الكتاب الثانى:
القراءة الجامعة
(فى/من: أصداء السيرة الذاتية: نجيب محفوظ)
د. يحيى الرخاوى
استهلال:
حين أنهيت الفصل الرابع من القراءة التشريحية لفقرات السيرة الذاتية لنجيب محفوظ، تصورت أنه لم يبق عندى إلا فصل واحد، أحاول فيه أن أجمع بعض ما لاح لى أثنآء قراءتى التشريحية فى الفصول الأربعة الأولى، ثم تركت العمل برمته ما يقرب من عام كامل، وحين طلب منى بعض الأصدقاء/القراء أن أكمل الفصل الخامس، كنت – وما زلـت – متصورا أنه فصل واحد، إلا أننى مع الدخول فى العمل ومراجعتى للعناوين التى انهيت بها الفصل الرابع تبينت أن كل عنوان منها يحتاج إلى جمع واستدلال واستشهاد وتأويل وقراءة متأنية مما نبهنى إلى أن أترك العمل يحدد حجمه وشكله مع اضطراد المحاولة ونموها حتى لا أضطر إلى أن أحشر ما خطر لى حشرا فى فصل واحد، فقدرت أن الأفضل أن أجعل هذه الدراسة الجامعة كتابا ثانيا مقسما إلى فصول متعددة.
وقد يكون مناسبا أن أعدد بعض العناوين التى جاءت فى نهاية الفصل الرابع، بعد تعديلها، والتى هى قابلة للتعديل بدورها، ومن ذلك :(1) الطفولة نبض دائم (2)الجنس، والجسد، والحس، واللذة (3) الحب والصداقة والعلاقة بالموضوع (4)الصمت، والنداء (النداهة) والخلاء، والكهف (5) الغيب، والامتداد، والكون، والمجهول (6) السعى، والحركة (7) الذاكرة، واستحضار الوعى (8) الـله والوجود (الدين، والإيمان) (9)العمر والشيخوخة والموت والخلود (10)التناهى، واللحظة، والنبضة، والهمسة (11)البعث، والولادة.
وبعد أن تصورت أن هذه العناوين تكفى، قفزت إلى هوامش قد لا تأخد حقها من خلال هذه العناوين مثل: (ا)التركيب النفسى، والطبيعة البشرية (ب)الدروشة والدراويش (جـ) التصوف (الخاص منه والشعبى) (هـ) الحزن والدموع (و) العقل والجنون.
ولكن هل تصح قراءة كل ذلك من عمل واحد دون الرجوع إلى سائر أعمال الكاتب؟
وهل هذه القراءة هى قراءة فى السيرة الذاتية بمعنى تاريخ حياة هذا الرجل كما تجلى فى هذا العمل، أم أنها استلهام - شخصى/ موضوعي(فينومينولوجى) – من أصدائها فحسب
وللرد على ذلك كانت هذه المقدمة.
مقدمة:
تذكرت ردا قديما لنجيب محفوظ حين سئل إذا ما كان ينوى أن يكتب سيرته الذاتية، أم لا، ولست أذكر أكان هذا الرد مكتوبا أو مسموعا، كان ذلك منذ عشرين عاما، تقريبا، وأجاب ما معناه: إن حياته الخاصة كفرد من الأفراد ليس فيها ما يستحق أن يـذكر متميزا: رجل مصرى قاهرى من الطبقة المتوسطة، ليس عنده – كمواطن عادى – مايقوله مما يظن أنه يميزه عن أى شخص من طبقته، أما ما يميزه حقيقة وفعلا، فهو ما أثبته -بشكل أو بآخر – فى إبداعه.
ولما كنت لا أعرف مصدر هذا الذى سمعت، ولست متأكدا من حرفيته، فقد أعدته عليه مؤخرا بعد صدور كتاب رجاء النقاش عن ذكرياته فيما يشبه السيرة الذاتية، وقد وافقنى على بعض ما تذكرت، وإن كان لم يحدد المناسبة، ولم أحاول أن أتمادى فأسأله: إذن كيف رجع عن هذا المبدأ، ووافق على عمل رجاء النقاش الذى صدر “هكذا”، فى منتهى الوضوح، والأمانة، والشجاعة، لكنه فى منتهى التسطيح، والاختزال، والظلم، ولا يلام النقاش فى ذلك مع توفر حسن النية ومحاولة الموضوعية وتجنب التحيز، ولا محفوظ يلام طبعا لأن كل ما فعله هو أنه – منذ عدد من السنين – رد ردا مباشرا على ما سأله النقاش عنه، لكنه لم ينظم ردوده، ولم تتح له الفرصة لمراجعة ما قال وربطه ونسخ بعضه، وتعديل البعض الآخر، وعلى الرغم من دماثة موافقته على ما نـشر،بعد ما صدر، فمن المؤكد أنه كرر مرارا أنه كان يتمنى أن يراجعه قبل النشر، وأنه لم يتنازل أبدا عن حق المراجعة (الذى لم يعرض عليه أصلا)
وقد سألت نفسى: إذا افترضنا أن هذه الأحاديث – مع النقاش- هى السيرة الذاتية لهذا الرجل، فأين تقع الأصداء إذن؟
وأين يقع ما أعرفه مباشرة عن محفوظ من خلال عشرتى له يوميا، ثم كثيرا، ثم أسبوعيا حوالى أربع سنوات (حتى تاريخه)؟ حيث أتيحت لى فرصة ملازمته فى رواحه وغدوه، فى علانيته، وسره، فى جلسات لقائه مع الناس، وجلسات حرفشتنا الخاصة.
وأين يقع هذا وذاك من سيرته الذاتية الباطنية (إن صح التعبير) التى تجلت فى سائر أعماله (من أول حكايات حارتنا حتى حكاية الصباح والمساء مارين بقــشتمر والمرايا، وكل أعماله بلا استثناء أولاد حارتنا أو الحرافيش)؟
وهنا نرجع إلى القضية الأزلية التى تثار ويعاد إثارتها دون نتيجة واحدة حاسمة، وهى قضية علاقة شخص المبدع بإبداعه، ولى فى ذلك خبرة متعددة النواحى والمراحل:
أولا: تصورت فى فترة سابقة أن من الأمانة أن تكون الكلمة تعبيرا حقيقيا، ومعادلا موضوعيا لصاحبها، فإن لم تكن كذلك، فهى خدعة، ونفاق وكذا وكيت.
ثانيا: راعتنى كلمات رائعة مضيئة هادية نبية فتخيلت أصحابها كذلك، أو رسم خيالى أنهم لا بد أن يكونوا كذلك، ولم أجد ذلك صحيحا عند التحقق، ذلك أنه تصادف أننى عرفت بعض هؤلاء شخصيا، فإذا بهم ليسوا هكذا (تماما، أو أصلا).
ثالثا: تصورت بعد ذلك أن المبدع، لا يمكن أن يكون هو ما أبدعه، بل إن الأكثر معقولية هو أن يكون ما لم يستطع أن يبدعه واقعا فخطه رمزا عوضا عما عجز عنه، وذلك باعتبار أن الأدب، والفن هما بديلان عن الحياة، فهما من ناحية إكمالا لنقص فيها، ومن ناحية أخرى رسما لصورة لـها لم يمكن تحقيقها حالا، ومن ناحية ثالثة فإن ما يبدعه المبدع هو أبقى للناس من شخصه.
رابعا: تماديت بعد ذلك إلى أقصى هذه الناحية (اختلاف المبدع شخصا عن إبداعه) فسمحت وتوقعت أنه قد يكون عكس ما يكتب وليس فقط خلافا لما يكتب، وأنه بذلك يكفر بما يكتبه عما يعيشه، عـما “هو”، وبألفاظ أخرى: فإن المبدع- تبعا لهذا الفرض- إنما يحقق فى إبداعه ما كان يرجو أن يكونه وعجز عن تحقيقه، حتى لو وصل الأمر أن يكون إبداعه “عكس ما هو عليه شخصيا”.
خامسا: تراجعت عن كل ذلك، ووصلت إلى أن سيرة المبدع الذاتية تسير على عدة محاور “معا” على الوجه التالى:
الأول: مايظهر فى ظاهر سلوكه اليومى العادي
والثانى: ما يعرفه هو، ويتذكره عن نفسه
والثالث: ما يظهر فى بعض إبداعه قصدا غير مباشر
والرابع: مايظهر فى بعض إبداعه بالرغم منه
والخامس: ما يظهر فى إبداعه عكس ما هو (تعويضا أو تعبيرا عن نقيضه الذى هو هو، أو هو ما يكمله)
والسادس: ما يظهر فى إبداعه باعتباره صورة ذاته، وليست هو (صورة الذات غير الذات).
ولنا أن نتسائل بعد كل ذلك:
أولا: أين يقع عمل النقاش من كل هذا؟
ثانيا: وأين يقع “نص” أصداء السيرة الذاتية من كل هذا ؟
ثالثا: أين تقع القراءة التشريحية (الفصول الأربع السابقة) ثم الجامعة “لأصداء السيرة ” من كل هذا ؟
وقبل أن أجيب، لا بد أن أنبه إلى أن أى محور من هذه المحاور ليس جامعا مانعا لما هو دونه، وأن أى تداخل أو تعدد أو تراوح بين واحد وآخر هو وارد حتما حسب وجهة نظر قارئ السيرة، وعمق رؤيته، وموضوعية تحيزه!!!(المشروعة)
ثم أحاول الإجابة عن هذه التساؤلات الثلاث كما يلى:
(1) إنما يقع عمل النقاش على المحورين الأول والثانى -مايظهر من ظاهر السلوك، وما يعرفه ويتذكره المبدع عن نفسه، (هذا إذا تجاوزنا عن التقريب والتعميم والتشويه، بدون قصد، بل وبحسن نيه غالبا!!)
(2) فى حين يقع “نص” أصداء السيرة الذاتية متداخلا مكثفا ليشمل بعض المحور الثانى (ما يعرفه محفوظ وما يتذكره عن نفسه)، وكثير من المحور الثالث (ما يظهر فى بعض إبداعه قصدا غير مباشر)، وقليل من المحور الرابع (ما يظهر بالرغم منه)، وأيضا قدرا من المحورين الخامس والسادس (عكس “ماهو”، ثم “صورة ذاته”، وليس ذاته – وهذا ما تبينته بعد عـشرته شخصيا وهو ما رفضته فى باديء الأمر، ثم قبلت بعضه على مضض).
(3) وأخيرا: أين تقع قراءتى للأصداء هذه وخاصة ما أقدمه فى هذا الكتاب الثانى من كل هذا؟
قبل أن أصل إلى هذا التنظير، كنت قد وجدت نفسى فى حرج شديد وأنا أواصل هذه القراءة النقدية، وخاصة حين وصلت إلى هذا الذى أسميته” القراءة الجامعة” والتى أحاول من خلالها أن أتعرف على الجانب الأعمق من وجود هذا الإنسان كما ظهر فى إبداعه هذا.
ذلك أننى بدأت قراءة هذا النص نقدا (أصداء السيرة) حين كتبت مقدمة محدودة، وذلك منذ أكثر من ست سنوات، وكانت الأصداء مازالت تنشر فى الأهرام، ولما تكتمل بعد، ثم توقفت مجلة “الإنسان والتطور” التى نشرت فيها هذه المقدمة، و بعد سنوات، تعرفت شخصيا على الكاتب حتى صرت قريبا جدا(جدا) منه، ثم عادت “الإنسان والتطور” للظهور، فعاودت قراءة النص تفصيلا فيما أسميته: القراءة التشريحية، والتى شغلت الفصول الأربعة الأولى من هذا العمل.
