الافتتاحية (1)
الأخلاق بين الضرورة الاجتماعية والإيمان الدينى
أ. فريد زهران(1)
فى المناخ الردىء الذى انتهى بالوطن إلى هذه الحالة من التشظى والفردية تحاول جماعات ضيقة هى أقرب ما تكون إلى جزر منعزلة تتحلق حول أفراد موهوبين، أن تقبض على جمر الوجود الحى الفاعل الذى يحاول تقديم إجابات غير تقليدية لأسئلة المستقبل غير التقليدية، وفى هذا الإطار نستطيع أن نضع ندوة جمعية الطب النفسى التطورى التى تعقد شهريا بمستشفى دار المقطم للصحة النفسية بدأب وانتظام منذ ما يزيد على عشرين عاما، وقد أسعدنى الحظ أن أتلقى دعوة كريمة من د. الرخاوى لتقديم عرض لكتاب فخ العولمة الصادر عن سلسلة عالم المعرفة فى هذه الندوة التى تتميز أولا وقبل كل شيء بما يضفيه عليها د.الرخاوى من روح خلاقة وحس نقدى وعقلية إبداعية فى ظل ثقافة موسوعية تتسع برحابة صدر لا لاتجاهات ومدارس فكرية متنوعة فحسب، لكنها تتسع أيضا إلى تخصصات معرفية مختلفة، بل وتجمع فى بساطة عميقة وأخاذة بين العلوم التطبيقية والإنسانية.
بالطبع قادنى الحديث يومها عن كتاب فخ العولمة إلى الحديث عن أى ‘عولمة’، ولم يكن هذا خروجا عن الموضوع بالذات وأن د. الرخاوى قد اختار – أو لعل الاهرام هو الذى اختار – أن ينشر مقالا هاما عن العولمة فى نفس يوم الندوة حيث تضمن المقال إشارة إلى الكتاب أو لعله انطلق منه كمسلمة تصف الظاهرة وتشخص الحال.
وأنا لا أود هنا أن أتعرض للكتاب الذى يلقى نظرة بانورامية نقدية لا تخلو من عمق على واقع الغرب الآن، وهى نظرة اختلط فيها نقد الرأسمالية الاحتكارية بنقد الأمركة، فالظاهرة – أى العولمة – لم يتعرض لها الكتاب أصلا وإنما تعرض فقط وبلهجة نقدية حادة وموضوعية إلى الرأسمالية الاحكتارية فى ذروة انتصار أجنحتها المحافظة المنفتحة على الفاشية، كما تعرض أيضا وبقدر معقول إلى انتقاد الأمركة بدءا من انتقاد الهيمنة الأمريكية بالمفهوم السياسى – الاقتصادى – العسكرى، وانتهاء بانتقاد الأمركة بوصفها عملية ترمى إلى تعميم وفرض الثقافة الأمريكية والنموذج الأمريكى، وبهذا المعنى فإن الكتاب – فى تقديرى – خلط العولمة بأشياء أخرى فانتهى إلى انتقادها، وهذا الخلط الشائع هو ما يدفع الكثيرين – ومن بينهم د. الرخاوى نفسه – إلى انتقاد العولمة بدلا من انتقاد الرأسمالية الاحتكارية فى طبيعتها المحافظة، وبدلا من انتقاد الأمركة ،
ونحن – مرة أخرى – لا نود أن نتعرض للكتاب أو موضوعه – العولمة – تفصيلا فى هذا المقال، وإنما نود أن نتناول بالأساس ما تطرق إليه مقال د. الرخاوى وردود الأفعال حوله فى الندوة، وهو المقال الذى انطلق من اعتبار العولمة – مرة أخرى: أو الرأسمالية الاحتكارية المحافظة أمريكية الطراز وفقا للخلط الشائع – واقعا رديئا يتطلب المواجهة، وقد اعتبرد. الرخاوى أن نقطة البدء فى هذه المواجهة الممكنة والقادرة على درء مخاطر التدهور والانحطاط المتفاقم هو الإيمان بالله، لأن ذلك الإيمان – الذى يراه وثيق الصلة بوجود الإنسان – أو بالأحرى حاجته – على المستويين النفسى والبيولوجى – هو القادر على أن يعصم الإنسان من الزلل حتى انه ذهب إلى أن كبار المليارديرات اللذين يدمرون اقتصاديات بلدان بأكملها ما كان لهم أن يفعلوا ذلك لو كانوا مؤمنين بالله فحسب، واقترح د. الرخاوى أن يكون هناك برنامج ما معد على الحاسب الآلى يرجع له الإنسان ليلا وقبل أن ينام لكى يقيس على مازورة هذا البرنامج – المبنى على الإيمان بوجود الله – تصرفاته ويتأكد من مطابقتها لعمق هذا الإيمان وعمق وجود الله فى وجداننا ونفوسنا.
