس فى يمينى والقمر فى يسارى على ان أترك هذا الأمر أوأهلك دونه ما فعلت، ولكنه لم يكن متعصبا حين قال:..ومن دخل بيت أبى سفيان فهوآمن.
إذن فمن الشرف والفخر ان أتطرف ، ومن الجبن والعار أن أتعصب.
من الشرف ان أتطرف فى توحد اتجاهى إلى وجه الله أو يقينى بحتم الإيمان كضرورة بيولوجية. ومن العمى أن أتعصب لطقوس مذهب دينى بذاته باعتباره الصواب الأوحد فى كل زمان ومكان.
وكذلك من الشرف أن أتطرف فى تحيزى للحركة المتصاعدة ضد السكون الميت المستسلم، ولكن من المخجل أن أعتبرالحركة المادية كما تصورنا أنه هكذا وصفها ماركس أو طبقها ستالين هى الطريق الوحيد الموصل.
وعلى نفس القياس قد يكون من الكرامة أن أتطرف فى دفاعى عن الحرية ضد ماسواها، ولكن من الغباء أن أرى الحرية فى شكل ديمقراطى صورى كل مايفعله هو أن يتيح الفرصة لمن ينوب عنى أن يتولى شئونى دون الرجوع إلى إلا لأعيد انتخابه فى ظروف ليست فى تحكمي.
وقد سبق أن عبر أستاذنا العقاد عن روعة التطرف وجمال وهجه الباعث للحياة حتى ولو كان تطرفا فى التشاؤم، وذلك وهو يدافع عن سوداوية المعرى وشوبنهاور بالمقارنة بالبلادة وعدم الاكتراث اللذين يسودان العصر.
وعلينا إذن أن نراجع حماسنا لمسألة”خير الأمور الوسط”، فمنطقة الوسط ليست منطقة استقرار ولكنها منطقة انطلاق، حتى فى لعب الكرة فإن قيمة منطقة الوسط هى فى ما ينتج عنها لا فيما يتم فيها، أى أن منطقة الوسط إنما تصنع الألعاب التي-فى النهاية – لا بد وأن تتجه إلى طرف الملعب أى إلى المرمى، أما الاحتفاظ بالكرة فى منطقة الوسط فلا يمكن أن يحقق شيئا. ألا يقع أى مرمى فى”طرف” الملعب هنا، أو هناك ؟
ولا بد أن هناك معنى آخر لمسألة أن أمة المسلمين أمة وسطا، لعله معنى تاريخى أوتوليدى مبدع، أو غير ذلك مما يليق بالإسلام الحقيقى، لأن أغلب المسلمين الذين فرحوا بهذه الصفة راحوا يروجون لموقف مائع بين هؤلاء وأولئك ، موقف دين نصف نصف.
إن ختم النبوة هكذا بالإسلام ربما يجعل أمة المسلمين وسطا بين مرحلة كانت الحياة البشرية فيها تعتمد أساسا أو تماما على وحى تفصيلى، ومرحلة تحمل الإنسان مسئولية إبداع حياته من وحى إلهى متجدد ، وليست وسطا بمعنى الاعتدال الماسخ.
ولعل من أسطح من أكد على معنى الوسطية السلبية هو توفيق الحكيم فيما أسماه”فلسفة التعادلية”، التى تحمل قدرا من الرضا والهمود يتناقض مع كل إبداع حقيقى .
ولكن هذا الدفاع عن التطرف لايعنى فتح الباب للصياح أو التشنج فرحا بالوقوف عند طرف ما، بل هو دعوة لإعلان ضرورة تحديد ملامح أى موقف كبداية لحوار محتمل، أو كنقطة انطلاق فى حركة حتمية دفعا للنمو.
فالمسألة كلها ليست فى التطرف وإنما فى الجمود عند طرف ما أو بعيدا عن طرف ما.
ثم إن الجمال كثيرا ما يظهر فى وضوح معالم الملامح نتيجة لتحديد التضاد، فالحسان اللائى فى عيونهن حور ( شدة سواد وبياض العين معا ) يقتلن بنظراتهن عشاق الجمال أما”زرق العيون عليها أوجه سود” فهو التلفيق القبيح .
ولا بد أن نعترف أن مرحلتنا السياسية الراهنة قد اضطرتنا الى القبول بإعلاء قيمة”الوسط” أكثر مما استطاع أن يعطى ، ولابد أن نتوقع أنه متى أتيحت فرصة أكبر ، فإن التفاعل الحى سيفرز من الوسط ما يميز المسيرة ويسمح بالحوار، فلاشك أن مسيرتنا الديمقراطية فى أكثر من مجال تفتقر إلى وهج التطرف كمرحلة أكثر عطاء من ميوعة الوسط .
