حالات وأحوال
كيف نقرأ مرضانا؟
وكيف نقرأ أنفسنا من خلاله؟
تقديم:
هذه محاولة جديدة فى هذا الباب الفريد الذى نحاول أن نتعرف من خلاله على المريض النفسي، ومن ثم على أنفسنا، بشكل مباشر، حاضر وماثل.
وعلى خلاف ما تعودنا عليه فى هذا الباب، تتصف حالة هذا العدد بما يلي:
(1) سوف نقدم مريضا كتب حالته (شكواه) على ورقتين منزوعتين من “أجندة قديمة”
(2) سوف نغفل -عمدا- ذكر السن والوظيفة، والمستوى الاجتماعي، ومستوى التعليم، والذكاء، بل والتشخيص، وذلك لأننا نود أن نتجنب التسرع بترجمة ألفاظه وكلماته إلى “أخطاء” (تدل على جهله باللغة مثلا)،أو إلى أعراض (نفسية)، لا أكثر ولا أقل.
(3) على الرغم من الأخطاء الإملائية أو الهجائية أو التركيبية، فإننا نؤكد للقارئ أن هذا المريض متوسط فى كل شيء، مقارنة بالقطاع الذى يمثله فى المجتمع المصري، ومن ثم، فإننا ندعو القارئ ألا يستسهل اتهامه بعدم القدرة على التعبير، كما نرجو من الزميل الطبيب النفسى ألا يسارع باعتبار بعض كلامه، أو كل كلامه “غير مترابط” أو على أحسن الفروض “شبه فلسفي”، وكلا العرضين هما من أخطر ما نبعد به مرضانا عنا، وبالتالى نفقد كل احتمال تواصل، فعلاج.
(4) وقد حاولنا أن نقدم نص ألفاظ المريض، وفى نفس الوقت صورناها بخط يده بعد استئذانه دون ذكر إسمه.
(5) كتب المريض حالته تحت عنوانين:
(1) “الحالة النفسية التصورية”، (2) “عن الجسد – الحالة النفسية”
وقد تركنا العنوانين كما هما.
(6) سوف نقرأما كتبه فقرة فقرة أولا، ثم قد نحاول أن نعقب تعقيبا إجماليا فيما بعد إذا لزم الأمر. وسوف نعتبر، حتى لو كان ذلك غير صحيح أحيانا، أن كل لفظ كتبه المريض، إنما يعنيه فى حدود ما قصد إليه، ولسوف نأخذه كما هو تماما.
الجزء الأول:
”الحالة النفسية والتصورية”
نلاحـظ أن المريض استعمل عنوان الحالة النفسية كما ألف الناس والأطباء أن يستعملوه، أما لماذا أضاف، والتصورية، فهذا ما لا يبدو واضحا، اللهم إلا بقراءة ما جاء تحت العنوان، وخاصة فيما يتعلق بـ “التصور الذهني”، وعند الحديث عن “الإحساس بنمو المشاعر”، وأيضا عن “بعد الزمن” بشكل غير مباشر، وعن المكان أيضا.
ولا نريد أن نسبق الأحداث، إلا أن إضافة “والتصورية” ليست شطحا بلا معني، ولا هى مرادفة للحالة النفسية، بل إن الشخص العادى يمكن أن يتكلم للصباح عن حالته النفسية، أم إذا سألته عن حالته التـصورية فلا بد أن يشكك فيك، وفى سلامة لغتك، أو سلامة عقلك، مع أن الحالة التصورية هى أكثر حضورا وأدل كينونة عما شاع تحت اسم الحالة النفسية.
وفيما يلى نص ما جاء بورقتى المريض بالبنط الأسود ثم التعليق (أنظر الصورة)
1- جزء من القلق فى أى موقف.