أثناء الحوار فى الندوة وفى إطار التعليق على ما وصل إليه الإنسان من تردى فى ظل الأمركة التى يطلقون عليها على سبيل الخطأ العولمة رحب البعض بما اعتبره استدعاء من د. الرخاوى للمولى عز وجل إلى جانب قوى الخير، وهو استدعاء اعتبره معظم الحضور مرادفا لاستدعاء القيم الخيرة والأخلاق النبيلة.
طبعا كان د. الرخاوى يتحدث عن الإيمان بالله ووجوده بصفة عامة ولم يكن يعنى بذلك نوعا معينا أو طريقة محددة للإيمان مثل: الإيمان الإسلامى أو المسيحى، فالإيمان عنده بوجود الله أشبه بمظلة واسعة ينعم بها كل الذين يؤمنون بالخالق أيا كان فهمهم لهذا الخالق وأيا كانت طقوسهم الدينية الرامية إلى التقرب إليه، ومن ثم فإن الوصول بالنقاش إلى مستنقع محرمات وطقوس جماعات التطرف السائد – أو التعصب كما يحلو للدكتور الرخاوى أن يسميهم – هو أمر بعيد كل البعد عن ما يقصده.
الغريب أن د. الرخاوى رفض أن تتسع مظلته لتشمل إلى جوار المؤمنين كل ما يمكننا أن نصفهم بـ الأخلاقيين وهو الاقتراح الذى قدمته تثبيتا لــ – وتأكيدا على – ما كنت آراه جوهريا فى فكرة د. الرخاوى حيث أصر فى المقابل على قبول المؤمنين فحسب تحت هذه المظلة دون غيرهم، وبعيدا عن رؤى التعصب المبتذلة التى حاولت الانحراف بأفكار د. الرخاوى لكى تصب فى مجرى الحديث عن حرمانية المعاملات البنكية الربوية، وبعيدا أيضا عن سذاجة الحديث عن وصول أحدهم إلى أدلة يقينية علمية بيولوجية على وجود الله فإننا نود أن نناقش الموضوع برمته بطريقة عقلانية توضح مغزى وأهمية الاستناد إلى المظلة الأخلاقية بدلا من المظلة الإيماية الدينية كطريق للخلاص الإنساني.
وبداية نود أن نشير هنا إلى أن النقاش العبثى بين عشرات ومئات الفرق الدينية وبين عشرات ومئات الفرق الملحدة حول وجود الله لم يسفر عن نتيجة حاسمة لصالح أى فريق منهم، حيث تتعلق هذه الأمور الاعتقادية بالنشأة والحدس، وتستند على ميل الشخص وهواه وما يمكن أن يرجحه بصورة يمتزج فيها التفكير العقلى بالميول الوجدانية، ومن ثم فإن هذه الأمور الاعتقادية لا يمكن أن تكون موضع إجماع كل البشر حتى لو اعتقد أى ساذج انه يستطيع تقديم براهين علمية فى مثل هذه الأمور، وعلى العكس فإن قوانين الهندسة ونظريات الطب من الممكن البرهنة عليها بصورة عقلية مجردة ومن الممكن أن توحد البشر بصرف النظر عن موروثهم الثقافى وميولهم حيث لا مجال فى هذه الأمور العلمية للميل الشخصى أو الوجدانى بصفة عامة.
