مقتطفات علمية
قراءة وتعليق: د.أحمد ضبيع
المقال الأصلى الذى نعرض له نشر فى اغسطس 1992
بالمجلد 149 من مجلة الطب النفسى الأمريكى
بعنوان:
Transduction of Psychosocial Stress into the
Neurobiology of Recurrent Affective Disorder
Robert Post M.D.
تحول الضغوط النفسية والاجتماعية إلى بيولوجيا نيورونية
فى الاضطرابات الوجدانية الراجعة
د. روبرت بوست
Early clinical observations and recent systematic studies overwhelmingly document a greater role for psychosocial stressors in association with the first episode of major affective disorder than with subsequent episodes. The author postulates that both sensitization to stressors and episode sensitization occur and become encoded at the level of gene expression. In particular، stressors and and the biochemical concomitants of the episodes themselves can induce the protoncogene c-fos and related transcription factors، which then affect the expression of transmitters، receptors، and neuropeptides that alter responsivity in a long – lasting fashion . Thus، both stressors and episodes may leave residual traces and vulnerabilities to further occurrences of affective illness. These data and concepts suggest that the biochemical and anatomical substrates underlying the affective disorders evolve over time as a function of recurrences، as does pharmacological responsivity. This formulation highlights the critical importance of early intervention in the illness in order to prevent malignant transformation to rapid cycling، spontaneous episodes، and refractoriness to drug treatment.
(Am J Psychiatry 1992; 149: 999-1010)
يعرض المقال باختصار شديد كيف أنه قبيل النوبة أو النوبات الأولى للاضطرابات الوجدانية (الهوس أو الاكتئاب) توجد مسببات نفسية أو اجتماعية ملحوظة، سواء كانت هذه المسببات أحداثا نفسية قاهرة أو ظروفا اجتماعية تسبب كربا مهيئة لنوبة هوس أو اكتئاب، ولكن سرعان ما نجد فى النوبات اللاحقة فيما بعد أن المريض يمرض دون حاجة إلى هذه الأحداث (الكرب)، حيث تحدث النوبات التالية بشكل تلقائى أو نوابى، وربما فى نفس الموعد.
والفرض الرئيسى هنا هو أن الكرب يعمل أثره فى الخلية العصبية بما يجعل هذه الخلية العصبية هشة أو مهيأة لنوبات قادمة لأسباب أقل شده، وكرب أقل وطأة، أو حتى بدون سبب واضح، وتتعمق المقالة لإظهار كيف أن هذا الكرب الذى يبدأ عند المستقبلات العصبية مفرزا موادا كيميائية ينتقل إلى داخل الخلية العصبية مرسبا بروتينات على الحمض النووى، مغيرا الصبغة الوراثية، وتلى ذلك مراحل أخرى تنتهى بعد شهور أو سنوات إلى تغير شكل الخلية ذاتها باستطالة أطرافها أو اتساع مستقبلاتها، ومن ثم تغيير دائم فى كيمياء الخلية..
وللتبسيط نقول: إنه يمكن أن يكون لموقف محرج أو ضاغط يحدث فى أقل من ثانية أثر كيميائى عند المستقبلات العصبية، ثم على مستوى السلوك اللحظى، ثم تمتد هذه الكيمياء لإظهار أثر ما يظهر على الفرد بالعرق أو زيادة دقات القلب أو باحمرار الوجه، ولكن ماذا يحدث إذا كان هذا الموقف الضاغط المحرج أو المهينى متكررا؟ فى هذه الحالة وعلى مدى ساعات يحدث نسخ لمواد بروتينية وإعادة ترسيبها على الحمض النووى DNA وهو حامل الصبغات الوراثية..