لم يقل المريض “قلق”، بل حدد أنه “جزء من القلق”، ونحن عادة نتكلم عن القلق وكأننا نعرفه، من أول السيد ديل كارنيجى (دع القلق، وابدأ الحياة) حتى المذيعة مقدمة برامج الصحة النفسية فى التليفزيون (مثلا) وهى تتحدث عن عصر “الكلك”، فيرد عليها الأستاذ الدكتور الضيف بأن الأبحاث الحديثة قد أثبتت فعلا أنه كذلك “عصر القلق النفسى وأن ذلك بسبب الضوضاء، والسرعة، والصراع النفسي، وكأنهما (المذيعة والأستاذ) قد اكتشفا كشفا خطيرا كان خافيا على المشاهد، وتصبحوا على خير، أما مريضنا هنا فهو يقول “جزء من القلق”، ثم لا يعزوه إلى صراع أو سرعة أو إحباط أو قهر مما شاع أنه سبب للقلق، بل يقرر أنه “..فى أى موقف”، وتعبير جزء ليس تقليلا كميا لقدر القلق، بل إن هذا النوع من القلق المستمر، المنخفض النبرة، يكاد يكون مثل التنميل الوجدانى الذى يضيق به الإنسان أكثر من القلق الحاد المنقض والنزق، فهذا الجزء من القلق فى كل شيء بدا لنا وكأنه أقرب إلى “غثيان” سارتر، الذى هو أشد وطأة من القلق المصاحب بأعراض صاخبة محددة.
2- فصل عن مستوى الذاكرة (الماضي) عن الحاضر أو عدم الإحساس بنمو المشاعر من الماضى إلى الحاضر.
بعد الشكوى من القلق، ينتقل المريض فجأة إلى وصف شديد الدلالة عن تقطع الزمن ووعيه بذلك، وهو يعلن ذلك مباشرة بأسلوبين فى نفس العبارة (رقم 2)
ا) فهو من ناحية ينبه إلى القطع الذى حدث بين الماضى والحاضر، ويجعل الذاكرة بمثابة تيار النهر الجارى الذى تعثر مجراه فى جنادل فصلت جريان الأحداث
ب) لكنه من ناحية أخرى ينبهنا أن المسألة ليست ذاكرة فحسب، وليست مجرد استرجاع الماضى لاستعماله فى الحاضر، ولكنها مسألة نمو “من الماضى إلى الحاضر”، وهو لم ينكر استمرار النمو، وإنما أعلن عدم الإحساس بنمو المشاعر
والربط هنا بين “مستوى الذاكرة” ونمو المشاعر ربط ذو دلالة فهو ينبه إلى ضروة تجاوز ذلك الفصل التعسفى بين الوظائف النفسية كما تدرس فى علم النفس العام بشكل تقليدي، ومن ناحية أخرى هو يجعل ربط الماضى بالحاضر عملية تلقائية ضرورية، ويكاد يعزو شكواه “جزء من القلق فى أى موقف” إلى ذلك
ولكن هل الطبيعى أن يشعر الشخص العادى بهذا الذى يفتقده مريضنا هكذا؟
الإجابة النفى طبعا ،فالأصل أن يحدث ما يفتقده مريضنا هذا عند أى شخص دون أن يدرك – فى بؤرة الوعي- أنه يحدث، ومجرد رصد هذه العمليات الآلية والوعى الحاد بها هو إعلان للبعد عن “العادية “: إما لتنظير علمى أو فلسفى (1) أو بسبب مرض ما، بمعنى أنه: لو أن مريضنا هذا قال: (ليس عندى) فصل عن مستوى الذاكرة (أى الماضي) عن الحاضر(كما أنى لا أشعر بـ:) نمو المشاعر من الماضى إلى الحاضر .
فهل يكون سليما بناء عن ذلك ؟
الإجابة فى الأغلب بالنفى
فمن أهم إشكالات المرض النفسى (حتى الفصام ) هى إشكالة “الوعى بالوعي”، وأيضا بالوظائف الأخرى -حالة كونها تجري- الوعى بها، بالعملية نفسها، وليس فقط بنتائجها – مثلا بـ “فعل الذاكرة” و “عمليات التفكير “..إلخ، وما يسمى تيار الوعى (وأحيانا : اللاوعي) فى الرواية هو جانب من هذه الظاهرة، والمريض النفسى -مثله مثل المبدع- له هذه القدرة الخاصة على رصد “العمليات النفسية التلقائية”، وكأنها تجرى أمامه بالتصوير البطئ، سواء كانت سليمة ( فوصفها هكذا فى ذاته، إن لم يكن إبداعا، فهو قد يدل على المرض) أو كانت مضطربة كما يرصدها مريضنا هنا.
