(من صور الريبورتاج الأدبى:
فصول تشيرنوبيل الأربعة)
شئ مربـك
محمد المخزنجي
شيء مربك أن أجد نفسى بين هذه القبيلة من الناس الذين تتدفق دموعهم عندما يتأثرون حزنا أو فرحا. وها أنذا أحاول ضبط نفسى بكل ما وسعنى من إرادة واقفا على رصيف فى محطة قطارات “كييف”، أمام القطار الذاهب إلى الجنوب حتى “أوديسا” .. على الرصيف جدات وأمهات وآباء وأقارب وأطفال يتم إرسالهم بعيدا، أبعد ما يكون عن كييف التى ارتفعت بها نسبة الإشعاع بعد حريق تشيرنوبيل، مما يهدد خلايا الأطفال الحساسة والرقيقة بالضرر. أطفال ما بين عمر الرضاعة وحتى سن المدرسة .. هذه هى الدفعة الأولى من الأطفال الذين سيتم إبعادهم عن المدينة .. يذهب بكل منهم الجد أو الجدة التى فى سن المعاش، أو الأم أو الأب الذى منح أجازة من العمل، أو أى من الأقارب الذين لا يقيدهم عمل أو دراسة فى المدينة.
على الرصيف ما بقى من الأسر للوداع، وفى نوافذ القطار – خلف الزجاج – أطفال .. وجوه وأيادى أطفال .. وجوه لاهية ووجوه تضحك ووجوه تبكي، وعلى الرصيف فى انتظار تحرك القطار يتماسك المودعون . ثم يبدأ القطار تحركه ويتوالى ذهاب النوافذ .. قطار أطفال .. تتزاحم وجوههم الغضة وتودع أياديهم .. أياد صغيرة جميلة، طرية، لا تعرف بعد كيف تلوح فى الوداع، وبعضها يعرف معرفة كأنها رفيف أجنحة الفراش .. لا، بل أجمل وأرهف من أجنحة الفراش. إنها أيادى أطفال، وكفي. وكأن خيطا رفيعا يصعب قطعه يربط بين الأطفال فى النوافذ الذاهبة وذويهم المودعين على الرصيف .. يتحركون مع القطار ملوحين كاتمين الدمع. ويسرع القطار فأجدني، بطبيعتى المربكة تلك، لا أستطيع السيطرة على دمعي. أجده يتفجر مع إسراع القطار وذهاب النوافذ الممتلئة بالأطفال الذاهبين. وأستدير نحو حائط أحد أكشاك الرصيف، وهات يا عين .. أبكى لا أعرف لماذا بالضبط أبكي، لكنها كل أحزان العمر تتجمع فى هذه اللحظة وتدفعنى إلى البكاء الذى كلما حاولت كبحه يجمح أكثر. وأشعر بمن يلمس كتفى فأستدير .. إنها جدة، تسألنى بحب وتأثر: “طفلك يا بني”.
فكأن الكلمة تؤجج حرقة البكاء لرجل ينسرق منه العمر، وليس لديه أطفال، وربما لن يكون .. يشتعل البكاء، فتفهم العجوز أن النشيج يعنى الإجابة نعم، وتضمنى مهدهدة:
سيعود يا بني. كلهم سيعودون. أيام قليلة فقط وسيعودون إلى قلوبنا”. وأنفجر فى بكاء أشد ينتفض له جسدى كله .. تربت على الجدة التى أخذتنى فى حضنها وهى تواسينى بصوت أسمعه يتهدج: “كفى يا بني. كفي. سيعودون. إن بكاءك مؤثر يا بني. أنت تجعلنى أبكي. تجعلنى أبكى يا بني”. وانفجرت تبكي. فصرنا معا، على رصيف محطة قطارات كييف، فى هذا اليوم من أيام تشيرنوبيل الأولي: شاب عربي، وعجوز أوكرانية .. لا يعرف من يراهما، يقينا، أيهما يضم الآخر ويربت عليه بهدهدة .. لعله يكف عن البكاء.