سورين كيركجارد والطب النفسى الوجودى
د. إيهاب الخراط
رجل آخر من الدانمرك، غير أمير شكشبير الأشهر: هاملت، هو الذى سبر غور أزمة الوجود” أكون أو لاأكون” ثم طرحها على العالم بصورة حادّة القسوة، لم يستطع الفكر الفلسفى أن يتملص منها تماما، حتى يومنا هذا.
سورين آبى كيركجارد(1812 -1855م) الفيلسوف الوجودى المؤمن، تجرأ على السخرية من وتحّدى النظم العقلية الصماّء والمستريحة فى الفلسفة وفى الدين. وقدّم رؤية فلسفية جديدة، وحلّل بدقّة تنم عن فهم حقيقى، كما هاجم بعنف الفلسفة العقلانيّة القائمة.
وإن كان كيركجارد أساسا صاحب رسالة دينيّة عرضها بشكل وجودى فقد كان من تلاميذه وممن تأثر به بعد ذلك، وجوديون مؤمنون كجابربيل مارسيل، وكارل ياسبرز، وآخرون أخذوا فهمه للعالم وللوجود بعد أن أفرغوه من محتواه الدّينى وقادوا الوجودية الملحدة بعد هذا كها يدجر وسارتر وكامى.
لقد حصل كيركجارد على درجة الدكتوراة فى الفلسفة فى سن الثامنة والعشرين، لكنه رفض أن يستخدم نبوغه هذا فى خدمة الصالون الفلسفى القائم، لقد هاجم هيجل والهيجيلية:” إنّ هيجل يقدم لنا مثلا على المهزلة الفلسفية التى فيها تفكّر بدون فكر، إنّه يشيدّ قصرا عقليّا رائعا، لا يعيش هو فيه” وأيضا:” الذات عند هيجل تصبح فى النهاية عارضة، فالحقيقة كما لا يمكن أن تعرفها إلا الذات تضيع حتما”
ولا يسلم الكوجيتو الديكارتى أيضا من التحدىّ: إذا كنت أنا أفكرّ، فما العجب إنى أنا”
كيركجارد لا يكمّل الخط الفلسفى: ديكارت – كانْت – هيجل….. إنما يقلب الصفحة ويبدأ من جديد، فالمشكلة الفلسفية عند كيركجارد ليست هى” الموت” مثلا، بل المشكلة الحقّة هى” أنّى أنا أموت” إنهّ ينقل الفلسفة من روح هيجل الكلّية المطلقة التى تتبّدى فى الدولة وديالكتيكه الصاعد….. الخ إلى الفرد، إلى الواحد المتفرد الذى يقبل أن يواجه نفسه والموت والخطيئة واليأس والوحدة ورعب الحرية وكتابه”حاشية نهائية غير علميّة” هو نقد محكم للفلسفة العقليّة وخاصة عند هيجل ، وتمجيد للخبرة الذاتية كطريق لا مفّر منه إذا أردنا الوصول للحقيقة.
ومهما اختلفت مع فلسفة كيركجارد، فلا يسعك إلا أن تُعجب بجمال أسلوبه الأدبى، حدّة المعانى وشدّة لمعانها، بل إنّ تقمصه لشخصيات أبطاله يجعل الناقد الأدبى يكاد يجزم بأن كاتب رسائل القاضى”فلهلم” فى الجزء الثانى من كتاب كيركجارد الأشهر
“إما….أو” والجزء هو شخص مختلف تماما عن الرجل العابث اللاهى كاتب الجزء الأول من الكتاب. لقد استخدم كيركجارد الأدب فى عرض أفكاره عن مدراج الوجود الثلاثة، ثم استخدمه من بعده الفلاسفة الوجوديّون، خاصّة سارتر، كامى، لعرض وجوديتهم الخاصة.
مدراج الوجود عند كيركجارد:
ومدراج الوجود عند كيركجارد أولها المدرج الحسّى والثانى هو المدرج الأخلاقى وأخيرا المدرج الروحى، وهو أعلاها.