وحتى يتسنى لنا استكشاف جوهر الموضوع رأسا نتساءل: من أين يستمد الإيمان الدينى القوة والاستمرار؟! يتصور بعض الماركسيين الماديين وكذا بعض الملحدين عن سطحية فى التفكير أو جهل بحقائق التاريخ، والواقع أن الدين يستمد كل -لاحظ: كل- مقومات وجوده واستمراره من كونه أداة فى أيدى الطبقات المالكة تسخدمها فى قهر الشعوب وإخضاعها وإجبارهم على طاعة الحكام الذين يضفون على أنفسهم فى كثير من الأحيان قداسة دينية، ونحن لسنا فى حاجة هنا للتأكيد على أن هذه الفكرة بصفة عامة صحيحة، والواقع نفسه – لا التاريخ فقط يمدنا بعشرات الأملثة: صدام حسين – مثلا – ينسب نفسه للبيت النبوى الشريف ويكتب على علم العراق الله أكبر، وفى خط مواز يواصل صدام ذبح الشعب العراقى، تماما مثل الإمام النميرى وجنرالات السودان الترابيين … إلى آخر هذه القائمة السوداء التى تستخدم الدين لتبرير التجويع والقهر، ولكن صحة هذه الفكرة لا ينفى على الإطلاق أنها فكرة جزئية وأنها لا تفسر على الإطلاق كل مقومات وجود الدين واستمراره حتى الآن وإلا لكان علينا أن نرصد طوال التاريخ طغاة يمثلون الأقلية يستخدمون الدين كما يستخدمون قوات الأمن لاستغلال وقهر شعوبهم ، وفى المقابل شعوب تكره أدوات الطغاة بدءا من قوات الأمن وانتهاء بالدين، وهو أمر لم يحدث على الإطلاق، بل على العكس، فإن حقائق التاريخ تؤكد لنا أنه مثلما حاول الطغاة أن يستخدموا الدين لقهر الشعوب، فإن الشعوب فى المقابل حاولت على الدوام أن تعتمد على الدين فى مقاومة الطغاة، وخلع صفة الكفر أو الجحود على حاكم معين ووصف سياساته بأنها ‘حرام’ كان معناه إضفاء المشروعية على مقاومته وإزكاء لنيران المواجهة معه، وبهذا المعنى فإن الدين وفقا لمستوى معين من التحليل كان موضع استخدام من كل الأطراف فى اللعبة السياسية طوال التاريخ، وبديهى أن الطرف الأقوى – بصفة عامة – كان ينجح فى استخدامه أكثر من بقية الأطراف فى معظم الأحوال.
عند مستوى أخر من التحليل كان الدين ولا يزال أملا للإنسان فى مواجهة العجز والموت، وهو أمل قد يغذى جزئيا روافد الكسل والخنوع والاستسلام وقد يغذى روافد الفعل والمواجهة على المستوى السياسى أما على المستوى الإنساني- الأعمق والأبقى -فإن الإيمان الدينى وحده قد يكون وسيلة الإنسان الوحيدة للحصول على نوع من السلوى والعزاء ومن ثم على أمل متجدد إزاء – أو بصياغة أكثر حدة فى مواجهة – ما تحفل به الحياة من مصاعب ومآسى لعل أشدها – كما قلنا من قبل – هو العجز والموت.
الإيمان الدينى بهذا المعنى إذن قد يكون إجابة طقوسية لا تخلو من غموض وغرابة فى مواجهة الحياة التى تحفل بالكثير والكثير من الغموض والغرابة، الوجود نفسه دراما، بل وقد يكون تراجيديا سيزيفية، فلماذا لا يكون الإيمان الدينى عزاء وسلوي؟
هناك ضرورة أخرى هامة للإيمان الدينى تتعلق بإضفاء القداسة على القيم، والقيم والأخلاق كما نعتقد نسبية ومتغيرة، تتغير من عصر إلى عصر ومن مجتمع إلى آخر ومن طبقة اجتماعية إلى طبقة اجتماعية أخرى، ومع ذلك تظل الكثير من القيم لها ملامح شبه ثابته منذ أقدم العصور، وتستمد هذه القيم ثباتها الممتد هذا من ارتباطها الوثيق ببداية وجود الإنسان عضوا فى جماعة، وهذا الوجود الاجتماعى للإنسان – كما لعلنا جميعا نعرف – بدأ منذ عصور سحيقة وهو مستمر حتى الآن، وقد فرضت هذه الضرورة الاجتماعية للوجود الإنسانى نفسها فجعلت الإنسان يكتشف بالتدريج مجموعة من القيم منها مثلا: الصدق، والعفة، والوفاء والإخلاص. . . إلخ، لقد حافظت هذه القيم على ثباتها النسبى رغم تغير بعض ملامحها ومعاييرها ربما لآلاف السنين وما يمكن أن تنصحنا به برديات فراعنة مصر لعله قريب الشبه إلى حد بعيد بما يمكن أن ينصحنا به أى قديس معاصر مثل جيفارا، ولقد حاول الإنسان أن يثبت هذه القيم ويرسخ من احتدامها من خلال تجريم الخروج عليها بالقوانين الرادعة والعقوبات الصارمة، كما حاول أيضا من خلال الثقافة أن يشرح أهميتها وضرورتها، وأخيرا: أضفى الإنسان على القيم قداسة دينية عندما جعل الأخلاق جزءا لا يتجزاء من نسق الإيمان الدينى، وفى ظل مستويات متواضعة من الثقافة ووجود أغلبية تتردى فى مهاوى الجهل والتخلف فإن فهم الضرورة الإجتماعية للأخلاق، واحتمال تمثل هذا الفهم، يصبح قاصر على مجموعة قليلة من السكان تعرف – مثلا الضرورة الاجتماعية لعدم السرقة، أما السواد الأعظم من البسطاء فإن حرمانية السرقة المرتبطة بالثواب والعقاب فى الآخرة أو تجريم السرقة قانونا المرتبط بالثوات والعقاب فى الحياة الدنيا، يشكلان معا مجموعة الأسباب التى تجعلهم يتجنبون السرقة.