3- عدم معايشة أبدا التصور الذهنى
يعود مريضنا هنا يتحدى بوصفه حالته، وهو ينبهنا إلى غفلتنا بشكل أو بآخر، فهو لا يشكو قصور ” التصور الذهني” بل إنه يشكو من “عدم معايشة التصور الذهني”، وكأنه يفترض أولا : أن الإنسان السوى لا بد أن يمارس “التصور الذهني”، ثم إنه لا بد “أن يعايش هذا التصور”، وأخيرا فإن عدم معايشة التصور الذهنى هو أمر “يستحق” أن يكون مجالا للشكوي، كما يعلن مريضنا هذا هكذا.
وما أسهل أن يصف الطبيب النفسى مثل هذه التعابير -هذا إذا التفت إليها أصلا- على أنها فلسفة فارغة، ويضعها -كما ذكرنا- باعتبارها العرض المسمى “أفكار شبه فلسفية”( دون أن يبذل أى جهد أصلا بمحاولة “قراءة”” الدلالات الكامنة)، وبالنسبة لهذا المريض فإن تعاطى الفلسفة هى تهمة لم يشرف بها أصلا.
ومثل هذا الوصف، بما سبقه وما سيلحقه، إنما يشير إلى درجة من الوعى بالتخلخل، أو ما أسميناه “التعتعة”، فكتلة الوعى الواحدية عادة ما توحد العمليات النفسية فى اتساق متكامل بحيث يصعب فعلا فصل التصور الذهنى عن المشاعر، عن التفكير، عن إعلان ذلك قولا أو قرارا..إلخ، وحتى هذه المعايشة للتصور الذهني، على الرغم مما أصابها من ضمور عند الإنسان المعاصر بسبب الاغتراب الذى لحقه، فإنها واردة دون وعى حاد من الشخص العادي، أما إذا حدث تصور ذهني، وكأنه منفصل لا “يعاش” فإن ذلك أمر وارد قد يعالج بالاغتراب والغفلة العاديين، فإذا زادت جرعة هذا الانفصال مع زيادة الوعى به فإن ثمة اضطرابا محتملا، فإذا وعى المريض بذلك عبر عنه، أو -فى الأغلب- فإننا نرى نتائجه فى شكل أعراض أخرى لا مجال لذكرها حالا، (فالدرجة القصوى من العجز عن معايشة التصور الذهنى قد تؤدى إلى الهلوسة مثلا).
4- عدم الطموح والتأمل فى الحياة وتبلد فى الإحساس.
يمكن أن نسمع الشكوى من عدم الطموح فى بعض حالات الاكتئاب التى يغلب فيها اليأس من المستقبل، وأيضا فى بعض حالات اضطرابات الشخصية من النوع “غير الكفء “inadequate، ولكن أن يقترن ذلك بـ “عدم التأمل فى الحياة” ثم يلحق بـ “تبلد فى الإحساس”، فهذا يجعلنا نتأمل ارتباط التأمل (وليس الأمل) بالطموح، بنبض المشاعر، وبقدر ما غاب عنا الوعى الإيجابى بأهمية “التصور” و “التأمل فى الحياة”، اغتربنا- نحن الأسوياء- عن حقيقة الكينونة الفاعلة، وتبلد – بالتالى إحساسنا- دون أن ندري، فإذا جاء مريض ليخبرنا أن هذا مرض ، فـزعنا حتما، وسارعنا بالشفقة أو الاستهانة، كما يسارع الطبيب بلصق لافتة اسم عرض ما.
على أننى لا أتصور أن هذا المريض يحكى عن طموح المكسب، أو طموح السلطة أساسا (وإن كان لا يمكن استبعاد ذلك)، وإنما أرجح أنه يشير إلى طموح “نمو المشاعر” ومعايشة التصور، وغير ذلك مما سيأتى ذكره حالا.