والرّجل الحسّى أو الجمالى يمثله خير تمثيل دون جوان، وخاصة فى أوبرا موتسارت الشهيرة، وهدف هذا الرجل هو اللحظة الحاضرة، ولا يوجد معنى حقيقى للذكرى عنده، ولا قيمة للأمل فى المستقبل، إنما المهم هو المتعة القريبة، والمرأة عنده ليست هدفا،وإنما الهدف هو” الغزو” والرجل الحسّى لا يتحقق أبدا كإنسان فى رأى كيركجارد، بل تتحقق مجموعة متتابعة من المتع واللذات فى لحظات معاقبة، أماّ هو فيضيع حتما، والملل هو العدوّ اللدود لهذا الرجل، فهو يضطر فى حربه الضروس ضد الملل أن يهرب من ذاته فيما يشبه الدوران المتّصل فينتقل من المدينة إلى الريف ومن عمل إلى آخر، ومن غزو عاطفى إلى آخر، وهلمّ جرّأ وهو يجرب إمكانيات عديدة، لكنّه” لا يلتزم” أبدا بأى اختيار، ولا بفعل حقيقى، وتظاهره بالفضيلة يخفى افتقاره الداخلى لها.
ورجل الجمال لن يمكنّه الانتقال من هذا المدرج إلا إذا وقع نهائياّ فى قبضة العدوّ اللدود: الملل، فيمر بأزمة يأس يكون مظهرها الخارجى هو السخرية، ورجل الجمال هو أيضا ذلك المفكّر العقلانى الذى “يتمتع” بالعلم وغزواته الموازية لمغامرات زميله، لكن لا يلزم نفسه أبدا بموقف، ولا يتحمل مسئولية قرار أو يلتزم بمبدأ واحد، كما لا يمكنه( سواء كان عقلانيا أو دونجوانياّ صرفا) أن يتزوج بالمعنى الحقيقى للزواج .
أماّ الرجل الأخلاقى، فهو لا يخشى التكرار، بل أحيانا ينشده لأنهّ يحقق التوسط فهو رجل المسئولية والالتزام هو الزوج والمواطن الملتزم بمجتمعه وبالإنسانية عامّة إذا ارتفع واتسع وعيه، وهو الرّجل الفاضل الذى وصفه أرسطو، ذلك الذى يؤمن بان الشجاعة هى الوسط بين التهوّر والجبن، والدّين عند هذا الرّجل ليس إلاّ مبادئ يلتزم بها، وهو قادر على ان يلتزم بالمبادئ فعلا، لا ظاهرا فقط، ولكن عليه بالرغّم من ذلك ان يمّر بأزمة وجودية أخرى قبل أن يعرف فعلا المدرج الأعلى، عليه أن يمر بياس فى صورة عبث، وعندئذ يقر بيأسه الكامل وبخطيئته، ويكون مستعداّ لأن يلتزم لا بمبادئ ووصايا، لكن بالله نفسه.
وهو بهذا يتدّرج إلى رجل الرّوح.
التدين عند كيركجارد :
فالتدّين عند كيركجارد نوعان: تدّين” المحاثية” وهو النوع من التدين الذى يظن أن الله موجود” حيث” نحن بالمعنى الوجودى للكلمة، وتدين” الابتعاد” وهو الذى يدرك أن الله منفصل تماما عن الوجود الإنسانى ، ذلك الوجود المفعم بالشوق إلى الله، ولكن العاجز تماما عن الوصول إليه، وعند هذه النقطة يكون الإنسان قادرا على تقبّل عمل”نعمة” أو”لطف الله” ويصرخ كيركجارد بأن المفارقة paradox الموجودة فى المسيحية( الله يصير إنسانا فى المسيح) لابد أن تكون الحل الوجودى الوحيد لأزمة الإنسان، وهذا الحل لايمكن أن يدركه فعلا من يعيش المدرج الحسّى أو الأخلاقى أو من يرضى بتدّين المحايثة.
