الناس والطريق
(الجزء الثانى)
الفصل الثالث
بحثا عن أمر …“ما””
الأحد 27 / 6 / 1993
انتقلت إلى الفندق الجديد وقد كان أفضل مرتين على حد تقديرى من القديم، وأرخص ثمانين فرنكا، فكيف هذا؟ ولم أتوان عن سؤال صاحب الفندق الجديد تفسيرا لهذا الفرق، ولم يتردد فى الإجابة بأدب جم أنه “لا يعرف”، هذا الفندق الجديد هو بيت جديد ، هأنذا أقـيمـه الآن، وسوف أعود إليه إن كان فى العمر بقية، ما أوسع ممتلكاتى وأسهل اقتنائى، الآن فهمت أكثر ماذا كان يعنى زميلى، الذى استقبلنى فى المطار من أنى أبنى لى بيتا حيث أحل ، أرسى فيه بعض نفسى فأعود إليه، حتى خيل إلى أن روحى تستطيع أن تحوم حوله – ذبابة خضراء- بعد ما يحال بين جسدى وبينه، من يدري؟؟ !!!
بعد الظهر شددت الرحال إلى الشانزلزييه، أحد المعالم التى أكرهها، لكن زيارتها من ضمن الطقوس التى أمارسها، والطقس ليس بالضرورة محببا كله.
ليس معى تذاكر للمترو، ولم أجد فى محطة الجوبلان تذاكر، فسألت فتاة نشطة دخلت مسرعة إلى المحطة: من أين أحصل على التذاكر، فلوحت لى بيدها أنه من أى مكان هنا أو هناك، وضربت بساقها العمود الحديدى الحاجز فى مدخل المحطة دون أن تضع تذاكر ولا يحزنون، ودخلت غير ناظرة إلى، فهى ليس معها تذاكر مثلى، فقلت أفعل مثلها وما يحدث يحدث، ألا يقولون وأنت فى روما افعل مثل أهل روما، وهؤلاء أهل باريس يزوغون ويقفزون، ودخل شاب آخر مسرعا فانحنى من تحت العمود الحاجز، ودخل دون تذاكر، فقلت هذا ثانى تشجيع، ولكن ماذا لو ضبطونى وأنا أستاذ قدر الدنيا، ضبطونى وأنا أقفز فوق الحواجز أو أدفعها قهرا وبسرعة دون تذاكر، ولكن يبدو أن يوم الأحد له وضع خاص، لكن ماذا لو كسر هذا العمود وأنا أدفعه هكذا ، لا بد أن تلك الدفعة الخاطفة تحتاج لتمرين خاص، والألعن الألعن لو انحنيت كى أمر فانحشرت تحته وأنا جسمى باسم الله ما شاء الله، فانسحبت بغير هدوء،
خرجت إلى الشارع، قال لى أحدهم أن على أن أواصل السير إلى “ميدان إيطاليا” وسوف أجد التذاكر فى المدخل الرئيسى فى المحطة هناك، وفعلت، ولم أجد المدخل الذى يبيع التذاكر، وكدت أقفل راجعا إلى الفندق، لكن الباب الأوتوماتيكى (بديلا عن الحاجز الحديدي) ذا الاتجاه الواحد فتح ومر منه أحدهم خارجا، ثم فتح ثانية وبدا على طرفه شاب أسود نحيف رقيق، ولا أدرى كيف التقط حيرتى بهذه السرعة، فتوقف عن المرور وأشار لى إن كنت أحب أن أدخل إذ سوف يحافظ لى على فتحة الباب بالوقوف حيث هو، حتى أتمكن من الدخول، أدخل فى عكس الاتجاه، ثم يواصل هو سيره، مخالفة رقيقة بالمقارنة بالخبط والأكروبات السابق ذكرهما – مخالفة محسوبة بالتكنولوجيا، مخالفة بالتعاون الصامت المخالف للقانون دون مقابل، فشكرته بشكل واضح ودخلت مسرعا، وخرج مبتسما، كل هذا أحكيه وأنا أتعجب من جرأتهم على المخالفة، وفى الوقت نفسه أتعجب من هذه السرعة الغريبة التى يتكلم بها البشر، وذلك الاتفاق غير المكتوب على مخالفة القانون بالأصول الجديدة، عقود اجتماعية خفية تسرى هنا وهناك من وراء أنف الحكومات واللوائح، هذا القانون غيرالمكتوب، هو قانون أيضا له قواعده ومواعيده وشروطه والتزاماته، هل يكون هذا القانون المكتوب وغير المكتوب هو الذى جعل الإرهاب عندهم لا يؤثر فى السياحة، واللاقانون عندنا فى مصر هو الذى خرب بيت السياحة بأقل القليل من الضحايا؟ لعله كذلك، القانون هنا محسوب ومخالفته محسوبة، واللاقانون عندنا، برغم قلة ضحاياه، يجعل الأمر سداحا مداحا.