كذلك فإن عدم التأمل هنا يبدو وكأنه إعلان الوعى بالاغتراب الدافع إلى تجاوز التفكك، أكثر منه افتقاد النظر العميق، فليس أكثر تأملا من هذا المريض الذى يصف لنا، بألفاظ عفوية،أدق مشاعره، ثم يشكو من “عدم التأمل”.
أما “تبلد الإحساس” فلا يمكن الجزم هل هو سبب أم نتيجة لعدم الطموح وعدم التأمل،، ولا بد من التنبيه هنا أنه ليس معنى أن يشكو المريض من “التبلد فى الإحساس”أنه متبلد فعلا، بل إن هذه الشكوى ذاتها تدل على أنه “مفرط فى محاولة الإحساس الحقيقى المشتمل”، لكننى أرجح أنها جزء من “الوعى الحاد” (الذى أصبح معطلا) بتبلد الإحساس العادى (الذى نفخر به جميعا دون أن ندري، وربما أسميناه الحكمة (أو بالعامية “التقل”).
5- الإهمال واللامبالاة فى الإحساس بالمسئولية
أن يصف مريضا نفسه بالإهمال، واللامبالاة فى الإحساس بالمسئولية فهذا يحتاج إلى وقفة، ذلك أننا تعودنا – كما يشوهنا سوء فهم التحليل النفسي، وأيضا الطب النفسى السطحي- أن نبالغ فى إعفاء المريض من مسئوليته، وفى هذا ما فيه من الاستعلاء والإهانة، ومريضنا هنا يعلن ابتداء أنه مهمل، لكنه يقرن ذلك – أيضا- بعدم المبالاة، ويحدد العلاقة بين هذه اللامبالاة وبين التخلى عن المسئولية، لكننا نصر على تصديق مقولة “غصبا غنى ” التى يرددها كثير من المرضى كصدى لموقفنا نحن المبالغ فى إلقاء اللوم على الظروف، على العمال على البطال، أكثر من أن نصدق مريضا مثل هذا يعترف بأنه مهمل ..إلخ
6- قليل الهمـم من ناحية التخطيط، أو لايوجد أستعداد نفسى لأى ظروف قد تحدث
نلاحظ أن المريض استعمل لفظا غريبا هو الهمم، ربما تعبيرا عن الهمة، والغريب أنه وضع شدة وفتحة على الميمين (أنظر الصورة) وبالتالى فهى ليست مجرد خطأ هجاء، وكلامه هنا يؤكد “عدم الطموح” من ناحية، واللامبالاة والإهمال من ناحية أخري، لكنه يضيف بعدا هاما إذ يبدو أنه قد أدرك أهمية ما يسمى “التهيؤ” فى تشكيل الوعي، وإدراك الوجود وإرادة الفعل ؟ إن الشخص العادى – مرة أخري- يغفل هذا الجانب من الوجود لحساب تصرفه الظاهر أولا بأول، ،أما مريضنا فهو يلوم نفسه (أو يصف نفسه بافتقاد) هذا الاستعداد النفسي، وهو يعد ذلك من قبيل قلة الهمة والعجز عن التخطيط.
7- لأشعر لأى ميل أو رغبة فى تحقيق شيء من المصلحة أو نحو التعلم والمعاكس لذلك الملل لعدم الاحساس بالرغبة فى ذلك .
يقصد – فى الأغلب- لا أشعر بأى ( لكنه كرر هذه الصيغة “لأ “، بدلا من “لا أ..” (أنظر الصورة)، وهذه الفقرة بالذات قد تنبهنا إلى تواضع مستوى التعبير وخاصة لهؤلاء الذين خطر ببالهم اتهامه “بالقراءة النفسية” أو “تعاطى الفلسفة”،
وتحتاج قراءة هذه الفقرة إلى تقسيم (ا) فابتداء هو يصف فقد الدافعية، وهذا مرتبط بكل من “عدم الطموح”، وأيضا ” قلة الهمة” (قليل الهمم )، لكنه هنا لا ينحو باللائمة على نفسه مهملا أو غير مسئول فحسب، وإنما يضيف بعدا آخر وهو افتقاد “الميل” والرغبة، ليس فى اللذة أساسا، كما يحب الأطباء أن يتحدثوا عن عرض : عدم القدرة على التمتع anhedonia، وإنما فقدالميل والرغبة هنا هو لــ “تحقيق شيء من المصلحة”، والتفكير السائد أن تحقيق شيء من المصلحة يتبع مبدأ الواقع reality principle وليس مبدأ اللذة، ودون الدخول فى تفاصيل فإن الموقف النفعى سواء كان ذاتيا أم جماعيا هو جزء لا يتجزأ من الطبيعة البشرية، وهو من علامات الصحة النفسية التى يعلن مريضنا هنا افتقادها.