وقد بلغنى من خلال المعاشرة الشخصية المباشرة والحميمة ما كان جديرا أن يـعتـم رؤيتى وأنا أواصل قراءة هذا العمل ناقدا، وخاصة حين أتناوله باعتباره سيرة ذاتية، ناسيا أنه أصداؤها ليس إلا..، ذلك أنه قد بدا لى أن حضور الكاتب قريبا منى لحما حيا متحركا يملأ وعيى كثيرا، ويبهرنى أحيانا غير قليلة، ويدهشنى أقل، وأرفضه أحيانا، كل ذلك، إنما يبعدنى قليلا أو كثيرا عن النص الذى بين يدى، إذ يحل محله صاحبه دون إذن منى.
فإذا أضفنا إلى ذلك ما لاح لى من ضرورة ربط هذه القراءة، إن عاجلا أو آجلا، بأعماله الأخرى تبين حجم المعاناة، ومقدار التحدى.
ثم ظهرت ذكريات الكاتب فى كتاب النقاش، فشعرت بالصعوبات تتضاعف، والحرج يتعمق.
وأخيرا قلت:
ليكن، ولتكن قراءة النقاش زاوية من الزوايا، وإن كانت قد ظهرت بعض أجزائها من خلال مرايا محدبة أو مقعرة أو مشروخة فى أكثر من موقع.
ولتكن معرفتى بالمؤلف -شخصيا مؤخرا -أرضية لن أسمح لها أن تظهر فى قراءتى للأصداء ما أمكننى ذلك (وهو عسير)
ولتكن أعماله الأخرى بمثابة الإطار المرجعى الذى قد أسمح بأن أعود إلى بعض ما سبق أن تيسر لى دراسته ناقدا لبعض أعماله(1)) دون اللجوء إلى سائر أعماله الأخرى فى المرحلة الراهنة، بمعنى أننى لن أتوقف عند محاولة مقارنة شاملة لأعماله الكاملة، لأثبت ما ذهبت إليه فى قراءتى الحالية، وإن كنت أتصور أننى يمكننى، لاحقا، أن أرجع إلى مثل ذلك لأقيس به، أو من خلاله، ما وصلنى من هذاالعمل بالذات باعتباره آخر أعماله المتكاملة.
فأنا -إذن- إنما أكتب هذه القراءة النقدية “أساسا”: للكاتب – نجيب محفوظ- الذى كتب أصداء السيرة الذاتية بشكل محدد، دون نجيب محفوظ الذى أعرفه، ودون نجيب محفوظ الذى قرأته “هناك“ (وإن كان ذلك مستحيلا طبعا).
وهكذا، أقدم هذا الكتاب الثانى من القراءة لأعرض لبعض ما وصلنى -مجتمعا- من أصداء سيرة محفوظ بعد أن حاولت معايشة كل فقرة على حدة فى الفصول الأربعة السابقة.
ملحوظة: بعد كتابة مسودة هذا الجزء، وجدت تعارضا ما بين بعض أجزاء الدراسة التشريحية، وبين هذه الدراسة الجامعة، ولم أجد حرجا فى التراجع عن بعض ما ذهبت إليه مجزءا، فالسياق العام غير الأبجدية المتناثرة (أنظر نهاية الفصل الأول مثلا).
”….. فالطفل الذى بقى نابضا ولم يغب أبدا رغم اختفاء أوصافه هو طفل نجيب محفوظ وليس طفل الشيخ عبد ربه الذى تاه منه، ذلك أننى وأنا أبحث عن معالم الطفل فى الأصداء اكتشفت أنه بقدر ما حضرت الطفولة بشكل مباشر وغير مباشر فى النصف الأول من الأصداء(2) توارت بشكل واضح منذ ظهور الشيخ عبد ربه(3))، إذن فقد تاه الطفل فعلا، لا لأنه تكامل فى “الشيخ عبد ربه” حتى أصبح لقبه (عبد ربه التائه)، – وهذا ماخطر لى سالفا فى القراءة التشريحية بل لأن الشيخ عبد ربه قرر أن يتنازل عن خدماته ليلقى إلينا بالحكمة مباشرة……”
الفصل الأول
تجليات الطفولة ودوام نبضها
نحن لا نعرف ما هى الطفولة؟
حين نعيشها بحقها لا نعيها بما هى، ولا ينبغى أن نفعل، حتى لا ننتزع منها سلاستها وتلقائيتها، وحين نتجاوزها، نتصور أننا نتذكرها ونحن نحكيها من بعيد، لكن الحقيقة أنها تختفى خلف رموز الكلمات ومضامينها العجوز، فضلا عما يصيبها من تشويهات وتباديل من فعل فذلكة الذاكرة وتزييفها بوصاية تصوراتنا عنها (عن الطفولة).
فما العمل؟ وكيف السبيل أن نعرف ماهية ما هو طفل، وما هى طفولة، الأمر الذى لا غنى عنه فى مجال العلم والتربية، فضلا عن مجال الفن والإبداع، ثم إنه متعلق حتما برؤيتنا وتخطيطنا للمستقبل.
فى دراسة سابقة عن منهج دراسة ما هو طفولة، أشرت إلى الصعوبات التى تكتنف هذه المسألة، وقارنت بينها وبين الصعوبات التى تكتنف دراسة الجنون(4)، وانتهيت إلى أنه يكاد يستحيل التعرف على ما هو طفولة إلا من خلال المنهج الفينومينولوجى (وهو غير المنهج الاستبطانى طبعا)، وأن ذلك شديد الندرة بالغ الصعوبة
ثم فى دراسة نقدية لاحقة لعمـلين من أعمال ديستويفسكى غير المشهورة (نيتوتشكا نزفانوفنا، والفارس الصغير) حاولت أن أبين كيف أن الفن أقدر على تناول ما هو طفولة بطريقة صادقة وعميقة وتفصيلية أكثر من ادعاءات أغلب مناهج العلم، ولا يحتاج الأمر إلى التذكرة بأن الكتابة عن الطفولة غير الكتابة للأطفال(5). ثم إن الكتابة عن طفولة طفل فى قصة (مثل نيتوتشكا نزفانوفنا لديستويفسكى)(6) هى غير الكتابة عن طفولة الكاتب نفسه فيما يسمى السيرة الذاتية.
وبالنسبة لنجيب محفوظ فإنه كان من أكثر المبدعين أمانة حين أعلن أنه حاول أن يكتب قصصا للأطفال، وأنه وجد صعوبة بالغة أوقفته بعد محاولة واحدة أو بضع محاولات، إلا أن حضور الأطفال فى كل إبداعاته كان شديد الحساسية شديد الدلالة، ولعل من أروع تجليات ذلك ما جاء فى وصف طفولة كمال أحمد عبد الجواد فى “بين القصرين”، ولعل المتتبع لنمو كمال أحمد عبد الجواد وتطور أحواله يتعجب – لأول وهلة- مما صار إليه هذا الطفل الظريف الجميل الولع بالغناء المتجرئ حتى على والده بما تيسر، كيف آل هذاالطفل إلى ذلك الشاب الإنطوائى الكثير الفكر البالغ الحياء، لكن هذا التطور هو من عظمة الفن حقيقة وفعلا، وقد كنت دائما أخشى أن يـستدرج المبدعون ليستشيروا أهل علم النفس فيما يفعلون، أو أن يغالوا فى تصديق ما يـكتب فى التربية وعلم النفس والتحليل النفسى، لأن محفوظ لو كان قد فعل ذلك مثلا فى حالة كمال أحمد عبد الجواد لكان لزاما عليه أن يرسمه طفلا منطويا “نموذجيا” مطيعا إلى آخر ما تقوله كتب علم النفس فى وصف “الطفل النموذجي”Model Child الذى يمكن أن يخرج لنا هذا الشاب الحيى المستغرق فى الذاتوية والتفكير الباطنى (كمال).
ونجيب محفوظ لم يخلق طفلا ظهر فى رواية من رواياته إلا وأولاه حقه وصفا وإحاطة بما ينبغى،كما ينبغى، ويعلمنا.
فإذا حددنا الحديث عن أعماله التى فيها رائحة السيرة الذاتية (وكلها تكاد تكون كذلك) فإننا نركز خاصة على حكايات حارتنا، (أكثر من المرايا)، “والباقى من الزمن ساعة”، “وأحاديث الصباح والمساء” مع أنها كلها زاخزة بما أريد إيضاحه هنا، وهو أن هذا الكاتب يعرف هذه المنطقة – منطقة الطفولة – أعمق ما تكون المعرفة.
ثم فجأة – نعم فجأة- تطل علينا طفولته فى هذه الأصداء هكذا:
هكذا ماذا؟
وصلتنى هذه الطفولة من الأصداء ناضجة دائمة الإبداع، حاضرة التجلى: منذ أول حلقة نشرت فى الأهرام حيث كتبت عن ذلك سنة 1994 ما يلى بالنص:
”.. لكن هذا العمل….. تجد فيه ذكرى عابرة تبدو عادية، لكن حين يحكيها شيخ – بـفرحة طفل – تبدو رائعة وخاصة ومتميزة”
إلا أننى فى هذه الدراسة الجامعة أنتقل من الانطباع إلى التحديد، فأضع لهذا الجزء من هذا الفصل (!!) فروضا أساسية – لها تفريعاتها طبعا- كما يلى:
أولا: إن الطفولة ليست مرحلة تاريخية نعيشها ثم ننتقل منها إلى ما بعدها، وإنما هى مرحلة بدئية تتطور فينا وبنا حيث:
(ا) تتداخل فيما بعدها متكاملة فى النضج السوى،
(ب) أو تختفى مــــنــكرة أو منسية (7)
ثانيا: إن مرحلة الطفولة قد تظهر مستقلة عند الشخص العادى جدا (فرط العادية)(8)) فى الحلم أساسا، أو قد تفبرك إذا تعسفنا تذكرها بالتزييف دون أن ندرى، سواء ظهر ذلك فيما يسمى السيرة الذاتية، أو حكيت فيما يسمى التحليل النفسى، أو رويت بزهو عنترى لطيف للأولاد والأحفاد ومن مثلهم (!!)
ثالثا: إن هذه المرحلة (الطفولة) تظل نشطة نابضة عند المبدعين خاصة، لكنها لا تنشط مستقلة، وإنما تتكامل فى النشاط الناضج الراصد القادر، فيتخلق الناتج الإبداعى الأصيل، فالطفولة – متكاملة- تصبح مسئولة عن إثراء المحاولات الإبداعية بنبض الطزاجة واستمرار الدهشة، وأحيانا ما تساهم فى رسم بعض تجليات الطفولة مباشرة إذا ما كان فى العمل الروائى أو المسرحى أطفال من نسج خيال المبدع.
رابعا: فيما يتعلق بما يسمى السيرة الذاتية التى يغامر بعض المبدعين بالإقدام على تسجيلها، لا يكون حضور مرحلة الطفولة فى شكل ذكريات هو الحضور الموضوعى الذى يمكن أن يعلن لنا كيف نشأ المبدع -مثلا- وكيف أثرت طفولته فى مسار إبداعه، ومهما كان المصدر بادى المصداقية ظاهر الأمانة، فإن هذا الحكى تتداخل فيه ألعاب الذاكرة لا محالة، وبالتالى يتدخـل أثر الوعى الآنى المباشر بما يحكى عن نفسه، ولو بدرجة غير مشوهة.