وقبل أن نترك فكرة مدراج الوجود، لابد أن نوضح أن كيركجارد لم يعتبرها مستويات زمنيّة للنمو يستبعد بعضها بعضا فى تصاعد مرتب، بل هى انماط فى الوجود حاضرة كلّها بمعنى من المعانى ،وتنفذ وتشيع فى الشخصية فى عمليّة تحولها، فالأخلاقى لا يستبعد الحسّى استبعادا نهائيا، لكنّه يتخطاه بصفته المطلقة، إنما يظل المدرج الحسّى حاضرا بصورة ما، حتى عند اكثر الناس تطابقا مع الرجل الأخلاقى.
كيركجارد والوجوديون الأخرون:
وهذا النسق الفلسفى الذى تطرحه فلسفة كيركجارد هو ذاته نسق فلسفة سارتر وكامى، فيماعدا النقطة الأخيرة بطبيعة الحال، فالوجوديون الملحدون يقرّون باليأس الكامل ويرفضون أى تدخل من الله، ولا يقبلون أى حل من فوق، وعندهم أن الحلّ الشريف هو فى أن يقبل المرء يأسه ثم يعيش حرّا.
كيركجارد والكنيسة:
وبالرغم من المضمون الدينى الواضح لرسالة كيركجارد الفلسفية، فهو لم يهادن كنيسة الدانمرك، بل هاجم رموزها أشخاصا وأفكارا، بل كان كتابه” هجوم على العالم المسيحى” نقدا للكنيسة فى العالم كلّه بسبب تركها للمعاناة وروح الاستشهاد وقبولها تحويل المسيحية إلى عقلنة مريحة ومتأقلمة مع المجتمع، بدلا من قبول التحدّى والتاكيد على فرديّة الخبرة الروحية وقيمة التألم فيها.
الأرض المشتركة مع الطب النفسى:
جوهر ثورة كيركجارد هو أنه نقل الفلسفة التجريدات النظرية إلى عالم الفرد، إلى الإنسان الملموس عيانيّا، وبعدها قام أطباء النفس بثورة مماثلة فى الطب النفسى:
يقول بنزقاجنر:”إن التربة التى يجب أن يضرب فيها الطب النفسى جذوره كعلم، ليست هى تشريح المخ ولا علم وظائف الأعضاء أو علم الطبّاع ولا هى علم الشخصية لكنهّا الإنسان كذا”
ويقول ورلو ماى، وهو طبيب نفسى وجودى آخر فى هجوم على نظريات فرويد يذكّرنا بهجوم كيركجارد على نظريات هيجل:”إن التحليل النفسى يعبّرنظريات المعالج الواعية أكثر مما يعكس وعى المريض”
مراحل النمو وأزماتها عند كيركجارد وفى الطب النفسى:
طبق كيركجارد فهما تطوريا – مراحل وأزمات النّمو – على نفس الإنسان قبل فرويد وإريكسون، إلا أننا لا يمكننا أن نلمح ملامح المعاناة الفردية – بالمعنى الوجودى لكلمة ـ عند فرويد أو إريكسون، فهما أقرب إلى البناء العقلى، الذى يؤكد على عناصر الحتميّة اكثر من عناصر حريةّ الاختيار وأزمة القرار، فرغم أن القضية عند مدرسة التحليل النفسى هى نفس الانسان وليست التاريخ او الفكر المطلق، غلا أنك ترى فيها عقلانية هيجل أكثر مما ترى فيها وجوديّة كيركجارد.
على حين أنه لا يمكنك إلا أن ترى عند إريك بيرن فى نظرية حالات الأنا ego states وخاصة الشق الديناميكى منها تأثر بمدراج كيركجارد بقدر ما يظهره تأكيد فرانكل مثلا على إرادة المعنى، ومحاولة تجاوز الفراغ الوجودى ففرانكل يعلن”إن الإنسان لا ينحصر فى اهتمامه أبدا بذاته بالأساس، بل بسبب طبيعته المتجاوزة لذاتها، فإنه يسعى دائما لخدمة قضيّة أعلى من نفسه، أو هو يسعى لحب شخص آخر” وفرانكل بذلك – مثل كيركجارد – يتجاوز مقولة ماسلو عن تحقيق الذاتself actualization كهدف فى ذاته، فكل من فرانكل وكيركجارد يعترفان بأن تحقيق الذات لا يصلح هدفا على الإطلاق، إنما تحقيق الذات عندهما يتم بصورة عرضية أو ثانوية فى اثناء السعى متجاوز لذاته وأعلى منها.
