الحب ثانية
يوسف بركات
قمر على كتفى..
وشيء مثل رائحة اشتعال الزنبق البري
يسرى فى فضاء الروح
أسمع من تخوم الدهر إيقاع الجياد العاديات..
المقبلات المدبرات الموغلات وراء حلم الفاتحين
كأن زوبعة تقوم الآن فى جسدى..
كأن يدا من النعناع توقد شعلة الذكرى…
وتبعث فى المدى الطفل الذى كانت تربيه الغزالة
ثم تؤويه النجوم
من أين يأتى كل هذا البحر،هذا الجمر.
هذا الورد،هذا الشهد،هذا الوجد،هذا الرعد..
من أين العصافير التى تحتل حنجرتى،ومن أين الغيم
من أين موسيقى السنابل،لسعة القراص
أصداء النوارس،دفقة الشعر العصي؟
من أين مزمار الرعاة يعيدنى منى إلي؟
من أين يخطف لونه هذا المساء
الحب ثانية.. إذن؟
والأرض تصعد كى تقبلها على ألق سماء
الحب ثانية..؟
تعالى وادخلى فى قلب مملكتى..
إلى طقس من البخور والفوضى..
إلى حين النوافذ مشرعات للغيوم وللنجوم..
وللفصول وللرياح وللخيول الطائرات..
وكل ما تيلد الخرافات القديمة،كل ما يلد الفضاء
عندى كلام تأنس الغيلان منه وتستعير براثنا منه الظباء
عندى كلام تستفيق على مواجعه النساء
عندى كلام نصفه عرس ونصف كربلاء
لغتى انبثاق النورس البحرى من موج يكفنه المساء
لغتى بحار ضل فيها السندباد
بحثا عن امرأة تعيد الروح للروح التى صعدت بها ريح الرماد
لغتى بلاد فى البلاد
لغتى مروج من ذهب
لغتى عناقيد الغضب
لغتى عباءات القصب
لغتى خيال نازف من عمق ذاكرة العرب
لغتى مرايا الروح،إيقاع السنابل..
حين تنمو فى جدار السجن فى أفق تطوقه السلاسل
لغتى غزال نائم ما بين مقتول وقاتل
لغتى إذا شاءت زنابق أو حرائق
أو نمارق أو بنادق
أو نهود أو قنابل
لغتى اشتعال القلب فى درب الصبايا
لغتى شهيد لم يزل يمشى على دمه وما زالت تطارده الشظايا
أنا من أنا..
أنا ساعة العصف الجميل أنا هبوب الزوبعة
وأنا صعود فى الفضاء،أنا الحدود المشرعة
وأنا البيارق واالبيادق والفصول الاربعة
فى لحظة تلد الزمان ولا يطوقها الزمان
وأنا المكان لكل من عزت مراميه وضاق به المكان
وأنا مشاع للعصافير النبيلة
وأنا شراع المبحرين إلى الشطوط المستحيلة
وأنا فراش دائر أنى تدور به جديلة!
النيل ينبع من شرايينى فما ثم امرأة
ذاقت على عجل هواي
إلا وظلت جمرة ظمأى تعاودها
ويحملها الحنين إلى حماي
فدعى سؤالك واتبعيني
نامى على روحى،على صدرى،على شعرى،على جمري
على عشب تخلق من جنوني
نامى على غيم تقطر من حنيني
نامى على موج تكون من فنوني
نامى وكونى مثلما شاءت ظنوني
نامى أكن،نامى تكوني
ودعى سؤالك واتبعيني
مرى براحتك الندية فوق روحى واعزفيني
مازال فى صدرى أغان يبحث الشرطى عنها
والمدى حرس وأحلامى يقيني
الحب ثانية،وليس الحب إلا أن أكون وأن تكوني
وطنى يداك ولا أرى فيما أري
إلا حقول القمح والخروب
والصخر الذى صنعت يداى به جبيني
فدعى سؤالك واتبعيني
وطنى يداك ولا أرى فيما أرى إلا فضاء حافلا بالقبرات
وأرى الأزقة والسنابل والمصاطب والبيادر
والخرافات التى صنعت عوالم كائناتي
وأرى الجدائل تشنق العشاق والطلاب فى درب البنات
وأرى صبيا هائما
ألقى كراريس القواعد حين فاجأه الهوى عصرا
وتجمعنا الرصاصة فى صعيد الموت
ما اسمك ما اسم زوجتك الجميلة
ما اسم جارتك البعيدة،أين أكملت الدراسة؟…. لا تجب!
أخشى التقاء الروح فى المطلق
أخشى امتزاج الحلم فى الزنبق
أخشى انطفاء النار فى الخندق
فلنفترق قبل اكتمال المعرفة
فأنا وأنت محاربان،ولا يليق بنا سؤال الفلسفة
قد نلتقى فى دمعة الأمين
حين نعود فى كفنين… من صنعى وصنعك
قد نلتقى فى سروة طلعت على بعضى وبعضك
لا شيء بعد الآن إلا أن تكون ولا أكون
أو أن أكون ولا تكون
إذن الوداعا
لم تتسع هذى الحدود لحلمنا فلعل فى الموت اتساعا
فقل الوداعا
وقل الوداعا
وغدا أراك إذا نبت عنى وعنك رصاصتان
منى ومنك،لنلتقى بعض الثواني
فى ظل هذا السنديان
حيث استراحات المحارب والمحارب
مجمع الأضداد فى ملقى المشارق والمغارب
إذ يضيء العاشقان
إذ لا فواصل للزمان،ولا حدود للمكان
وأنا وأنت العاشقان
فدعى سؤالك واتبعيني
وطنى جبيني
ويداك نخل،والمدى رحب،وأحلامى يقيني
ولدى من عينيك عشق يملأ الدنيا صهيلا
ولدى من عينيك عشق يوقظ الموتى ويردينى قتيلا
ولدى من عينيك عشق يملأ الدنيا زنابق
ولدى من عينيك عشق يستضيء بناره مليون عاشق
ولدى من عينيك عشق ربما يكفي
لكى تتناسل الدفلى على حد الخنادق
ولدى من عينيك عشق ربما يكفي
لكى يتفتق الرمان من خشب البنادق والمشانق
فدعى سؤالك واتبعيني
نامى على روحى،على صدرى،على جمري,
على شعري
على عشب تخلق من جنوني
نامى على غيم تقطر من حنيني
نامى على موج تكون من فنوني
نامى وكونى مثلما شاءت ظنوني
نامى أكن،نامى تكوني
الحب ثانية،وليس الحب إلا أن أكون وأن تكوني!