أما النصف الثانى من العبارة فهو يحتاج لقراءة خاصة قد لا يسعفنا التأويل فى فهمها، فأن يكون افتقاد الميل والرغبة فى تحقيق شيء من المصلحة مصاحبا بالملل أونتيجة لـلملل أو محدثا لـلملل فهذا وارد، أما أن يكون هذا هو “المعاكس لذلك” فهذا غامض ابتداء، ولسنا ندرى هل هو يستعمل لفظ المعاكس بمعنى “العكس”، أم بمعنى “الإنعكاس”، أى التفاعل، reaction كما نحت لفظ الهمم ليعنى الهمة، هذا افتراض وارد على أى حال
8- للانتقال من جسد الى جسد أى مكان لا يعرفنى ولأعرفه بسبب عدم تركز التصور وعلاقته بضعف الإحساس بالذاكرة والتبلد الإحساسى واحباط المشاعر جدا .
هذه فقرة صعبة جدا
كيف ينتقل من جسد إلى جسد ؟ وكيف يفسر ذلك قائلا أي: مكان لا يعرفنى ولا أعرفه (لاحظ نفس الطريقة فى الكتابة لأعرفه) ؟ وكيف يكون هذا وذاك “بسبب عدم تركز التصور” ؟
سبق أن ذكرنا أنه: كيف أن هذا المريض يتحدث عن “معايشة التصور” وافتقاده لها، وأيضا عن ضعف الإحساس الذى أسماه مرة باللامبالاة، وأخرى بفقد الهمة والرغبة والميل ..إلخ وأيضا ربط تواصل الذاكرة بالزمن بنمو المشاعر من أول فقرة، وهذا كله يساير قراءة الجزء الأخير من هذه الفقرة من أول ” بسبب عدم تركز ..إلخ”- أما أن تبدأ هذه الفقرة بأنه “للانتقال من جسد إلى جسد، أى مكان لا يعرفنى ولا أعرفه فهذا يفتح باب “حضور الجسد فى الوعي” وكيف يرتبط ذلك بالمكان، وأن هذه التنقلات التى تحدث أثناء عملية التحول الإمراضى (وأيضا فى الشخص العادى أثناء النوم والحلم والإبداع وغير ذلك) هى ليست مجرد تغير كمى فى صفة بذاتها بقدر ما هى تغير كيانى “من جسد إلى جسد”، واستكشاف بدئى “مكان لا يعرفنى ولا أعرفه”، وللأسف، ومع أن التعبير هكذا جاء من مريض، إلا أنه ينبهنا إلى أن التغيرات التى اختزلناها إلى متابعات عقلانية توصف بألفاظ تبدو مستقلة، هى تغيرات أكثر شمولية وحضورا جسديا مما نتصور. وأكتفى بهذه الإشارة خوفا من الإطالة التنظيرية.
9- لايوجد عندى الاحساس بالإنشغال على أى شيء أو أخذ أو انتظاره بقلق أو لـلإنشغال بأى خبر أو مدى تأثيره على نفسيتى
أخيرا يفصل ما سبق الإشارة إليه من اللا مبالاة ” وهو يضيف هنا ما يشير إلى “توقف” أو “إلغاء” الزمن، فإذا كان قد نبه سالفا إلى افتقاده للتهيؤ، فهو يعلن هنا “عدم الانتظار بقلق”، وهذا يذكرنا بما بدأ به شكواه “جزء من القلق” (لا أكثر)، كذلك هو يضيف هنا بعدا لاحقا عن عدم ” الانشغال بأى خبر”، وأيضا نفهم ضعف تأثير “أى خبر” على نفسيته، وكأنه يمد بعد اللامبالاة ليشمل المنتظر، والجارى والآتى جميعا.