خامسا: إن أصداء السيرة الذاتية لنجيب محفوظ قد قدمت لنا صورة فائفة التوليف بين عدة مستويات، ففى الوقت التى هى ليست ذكريات خاصة، وفى الوقت التى هى ليست حكيا عن طفل فى قصة أو رواية، فإنها قد صاغت نبض الطفولة الحاضرة حالا (حال كتابة الأصداء) فى تجليات مجسدة راحت تتردد كرجع الصدى، لتعلن عدة مستويات معا (على الوجه التالى):
(1) حضور طفولة المبدع شخصيا، فى تجليات تعاش أكثر منها ذكريات تحكى، بمعنى أن الطفل الذى “نراه” فى الأصداء نراه “حاضرا” وليس “ماضيا”.
(2) الحفاظ على كم الطزاجة والدهشة حتي(وخاصة!) فى مواجهة الكوارث والموت.
(3) انسياب الخيال الخصب الموجز الذى يجمع بين شدة البراءة وعمق الرؤية،.
(4) تناول ما هو طفل، وطفولة، وطفلى، بشكل يكشف عن معلومات أساسية (الكشف المعرفى بالإبداع الروائى) بما يمكن أن يضيف إلى المعارف النفسية ما تحتاج إليه حتما.
وتفصيل ذلك:
(1) حضور الطفل منذ البداية
ظل الطفل “نجيب محفوظ” (وليس طـفل نجيب محفوظ) رائعا حاضرا متكاملا طول الأصداء، حتى بعد أن استولى عليه الشيخ عبد ربه التائه، ويبدو أننى تحسست ذلك فى الكتاب الأول حين عنونت الفصل الأول هكذا “الطفل يرحب بالشيخوخة ويغازل الموت“، ثم كان الفصل الثالث (الممتد فى الفصل الرابع) بعنوان “إبن حظ”:طفل تائه (ياأولاد الحلال) فى ثوب كهل يعبد ربه،.
كتبت فى الفصل الأول: شارحا أول فقرة: “دعاء“(9)(1) ما يلى:
تبدأ الأصداء بطفل قبل السابعة، يحمل بذور الثورة الفطرية الجميلة، التى أسماها “حنين للفوضي”، تواكبها كآبة نتيجة للإحاطة المحكمة ما بين خادمة تحرسه، وقهر يسوقه…إلخ
وأكرر أن الحضور الحى للطفل بهذه الصورة الصريحة لا يعني-مباشرة- أن هذا هو محفوظ طفلا، فعلينا أن نستقبل هذا الطفل الذى سنتحدث عنه باعتباره تجليات الطفل الآنى عند محفوظ حالة كونه يكتب الأصداء، فالفرض الذى نحاول إثباته هو أن طفل محفوظ تكامــل فى كاتب الأصداء، فهو قد حضر فى حاضر إبداع الأصداء، وبألفاظ أخرى نكرر: نحن نقدم طفلا آنيا حاضرا، وليس ذكريات مضت يستعيدها كاتب يتذكر.
(2) حضور الطفل حتى النهاية
تنتهى الأصداء، أو تكاد تنتهى (فقرة الطائر الأخضر 208) بخيال طفلى رائق فى مواجهة “المغيب”، وذلك حين يوجز الشيخ عبد ربه التائه حياته، وكيف أنه قضاها فى حب ونجاح وغناء فى الليالى البدرية، إذا به يعلن حلاوة النهاية، وبدلا من أن يطلق علينا قذيفة وعظ حكيمة، يستدعى طفله (وقليلا مايفعل ذلك الشيخ عبد ربه، عكس محفوظ – أنظر بعد)، يستدعى طفله ليستعيد إبداع الطفولة الفخور بالجهل المعرفى
”وعند المغيب هبط الطائر الأخضر فغرد وأشجانى دون أن أفقه له معنى.”
إن من أكبر ما يميز الطفولة هو ما يمكن أن يسمى الجهل المعرفى، ولعله هو هو الغيب الذى على المسلم أن يحافظ على “الإيمان به” حرصا على طزاجة فطرته، وقد أشرت فى الدراسة التشريحية إلى قراءتى مغزى الطائر الأخضر فى هذه الفقرة، متصورا أنه يقابل بشكل ما:
” ماكان أهلنا يقولونه لنا صغارا فى قريتنا: من أن “الذبابة الخضراء” التى تحوم أحيانا حولنا، هى “روح عزيز”، فأحببناها، وصالحنا الموت من خلالها”. (10)
ولا أريد أن أسبق الأحداث لأعلن اختلاف حضور الطفل قبل وبعد ظهور الشيخ عبد ربه التائه، فسوف يأتى هذا فى حينه، فقط أريد أن أنبه هنا إلى أنه بالرغم مما سنرى ماذا فعل الشيخ عبد ربه بطفل محفوظ، فإن حضور الطفل لم ينقطع أبدا ولو بشكل غير مباشر.
3- الطفل يعيش الجدل، ويتحمل التناقض، ويصالحنا على الموت
نفاجأ فى الفقرة التالية مباشرة “رثاء” (2) بإظهار قدرة الطفل على استيعاب ما لا يستطيعه الناضج، فهو فى حضوره فى مواجهة الفقد (موت الجدة) يتعرف، ويستكشف، ويجزع، ويشارك، ثم يتجاوز، حتى نشعر أننا لو تعلمنا منه كل ذلك فى مواجهة الموت، لهان الموت، فالطفل فى هذه الفقرة استطاع أن يتحمل غموض التناقض، ليثبت لنا أن الطفولة أقدر على التعرف على الموت وتجاوزه، وأن الموت الذى يتحدث عنه الكهول وينتظرونه ليس مطروحا على من استطاع أن يحتفظ بطفولته نابضة متجددة، بل إن هذا الموت الذى استوعبه هذا الطفل ليتجاوزه إنما يعلن -ضمنا- أن الطفولة الدائمة المتجددة هى بعث متكرر، وأن الموت هو التمهيد الضرورى للبعث، إذ لا يوجد بعث بلا موت، وهنا يظهر المقابل، حيث تقفز الولادة (التغير) من خلال الموت!!!
فعلى الرغم من هول الصدمة الأولى التى عاناها طفلنا هذا وهو يتعرف على الموت فى أول زيارة له باعتباره “عملاقا له أنفاس تتردد فى كل الحجرات، إذ راح شبحه يطارد طفلنا دون هوادة، على الرغم من ذلك فقد راح الطفل يجرى أمامه: لا ليختبئ، ولكن ليلتقى بالحياة، “الجميلة – ذات الضفيرة”-..إلخ
فهذه البداية الواضحة التى تتوثق فيها الحركة بين الحياة والموت، إنما تعلن بشكل مباشر أن الذى ينقذنا من الموت (الموت/الفناء) هو الاندفاع المتجدد نحو إعادة الولادة (تجديد الطفولة فينا)، ومحفوظ يعبر عن ذلك من خلال وصفه لاندفاعة الطفل الهارب من الاستسلام لأسى الفقد (الموت/الاختفاء) إلى الجميلة ذات الضفائر فى وصفه لحركته بأنها حركة “مباغتة، متسمة بالعنف، متعطشه للجنون”.
فأى طفولة حية هذه التى يسترجعها صاحب الأصداء بهذا الوضوح حتى يعلمنا جمال انفجارات وعى الأطفال الداخلية، تلك الانفجارات التى تـغلف بالجنس دون أن يكون بالضرورة جنسا وإنما حياة (لاتستبعد الجنس)، فها نحن نفاجأ بطفلنا وهو يجذب الجميلة إليه قادرا، ولا يرتمى فى حضنها هربا، يجذبها بكل ما يموج به صدره من “حزن وخوف”!!!
فطفل الأصداء، هكذا منذ البداية، ليس ذلك الطفل الذى مسخناه بأوهامنا عن تقديس البراءة، وحلاوة النكوص، لكنه الطفل الفطرة، الطفل العملاق الطيب الذى راح يدور حولنا ويأخذ بيدنا بينما الأصداء تتردد، ليمارس أمامنا ما لا يستطيع الناضج العادى (أو المفرط فى العادية) أن يمارسه، وكأن محفوظ راح ينبهنا إلى أن الطفل فينا إذا ما حافظنا عليه، هو الذى يمكن أن يؤلف بين المتناقضات فى سهولة ويسر، فنتذكر-رافضين- أولئك الذين يتحدثون عن “الجدل” حتى يحرموا من ممارسته وهم ينسون أو يجهلون أن جدل الحياة فى التوليف بين المتناقضات هو قبل الكلام وقبل التنظير، وبعدهما على قمة حركية النضج، فالجدل هو قانون الطبيعة وليس من علوم الكلام أو الكتابة، وهو -بالتالي- أقرب إلى الطفولة المتكاملة هذه.
(4) تفجرات الولادة الجديدة منذ الطفولة
ما زلنا فى الفقرات الباكرة، فنرى فى الفقرة التالية مباشرة-فقرة “دين قديم” (3)- كيف خرج الطفل من أزمة المرض بعد أن فرح بالرعاية المفرطة حتى كاد يستمرئـها، كيف خرج إنسانا آخر أكثر التزاما “خــلق بين جوانحى شخص جديد”، علما بأن التفكير المنطقى العادى السائد يحذرنا من مثل هذه المواقف التى قد تـعلم الطفل فرط الاعتمادية، تعلمنا: كيف خرج طفلنا هذا من إغراء الاعتمادية والتمادى فى العجز، خرج ملتزما مدينا بما ينبغى، “هكذا”، فراح يتفوق غير مكره على “ذلك”!
وقد تحفظت – فى القراءة التشريحية- على احتمال”إعادة الولادة ” فى هذه السن الباكرة، إلا أن هذا الاحتمال قد نبهنى إلى أن إبداع محفوظ يقترح -صادقا- أن النمو يتفجر حلقات بعضها من بعض فى أى سن، ومع أية فرصة، وأنه لا توجد فترة كمون طويلة كما صور لنا فرويد فى هذه المرحلة من العمر (من خمس سنوات حتى البلوغ)، وأن الطفل إذ يشبع مما يشبه السلبية(إغراء الاعتمادية والتمادى فى العجز)، قد ينطلق إلى التزام ناضج غير متوقع يعلن طفرة محدودة على مسار النمو، كما رأينا فى هذه الفقرة !!
(5) الطفل الفيلسوف الحائر:
نعرف علاقة نجيب محفوظ بالفلسفة، ونتذكر حيرة اختياره الباكر بين المسار الأكاديمى فى الجامعة فيلسوفا أو أستاذا للفلسفة وبين الأدب (والوظيفة التقليدية)، وهو يزعم أنه ترك الفلسفة إلى الأدب بصعوبة، ولكن بحسم لا رجعة فيه، وكثير من أعماله ترفض هذا الزعم، ثم تأتى الأصداء لتدعم هذا الرفض، ثم يحضر طفل الأصداء ليؤكد مباشرة أن نجيب محفوظ لم يترك الفلسفة أبدا، فإن كان قد تركها، فقد تركها إلى أصلها، أعنى “حب الحكمة، بتطوير تساؤلات الطفل.
ذلك أننا نعرف أن أسئلة الأطفال هى هى أسئلة الفلاسفة، لكن الطفل يسأل ويتسائل ولا يلتزم بمنهج رصين فى محاولة الإجابة، أما الفيلسوف فهو يسأل ويتساءل ويجتهد ويلتزم ويثابر ويولد الأسئلة من الأسئلة والفروض من الحيرة..إلخ
والطفل فى الأصداء لم “يدع فرصة” إلا ورمى فى وجهنا أسئلته التى تجاوزت مرحلة الفجاجة والاستفهام السلبى، إلى مرحلة التساؤل الذى يحمل إجابته، كما يحمل مخاطرة التصادم من فرط الإدهاش.
