مثل و موال
العجز عن التوقف
المثل: “ زى الطواحين إن بطلت تلحسها الكلاب“
ثمة ظاهرة تحافظ على الحياة، كيفما اتفق، وهى “أن تظل ساقيتنا تدور بلا توقف”، سواء كان ذلك اختيارا،أم ورطة، أم قهرا، وقليل منا من يتوقف مختارا لينظر فيما يفعل يوميا طول العمر، مهما طال، ينظر فى ساقيته التى تدور،أى ماء ترفع، ثم إلى أى مصب تدفع، ومهما بلغ الواحد منا من العمر، فإنه يظل أو يتمنى أن يظل، دائرا فى ساقيته حتى يقضى، بغير علم مسبق.
وتنشأ المأساة حين يتحتم التوقف لأسباب خارجة عن الإرادة الواعية، أو عن الإرادة الآملة، مثل إلاحالة على المعاش، أو العجز لأى سبب من الأسباب، فإذا استبعدنا هذه العوامل الخارجية فما هو سر الرعب من التوقف، ومن ثم النظر فى كشف الحساب، لعله الرعب من إعادة النظر وما يترتب عليه، أو الرعب من احتمال اكتشاف ضرورة التغير أو تعديل المسار أو حتى التقاط الانفاس؟ يقول المثل:
زى الطواحين إن بطلت تلحسها الكلاب.
وهذا هو ما يسمى أحيانا “قهر العمل”، الذى كثيرا ما يصل إلى ما يشبه أعراض الوسواس القهرى، وأحيانا يسمى “إدمان العمل”، لدرجة أن مثل هؤلاء المدمنين تظهر عليهم “أعراض الانسحاب” فى أيام الأجازات مما يسمى “اكتئاب يوم الأحد” Sunday Depression (عند الخواجات)، أو مما يفهم ضمنا من القول الشائع عندنا “يوم الجمعة فيه ساعة نحس”.
وكثير ممن يشكون من كثرة العمل، وضغطه وإلحاحه، يفاجأون بالرعب والدهشة والرفض إذا أتيحت لهم فرصة تخلصهم من هذه الشكاوى بأجازة طويلة، أو بوجود بديل (نائب أو وكيل) يمكنه أن يقوم بالعمل بدلا منهم.
والمثل الذى اخترناه دون سواه (على الرغم من وجود غيره كثير بنفس المعنى مما قد نعود إليه لاحقا) يشير إلى جانب واحد من هذا الرعب نحاول تفسيره على الوجه التالى:
فى هذه الأحوال يرتبط “إقرار الوجود الذاتي” بالعمل المتواصل، بمعنى أنه يمكن صياغة الموقف كما يلى:
‘ أنا أعمل (هكذا) طول الوقت، إذن أنا موجود.
ومن هنا فإن التوقف عن العمل إنما يعنى اختلال الكينونة حتى يفقد الوجود معناه وغائيته، فيفقد الشخص هويته إذا هو توقف فعلا، أو هدد بذلك، إذ قد يتصور أن التوقف عن العمل هو توقف عن الحياة، أى توقف عن الوجود، لأن ذلك يتضمن – فى عمق الوعى – أنه لم يعد مرغوبا فيه أو “أنهم” لم يعودوا يحتاجون إليه، (وبالبلدى “لم يعد له لازمه”) وكأن قيمته كلها مرتبطه بأن “تدور رحاه كما تدور رحى الطاحونة ليل نهار”.
والوعى الشعبى يرسم هذه الصورة بدقة متناهية، فهو يقرر: إن إنهيار قيمة الطواحين حين تتوقف لا يعلن عجزها عن الطحين فحسب، بل يجعلها عرضه “للنجاسة” والإهانة والاستهانة، وهذا معنى “يلحسها الكلاب”، والكلاب الجائعة عادة تلحس بقايا الدقيق العالق على الطاحونة حين تتوقف، والمغزى شديد الدلالة لما يصاحب مفهوم “لعق الكلب” دينيا و شعبيا.
ولو أننا تصورنا ما يحدث لمثل هذا الشخص الذى يواصل العمل (مثل الطاحونة الشغاله) وهو ينقلب ليواجه مثل هذا الضياع والهوان حين يتوقف، إذن لأمكن أن ندرك أى قهر اغترابى يمكن أن يمثله العمل لهذا الشخص، وفى نفس الوقت أى عدم إلغائى ينتظر لو توقف الاعتراب فى العمل.
ولا يقتصر هذا المعنى على العمل، بل إنه لو اقتصر على العمل لأمكن أن يصبح مزية وليس عيبا، ربما مزية للمجتمع ولو على حساب الفرد، لكن ثمة منظور مكافيء كمى تراكمى نقابله مجالات أخرى: مثل سلوك جمع المال، أو عبادة السلطة، أو حتى جمع المعلومات موسوعيا دون إعادة تنظيمها، أو الإفادة منها، وكل هذا السلوك القهرى لابد وأن يمثل التوقف عنه هذا الرعب بالإهانة والمهانة والخواء.
فهل يمكن أن نوصى بأن يكون التوقف للتأمل و المراجعة جزءا لا يتجزأ من إعادة الاختيار للتأكد من تواصل الاستمرار، أو احتمال التغير، إذا كان للحياة أن تتكاثر نوعيا بصفة مستمرة؟
إننا بهذا التفسير إنما نلقى إلى الناس رعبا أكبر، فى مجتمع محدود الفرص ساكن المسار، ومع ذلك فالوعى الشعبى يلقى فى وجهنا بالتحديد المناسب.