الجزء الثانى:
وصف نفسى
عن الجسد – الحالة النفسية
لاحظنا عنوان الجزء الأول، وأنه الحالة النفسية والتصورية، وقد احتوى كلاما عن “الانتقال من جسد إلى جسد” فقرة 8، وعلى الرغم من ذلك فإنه عاد فى هذا الجزء الثاني، الذى كتبه فى ورقة مستقلة يتكلم “عن الجسد” ثم جعل له عنوانا ثانيا: “وصف نفسي، وفى نفس الوقت أعاد كلمتى الحالة النفسية فى نفس السطر على مسافة (أنظر الصورة).
وهنا ينبغى أن نتذكر ما -اعتدنا عليه- تعسفا من فصل الجسد عن الروح مرة، وعن النفس مرة، وعن التفكير والإبداع مرات، وكل هذا خطأ اغترابى شائع، يذكرنا المرضى (وبعض الدين ،وبعض الإبداع، وبعض فلاسفة الوجود) بخطورته أبدا.
الجسم وما هو فيه غريب شبه ألم
يبدأ المريض بهذه العبارة قبل الترقيم، هكذا منفصلة بذاتها
فمن ناحية هو يكاد ينبهنا أن الجسم الذى يتحدث عنه ليس فقط هو الجسد الذى نختزله كوعاء “نضع فيه وجودنا الفلاني”، وأنه “غريب”، ثم يردف “شبه ألم”، ومع أننا تعلمنا أن نقصر الألم بالذات على ما هو جسدي، وأن نتعلم من وظيفة الألم الجسدى فى الوقاية و التنبيه واليقظة والعلاج، نتعلم ما يقابل ذلك من الام أخرى تسمى نفسيه ،بما تحمل من مواجهات الوعى وتجرع الرؤية، مع ذلك فإن مريضنا حين جاء الدور على وصف الألم الجسدى قرر أنه غريب، شبه ألم”، وأظن أن فى هذا دعوة ضمنية ألا نختزل ما يصفه المريض إلى ما نعرف من آلام محددة، أو سطحية، أو موضعية.
ثم بدأ المريض فى الترقيم :
1- الإرتخاء البدنى من فقد الإرادة الجسمية
نحن لم نسمع عن “الإرادة الجسمية” ونتصور دائما أن الإرادة هى قمة القرارات الاختيارية العقلانية، فما شأن الجسد بها، إن ألفاظ مريضنا هذا ترجعنا إلى علاقة الجسد بالإرادة، وهى علاقة فريدة أهملت مع ما أهمل من جواهر الوجود.
فمن ناحية نذكر أن أشد وأصرح أعراض فقد الإرادة فى المرض العقلى تظهر أساسا فى شكل جسدى (التشكل الشمعي، والتصنيم، والطاعة الآلية..إلخ)، ومن ناحية أخرى نذكر أن الإرادة الأولية (البدئية) تبدأ فى العضلات، فالطفل يتعرف على قدرته الفاعلة بدءا من تحريك عضلاته، والنظرية المعرفية الإرادية التى لم تنل شهرة تستحقها (لمنشئها سيلفانو أريتي) تضع بداية الفعل الإرادى فى المنعكس التصرفى الذى أسماه ” إكسوسبت exocept ” مقابل “الإندوسبت endocept” وهو المدخل الكلى الأولى الذى يمثل الوحدة الأولية لنمو التفكير، وسوف نتجنب الدخول إلى التفاصيل لنعود إلى مريضنا وهو يذكرنا بأنه “فقد الإرادة الجسمية”، وبالتالى فهو يعانى من الارتخاء البدني. واستنثاء بما وعدت به فى البداية، أخبر القارئ أن مريضنا هذا لم يكن يعانى من أى خذل أو ضعف بدنى (أو ارتخاء جنسي) أصلا، ولعل هذا الوصف هنا متصل بالعنوان الذى ينبهنا أنه “وصف نفسى ” (هو من قال!!).