الأزمة:
الوجود الإنسانى عند كيركجارد،” فى صميمه عذاب، وعذاب دينى على وجه الخصوص”و” الانتصار معناه الظفر باللانهائى فى هذا العالم المتناهى معناه التألم والقلق الوجودى المشوب بانعدام اليقين هو الأمارة الصحيحة على وجود العلاقة بين الأنسان والله.
القلق والألم، والسأم حتى الموت، والعبث، هم أصدقاء كيركجارد ومفاتيح التحول والنمو عنده، وهم علامات الانتقال من مستوى أو مدرج وجودى إلى آخر اعمق أو أعلى.
ويفسر رولو ماى هذه النقطة بقوله” الوجود الأصيل هو ذلك النّمط الذى يضطلع فيه الإنسان بمسئولية وجوده الشخصى، ولكى يعبر الإنسان من الوجود المزيّف إلى الوجود الأصيل عليه أن يعانى مأساة اليأس والقلق الوجودى، أى قلق إنسان يواجه حدود وجوده بكل ما يعنيه هذا الوجود: الوجود: الموت والعدم وهذا ما يسميه كيركجارد: بالسأم حتّى الموت.
المعنى والغاية فى سيكوباثولوجية الأمراض النفسية:
لقد أثرى الطب النفسى الوجودى فهمنا للمرض النفسى من منظور سيكوباثولوجى، وذلك من خلال محاولته تخيّل الوجود الخاص الذى يعيشه كل مريض.
يقول بنز فاجنر واصفا مريض الهوس: ماهى طريقة الوجود فى العالم بالنسبة لمريض الهوس؟ إن العالم بالنسبة له هو عالم الاحتفال والحفاوة، عالم انتصار الغريزة على كل العقبات والقيود، عالم يميل إلى تلافى المنطق والصعوبات الواقعية، إنه عالم مباشر وفورى، عالم التفاؤل ذاته، ولا يمكن ألا يذكرنا هذا الوصف بوصف كيركجارد لدون جوان المنتصر فى غزواته، رجل الحس والجمال غير الملتزم.
ويصف بنز فاجنر سيكوباثولوجية الفصام بقوله” إن عالم الفصامى يصير متقلصا ومسطحا، وتسيطر عليه تماما بضع موضوعات متواترة، لقد فقد الفصامى حريته، وصار يوجد ككيان سلبى، خاضع لقوى خارجية، بدلا من أن تحركّه دوافعه الدّاخلية” وهكذا يرى الوجوديون الفصامى شخصا فقد حرّيته حتى طمست معالم وجوده( فى حين يركز فرويد على انغلاقه فى ذاته).
وهذه النظرة توازى – بشكل ما – ما يعبر عنه كيركجارد إذ يحذر من ضياع الفرد الذى لا يجسر على مواجهة الألم فى تيار المؤثرات الخارجية.
وفى حين يحترم الأطباء النفسيون الوجوديون الاكتئاب كمرحلة وأزمة نمو، فإن الاكتئاب المرضى عندهم ليس مجرد زيادة كمية الاكتئاب الحسى” ، بل هو بالأحرى مختلف عنه نوعيا، فهو سكون عاطفى، هو تعليق للوجود وإغماء للزمن، أى أن الاكتئاب الفوّار بالأزمة وبالمعنى وبالحركة هو غير الاكتئاب المتجمّد فى دلالته وتفسيره، يتاكد هذا الاختلاف عند كل من كيركجارد، والطب النفسى الوجودى على حد سواء.