مع الثورة الصناعية وما أعقبها من وفرة نسبية فى الإنتاج ومستويات أعلى من التمدين واتساع الفئات البيئية (الطبقات الوسطي) ازداد رسوخ القيم استنادا إلى ضرورتها وأهميتها الاجتماعية، وظل القانون يمارس دوره فى الردع والجزاء فيما انحسرت قدسية القيم لتحتل مرتبة أقل من الأهمية، وهذه الحقيقة الساطعة تدل عليها شواهد يعرفها كل من عاش – أو زار – أوربا وعاد ليحكى لنا كيف تحترم إشارات المرور فى غيبة الضابط والعساكر، وعن كيف يعمل الناس بجدية وانضباط حتى لو لم يكن المدير فوق رؤوسهم، ولاحظ أننا هنا نتحدث عن السواد الأعظم من الناس لا عن الأقلية من المجرمين والمنحرفين.
الاقتناع العميق المبنى على الفهم والتجربة لقيم الانضباط والنظام المرورية ليس من السهل أن يرتبط بإيمان دينى يبحث عن النصوص التى تيسر له الأمر، وحتى الردع القانونى لن يضطر شخصا ما أن يحترم إشارة المرور فى الواحدة صباحا والعسكرى غير موجود.
على عكس ما يتصور البعض إذن فإن وجود الأخلاق وتمثلها أكثر رسوخا فى ظل إيمان دينى محدود أو سطحى طالما استند الأمر على قاعدة صلبة من فهم الضرورة الاجتماعية العقلانية لهذه الأخلاق، وفى المقابل فإن هناك مجتمعات تعرف إيمانا دينيا عميقا وشبه سائد – مثلما هو حال مصر الآن – تنحط فيها القيم والأخلاق بصورة مفزعة، وبالطبع فإن ذلك يرجع لجملة من الأسباب قد يكون من بينها تردى الأوضاع المعيشية ، وشيوع الحل الفردى النفطى فى ظل الاستبداد السياسى على مدى عشرات السنين، لكن ذلك كله لا ينفى أن عدم فهم ضرورة الأخلاق وأهميتها للوجود الاجتماعى هو الآخر سبب هام .
الإيمان الدينى قد يقفز بقيمة ما من النقيض إلى النقيض بمقتضى فتوى تبريرية، وكلنا يعرف كيف كان الفقهاء فى أزمنة خلت يبررون للخلفاء والسلاطين كل أفعالهم بفتاوى دينية عندما كان الدين هو المرجعية الوحيدة، فمثلا تروى لنا كتب التراث أن هارون الرشيد كان يتجول فى قصره فرأى جارية أعجبته ولما هم بها أخبرته أنها محرمة عليه لأن أباه قد عاشرها من قبل، ولأن الرشيد كان يعلم هشاشة ونسبية الأخلاق التى تستند على المرجعية الدينية فحسب دون سند من قناعة عقلية تضرب بجذورها فى أرض الضرورة الاجتماعية، فإن الرشيد لم يأبه لكلام الجارية وأرسل فورا إلى المشايخ الذين أفتوه بأنه لا يجوز له أن يصدق كلام جارية !!
وبالمثل كانت الأخلاق الحميدة لا تستسيغ أن يهرب المرء من واجب الخدمة الوطنية فإذا ببعض الإسلام السياسى يسبغ على الهروب من الجندية قيمة أخلاقية عندما يعتبرها ابتعادا عن خدمة الكفار !!