1- ففى فقرة “مفترق الطرق” (5) تصورت أن مفترق الطرق هو الذى جعل أحد الشقيقين (إبنا العمة)”بيها” (من بيه!!، بك) والآخر فلاحا “لم يتبوه”، وعلى الرغم من أن الذى كان يحضر بانتظام لزيارة أمه (عمة الطفل الراوى) هو الفلاح وليس البيه، فقد كانت تساؤلات الطفل عن “الذى يحضر” لا عن “الذى يغيب”، وكأنه يعترض أن صاحب الواجب هذا نكرة، و أن الغائب المتمنظر هو الأصل الذى يـنـسب إليه هذا الحاضر، وأهم ما شدنى فى هذه الفقرة هو عنوانها”مفترق الطرق”، حتى تصورت أن ما شد الطفل هو سؤال يقول: “متى افترقت الطرق بالشقيقين؟ حتى أصبح هذا بيها يحترم تلقائيا حتى فى غيابه، وأصبح شقيقه فلاحا تطلب العمة له الاحترام بالأمر من ابن شقيقها- حالة إعلان وجوده بالحضور العيني!!
فالذى يتحدث بهذا العمق تحت هذا العنوان الغامض نسبيا عن مفترق الطرق هو طفلنا الحكيم (الفيلسوف) جدا. 2- وفى فقرة “الأيام الحلوة”(6): يصلنا تساؤل الطفل عن معنى وقيمة “العمر الافتراضي” للقوة الغاشمة، وكيف أنها تلغى “الآخر” بعيدا أو منفيا أو مجهلا حتى نهاية العمر. إلا أن طفل الأصداء لا يجعلها تمر هكذا، فهو بادى التسامح إزاءها عكس ما اعتدنا من إعلاء شأن المبالغة فى مصارعة القهر وكلام من هذا، لكن طفلنا بالغ التسامح يحكى عن هذه “القوة الغاشمة” وكيف بلغت نهايتها وهو يتابعها حتى يرينا مدى عمرها الافتراضى، وكيف استمر عـمـى صاحبها حتى بعد أن زالت القوة، ولم تبق غير ذكرياتها التى مازال يعتبرها هذا الغشيم “أياما حلوة”!!!
3- إلا أن هذه الحكمة المباشرة -نسبيا- تتضاءل بجوار الحكمة التى تصلنا خفية رائعة من فقرة مثل فقرة “المليم ” (33)، فالطفل هنا يعلمنا من خلال نسيانه ما كلفته به أمه أن يشتريه بمليم، وفى نفس الوقت يقينه أن ما كان مفروضا أن يشتريه لا تزيد قيمته على مليم، يعلمنا أن علينا أن نمارس الحياة ما دمنا فيها، وأنه ليس ضروريا أن نحدد “محتوي” ما تتيحه لنا الحياة بقدر ما هو مهم أن نتيقن أننا لن نحصل منها إلا بما تسمح به هذه الأدوات التى أعطتنا إياها، لا أكثر ولا أقل.
(6) الطفل الشيخ:
حين التقى “بها” وهى تلاعب حفيدها وهو يبنى قصره الرملى (فقرة “فرصة العمر” -24)، بدا لى أن الشيخ قد توحـد بحفيدها، ثم إنه حين تحسر على الفرص التى ضاعت معها، بعد أن حكت له ما حكت، بدا لى وكأنه يبنى قصورا طفلية جديدة من رمال أقل تماسكا، فعاد هذا الشيخ الجميل الشبقى طفلا من حقه أن يزور قصوره الرملية القديمة، يعاود فتح حجراتها أو حتى يأمل فى تجديدها، بل ومن حقه أن يبنى لنفسه قصورا جديدة من الرمال أيضا، مادام قد نجح هكذا فى الحفاظ على طفله نشطا فى هذه السن، وهل لبناء قصور الرمل أوان؟
(7) تجاوز الأوديبية:
لا يخفى -بصفة عامة- كيف أن نجيب محفوظ يحمل لسيجموند فرويد قدرا مناسبا من الاحترام والاعتراف بالريادة، إلا أنه لم يستدرج -مثل إحسان عبد القدوس مثلا- فيسمح للفكر التحليلى النفسى أن يأخذ دورا محددا أو مباشرا فى إبداعاته، بل إنه تناول فرويد فى “حارة العشاق” بشكل مباشر أكثر مما تأثر بفكره، ولعل أثر فرويد على إبداع نجيب محفوظ هو أنه سمح له أن يطلق نبض الجسد، ولغة الجنس بسلاسة حاضرة، وحيوية فياضة، لا أكثر.
أما علاقة شخوص محفوظ بالأم – عامة- فهى علاقة عظيمة الدلالة يمكن إرجاعها إلى علاقته شخصيا بأمه دون أن نقصرها على ذلك بداهة، والباحث التحليلى عن أوديب فى أدب نجيب محفوظ لا بد أن يتعسف حتى يجده، اللهم إلا فى السراب، وقد أوضحت فى دراستى السابقة لهذه الرواية (11)كيف أن العلاقة فى السراب كانت بادئة من الأم إلى الإبن وليس العكس كما يزعم فرويد (وهذا هو أحد التفسيرات التى عرضناها للموقف الأوديبي)((12)) وعلى الرغم من كل ذلك فيصعب أن نتكلم عن الطفل فى الأصداء دون أن نعرج إلى استقصاء الموقف الأوديبى:
فى فقرة المهمة (90) لم يفصح صاحب الأصداء ولم ينف الموقف الأوديبى، ولم تكن العلاقة مع الأم – هذا إن كانت علاقة أصلا- بل مع بديلة لها “الجارة”، وكان الأهم فى الفقرة هو ما ذهب الطفل لإحضاره، من الجارة (بديلة الأم)، وليس ما كان من تفريج الجارة له أرجاء بيتها حتى “مضى الوقت مثل نهر جار”، ولم تختف أمه الحقيقية (الأصل) عن هذه الصورة للأم بل “كانت..ترد على خاطرى أحيانا فأتخيلها وهى تنتظر” أمـه الحقيقية، تنتظر ما ذهب لإحضاره، أم تنتظر ما لم يصرح به محفوظ؟ بل إنه من المحتمل أن انتظار الأم هكذا كان رفضا للموقف الأوديبى المحتمل وليس ترجيحا له.
وهكذا يبدو كم تكون قراءة هذه الفقرة -أوديبيا!! – تعسفا لا مبرر له.
لكن فى فقرة النهر (97) تصرح العجوز التى التقى بها بعد فترة وهى تذكره بنفسها ” كنت أول تجربة لى وأنت تلميذ “و: “لم يكن ينقصنا إلا خطوة!”، فإننا لا نستطيع – رغم حذق محفوظ فى التخفى – إلا أن يخطر ببالنا هذا الميل إلى الأم البديلة، لكن ليست كل علاقة بين صغير وكبيرة (سنا) هى أوديبية أصلا، فليس هنا ثمة تنافس مع أب، وليس ثمة محرمات وليس ثمة عمى عن طبيعة العلاقة.
وقبل ذلك، فى فقرة “المتسول”(36) أطلت إطلالة جنسية بين فتى فى العشرين وجارته – الرحبة السخية الأنوثة – فى الخمسين، ولا يمكن اختزال هذه العلاقة إلى أى مستوى أوديبى.
من كل ذلك نستطيع القول إن محفوظ الطفل فى الأصداء (وغالبا فى غير الأصداء) لم يركز بشكل مباشر أو غير مباشر على العلاقة الأوديبية ودورها فى نمو أو تشويه الطفل، وإن كان قد تناول العلاقات الأموية الطفلية بكل عمق، كما تناول العلاقات الجسدية والعاطفية والجنسية بكل إحاطة، وقد بدا لى أن هذا الفصل غير المقصود بين أسطورة أوديب وبين نمو الطفل ليس إنكارا مباشرا لعقدة أوديب، لكنه تأكيد على أبعاد أعمق وأرحب لمسار الطفل النامى، وهو إشارة إلى أن توجه بعض الرغبات الحيوية أو العاطفية أو الجنسية إلى الأقربين من الجنسين، أو إلى من هو أكبر سنا، لا يحتاج إلى كل هذه الأساطير شبه العلمية، بل إنى شعرت أن المغالاة وربما سوء الفهم أو سوء التأويل التى قرأ بهما فرويد أسطورة سوفكليس يمكن أن يكون حائلا دون فهم نمو الطفل بالمعنى الذى أردنا أن نقدمه فى هذه الدراسة، وبيان ذلك:
إنه ليس من المفروض ولا هو مطلوب أن ينتصر الطفل على والده بعد منافسة جنسية تمر بالتقمص حتى يستقل، ولا هو جائز أو صحى أن ينتصر الوالد على الطفل فينفيه أو ينبذه، حلا للموقف الأوديبى، بل إن الوارد فى هذا الفرض الذى نتبناه عامة لتفسير هذه العلاقة، وهو ما نحاول تطبيقه فى قراءة الأصداء الآن أن المسار الأرجح، هو أن الطفل يتطور فى طفرات، وأنه إذا تقمص الوالد فإن ذلك مرحلة مؤقتة سرعان ما يخلع بعدها هذا القميص من خلال اضطراد نموه، ليصبح كيانه الطفلى (الذى كان طفليا) إثراء للكيان الكلى وجزءا منه، وكل هذا لا يحتاج إلى تأويل أوديبى أو خصائى أو جنسى أصلا، (وهذا بعض ما نحاول إثباته فى معظم قراءة هذا الجزء)
(8) إيجابية الهجران، وازدواجية النداء:
تنتهى فقرة “القبر الذهبي”(48) بأنه: “هنيئا لمن كانت نشأته فى بوتقة الهجران”.
ومع أنه كان مناما، ومع أن النقش كان على قبر، ومع أن القبر كان ذهبيا، إلا أن العبارة لم تفقد معناها الدال، فمنظر القبر تحت أغصان شجرة سامقة مغطاة بالبلابل الشادية، لا يعلن الموت مهما أوحت الألفاظ، ومن منطلق ما تدعونا إليه الأصداء لإعادة النظر فى إشاعات التربية، فإن هذه الفقرة تشير إلى دور “الهجران الإيجابي” (إن صح التعبير) فى مقابل وفرة الرعاية وإحاطتها من جهة، والحرمان النبــذى أو اللامبالى من جهة أخرى، وقد ذكرت فى الدراسة التشريحية كيف يزعم رهط من علماء النفس، وإلى درجة أقل علماء التربية، أو من يسيئون فهم هؤلاء وأولئك، كيف يزعم هؤلاء وأولئك أن:
”…..الهجران – خاصة فى الطفولة – كله شر، وأن “الطفولة السعيدة” هى القادرة أن توصلنا إلى “الصحة السعيدة” التى تحيطنا ونحن نرفل فى “مجتمع الرفاهية”، وهى التى تتم بعيدا عن “بوتقة الهجران”، وكل هذا يضربه محفوظ فى جملة واحدة.
والواقع الذى نستلهمه من هذا الإعلان ” هنيئا لمن كانت نشأته فى بوتقة الحرمان: هو أن الطفل ينشأ سويا نابضا بقدر ما تتناسب وتتبادل جرعات الهجران مع جرعات الرى والحنان، وأنه لا مفر من الممارسة المتصلة لحركية “الهجران فالإحاطة” وهى المقابل لما يسمى برنامج “الذهاب والعودة”In and out program والذى يشير إلى أن النمو لا يسير فى خط طولى، وإنما يضطرد فى بسط متناوب حين يمضى الطفل -والكائن الحى بصفة عامة – فى حركية لا تهدأ.
وبوتقة الهجران -كما فهمتها- هى ما يصل إلى وعى الطفل بأى درجة بما يفيد:التهديد بالانفصال، بالخروج من الرحم (الجسدى ثم النفسى)= بالخروج من الجنة الأولى، وكل هذا هو من آلام الولادة (ولادة الذات) وليس من واقع التهديد بالبتر (الخصي=عقدة الخصاء عند فرويد).