أى أن الظروف الاجتماعية لأجدادنا كانت قادرة على تغيير الصبغة الوراثية وهى ما ورثناه اليوم، وبالتالى فإن أحداث اليوم هى ما سنورثه للأجيال القادمة.. ذلك أن هذا الفرض يقول: إن استمرار حدوث مثل هذه الأحداث أو التغيرات يترتب عليه تغير فى شكل الخلية العصبية ذاتها، عكس ما كان مفهوما من قبل حول توقف نمو الجهاز العصبى عند سن 18 عاما، أى أن الجهاز العصبى قابل للتشكل من جديد وإعادة التشكيل وفقا للظروف الخارجية وهو ما يسمى ‘بالمطاوعة النيورونية’ ‘Neural Plasticity ومعنى ذلك أن حدثا خارجيا يمكن أن يلحق بالخلية العصبية نوعا من الهشاشة مثلا فتتهيأ بسهولة لمرض نفسى أو عصبي. وهذا ما يحدث فى حالة الاضطرابات الوجدانية كما عرضت المقالة وحاولت إثباته.. ومعنى هذا المهفوم الخطير أيضا أن الظرف الاجتماعى (أو الكلمة) هو قادر على تغيير الشكل العضوى للمخ البشرى، ويمكن حتى توريث هذا التغير الجديد.
فروض توالدت بقراءة المتن
فرض (1) إمكانية التعميم:
إن ما يحدث فى الاضطرابات الوجدانية قابل للتعميم على باقى الأمراض النفسية فمثلا فى اضطراب كرب ما بعد الصدمة Post Traumatic Stress Disorder تحدث النوبة الأولى تالية لكرب شديد وعلى الرغم من أن ما حدث قد حدث وانتهى، فإن المرض يبقى بنفس شكله دونما وجود كرب أو صدمه جديدة، وهكذا القلق والوساوس والفصام.. أى أن الظروف الاجتماعية والنفسية الضاغطة التى تسبب الكرب لها دور حيوى فى التهيئة للمرض النفسى، وبالرغم من أن هذا قد يكون بديهيا إلا أن تتبع مسار أثر الكرب ورؤية ما يسببه داخل الخلية قد يكون جديدا لحد كبير مؤكدا هذا المفهوم.
فرض (2) العكس صحيح..
أى أنه بإزالة الكرب أو بقطع دائرته أو بتهيئة المناخ لمعيشه متسقة مغذية إيجابية يمكنى أن يحدث نفس الأثر فى اتجاه مغاير،أى يتغير شكل الخلية لتصبح أكثر مقاومة وتحملا للحياة و حتى أكثر كفاءة.
وعلى نفس القياس، فإن ما يحدث فى العملية المرضية يمكن أن يحدث عكسه فى العملية العلاجية، وأن العلاج بالكلمه قادر أيضا على تغيير شكل الخلية العصبية وصفاتها الوراثيه.
فرض (3) أهمية التوقيت…
كما ان الكرب لا يعمل أثره فى الخلية فى كل الأوقات بنفس الشكل وإنما هناك أوقات حرجة تكون فيها الخلية أكثر عرضة للتشكل عن باقى الأوقات وربما هذه الأوقات لها علاقه بأزمات العمر.. من الطفوله حتى الشيخوخة
وعلى نفس القياس فإنه فى العلاج النفسى أيضا تتم هذه العمليه العكسيه فى الخلية فى أوقات بذاتها.. فاصطياد اللحظه ربما من العمليات الحيويه فى العلاج النفسي.. ويمكن تسمية هذه الحظات أو الأوقات بأوقات التشرب أو إمكانيه البصم أو تفتح المسام لاستقبال الأثر.
تساؤلات حول المتن
1- هل كل ما يحدثه الكرب سلبى؟
أعتقد ان الاجابه بالنفى قياسا على السهم التى لا يميتنى يزيدنى قوه.
2- لم الانتكاسه رغم العقاقير أو العلاج النفسي؟
وتفصيلا: إذا كان ما عرض فى المثال والفروض صحيحا وأمكننا الاستنتاج بأن العقاقير أو العلاج النفسى لهم القدرة على إعادة تشكيل العملية المرضية فى اتجاه الصحة، فلماذا تحدث الانتكاسه إذن؟..
ويمكننا الرد بأن العملية المرضية أو الصحية أكثر تعقيدا مما عرض لدرجه يصعب التنبؤ معها بهشاشة الخلية أو بصلابتها.. ومن خلال هذه الفروض السابقة يمكن التنبيه على أن فعل الدواء والعلاج النفسى غير مدرك بشكل جيد وأننا مازلنا فى أولى الخطوات نحو فهم المخ البشرى وبالتالى علينا الاستفادة من الملاحظة الدقيقة فى كل حالة على حدة.