حقا : الدين – أى دين – حمال أوجه ، وهو ملك لمن يفسره ، وإذا كانت القيم تستند على المرجعية الدينية فحسب دون النظر إلى ضرورة أو منطق فإن الحرب ضد ‘اليهود’ تصبح جهادا مقدسا، وبعد مضى سنوات – أو بين عشية وضحاها – يكون السلام مع اليهود تحقيقا لما يفرضه علينا صحيح الإسلام، أين تكمن قيم الوطنية والزود عن مصالح الجماعة والأمة بالضبط؟ هل فى حرب النصوص التى تبحث فى علاقة المسلمين بالنصارى ويهود الأوس والخزرج، أم تكمن فيما تمليه علينا مصالحنا العادلة ومن ثم أخلاقنا وقيمنا السامية أيضا ؟!
لعل كل ما تقدم يفسر كيف أن القداسة الدينية للأخلاق – فى ظل المناخ الدينى السائد فى مصر الآن -لم تحل دون ترد أخلاقى عام، وعلى الجانب الآخر فإن الغرب الآن- أو بالأحرى العقل الغربى – يتعرض إلى أزمة تلو الآخرى نتيجة هذا التناقض الحاد بين ما وصل إليه من قدرات إنتاجية هائلة وبين عجزه عن إنقاذ ملايين الأطفال الجوعى فى العالم، وهذه الأزمات المتتالية إذا أضفناها للتصدع الذى أصاب الحلم الاشتراكى نتيجة انهيار الاتحاد السوفيتى ، تدفع بأعداد هائلة فى الغرب إلى الشك فى البنيان الأخلاقى المستند على العقل والضرورة الاجتماعية ، ومن ثم ترتفع أصوات تطالب فى مواجهة موجة الانحلال والتفسخ بالعودة إلى الدين، وهكذا تتعرض الأخلاق إلى محنة مروعة بين إيمان دينى يبرر أكثر الموبقات انحطاطا ابتداء من ‘طالبان فى أفعانستان’ وانتهاء بـ ‘جزارى الأقصر ‘مرورا بـ ‘ مخابرات الثورة الإسلامية’ وبين عقل يتردى – تحت وطأة العجز – فى مهاوى العبث فاتحا بذلك الطريق أمام الانحلال والتحلل.
تستند الأخلاق أول ما تستند على ضرورتها الاجتماعية . وتقوى وتعزز بنبل المقاصد وعدالة المصالح ولا بأس بعد ذلك أن تكتسب – بفضل هذا المنطق العقلانى – قداسة دينية، ذلك أن الأصل فى القبول أو الرفض هو : الصواب والخطأ ، وهو ما يمكن أن يستند عليه الحلال والحرام، وإما أن يبدأ الفكر بالحرام والحلال دون سند من أى ضرورة أو أى منطق أو أى عدالة، فإن ذلك معناه ببساطة أن ما هو حرام من الممكن أن يكون حلالا بين عشية وضحاها إذا ما راق ذلك لهذا الشيخ أو ذاك الكاهن.
الحاجة إلى تثبيت دعائم الأخلاق ماسة وضرورية إذن، لكننا نرى أن البنيان الأخلاقى ليس فى حاجة إلى قداسة فحسب تواجه ما يعصف بالإنسان الآن، بل إنه فى حاجة أكثر من أى وقت مضى إلى الثقة فى الإنسان، وفى العقل الإنسانى، البنيان الأخلاقى فى حاجة أيضا إلى الأحلام والآمال والثقة فى مستقبل أفضل .
أنظروا إنهم يصرخون: لا مستقبل لحلم أكثر عدالة وانسانية، وأن الرأسمالية، هذه الطبقة الرأسمالية الاحتكارية المحافظة التى نعيش فى ظلها بالذات (!) هى نهاية المطاف ، ولن يوجد للإنسان مستقبل آخر(2)!! ثم يندهش البعض بعد ذلك من سيادة هذا النوع من الإيمان الدينى الذى تنحط فى ظله الأخلاق بدلا من أن تقوى وتتعزز !! يطلبون منا أن نعتبر العالم على ما يرام فيما نرى جميعا كل هذه الحروب والمجاعات والفوضى بينما البشر قد نجحوا من الناحية النظرية فى حل كل مشكلات الانتاج إلى حد الوفرة، ويقينا فإن الشعوب ‘الغلبانة’ ليست مسئولة عن هذه الأوضاع ، وإنما مدراء العالم فى قلب النظام الرأسمالى هم المسئولون بالطبع، ونحن لن نوافق أبدا على أن الإنسان – كما يزعمون – جبل على الشر، وأن الرهان على ‘يوتوبيا’ هو رهان مناقض لطبيعة الإنسان، وعلى العكس فنحن نرى أن الإنسان لم يجبل على الشر – على الأقل ! ويستحق أكثر بكثير مما تعده به ‘الأمركة’ !