ولغة الجسد من أهم ما ينبغى أن ننصت إليه، ليس فقط فى حالات التعبير الهستيرى الرمزي، وإنما كمدخل للتعرف على هارمونية الوجود، وكيفية التغير الوارد فى الحضور الجسدى النشاز، أو المغترب عن الواحدية الوجودية، أو الدال على انسلاخ الذات عن “الآن”، وعلى الرغم من اختفاء الشكاوى الجسدية – أو ندرتها فى الدول المتقدمة- من عند المرضى النفسيين بما فسر بأنه نتيجة لفرص التعبير الحر بالكلمات، إلا أن هذا الاختفاء قد يدل أيضا على التمادى فى إنكار الوظيفة المعرفية والتواصلية للجسد فعلا، ونحن نلاحظ الكفاءة النسبية اللتى عبر بها عن “الحالة النفسية” قبل أن يدخل فى الجزء الثانى الخاص بالجسد، وذلك بالمقارنة بالغرابة التعبيرية التى تناول بها حالة الجسد هكذا :
2- مغظ وكركبه ونفضه (طرفه جلدية فى البطن)
هو كتب مغص بالظاء (أنظر الصورة)، وهو الذى وصف النفضة بأنها ” طرفة جلدية فى البطن”، ونحن نعرف أن المغص هو ألم تقلصات لأحشاء لها تجويف (الأمعاء عادة)، وليس فى الجلد، كما نعرف أن الطرفة هى فى العضلات الصغيرة عادة، عضلات الجفن مثلا (عينى بترف)، أما أن يعقب وصف المغص والكركبة (التى تحتمل أن تكون غازات حقيقية فى المعدة مثلا)، يعقب هذا وذاك شرح بين أقواس يقول إن ذلك يعنى طرفة جلدية، فهذا ما ينبه إلى احتمال اختلال التمثيل schema الجسدى فى الدماغ مع اختلال الواحدية الكلية للذات.
وكل ما يهم فى هذا المقام، ما دمنا نتجنب الترجمة إلى أعراض كما نتجنب التشخيص من البداية، هو الإشارة إلى ضرورة حسن الإنصات للشكاوى الجسدية مهما بدت شاذة، بديلا عن إهمالها لمجرد أنها لا تنطبق على مرض جسمى معروف، وبالتالى تصبح تهيؤات، إن هذا الوصف التفصيلى للأحاسيس الجسمية يصعب أن يؤلفه مريض من خياله تأليفا مطلقا وبالتالى لا يصح أن نسارع بإهماله من البداية لمجرد عدم التماسك أو غرابة الوصف.
3- فى محتوى أجزاء الجسم هذه الطرفة الجلدية اهتزازه
وهو هنا يفصل بطريقة أكثر غرابة، فبعد أن حدد “الطرفة” بأنها “جلدية”، جعلها فى “محتوى أجزاء الجسم “، وهل لأجزاء الجسم محتوي؟ أم لأن الجسم هو الذى يحتوى أجزاءه، ومباشرة يعود ليؤكد أنها “جلدية”، ويضيف أنها “اهتزازة”.
ومرة أخرى نذكر بلغة الجلد الذى نشأ مع الجهاز العصبى جنينيا (إمبريولوجيا) من مصدر واحد (هو الإكتودرم)، وأن كثيرا من الأمراض الجلدية هى لغة قائمة بذاتها، وأن الجلد هو حدود الجسد، وهو الجهاز البدنى المتصل مباشرة بالعالم الخارجى وفى نفس الوقت هو المحدد لواقع الذات شخصا له كيان، ومع كل هذا فشكوى المريض وتحديد الطرفة فى “الجلد” بدت لنا منفصلة عن كل ذلك .