أما الهجران السلبى المدمر لنشأة الطفل السليمة فهو أقرب إلى “محرقة” الحرمان” منه إلى “بوتقة الهجران” التى حياها محفوظ هنا، وللتمييز فإن محرقة الحرمان يمكن أن تتمثل فى موقفين على طرفين متباعدين:
(ا) الأول: الإهمال برودا أو نبذا أو إنكارا
(ب) الثانى: الحيلولة دون الانفصال عن الأصل (أى دون الولادة النفسية) تحت زعم فرط الرعاية حتى الاحتواء الملتهم، ومن ثم الحرمان من السير على طريق التفرد سعيا لمواصلة جدل الاستقلال المحاور.
والأصداء هنا مثل كثير من أعمال محفوظ، تكشف ضرورة الحفاظ على أهمية الحرمان الإيجابى بشكل أو بآخر.
وهذا الانفصال/ الاتصال النمائى ليس ضد الحنين إلى العودة، فهو (الانفصال) لا يحول دون الاحتفاظ بحق النداء الواعد بالتلاشى فى رحم كون أكبر، بل أنه يحفزه ويحافظ عليه طول الوقت، وهذا ما تعد به أغلب الأديان والرؤى التكاملية أو التصوفية، يظهر هذا فى الفقرتين التاليتين مباشرة بعنوان “الرسالة (49) ثم النداء (50).
ففى الرسالة يجد كلمة واحدة فى الورقة الملقاة المطوية “تعال..ستجدنى كما تحب“،، وهو يتلقى الدعوة على الرغم من أنها ليست موجهة إليه بداهة، فيستجيب بأن يــقبل على الدنيا “التى لا ينضب فيها معين الحب” ليتجاوز تردده فيبدأ إجراءاته ليكون له مدفن خاص فى هذه المدينة المترامية “، وهنا تصبح الدعوة إلى اقتحام الدنيا الواعدة بالحب، وليست دعوة إلى النكوص إلى الرحم الواعد بالحماية دون الحياة، كما تتأكد مسيرة الإقدام بالاستعداد الراضى بالنهاية الطبيعية بديلا عن أوهام الخلود والتأجيل.
وهذه الاستجابة للرسالة بالإقدام على الدنيا، فى نفس الوقت: والرضى بالموت، هى النتاج الطبيعى للأثار الإيجابية التى يـكافأ بها من “نشأ فى بوتقة الهجران”، حيث قلنا فيما سبق من دراسة تشريحية
و”…..ظهر لنا المدفن وكأنه حقيقة الحكاية المتجددة، وليس مضجع الجثة النهاية”
أما فى الفقرة التالية “النداء” (50) فإن الدعوة تتجاوز الوعد بأنه “ستجدنى كما تحب” إلى “أترك كل شيء واتبعني”، وهى ليست دعوة لترك الدنيا والطرب ولا هى دعوة للعصيان، بل هى دعوة حوارية، وليست قهرا مفروضا وحتميا، حيث تنتهى الفقرة بـ”كلانا لم يعرف اليأس بعد”.
وكل ذلك يؤكد أن الطفل (فالإنسان) لا يكف عن الحوار مع البدايات والنهايات أبدا، وأن “بوتقة الهجران ” هى جزء لا يتجزأ من حيوية الجدل الحيوى، وأن نداء الدنيا التى “لا ينضب فيها معين الحب ” لا ينفصل عن نداء الموت الذى لا ينتهى معه جدل التحدى الواعد بتخليق الممكن فى أرض يقين النهاية.
فمزاعم وجوب الحب الدائم، و ضرورة الرعاية المتصلة للأطفال، وحتم الاستجابة لهم طول الوقت، وتجنب حرمانهم، (قال ماذا؟) من متطلباتهم (التى لا نعرفها) كل هذه المزاعم تتعرى أمام هذاالإبداع المؤكـد على حـتمية الهجران، وعلى أهمية تلقى رسائل الحياة مع استعياب نداء الموت فى آن واحد.
وبالنسبة للتأكيد على “أين يقع هذا من الطفولة” ومعرفتنا بها، فإن الإبداع الحقيقى ينبهنا إلى أن الطبيعة إنما تـلهم كل أم (و: أب) بهذه المسيرة الطبيعية لطفولة الإنسان ومتطلبات نمائه (التى لها ما يقابلها فى سائر الأحياء)، وأنه علينا أن نخفف من غلوائنا فى إسقاط ما نحتاجه نحن من رعاية ورفاهية على متطلبات الأطفال واحتياجاتهم.
وهكذا يمكن أن يهدينا الإبداع الأصيل إلى تعديل خططنا التربوية بشكل أو بآخر.
(9) التأكيد على جدل النمو
ومن المناسب أن نتذكر كيف يقفز الموت (بصورتيه: السلبية والإيجابية) كلما اقتربنا من وعى الطفولة أو تعمقنا فى طزاجة الحركة، وأيضا كلما استبعدنا الاستسلام لليأس، وأرى أن ذلك تأكيد لهذا القانون الأساسى لجدل رحلة الحياة، يتضح ذلك بشكل يكاد يكون مباشرا فى فقرة (104) حيث تبدأ الفقرة هكذا:
أحببت أول ما أحببت وأنا طفل، ولهوت بزمنى حتى لاح الموت فى الأفق، وفى مطلع الشباب عرفت الحب الخالد الذى يخلفه الحبيب الفاني
فتأمل كيف يلهو الطفل بأمان فى رحاب التوجه إلى الموت الخاص: “لاح الموت فى الأفق”، ثم انظر كيف يتفجر الخلود بالحب من الأسى لفناء الحبيب، إلى أن تنتهى الفقرة بجدل متجدد يقول:
وتبين لى أن بينى وبين الموت عتابا، ولكننى مقضى على بالأمل.
فنلاحظ دقة التعبير ودلالته، وكيف أنه “مقضى عليه بالأمل“، وليس بالموت. ومتى يكون الواحد مقضى عليه بالأمل إلا أن يكون حوارا لا ينقطع، وجدلا يتخلق أبدا؟
هنا يؤكد محفوظ من جديد أن الحياة -بدءا من الطفولة- هى الصراع المتصل نتيجة لــ”حتمية الأمل”
وهذا بعض ما نعنيه بما قصدنا إليه من تعبير “دوامية الطفولة”
(10) علاقة الطفولة بالـ “فطرة”
مثل كلمات “الحقيقة، و”السعادة”، والحرية” وغيرها، تلك الكلمات الكبيرة الرائعة الغامضة الضائعة الملتبسة، تطل علينا كلمة “الفطرة”، وهى كلمة تتردد كثيرا مع ذكر الطفولة والبراءة والبدائية (و البدئية)، كما تتردد مع ذكر “الإيمان” و”التلقائية” و”الطبيعة “كذلك، وكل هذا يضعنا فى حرج شديد ونحن نستعمل بعض هذه الكلمات لنصف هذا الجانب من الطفولة
فـفى حديثنا عن دوام نبض الطفولة نقترب أكثر من حيوية “الفطرة”، وهى ما يمكن أن نصيغها فى ترديد الصوفى البسيط: “ربى كما خلقتني”، وحين أحاول تعريف الفطرة شخصيا أجتهد قائلا: إنها “قوانين الحياة الحاضرة والمتخلقـة من جدل النمو وطفرات التطور”.
فأين يقع الطفل من كل هذا؟ وأين يقع دوام نبض الطفولة من كل هذا؟ وماذا تضيف الأصداء إلى مفهومنا هذا؟
إن ما نعنيه بدوام نبض الطفولة- كما أشرنا- هو ألا تختفى الطفولة لحساب ما بعدها من مراحل النمو، وإنما تظل نابضة داخل/ ومع / ومن / وبـ: كل مرحلة تالية، يتجلى هذا الفرض خاصة فى فقرة “سيدتى الحقيقة” (116) فمحفوظ يبدأها من سعيه المعرفى “فى منازل الحقيقة فى عصر الفطرة”، وهو يتدرج من طفل يرنو إلى المرأة وهى تقرفص أمام طشت الغسيل، ويداه تلعبان فى الماء، وعيناه تسترقان النظر إليه (إلى طفله)، وهو يلهو فوق السطح فى الليالى البدرية ويمد يده فى الفضاء ليقبض على وجه القمر، إلى أن يخترق نظره (نظر الطفل) جدار القبر ليتعرف على ما وراءه بما يفاجئنا أنه ليس ظلاما ولا ترابا وإنما رفقة طيبة، ومنزل من منازل الحقيقة، يمتلئ بشغف حى لاشك أنه دافئ موقظ معا.
كل ذلك يحكيه الطفل المستمر مع محفوظ، ذلك الطفل الذى تجاوز البراءة، وتداخل فى كل مرحلة نمو لاحقة، إذ راح يترجح متعبدا مستكشفا ما بين بؤرة جسد امرأة، وحضور وجه القمر، لينتهى إلى جمال وجه الموت، وأنس نبض القبر.
فهل يمكن أن يكون ذلك كذلك من طفل ساذج غفل بريء كما نصوره غالبا، أم أنه نبض الطفل -فينا- حاضرا طول الوقت من الولادة حتى الموت، بل وبعد الموت
”عندما نزور القبر فى المواسم أركز عينى على جداره لأرى.
”نعم الرفيق الشغف والمنازل”
فالفطرة هى هذا الطفل المستمر النامى – مع كل ما يليه، وهو فيه- دون تشويه،وطبقات المعرفة ومنازل الحقيقة هى الإبداع الأصيل الذى يختلط فيه المجرد بالعيانى، والخيالى بالواقع.
(11) الشيخ عبد ربه “يخفى الطفل ويدعى “تــوهه”:
حين ظهر الشيخ عبد ربه التائه أثناء نشر الأصداء فى الأهرام ظهر بترتيب خاطئ بعد أن كان قد حضر وتحدث وأفتى وتذكر، وحتى بعد أن ترتب الوضع وصحح، فى الطبقة المتكاملة، ثم بعد ذلك وأنا أكتب الدراسة التشريحية (الكتاب الأول)، وحتى وقتنا هذا، على طول هذا المدى كنت غير مرتاح لظهور هذا الشيخ عبد ربه هكذا، وقبل أن أقترب كثيرا من نجيب محفوظ -شخصيا – عبرت له عن مشاعرى نحو هذا الشيخ، حتى أننى قلت له مباشرة أننى لم أحبه،ولم أرحب بحضوره، ولم يكن محفوظ قد صرح لى (لــنا)، كما فعل لاحقا فى بعض الصحف، بأنه شخصيا هو الشيخ عبد ربه، وقد خجلت – بأثر رجعى – من ذلك التصريح بعدم حبى للشيخ عبد ربه، فما دام محفوظ قد رضى أن يتقمص هذا الشيخ أو يتقمصه الشيخ، فربما أكون قد أوصلت إليه أننى لا أحبه، ويعلم الله كم أحب نجيب محفوظ رغم أنف الشيخ عبد ربه، فكان لزاما على أن أفصل بينهما دون إذن من خالقه المبدع،.
وقد بينت فى دراستى التشريحية للأصداء لماذا تحفظت على ظهور هذا الشيخ هكذا دون دعوة من القارئ (أنا) حتى خيل إلى أنه كان عليه أن يسأذننى قبل ظهوره، وقد استبنت أسباب التحفظ وراء رفضى هذا، وهو خوفى أن تنقلب أصداء السيرة الذاتية إلى سيرة ذاتية فحسب، وبالتالى تختفى أصداؤها أو تخفت، وكذلك خوفى من الحكمة المباشرة على لسان شيخ لا أستطيع أن آنس له إلا وهو مـليء بطفولته، الأمر الذى افتقدته عند الشيخ عبد ربه دون “محفوظ”.