الحضور الوجودى المتبادل فى مسيرة العلاج:
لقد اختلفت كتابات كيركجارد الفلسفية والدينية عن مثيلاتها بسبب شدة حضور الكاتب نفسه فى سطور كلماته، فهو بحضوره الحى هذا لا يرسم نظريّات جميلة ومنطقيّة فى الهواء، ولكنّه بوعى كامل يرفض أن يدّعى الموضوعيّة، ويقبل أن تنقل معاناته هو الشخصيّة بلا مواربة فى فلسفته وتعليمه، وهو فى كتاباته يواجه القارئ فردا لفرد( وجها لوجه) بين دفتى الكتاب” أن تساعد شخصا معناه أن تضع نفسك محلّه، وتستوطن فى وجوده، أن تعرف الوجود الذى يحيا فيه”
وهذا النوع من التواصل هو الذى يمثل سر الشفاء فى العلاقة الناجحة بين معالج ومريض، فالفشل فى العلاج من منظور الطب النفسى الوجودى لا يعنى تقصيرا فى تكنيك علاجى بقدر ما يعنى” الإخفاق بين وجود ووجود آخر” أى العجز عن إثراء التواجد “معا” بكل ما يمكن أن يأتى به هذا اللقاء، وكل ما يحمل من وعود من حرارة ونور وقوّة مبدئية تجعل أى علاج ينجح، قوة كفيلة بتحرير الإنسان من الانعزال الأعمى، وإعداده لحياة من التواصل.
والحرّية التى مجدّها كيركجارد باعتبارها أصدق ما فى الوجود ليست بعيدة تماما عن الحرية التى وضعها”لانج” هدفا أساسيا للعلاج النفسى، فالمعالج النفسى عند لانج، ليس عميلا للمجتمع يقوم إعادة التأهيل وفقا لقيم مجتمع ربّما يكون أكثر مرضا من المريض نفسه، بل إن الإنسان هو فى تأكيد حرية اختياره فى نوع وجوده وفى إعلان هذا الوجود بطريقته الخاصة.
خاتمة:
كتب كيركجارد فيما يظّن النقاد أنه حديث عن نفسه إن طهارة قلبه جاءت من كونه لم يُرد إلا الشئ الضرورى الوحيد، والاتهام الذى وجّهه له معاصروه ولم يرفضه هو ولم يحفل به، هو عينه المديح الذى ستزجيه إليه الأجيال المقبله: إنه لم يخفف منه، ولم يساوم….. لقد مات، فى نظر المؤرخ بعلّة قاتلة، ومات فى نظر الشاعرمن شوقه الملتهب إلى الأبدية”.
تعقيب ودعوة
وهكذا يفتح الطبيب الشاب إيهاب الخراّط ملف الوجودّية المؤمنة من جديد، فى محاولة لربط هذا الاتجاه الذى مازال غامضا فى مجتمعنا خاصّة، يربطه بالمفهوم الإيجابى فى ممارسة الطب النفسى. لكننا نحسب أنّ الأمر هكذا( بالصورة التى عرضها الطبيب الشاب وبما يجرى الآن بين ظهرانينا) يحتاج إلى وقفة توضيح، وفى نفس الوقت دعوة حوار:
1 – فالوجودية – سادتى – ليست مرادفة للإلحاد( والله إنه لأمر مخجل أن نقول هذا الكلام سنة 1988)
2 – كما أن المقال يعرض لنا فكر كيركجارد كنموذج للفكر الوجودى فى خطوطه العريضة، ونحن نتوقع تركيزا خاصا على الجانب الإيمانى فى هذا الفكر وتطبيقه العملى فى المجال الذى حدّد فيه عنوان دراسته( أنظر بعد).
3– وأحسب أن تسمية المستوى الأول للوجود عند كيركجارد بالمستوى الحسّى الجمالى يحتاج إلى مراجعة، إما فى الترجمة، وإما فى أصل فكر كيركجارد، ذلك أن اقتران ما هو حسّى قحُ بهذا الشكل يوحى بمفهوم محدود للجمال أقرب إلى اللذة الغريزية( الهيدونيّة) منه إلى التناسق( الهارمونى) المتسع الدوائر.