3- لماذا تبدأ بعض الامراض دونما سبب؟
فى كثير من الأحيان لا يمكن ملاحظة الكرب أو الضغوط النفسية قبيل بدء المرض، والتفسير هو أن الكرب موجود فى الأغلب، ولكنه ليس بالشده التى يمكن أن تظهره واضحا فالإحساس بالكرب أو الضغط النفسى مسألة فردية جدا، قد لا يشعر بها إلا الفرد ذاته ولايدركها من يجاوره.. ففقد الزوجه قد يكون كرب شديد على زوج وقد لا يكون كذلك على آخر، بل قد يكون انعتاقا، وهكذا وقد يكون مجرد النظر فى المرآه يوميا كرب شديد لا يشعر به إلا صاحبه فنحن نفترض أن الكرب موجود موجود ولكننا نحتاج لوجودنا تحت جلد المريض للشعور بما يشعر به من ضغوط، ومعناها لديه حتى لو لم يصل ذلك إلى مستوى وعيه الظاهر
تعليق أخير:
هذه المقاله يمكن قراءتها لتدعيم فكره أن الكلمة لها أثر حيوى بيولوجى شديد الغور فى الخلية العصبية، وعليه فإن العلاج النفسى هو علاج بيولوجى يغير فى الخلية ويؤثر فى النمو، ونحن على بصيرة من أن دلالة هذا المقال يمكن أن تسير فى الإتجاه العكسى حيث يمكن القول بأن ما يحدثه الكرب وينتهى إلى تغيير كيميائى أو عضوى داخل الخلية يدعونا إلى تعديله مباشرة بتصحيح الكيمياء التى أصابت الخلية، فلماذا التعب بعلاج نفسى طويل معقد غير مضمون وبالفعل قيل هذا عن نفس هذه المقاله فى أكثر من محفل علمي.
ونحن لا نعترض على القراءة العكسية إلا أن المشكله تكمن فى الوثقانية Dogmatism التى ننظر بها نحو العقاقير أو المواد الكيميائية وكأننا نعرف مسارها بالضبط وأنها تفعل كذا فى ‘هذا’، وتترك ‘ذاك’، ولنتذكر بدايات عقاقير علاج الفصام التى قيل أول ما ظهرت تعمل على إغلاق بوابات الدوبامين، ونتذكر ما صاحب ذلك من التصفيق والتهليل، وأنها الثورة الجامعة المانعة، ثم كيف أن هذه العقاقير- بمرور الزمن – لم تحل كل شيء، فرحنا نبحث عن تفسير آخر ونخرج فكرة أخرى ونزعم أن هناك أكثر من نوع من الدوبامين وهناك فصام نشط وفصام خامل، وتخرج أدويه أخرى تدعى العمل على هذا وذاك، مصحوبة بتهليل آخر ووثقانية أخرى، ثم تخرج موجه أن العلاج الأصيل هو الموازنه بين السيروتينين والدوبامين، وتخرج موجة جديدة نتبعها مهللين مكبرين وهكذا.
وإن كان هذا هو التطور الطبيعى الشريف للعلم فإن ما يزعج هو التصديق والوثقانية ومحاوله إقحام تفسيرات فى كل مرحلة، وكأننا فى كل مرحلة وصلنا إلى منتهى المراد أو كأن ما نحصل عليه من معلومات هى حقائق ثابتة وليست فروضا متغيرة.
حتى هذه المقاله بها جزء من الحقيقة غير المفهومه بدقه، وقد بنى عليها مجموعه فروض ربما أصابت أو العكس، والزمن سيحكم.
فنحن فى مرحلة فى العلم كأننا نلعب لعبة متاهة الصور المقطعة إلى أجزاء ونحاول تركيبها بوضع عدد من هذه القطع، هنا و هناك، ثم نكتشف بعد مدة أن أجزاءا مما وضعناها كانت فى مكانها الصحيح وأجزاء أخرى ستستبعد وأجزاء غيرها ستغير مكانها. وحتى هذه اللحظة فلنفرح بما لدينا لاغضاضه
ياليت بلا تهليل متكبر.