ثم أضيف هنا أنه قد خيل إلى أنه منذ ظهور الشيخ التائه وهو ينادى على “ولد تائه يا ولاد الحلال”(فقرة 120) انشق الطفل مستقلا عن كلية الوجود، إذ حل محله ذلك الشيخ الطيب الذى غلبت حكمته على طزاجته، وأيضا غلبت مباشرتـه على شاعريته.
وقد رفضت – فى قراءتى التشريحية الأولى – زعم محفوظ أن طفله تاه منه منذ سبعين سنة، وافترضت أنه إذا كان الولد تاه، فهو قد تاه “في” الشيخ (أكرر “في”)، ولم يته “منه”، وحين زعم الشيخ عبد ربه أنه فقده ;منذ أكثر من سبعين عاما” فغابت عنه أوصافه شرحت ذلك باعتبار أن الطفل (الذات الطفلية) حين تذوب تكاملا فى الكل النامى، لا يعود لها أوصاف مستقلة، إلى آخر ما ذكرت فى اجتهاد الدراسة الأولى التى شرحت فيها ذات عبد ربه إلى مفرداتها الثلاث: إلى شيخ يطلق الحكمة، وناضج يستمع ويصف ويسجل الحكمة،،وطفل ضال يبحث عنه الشيخ دون جدوى بسبب ضياع معالمه، مفترضا أنه ضاع حين استوعبته حكمة الشيخ، ولكن هأنذا أتراجع قليلا عن هذا التفسير وإن لم أنكر مبادئه الأساسية، وإليك ما عن لى تعديلا وإضافة:
فالطفل الذى بقى نابضا ولم يغب أبدا رغم اختفاء أوصافه مباشرة هو طفل نجيب محفوظ وليس طفل الشيخ عبد ربه الذى تاه منه، ذلك أننى وأنا أبحث عن معالم الطفل فى الأصداء اكتشفت أنه بقدر ما حضرت الطفولة بشكل مباشر فى النصف الأول من الأصداء (الــ 119 فقرة الأولى من 224 فقرة) توارت (الطفولة) بشكل واضح منذ ظهور الشيخ عبد ربه، إذن فقد تاه الطفل فعلا، والآن أصحح قائلا: لا، إنه لم يتكامل (تماما) فى “الشيخ عبد ربه” حتى أصبح لقبه (عبد ربه التائه)، بل لأن الشيخ عبد ربه قرر أن يتنازل عن خدماته ليلقى إلينا بالحكمة مباشرة.
ومن ثم فقد اختفى الطفل، ورحل معه حضوره المباشر، وطزاجته المندهشة، وإضافاته الأصيلة، ليحل محله الشيخ عبد ربه الذى لا يخلو من طفولة، ولكنها طفولة تطل من عباءته أحيانا، وتمتنع عنا كثيرا.
ذلك أننا ذكرنا فى الدراسة التشريحية تفاصيل أنواع العلاقات بين حالات الذات: الطفلية والوالدية والناضجة، وتصورت أن ثمة تصالحا قد تم بالاندماج بين الوالد والطفل (=الذات الوالدية والذات الطفلية)، وهو الذى خلق لنا الشيخ عبد ربه التائه (كما يوحى إسمه) لكننى تحفظت على هذا الاحتمال حين أنهيت تأويل تلك الفقرة قائلا:
وهذا هو تفسيرى لماهية الشيخ عبد ربه، لكنه تفسير غير مطلق، فاعتراضاتى على حكمة الشيخ المباشرة والسطحية فى أحيان كثيرة -مثلا- تنفى هذه الدرجة المباشرة من التصالح.
ثم إنى حين جئت إلى هذه الدراسة الجامعة، تأكد لى هذا الغياب الغالـب لما هو طفل وطفلى بكل صور تجلياته مع ظهور الشيخ عبد ربه، فأيقنت أن تفسيرى السابق ليس فقط تفسيرا غير مطلق، وإنما الأرجح أنه تفسير غير صحيح، فقد حل الشيخ محل الطفل (بغير وجه حق)، ولعل هذا هو ما جعلنى لا أحب الشيخ كثيرا، فأتحفظ على ظهوره.
ثم إنه يحق لى أن أضيف – الأن- أنه:
ولو أن الشيخ عبد ربه أزاح الطفل ليبلغنا بحكمته ما كان الطفل يوقظنا إليه بطزاجته ودهشته وحبه وانسيابه وشقاوته وحيرته، فإن ذلك لا ينطبق على نجيب محفوظ شخصيا، كما نعاشره “هنا والآن” وبقية سيرته الذاتية تتخلق معنا – أطال الله عمره، ذلك أنه -شخصيا- ما زال محتفظا بكل حيوية طفولته الخلاقة، وهو لم يستطع أبدا أن يلبس ثوب الحكيم المتوازن، إلا أحيانا أمام غرباء، مثلا:فى بعض “وجهة نظر الأهرام”، وبعض مواقفه السياسية العاقـلة جدا”(زيادة عن اللزوم)، وهو فى هذه الأحوال يبدو وهو يمسك العصا من منتصف نصفها تماما، فى حين أنه إذا اختلى بنا أمسك بها من أسفلها وراح يديرها فى الهواء وهو يلقى بآرائه الحرة الحلوة هنا وهناك، فيبدعنا وكأنه يمزح، فنتخلق أطفالا حول طفله أكثر حبا وقدرة فى نفس الوقت. ربما جاء من هنا تحفظى على الشيخ عبد ربه، ليس لأنه بلغ مبلغ محفوظ الأهرام دون محفوظ الإبداع، ولكن لأنه بدا لي- فى أحيان كثيرة- وصيا على طفلنا الغالى بلا مبرر.
(12) طفل” محفوظ” يقفز من تحت عباءة الشيخ عبد ربه:
كاد الطفل الأصلى يعلن ماهية “سيدتى الحقيقة” قبل أن يظهر الشيخ عبد ربه (أنظر قبلا)، وفى فقرة “سيدتى الجميلة”(135) قدرت أنه:بالرغم من أن محفوظا ارتضى أن يعطى الشيخ عبد ربه القيادة، فإنه لم يستسلم له تماما، فما لبث أن قفز طفله صريحا فى هذه الفقرة، فإذا بالشيخ يعلنها مباشرة:
”حدث وأنا أسير بين الطفولة والصبا….إلخ”،
وهات ياخيال، وهات يا هلوسة وهات يا تخليق لسيدة جميلة تجلس تحت البسملة، وتعطيه الملبن وتقبــله، فيكتم السر حتى يدوم العطاء، وفجأة تختفى هذه السيدة الجميلة، وحين يـسأل أمه عنها تندهش كما يندهش أبوه، وباختفائها يختفى الطفل كما أخفاه ظهور الشيخ عبد ربه، ولكن محفوظ يلحقنا بكل إصرار ليقول إنه ليس اختفاء دائما، بل هو تفعيل المواجهة التركيبية بين ذات الطفل وذات الشيخ، وهى العملية التى يترتب عليها أن تحل الكآبة المنضجة محل الخيال الجامح،إن الطفل وما خلق من خيالات كمن دون أن يتراجع، فظلت الكآبة كامنة، لكنها فاعلة، فى الأعماق “حتى هلت ليالى القمر”، وقد ذهبت فى القراءة التشريحية إلى تفسير ذلك كالتالى:
”…. استقبلت ” ليالى القمر وهى تهـــل داخلة كإعلان رائع لنجاح تمثل خبرات الطفولة بعد جرعة من التأجيل الواجب، بمعنى أنه بعد أن كبت (الطفل) خياله استجابة لرعب (وقمع) الوالدين، حبس (الطفل) خياله طويلا حتى تمثله فأشرق به ومعه، ضمهما، ولولا ذللك الفرض، لظل طفلا دون كآبة كامنة، وأيضا لما هلت ليالى القمر داخله تضئ له وبه”.
وأجد لزاما على هنا أن أضيف إضافة (علمية) لا غنى عنها لمن لم يعتد لغة التفسير التركيبى للأحوال والمراحل النفسية، وبالذات فيما يتعلق بتجليات وكمون ما هو “كآبة”، ولا أعرف سبيلا يمكن أن يوصل اللغة التركيبية النفسية التى هى ليست من التحليل النفسى الفرويدى فى شيء.
إن تفسير الأمراض النفسية من منطلق تركيبى يرتكز على فهم علاقات الذوات المتعددة (حالات الذات) بعضها ببعض، وهذا أمر بسيط ومباشر وآنى (هنا-والآن) لا يحتاج إلى المبالغة فى تأويل رجعى، أو فك عقد، أو ترجمة رموز (كما هو الحال فى التحليل النفسى الكاسى).
وتفسير الاكتئاب – تركيبيا – يقول:
إن العلاقة بين الذات الوالدية، والذات الطفلية تحتد حتى المواجهة: حين لا ينجح الوالد أن ينفى الطفل أو يزيحه، وحين لا ينجح الطفل أن يخترق الوالد أو ينحيه، فيتواجها كل بما أوتى من طاقة وإصرار.
وفى مرحلة غلبة الوالد الطاغية (الشيخ عبد ربه هنا) دون استسلام الطفل، تتبدى الكآبة.
أما إذا نجح الوالد فى استبعاد الطفل فإن الناتج هو الوجود الشيزيدى (وليس الفصامى) حيث يعجز الشخص، ويعزف، عن عمل علاقة بآخر، كما تغلب عليه مايشبه الحكمة ويميل إلى الانطوائية.
أما إذا استمر الحوار حادا وكامنا معا، فإن نوعا من الكآبة المـضمرة يصبح بمثابة النار الهادئة التى ينضج من خلالها الكيان البشرى.
وهذا هو بعض ما التقطته فى هذه الفقرة من قول محفوظ “…وظلت الكآبة كامنة فى الأعماق”، بعد أن أنكر والداه عليه ما رأى، وكأن الذات الوالدية قد أنكرت على الطفل طفولته الجامحة فى الخيال (والهلوسة)، فلم يستسلم الطفل وإنما انسحب بمعركته إلى الأعماق حتى نجح التكامل الخلاق بين الذوات المتواجهة، إذ: “..هلت ليالى القمر”.
(13) الشيخ عبد ربه يفشل فى إلغاء الطفل:
الفقرة (الفقرات) الوحيدة التى تلاحقت دون عنوان – إلا عنوان الفقرة الأولي”المطارد” – هى الفقرة (159)()، وهى الفقرة التى ترسم مطاردة ما، من المهد إلى اللحد (من الطفولة حتى نهاية العمر)، وهى تلوح فى مرحلة ما من المطاردة بالسباق نحو الفوز بالجميلة (الدنيا) التى يفوز بها الشاب، ولكنه لا يتسلم الجائزة لأن النوم يغلبه منهكا من التعب “قبل الوصول”، ولا تنتهى المطاردة إلا والشيخ عبد ربه نفسه ينتظرها فى حجرة الاستقبال، فتجئ إليه -شيخا – بعد أن يكون الأب قد دخل عليه ودودا لكنه ينذر بالقيود والعواقب.