4 – كذلك فإن تفضيل تدين الابتعاد على تديّن المحايثة يحتاج على حوار خطير خشية أن يفُهم بمعنى تفضيل الاغتراب على التوحّد، والممارسة فى الطب النفسى تختلف اختلافا شديدا موازيا لهذه التفرقة الغامضة، ففى حين يهدف العلاج الحقيقى والعميق إلى دفع مسيرة التكامل إلى اقصى درجاتها لتحقيق هذا التصالح بين الذات وما بعدها،يوحى هذا التفضيل بضرورة استمرار الفصل بين الأكوان!! الكون الأصغر/الإنسان،إلى الكون الأعظم، فيه وبه معا، ثم يأتى فى هذا الصدد تعبير ان المفارقة الموجودة فى المسيحية لابد أن تكون هى هى الحل الوجودى الوحيد لأزمة الإنسان(الله يصير إنسانا فى المسيح)، يأتى التعبير بمثابة دعوة إلى النظر فى الاتجاه الآخر، حيث تسعى مسيرة التكامل( فى النمو والتصوف والعلاج على حدّ سواء) إلى حل هذه المفارقة بالإسهام فى مسيرة الإنسان نحو التوحدّ الإلهى فى أعلى درجات التناسق والوعى.( الإنسان يصير إلها – بديلا عن أن يصير إنسانا – فى مسيرته الغائية به/ إليه(كدحا فملاقيه).
5 – إن الاستشهاد بما يسمّى الطب النفسى الوجودى لإثبات فاعلية وصحة الفكر الوجودى لم يعد يكفى، وإذا كان الطبيب الشاب قد اكتفى باقتطاف ما يدعّم رأيه، فإن الدعوة عامة للاغتراف من كل من التنظير والممارسة فى مختلف نشاطات الطب النفسى بما سوف يفتح الآفاق لتثبيت الأفكار وتنقيتها بالحوار والاتفاق والاختلاف على حد سواء.
فمثلا :
أ – لم تعد تنفع هذه النزعة الاستقطابية التى تضع الإنسان بما هو كلٌّ وجودى فى ناحية، يقابلها على اقصى الطرف الآخر ما هو تشريح ووظائف أعضاء وكيمياء الخ، فنحن نحتاج الآن إلى فهم تداخل هذه الجزئيات – بيولوجيا وكيميائيا – فيما هو وجود، إرادة وإيمانا وهكذا.
ب – لم يعد يكفى الاستشهاد بتشخيصات سائدة وتقليدية (مثل ذكر الهوس أو الاكتئاب أو الفصام بالصورة التى ذُكرت بها) كدليل على تأييد فكر فلسفى معيّن، فنحن نحتاج أن نعيد النظر فيما هو هوس بكل ثرائه الجدلى، ونعيد قراءة الأقدمين بعمق جديد، فنجد مثلا أن الرجل الحسى عند كيركجارد هو أقرب ما يكون إلى ما يسمى بالشخصية السيكوباتية لا إلى الهوسى، ونجد أن السيكوباثولوجية بالذأت قد فرقت بين أنواع الاكتئاب تفرقة نوعيّة ومفصّلة بما يسمح بالتمييز بين الألم، والملل، والسكون الظاهرى، والتجمد المتحفّز …… الخ.
ج – لم يعد من المناسب الاستشهاد بممثلى ما يسمّى الحركة المناهضة للطب النفسى
(“لانج” هنا) Ant psychiatry movement فى التدليل على صحّة الفكر الوجودى ،ذلك لأن وعودها البراقّة التى انتشرت فى الخمسينات والستينات، انطفأت بعد فشلها الذريع فى السبعينات والثمانينات، فنحن أحوج ما نكون إلى إعلان أن فشل التطبيق هذا لا يفٌشل مقولات الفكر الوجودى بالتبعيّة، لكنّه يدعونا إلى توفيق جديد على مستوى آخر ومن منطلق آخر ، وهذا ممكن وجار.
ونكتفى بهذا القدر من التعقيبات لنتمنّى أن يثير المزيد من مثله وضده من القراء كلّ من موقعه.