وخلفه قتيلا فى العيون القاتلات
الحب ثانية وليس الحب إلا أن أكون وأن تكوني
فدعى سؤالك واتبعيني
حتى تخوم المستحيل
نارى براكين الجسد
ودمى نخيل
والروح أسرار الأبد
والعمر أكثره قليل
فى داخلى يعدو ولد
خلف الفراشة والصهيل
قلبى بلاد فى بلد
ودمى استعارات الأصيل
الحب ثانية تعالى وادخلى فى قلب مملكتي
إلى حيث الزمان بلا زمان والمكان بلا مكان
فهنا المعرى يقرأ الدنيا ويكتشف المعانى فى المعاني
وهنا المعرى يقرأ التاريخ والآماد فى خطف الثواني
ويرى الملاحم والمعارك والمعارج والمدارج فى جذوع السنديان
وهنا المعرى يبصر الأضداد فى الأضداد
والدنيا تدور كما تشاء لها الأماني
وهنا المعرى فى سرير الشهد يكتشف الزوابع والتوابع فى الجسد
وهنا المعرى قد أضاءت مقلتاه إلى الابد
وهنا المعرى لازما ما يلزم
نهدا كحق العاج مبهورا يعلمه الذى لا يعلم
وهنا أبو الحسن النواسي
متوحدا فى الكون يصنع كونه فى قعر كأس
ويرى التباسا فى الحقيقة،والحقيقة فى التباس
ويرى انتحار العشق والعشاق ما بين احتراس واحتراس
ويرى برغو كؤوسه ما لا تجيء به الأماسي
وطنا بلا عسس وخبزا ساخنا ويدا تواسي
ويرى بعيرا طائرا… طفلا يطارد نجمة
ويرى انبثاق البحر والحيتان فى الأرض اليباس
ويرى على رأس الشهيد يمامة،ويرى الطغاة بغير راس.
ويرى بلادا تستعيد سماءها وطيورها.
ويرى شعوبا تدفن الموتى أخيرا
ويرى أسيرا يستعير من القطاة جناحه حتى يطيرا
ويرى أصابع عاشق تمتد مصباحا منيرا
فدعى سؤالك واتبعينى.
الحب ثانية.. وليس الحب إلا أن أكون وأن تكوني
وهنا الذى أبلى بمطلب روحه جسما يروح بغير زاد
يمضى على قلق وتسلمه الرياح لكل واد
الخيل تعرفه،وتعرفه الليالى والأغانى والبوادي
ما أنت فى كل البلاد،وما ترد من البلاد
كل البلاد طويتها
لكننى ما زلت أبحث فى فضاء الروح…. عن نجم يدل على بلادى.
وأريد أن أعلى بلادي
وطنا من الشعراء والعشاق
لا كافور يحكمه ولا الشرطى يطلع فيه من لون المداد
وهنا أبو حيان يوغل فى اغتراب الروح
لا الدنيا تراوده ولا الصحراء تعرفه
ولا بغداد تمنحه يديها
أواه ما أقسى اغتراب الروح فى زمن…
يرى الشعراء والأدباء والحكماء نافلة..
وحاشية يريح التاجر العنين ركبته عليها
فاحرق كتابك أيها العقل النبيل
وادفن سؤالك فى المدى،ولينتحر فيك النخيل
وانصب لشمس الله وجهك قد دعاك له الرحيل
لا الدار دارك،لا ولا الصفصاف ينمو عند بابك
والهوى عجل،وحلمك مستحيل
والغانيات يملن أنى هذه الدنيا تميل
هذا زمان ليس يعرف فيه قاتـله القتيل
هذا زمان نصفه أمس وحاضره دخيل
العمر ضاع على طريق العمر،والآن ابتدأ الموت الطويل
فارحل فقد أذن الرحيل
ارحل إلى زمن وراء الأزمنة
أشعل يديك علامة،اجعل فؤادك أحصنة
وابدأ حوار الروح تلق الروح فى الدفلى وفى سرب المها والسوسنة
ارحل إلي
واطو المكان إلى مكانى،والزمان إلى زماني
فأنا استراحات المحارب والمحارب
مجمع الأضداد فى ملقى المشارق والمغارب..
يخرج المتحاربون من الخنادق ساعة..
يتبادلون التبغ والأحلام والأشعار والذكري
ويروون النكات عن الحروب..
ويضحكون،ويسعلون،ويحزنون…
ويذكرون نسائهم وصغارهم,
ويترجمون رسائل الأحباب فيما بينهم
هل صدفة أنى ولدت هنا وأنت هناك,
حتى نلتقى فيما يفرقنا
ونشبه بعضنا فيما يمزقنا