وقد ذهبت فى القراءة الأولى إلى أن هذه الفقرات المتتابعة بلا عناوين: إنما تقول شيئا واحدا، خرجت منه بأننا هكذا:
”…نجد أنفسنا فى حضرة وفاق رائع بين “الوالد” العاقل المتسامح الودود، والوقور فى نفس الوقت، وبين “الطفل” اللاهث المتعجل اللذة، الفائز بغير جائزة، وفاق يوحى بالتصالح، وإن كان يخفى احتمال أن الوالد لم يصبح ودودا إلا بعد أن اطمأن إلى خيــبة الطفل /شابا، وسقوطه نائما (مغشيا عليه) بعد الفوز فى السباق دون أن يتسلم الجائزة، ويبدو أن الطفل المنهك لم يخدعه الود الوقور، بل إن ما وصل إليه-رغم ظاهر السماح-هو الإنذار بالـقيود والعواقب، فيرجح الهرب. ولا ينقذه من السقوط فى الهاوية إلا دخولها عليه تتعثر فى الحياء
وبقراءتى لما سبق أن كتبته عن هذه الفقرة الآن تبينت أننى اعتبرت أن الشيخ عبد ربه قد “أصابه الدور” حين راح ينتظر فى حجرة الاستقبال راجيا التوفيق، أصابه الدور إذ عاد طفلا على الرغم من حكمته الظاهرة، وربما حدث هذا الخطأ (الصح) لأن الأب دخل على الشيخ “وقورا ودودا ولكنه ينذر بالقيود والعواقب”، ولم أدرك إلا الآن لم وقعت فى هذا “الصح”: بمعنى أنه إذا كان الشيخ يمثل الذات الوالدية (الأب) فمن هذا الأب-الآخر- (الوالد) الذى دخل عليه، وكيف خاف منه الشيخ حتى دعاه صوت باطنى للهرب؟
التفسير العلمى (التحليل التركيبىStructural analysis) يقول: إن لكل والد(ذات والدية) – مهما شاخ- والدا (إريك بيرن: يسميها الذات الجدية (من الجد، والد الوالد)(13)، فلعل الذى دخل هو الوالد الأعلي(الجد: داخل الذاتGrand-parent ego state) لكننى أجد الآن أن فى هذا التفسير تبسيطا غير كاف، فأضيف الآن تفسيرا إضافيا يقول:
إن الشيخ عبد ربه ليس والدا صرفا، وأنه، وبرغم إلغائه لطفلنا الذى نحاول أن نبرز تجلياته فى هذا الجزء، ما زال يحتويه داخل عباءته كما قلنا، وأنه فى هذه الفقرة تنازل عن حكمته لصالح طفولته، فقفز له أب من خارجه، ودود، لكنه نذير مانع، فكان الهرب؟
وقد تصورت فى القراءة الأولى أن التوفيق الذى كان ينتظره الشيخ هو التوفيق بين الذوات الثلاث، وأنه توفيق لم يتم تماما، ولكننى أشعر الآن أن الشيخ حين عاد طفلا، كان ينتظر الرضا من الجميلة الواعدة التى لم ينلها شابا رغم الفوز فى السباق، وأنه سقط فى الهاوية بمعنى استحالة تحقيق حـلم التكامل الكامل باندماج الذوات.
وعلى الرغم من كل ذلك فما زلت غير راض عن هذا التفسير، فأضيف من جديد:
إن هذه الفقرة فى قراءتنا لتجليات الطفولة فى الأصداء إنما تعلن:
- حتمية استمرار الطفولة طول الوقت، طول العمر،
- وأن حكمة الشيخوخة لا تستطيع أن تلغى الطفولة، وأنها(الطفولة) أقوى من كل حكمة، وأقدر من كل تحذير.
- وأن أى محاولة لإلغائها بالسعار التنافسى أثناء فتوة الشباب، أو بالحكمة الرصينة حصيلة خبرة العمر، هى محاولات فاشلة.
- وأن هذه المطاردة من المهد إلى اللحد هى مطاردة الطفولة فينا لإخفائها، أو لاحتواءها، أو لـلضحك عليها بمكاسب لم تطلبها هى أصلا،
- وأن ظهور الجميلة تتعثر فى الحياء جعلت الشيخ يتردى فى الهاوية بصفته الشيخ عبد ربه المطارد للطفل المستولى عليه (لا المطارد من الأب).
- وأن الذى تردى فى الهاوية فى نهاية النهاية هو الطفل الذى أطل من عباءة الشيخ عبد ربه ينتظر الوفاق حين لم يستطع التخلص من الوصاية (وليس الشيخ نفسه)
(14) فرق بين”موت و”موت”، من وجهة نظر طفلين: (طفل محفوظ وطفل عبد ربه)
بدأت الأصداء ونجيب محفوظ يحكى عن خبرته طفلا أمام موت جدته، وحين حل عبد ربه محل محفوظ، أخذ يتكلم بلسانه حتى وهو يذكر أيام طفولته، فتبدأ الفقره فى الجزء الثانى من الأصداء عادة بـ: “قال الشيخ عبد ربه التائه” (ثم قد يحكى عن طفولته)، بدلا من المباشرة دون وصاية، مثلما ما اعتدنا فى الجزء الأول، مثل:”كنا أبناء شارع واحد (فقرة 6) أو “كانت أول زيارة للموت عندنا(فقرة 2) إلخ، ومن هذا المنطلق حاولت أن أميز بين “طفل عبد ربه” و “محفوظ الطفل”، فقد غلب الأخير على الأول فى بعض الأحيان فى الجزء الثانى أيضا (بعد ظهور الشيخ عبد ربه)،
وكنت قد وجدت لنفسى تبريرا لغلبة حكمة عبد ربه على طزاجة طفل محفوظ فى النصف الثانى من الأصداء، ذلك أننى قدرت أن ظهور الشيخ عبد ربه قد أعلن ليحدد لنا مرحلة متأخرة من سيرة الكاتب الذاتية، أعنى أصداءها، فإذا كان الأمر كذلك، فإنه لم يكن ثمة مبرر أن يعود الشيخ ليتكلم عن ذكرياته (ذكريات الشيخ عبد ربه، وليس محفوظ) طفلا، فكنت أشعر كلما فعل ذلك أن الطفل يقفز من عباءته بالرغم منه، ولكن الشيخ يلاحقه بالوصاية والتوجيه.
وأورد هنا مثلا صريحا للمقارنة بين “طفل عبد ربه الشيخ” و “الطفل محفوظ: “الطفل النامى فى الكل الواحد”، وهو كيف واجه كل منهماالموت:
يحكى الشيخ عبد ربه فى فقرة:الضيف”(161)، عن ذكرياته طفلا فى مواجهة الموت، فيذكرنا ذلك بما حكاه “محفوظ الطفل: عن ذكرياته إزاء موقف مشابه “فى مواجهة الموت”، فقرة “رثاء”(2):
فحين واجه محفوظ الطفل الموت فى ثانى فقرة من الأصداء، واجه جدته، ومفاجأته، وعملقته معا،”رأيتنى صغيرا”، و”رأيته عملاقا”، ثم إنه أحس به (بالموت) متسللا يملأ حجرات المنزل، فلاذ بحجرته، لكنه سرعان ما تجاوزه إلى الحياة: “فتحت الجميلة ذات الضفيرة الباب عليه، فقبض على يدها فى ثورة مباغتة متسمة بالعنف متعطشة للجنون” فاندفع إليها وهو “..يجذبها إلى صدره “بكل ما يموج فيه من حزن وخوف”.
هذه الصورة لمحفوظ الطفل نجد فيها كيف يعيش كل طزاجة الخبرة، ويؤلف بكل اندفاعات الحياة المتدفقة بين جـدة الموت وعملقته، وبين عطش الجنون وروعة العلاقة بالآخر، دون أن يتعارض أى من ذلك بكل ما يموج فى صدره من “حزن وخوف”.
أما طفل الشيخ عبد ربه التائه فهو يهرب، أو يهرب من الموت (فقرة “الضيف” 161) فهو لا يواجهه كما واجهه محفوظ الطفل وهو يسير فى الشارع على الأعناق، أو وهو يملأ الحجرات بعد وفاة الجدة (فقرة “رثاء”)، نقول إن طفل عبد ربه قد هرب “من المواجهة”: أرسلنى أبى لألعب بعيدا”، والأدهى من ذلك أن أبوه فعـل هذا “حرصا على راحته” (أى وصاية؟)، ثم إن الموت هنا لم يـواجه بشكل فــردى له معالمه الخاصة (مثل موت الجدة فى فقرة “رثاء”) بل إنه “قش” الجميع واختفى “ولما رجعت وجدت البيت خاليا، فلا أثر للضيف ولا للأحباب.”
وهكذا نرى أن هذا الموت الأخير هو الموت الذى يعرفه الكبار وليس الموت الذى يكتشفه الأطفال، هو الموت المفاجئ، المنقض، الذى يقش ولايميز، هو الفقد الذى لا يفجر ما بعده، بالمقارنة بالموت التجديد، أو الموت البعث الحافز للهرب إلى الحياة، وليس المبرر لـلتوقف عند العدم الجماعى.
(15) إستدراك طفلى (أصل الحكاية)
كنت قد أنهيت جولتى مع طفل وطفولة الأصداء بهذه الفقرة عن الفرق بين موت وموت، ومن حيث المبدأ لم أجد تناقضا بين الموت والطفولة كما علمتنا الأصداء، ثم حين قـلبت بعض صفحات المتن موضوع هذه الدراسة وجدتـنى قد أغفـلت جوانب أخرى، وحضورات متنوعة مما يمكن أن يكون طفلا وطفلى، وتصورت أننى لو أعدت قراءة النص من هذا المنطلق، فلن ينتهى هذا الجزء أبدا، ومن بين ما عثرت عليه من فقرات كنت قد تجاوزتها، فقرة “أصل الحكاية” (118)، حيث وجدت فيها من الطفولة المباشرة والصريحة والدلالة ما يؤهلها أن تأتى بعد الفقرة الأخيرة المقارنة بين موت وموت، لا لأدخـل البهجة على القارئ فأسترضيه أو أعتذر له، ولكن لأعلن نقص هذه الدراسة، وأى دراسة، قياسا بثراء المتن، وفى نفس الوقت كى أختم الحديث عن الطفولة، بما هو طفولة، وربما إغاظة للشيخ عبد ربه أيضا، فهذه الفقرة وردت قبل ظهور الشيخ عبد ربه بفقرة واحدة (هى 118 وهو ظهر فى الفقرة 120)، ولعل الخوف من تمادى انطلاق هذه الطفولة الهائصة هى التى استدعت ظهور الشيخ عبد ربه ليضبط الجرعة:
ففى هذه الفقرة (118) جرعة من الطفولة المباشرة لا يمكن إلا أن توقظ فينا أطفالنا كما هم، وليس بوصفهم طاقة، أو طزاجة، أو تمثلا فى واحدية متكاملة، فمعالم الطفولة هنا صارخة جميلة هائصة حيية فى آن، فيها نقرأ:
(1)الطفل (لا الطفلة) هو الذى يلعب الحجلة (وهى لعبة البنات أساسا) فأى تعميم دال.
(2) والطفلة هى التى نظرت إليه نظرة غامضة (فأى وعد مخلق للوجود).
(3) والاستعراض الزهوى وطفلنا يعدو يذكرنا باستعراض ذكور الطيور أمام إناثها.
(4) ودعاء الأم لكل مخلوق، يعود بنا إلى تعميم طفلى فياض.
(5) وهمس الأم خوفا عليها من النظرة وخوفا عليه من الجرى هو ضمن الرعاية الوالدية اللازمة لكل طفولة بكل صورها.
وحين قرأت ما كتبته سابقا فى الدراسة التشريحية عن هذه الفقرة، رفضت نصفه الأخير الذى فسرالنظرة بأسطورة التصنيم، فشعرت كيف أن الدراسة الجامعة يمكن أن تعدل من الدراسة التشريحية لأنه يبدو أنه بقدر ما أن فقرات الأصداء قائمة بذاتها واحدة واحدة، إلا أنها تكتمل فى سياق ضام لا محالة، وهذا يشير إلى ضرورة قراءة هذه الدراسة الجامعة، ليس فقط باعتبارها مكملة للدراسة التشريحية، وإنما باعتبارها مراجـعـة ضرورية لتلك الدراسة، وربما لتصحيحها.