4- عدم الإحساس بالشهيق والزفير فى الضلوع من مستوى الصدر
نرجع مرة أخرى إلى الوعى بما لا ينبغي- أو ما نحن لسنا مضطرين إلى الوعى به- وقياسا بشكوى هذا المريض من عدم الوعى بنمو المشاعر، أو باتصال الذاكرة بالآن، أو بمعايشة التصور الذهني، نراه هنا يشير إلى عدم الوعى بالشهيق والزفير أيضا، وكأن المفروض أن نعى بهما طول الوقت، وبمستواهما هل هو مستوى الصدر، أو مستوى حركة الحجاب الحاجز وجدار البطن، وبما أن هذا ليس واردا أصلا عند الشخص العادى جدا، فإن شكوى المريض تقاس، وتفسر، على نفس النظام الذى فسرنا به مسألة “الوعى بالوعي”، (فقرة “2” الجزء الأول)، ففى هذا المرض النفسى يكون التركيز حادا على الجسد بما فى ذلك الوعى بحركات المفروض ألا نعيها أصلا
5- همد جسدى عند الصحيان مبكرا واللسان يكون جاف
6- شد فى مستوى أطراف الاصابع اليد
ولا نجد فى هاتين الفقرتين ما يستدعى وقفة خاصة، فمن ناحية هذه الشكوى من الهمود عند الاستيقاظ واردة فى مثل هذه الحالات، ومن ناحية أخرى فإن جفاف اللسان والشد فى الأطراف والأصابع هما أيضا أعراض واردة ومتواترة فى أكثر من مرض.
7- فحص الغدد الصماء وسلامتها
وسط كل هذه الشكاوى أضاف رقما (7) ليس بشكوى أصلا، وإنما هو مطلب محدد لا يحتاج إلى تعليق.
التعقيب العام:
ندرك تماما مدى المبالغة واحتمال الخطأ المبدئى الذى قد تشمله هذه القراءة، فهى مجرد اجتهاد مبدئى فى شكل فروض محتملة، لا أكثر، لذلك فهى تحتاج إلى مراجعة، وتحقق، وإضافة وحذف…إلخ
لكن المهم أن نتعلم منها ألا نغفل أى مادة يمكن أن نحصل عليها من المريض، وألا نستستهل حذف ما لا نفهم، وألا نسارع بترجمة لغة المريض إلى مألوف اللغة العادية والعامة من جهة، أو إلى “إسم عرض” أ و “لافتة اضطراب” من جهة أخري.
ومسألة أن “نفوت للمريض” لأنه يهذي، وما يتبع ذلك من” أن علينا أن نأخذه على قدر عقله” وكأننا الذين نفهم دونه، هى مسألة بعيدة كل البعد : ليس عن الموقف الأخلاقى الواجب اتخاذه فحسب، بل هى بعيدة تماما عن الموقف العلمي.
إن لكل لغة شفرة، ولكل شفرة دليل ترجمة، والمريض النفسى – الذهانى خاصة، والفصامى بدرجة أكثر تخصيصا – يختلف عن الشخص العادى فى أنه فى كثير من الأحيان تحتاج لغته إلى جهد خاص للعثور على شفرتها الخاصة، ومن ثم إعادة قراءة ما يقول ومايكتب المريض من خلال محاولة فك هذا التشفيرالخاص الذى يكون متعددا فى كثير من الأحيان، بمعنى أن نفس اللفظ قد لا يعنى بالضرورة نفس المعنى فى كل مرة، ليس فقط بسبب تغير السياق، وإنما بسبب ارتباط التعبير فى لحظة بذاتها بمستوى معين من الوعي، أو بأكثر من مستوى من الوعي، وأيضا بسبب فضفضة وتذبذب الإطار المرجعى الذى يمكن أن نفهم المريض أكثر من خلاله.
وأخيرا فلا يمكن قراءة أى مريض، وخاصة الذهاني، وبدرجة أخص : الفصامى إلا من خلال استقبال لغاته المخـتلفة المتعددة، الظاهرة والباطنة، ما قالت وما لم تقل (مما قالته بما أخفت)، وهذا كله متضمن فى فن المقابلة، وحذق المهارة الإكلينيكية، فضلا عن ضرورة الإحاطة بعلم الإمراض (السيوكباثولوجيا): ليس فقط بمعرفة أسباب وطريقة تكوين الأعراض، ولكن للإلمام بما تقوله الأعراض باعتبارها “لغة أخري” فى ذاتها
.
[1] – أغلب مصادر كارل ياسبرز فى مؤلفه الخالد “علم الإمراض – السيكوبالثولوجيا”- العام مستقاة من وصف المرضى لحالتهم هكذا.