بل إن حركة عدم الانحياز قد ماتت لأنه لا يوجد شيء يوصف بالعدم ويبقى ، حتى لو كان العدم هو عدم الانحياز إلى أحد القطبين المتصارعين على استغلالنا أوامتلاكنا، ولو كانت هذه الحركة هى حركة انحياز لما ليس كذلك ، لبقيت وتخلق منها الجديد الذى ما زلنا ننتظره.
وعلى كل حال، فلا بد من الاعتراف بأن الانسان فى لحظة ما لابد وأن يكون متحيزا لجانب ما، وعى بذلك أم لم يع، ومادام الأمر كذلك فالأفضل له أن يعرفه فيعلنه ليستطيع أن يتقدم إلى مزيد من التعرف على أبعاده .. وعلى نقيضه بالضرورة، وهنا يصبح تحركه منه ، بعيدا عنه، والعودة إليه مختلفا عنه ، يصبح كل ذلك محتملا ورائعا وبهيجا.. ومؤلما فى نفس الوقت ، أما إذا أنكر تحيزه – على نفسه أساسا – فالخوف كل الخوف أن يكون ذلك تكئـة لأن يتمسك بهذا التحيز فى الخفاء فينسحب من الالتزام، ويصير” كل الناس حلوين” وتموت الحركة تحت وهم الحياد .
إذن فالمطلوب أن نفرق بين التطرف والتعصب ابتداء.
كذلك فإن من الأكرم أن نحدد موقفنا أمام أنفسنا على الأقل بأكبر درجة من الوضوح، فيكون الأمل بعد ذلك ، إذ نتطرف، أن نكون قادرين على تغيير مواقفنا ومواقعنا من خلال تطرف الطرف الأخر . (شريطة أن يكون كل من تطرفنا وتطرفه من نوع التطرف الحركى إن صح التعبير).
وبعـد:
فدعونا نتمنى حوارا لا يأخذ فيه طرف السلطة ( أى سلطة ) تميزا يسحق به الطرف الأخر تحت ستار شجب التطرف دون تمييز بينه وبين التعصب .
ودعونا نأمل فى مواجهة حية خارج عباءة ميوعة التلفيق الساكن، حتى لاتضيع طاقة التطرف اللازمة لدفع العجلة تحت وهم التسوية التصالحية التى أسميها تقبيحا”الحلوسط”. .
ثم دعونا نعترف أن التطرف الحركى المتغير هو طريق صعب بعد طول ما اطمأننا للموقف الوسط المائع فى انتظار فرج ما.
إن هذا الموقف المائع قد أفقدنا حدة النظر شرف المواجهة.
وحدة النظر، شرف المواجهة ليسا مرادفين للصوت العالى أو الحماس الزائد،
إن المسألة لصعوبتها لاتحلها ( أو حتى توضحها) مقالة مشحونة بصدق الأمانى ، وهذا العرض المتواضع إنما يأمل أن يحث على إعادة النظر فى هجومنا المتواصل على ما أسميناه التطرف ، حتى كدنا ننسى العدو الأصلى التعصب الجامد الغبى الأعمى، إن هذا الهجوم على التطرف لا يدفعنا إلى ممارسة شرف الحيرة ومسئولية الإبداع بل يتركنا وسط ميوعة التلفيق وخدر الرضا السلبي
ومهما أعدنا وكررنا فإن الفروق بين الحيرة المشلة وبين تحمل الغموض ، وكذلك الفروق بين الحلوسط وتوليف المتناقضات تظل فروقا صعبة التمييز، ليس هذا مجالها، فنكتفى بالإشارة إلى أنه:
فى الحيرة المشلة يحاول أحد المعطيات أن يطرد الآخر بلا طائل، وبالعكس يحاول المعطى الآخر أن يقوم بنفس الاستبعاد، وتكون النتيجة بلبلة ، فإعاقة، فتوقف (الشلل)
أما تحمل الغموض فهو القدرة على استمرار تلقى الإشارات البادية التناقض لاحتمال أن فيها ما يتجاوز هذا التناقض إذا اندمجا فى كل أكبر
كذلك فإن الحلوسط هوحل ينتقص من كل جانب بعض معالمه ليحشر ما تبقى فى صيغة متعسفة، فهو بمثابة معادلة خطية ماسخة تقول: كذا -(ناقص) كذا = كيت
أما توليف التناقضات فهى عملية أقرب إلى التداخل: كذا X كذا يخلقان ما يشمـلهما دون تنافر مثلما كانا من قبل.
(وتلزمنا هذه الخاتمة بالعودة حتما فى عدد قادم).