وبعد
فإن ما قدمناه فى هذا الجزء عن تجليات الطفولة فى الأصداء يمكن أن يكون قد أسهم فى إثبات ما ذهبنا إليه من فروض حول طاقات الطفولة وصورها ودورها فى الإبداع، وكيف تجلى – حضورها الدائم عند محفوظ فى أغلب الأصداء (قبل ظهور الشيخ عبد ربه بالذات).
وقبل أن نشير إلى دور “الحفاظ على الطفولة ودوامها فيما هو إبداع، نود أن نعدد دون إعادة الصور التى تبدت لنا فى الأصداء لما هو طفل وطفولة، سواء فى الدراسة التشريحية (الفصول الأربع الأولى)، أم فى هذا الفصل من الدراسة الجامعة، فنذكر بعض عناوين لما حاولنا بـيانه من حضور متنوع لما هو “طفل”:
1-الطفل الكشف
2-الطفل التأمل
3- الطفل المرح
4- الطفل الحلم
5- الطفل الجنون
6- الطفل الطرب
7- الطفل التعلم
8- الطفل الحكمة
ولعل القارئ يلاحظ أننى استعملت فى وصف الطفل إسما دون صيغة الفاعل (الطفل الكشف وليس الكاشف، التأمل، وليس المتأمل..إلخ)، ذلك أننى أردت من جديد التأكيد على حرصى أن تخدم هذه الدراسة وتضيف إلى الإعلاء من شأن استمرارية الطفولة فى تآلفها فى الكل البشرى إسما حاضرا فاعلا، بدلا من الحرص على تمجيد أطفال خارجنا بما لهم من “صفات” كذا وكيت، تلك اللهجة التى تسحبــنا حتما إلى الوراء أكثر من أن تحفزنا إلى الحفاظ على زخم الطفولة فينا لنتكامل بها.
إن هذا التجلى العام لما هو طفولة متنامية، طفولة لم تعد كذلك إلا بقدر الحفاظ على الطزاجة والأصالة، وكذلك الحرص على تجديد الدهشة والإدهاش، هو الذى ينبغى أن نحرص على تعلمه من هؤلاء المبدعين وما أبدعوه.
إن الدعوة المتكررة إلى الإعلاء من شأن الأطفال، وحقوق الأطفال، وفرص الأطفال، تحل محل الحرص التربوى لاحتواء ما هو طفل فينا ونحن ننمو، احتوائه لنتكامل به، لا لنعود إليه نكوصا، وعندى أن المبالغة فى وصف براءة الأطفال والحرص على حريتهم ومرحهم وخيالهم خارجنا هو فى كثير من الأحيان إسقاط يعلن أننا عجزنا أن نحافظ علينا أطفالا مبدعين، وبالتالى رحنا نبحث عنا فى أطفال خارجنا.
ولعل أصالة هذا العمل وتفرده إنما يرجع إلى نجاحه فى أن يبين لنا هذا البعد من الحضور الطفلى المتجاوز، وحتى ما لاحظناه من الخفوت النسبى لما هو طفلى بعد ظهور الشيخ عبد ربه، إنما يـثبت بشكل غير مباشر ما ذهبنا إليه.
إن الإبداع يستمد زخمه الأصيل من الجنون والطفولة معا، شريطة ألا يكون الجنون جنونا ولا الطفولة طفولة، ونظرة خاطفة لما وصف به نجيب محفوظ هذه القوة المبدعة البادئة بطفولته المتدفقة وهو يصف خروجه -طفلا – من أسى فقد جدته قائلا:” واندلعت فى باطنى ثورة مباغتة متسمة بالعنف متعطشة للجنون”، تجعلنا أقرب إلى تصديق الفرض القائل: إن من يحافظ على هذه الثورة المباغتة المتسمة بالعنف المتعطشة للجنون على مسار نموه ليتمثلها بأدوات نضجه، دون أن يلغيهـا بالوصاية أو النبذ أوالإنكار أو الموسوعية أو المنهج المتحجر: هو الذى يمكن أن يستمد منها طاقة الإبداع وأصالته أبدا.
ولعل نجيب محفوظ بما هو، وبما أبدع طول حياته، الأمر الذى تركز أخيرا فى هذا العمل كمثال، قد استطاع أن يحل المسألة التى شغـلت النفسيين أبدا، والتى صغتـها شعرا، ثم شرحا فى دراسة فى علم السيكوباثولوجي* ، تلك هى المسألة الصعبة:
“أن نعطى الطفل الحكمة والنضج، دون مساس بطفولته ببراءته بحلاوة صدقه، أن نصبح ناسا بسطاء لكن فى قوه، أن ننسج من خيط الطيبة ثوب القدرة”
وقد أوضحنا فى الدراسة التشريحية ما يقابل ذلك فى المدارس الأخرى بما يستحق الإعادة هنا دون الاعتذار عن التكرار*:
فهذا التكامل “بالطفل والوالد معا ” هو ما ما يسميه إريك بيرن “الناضج المتكامل ” Integrated adult وهو ما يسميه يونج تحقيق التفرد Individuation وهو ما يقع فى منطقة عصر الإنسان الثامن عند إريك إريكسون (الحكمة فى مقابل اليأس)(14) وخلاصة كل ذلك يقول:
إنه فى هذه المرحلة الختامية الولود (“ختامية” بلغة الزمن أى فى منطقة آخر العمل، و”ولود” بلغة تجدد الوجود بديلا عن الخلود) فى هذه المرحلة من العمر المبدع يكاد يتناسق الوجود فى وحدة واحدة، إذ تستوعب الذات الناضجة أغلب مكونات ما عداها من ذوات، فتصبح الذات الطفلية صفة متكاملة فى الواحدية التكاملية، وهذه السمة النابعة من الطفولة هى التى أسماها إريك بيرن الباثوسPathos ( بمعنى الوجدان المعرفى النابض) وتصبح الذات الوالدية صفة أيضا وليست ذاتا مستقلة وهى ما أسماه إريك بيرن الإثوس Ethos (الأخلاق الطبيعية المسئولة)، وبالتالى يصبح الوجود واحدا له تجليات (وليس تبادلات) وجدانية معرفية نابضة طازجة، ملتزمة أخلاقية راعية واعية، واقعية بسيطة عملية عادية، كل ذلك فى “كل واحد”.
وبديهى أن هذا التحقق “الواحدى المتكامل ” لا يكون أبدا فى صورته المطلقة إلا إذا أصبح الإنسان كيانا إلهيا لا تأخذه سنة ولا نوم، الأمر الذى ما زال مستحيلا لما هو كيان بشرى نأخذه “سنة” ويغلب “نوم”. إلا أن التوجه نحو هذا التحقق شبه الإلهى: سواء على مسار النمو الفردى للذات وهى تعاود الولادة من جديد فى أطوار التجدد والبعث فى كل مرحلة من مراحل النمو، أو وهى تمارس الإنتاج الإبداعى بديلا عن هذا الإبداع الذاتى شبه الالهى، أو جنبا إلى جنب معه، هذا التوجه فى ذاته هو كل ما يستطيعه الإنسان فى مسيرة حياته الفردية المتواضعة، وبقدر ما ينجح فى تحقيق ذلك، يصبح شخصا قريبا من محفوظ (شخصيا)، وقريبا من أصداء نجيب محفوظ إبداعا كما بينا. حيث أن هذا الطفل الدائم فى صورة تلك الطاقة المبدعة هو الذى أعطى الأصداء (بل ومعظم أعمال محفوظ، وأيضا وجوده الشخصى)(15)، أعطاها، روحها الطازجة، وبساطتها المتحدية، ونقلاتها المفاجئة، ودهشتها المتجددة، ودهشتنا منها وبها أبدا، على الرغم من خفوت بعض ذلك مع الظهور المباشر لحكمة شيخنا عبد ربه التائه.
سامحه الله.
[1] – يحيى الرخاوى: قراءة فى نجيب محفوظ. الهيئة العامة للكتاب – 1988 (الحرافيش، رأيت فيما يرى النائم، ليالى ألف ليله، بعض الشحاذ، وبعض السراب).
[2] – (119 من 224)
[3] – ( بدءا من الفقرة 120)
[4] – الباحث أداة البحث وحقله فى مجالى الطفولة والجنون – الإنسان والتطور العدد 4، ص 26، أكتوبر 1980
[5] – تمر الكتابة للأطفال – عندنا خاصة- فى محنة عامة، بعد الإغارة على الخيال، والافتقار إلى الوعى بالماضى والحاضر لصالح المستقبل وفى مجلات الأطفال خاصة: أنظر الإنسان والتطور العدد 64، ص 40، يناير 1999)
[6] – (يحيى الرخاوى)، الطفولة من إبداع ديستويفسكى، نيتوتشكا نزفانوفنا والفارس الصغير الإنسان والتطور، العدد 12، أكتوبر 1982
[7] – ثمة أشخاص يزعمون صادقين أن الواحد منهم : لم يكن طفلا أبدا’، وهناك من يرفض تذكـر طفولته عمدا، وهناك من ينسى كل تفاصيلها، وأحيانا ينسى أجمل ما حدث فيها.
[8] – تعبير فرط العادية Hypernormality هو تعبير دخل الطب النفسى حديثا ليشير إلى نوع من المبالغة فى التشكل لكل ما هو عادى، وبالتالى فإنه يتضمن استخدام عدد أكبر وبدرجة أكثر من الميكانزمات الضابطة المنضبطة مثل الكبت والإنكار إلخ
[9] – الأرقام بين قوسين تشير إلى الترقيم الذى أعطيته فى الدراسة التشريحية السابقة، ومن يريد أن يتتبع الفقرات المعنية فى الصورة الأصلية للأصداء عليه إما أن يرقم نسخته بنفسه مع مراعاة التعديل الذى أشرنا إليه لإزالة تدخلات الناشر، وإما أن يبحث عن عنوان الفقرة مثلا عنوان: ‘دعاء’ هنا.
[10] – د يحيى الرخاوى، تقاسيم على أصداء السيرة الذاتية الفصل الرابع الإنسان والتطور، العدد 62 ص 165، يوليو 1998.
[11] – نجيب محفوظ، السراب، 1948، للطبعة الأولى مكتبة مصر، القاهرة.
[12] – يحيى الرخاوى، تفسيرات أخرى للموقف الأوديبى، ورقة ألقيت فى الندوة الشهرية بدار المقطم للصحة النفسية يونيو 1997.
[13] – يحضرنى شعر نجيب سرور الذى يتواكب مع هذا المفهوم التركيبى فى مسرحية “آه يا ليل يا قمر (على كا أذكر) وهو يقول “أصل الست ما كانت بنت، قبل ما تبقى أم البنت” (والبنت لها أم أبدا).
[14] – يحيى الرخاوى ديوان سر اللعبة، دار الغد، للثقافة والنشر، القاهرة، 1978، ثم دراسة فى علم السيكوباثوجى (شرح ديوان سر اللعبة) 1979
[15] – د. يحيى الرخاوى تقاسم على أصداء السيرة الذاتية الفصل الثالث الإنسان والتطور، عدد61، يوليو 1998
Bern E. (1961): Transactional analysis in psychotherapy. New York Groove Press، Inc.
Jung، C.G. (1953) Collected works. Pantheon Books، New yourk،
Erikson، E. (1963) Childhood and Society، ed. .2W.W. Norton، New Yourk.