أنظروا : انهم يرون أن العقل يواجه أزمة أخلاقية لأن التردى يجتاح العالم على أصعدة مختلفة فإذا بهم يشككون فى قدرات العقل ويرفعون لواء الإيمان الدينى وكأنه – وهنا المفارقة الخطيرة- نقيض للإيمان بالعقل وفى مواجهته، وفى المقابل فنحن نرى أن الأزمة التى تواجه العقل لن تحل إلا بالرجوع إلى العقل ، ونحن نرى أيضا إن الإيمان الدينى لن يكون أخلاقيا على الإطلاق وإيجابيا إلا فى استناده على العقل والضرورة الاجتماعية، ونحن نرى عيانا بيانا كيف أن استناد هذا الإيمان على احتقار العقل ومنطق الضرورة الاجتماعية قد حوله إلى رصيد فاعل ونشيط للمحافظين والفاشيست أعداء التقدم وسبب الانحطاط ، وقد حدث هذا فى مصر كما فى أمريكا، وانطلاقا من الإيمان الإسلامى للجماعات الجهادية هنا أو انطلاقا من الإيمان المسيحى للجماعات الأصولية هناك .
للدكتور الرخاوى أقول إن حضور الله ووجوده فى عقل الإنسان ووجدانه كان ولا يزال وسيظل ضروريا جدا لكل الأسباب التى ذكرناها، ذلك أن الإيمان الدينى لا يحمى بقداسة صرح الأخلاق فحسب ، وإنما يقدم للإنسان سلواه الروحية الأهم فى مواجهة العجز والموت واستدعاء هذا الإيمان فى مواجهة ما يحيق بالإنسان من ترد وأخطار يعزز من قدرات الانسان على هذه المواجهة ويساعده فى معركة التقدم بشرط أن يكون هذا الإيمان نفسه منطلقا من احترام العقل والضرورة الاجتماعية، وعليه فإننا نرى أن مظلة الأخلاق من حيث ضرورتها الاجتماعية هى مظلة أكثر اتساعا ورحابة، وتشمل كل البشر المنحازين للخير، وتستند الأخلاق هنا على مبدأ الصواب والخطأ وفقا لمعايير تنحاز لمصالح السواد الأعظم من البشر وهو منطق يتضمن ويستوعب منطق الحلال والحرام ويقوى ويثبت بالإيمان الدينى وليس العكس.
ليس الخلاف مع د. الرخاوى إذن كبيرا وعميقا لأننى أفهم أن وجود الله عنده سيحول دون التردى ويمنع الإنسان – أو بالأحرى يحميه – من الانحطاط القيمى، أى أن د. بالرخاوى يريد لنا أن نتسلح بالله داخل عقولنا ووجداننا لكى ننقذ البشر من هذه الفوضى وهذا الشر الذى يحدق بنا، وهذا الإيمان بالله هو الذى يقوى من البنيان القيمى والأخلاقى ويثبته داخل نفوسنا – وهنا بالضبط مربط الفرس وجوهر الموضوع – يحتاج أصلا إلى قناعة عميقة بالضرورة الاجتماعية للأخلاق باعتبار هذه الضرورة – بالأساس – هى المنبع العقلانى للقيم والأخلاق، وبدون هذه النظرة العقلية للإيمان بالله فإن هذا الإيمان -كما هو سائد الآن وكما نرى جميعا- يصب الآن فى مجرى التعصب ويحيل حياتنا إلى جحيم ويزيد من المخاطر التى نتعرض لها.
[1] – على غير العادة، قدمنا افتتاحية فريد زهران ،التى وصلت فى آخر لحظة على افتتاحية رئيس التحرير، وذلك لأهمية ما جاء فى هذه الافتتاحية، وحتى يمكن أن تتضمن افتتاحية رئيس التحرير الإشارة إلى عناوين ردود نأمل أن تتبلور مستقبلا.
[2] – (نهاية التاريخ: فوكوياما).