وصلت إلى الشانزلزييه كارها، ووجدتهم قد وضعوا كل أدوات مترو أنفاق القاهرة هناك، ألم يكونوا فرنسيين، وابتسمت وأنا أتخيل المنظر فى شارع الملك فيصل، أو ميدان النافورة بالمقطم والعمال يفترشون الأرض صباحا وفؤوسهم ومقاطفهم أمامهم ينتظرون أن يفتح الله عليهم بمقاول (بغض النظر … إلخ)، وقلت لابد أن الفرنسيين بعد أن أنهوا المترو عندنا، أحضروا بولدوزاراتهم وفئوسهم وافترشوا أرض الشارع الفخيم الذى لم أعهده كذلك من قبل، هل يحفرون هنا مترو جديدا أم ماذا؟ المهم كل الشارع مليء بالسقالات والحواجز، لكن بنظام ما، فرحت فى سرى لأنى وجدت سببا مباشرا لكراهيتى لهذا الشارع الذى ليس لها حل، و التى تتصاعد بمجرد الوصول إليه-شعرت أننى أصبحت فى عين الصيرة أو طريق مجرى العيون الذى لا تنقطع منه المياه الجوفية البشرية إياها، ما علينا. ورغم أنه لا رائحة ولا مياه، إلا أن مشاعرى السلبية وجدت ما يبررها، وحتى إن لم تجد ما يبررها فهى هى لا تريد أن تتغير. فى أول الشارع ظهرت لافته تغيير النقود، هو هو المكان، هو هو المحل، هى هى الوجاهة، هو هو ما خدعنى فى تبديل النقود فى المرة السابقة، حيث استلمت النقود أقل خمسين فرنكا فى المائة دولار على ورقة مكتوبة ومختومة لأسباب لم أفهمها حتى الآن، قلت فرصة لآخذ حقى : وبحماس شديد قلت : ولسوف أنتقم، وأفقسهم، وآخذ حقى (الأدبى على الأقل) منهم هذه المرة، لا أحب أن يخدعنى أحد، وخاصة إذا كان “خواجة”، فدخلت: فوجدتها هى هى الجميلة نفسها أو أجمل منها، وقرأت بهدوء شديد حتى لا أقع فى خطأ المرة السابقة، فإذا السعر العالى مكتوب، صح، وإشارة إلى أنه لا عمولة nocommisssion صح، فسألتها ماذا يعنى ما هو مكتوب “لا عمولة”؟، فغنجت قائلة إنه يعنى ما هو مكتوب “لا عمولة” يا مسيو، وأعطتنى خريطة باريس مجانا أتلهى فيها، قلت لها: أنت متأكدة أنه “لا عمولة” قالت: طبعا هذا مكتوب هذا أمر رسمى، فأعطيتها المائة دولار؟ فأعطتنى النقود ناقصة الشيء الفلانى (أكثر من المرة الماضية، أى والله وأخجل أن أقول الرقم)، تحفزت أكثر وأنا أتذكر الخبرة السابقة وردودها، قلت لها كيف،فانقلبت سحنتها وذهب جمالها- أى والله العظيم ذهب جمالها-وأعطتنى ورقة صغيرة بها رقم المبلغ نفسه الذى استلمته، وتذكرت أن هذا هو ما كان تماما بالحرف الواحد فى المرة السابقة لكننى كنت قد نسيت التفاصيل، وقلت لها: “لقد صرفت أمس فى المطار بكذا”، فقالت: “هذا هو، واذهب إلى البوليس ومعك الورقة”. ثم أكملت: نعم لا توجد عمولة ولكن نسبة كذا مقابل دمغة كيت، ولا أدرى ماذا مقابل لا أدرى كيف..إلخ (كله بالفرنسية التى خانتنى طبعا) وكلام لا أعرف له أولا ولا آخر، ملأنى غيظ فظيع لأننى لم أكن أحتاج أن أغير نقودا ساعتها، كنت داخلا فقط أمحو خيبة قديمة، وأتحدى، فلبست الخازوق نفسه، وأخذت أتحسس فروة صلعتى أتأكد أن الخازوق قد وصلها بالسلامة، ونسيت كل الذى كنته من الصباح الباكر، ونسيت حكاية البسط والبساطة، والولادة وإعادة الولادة.. وهذا الكلام كله، هل فقد خمسين فرنكا (أو أكثر) فى لعبة شانزلزييهية يفعل بى كل هذا؟، وأنا الذى قلت سوف أتغير وتتغير علاقتى بالنقود، حاولت أن أمنع الخازوق من البروز من منتصف صلعتى بعد أن وصل بالسلامة فكانت المحاولة بمثابة إدخاله من جديد، وفهمت لماذا إذا خوزق إنسان فعليه أن يصبر حتى يطلع الخازوق بالسلامة من الناحية الأخرى، إذا لم يكن قد قضى عليه تماما (هذا مبدأ جيد فى الحياة، فتذكر)، وحاولت أن أطرد ذكرى حرب الخليج وهزيمة 67، لكن هذا الخازوق أنقذنى من الشانزلزييه كله، فما إن جلست على أحد المقاهى الفاخرة التى كم وعدت نفسى بالجلوس عليها حين ميسرة، وقد جاءت الميسرة، ما إن جلست حتى واجهتنى بولدوزرات وحواجز مترو الأنفاق (هكذا سميـتها) ثم عين الصيرة، وقصر العيني- كل سقالات الدنيا أحاطت بى، ونظرت حولى على كراسى القهوة فرأيت كل من هب ودب ممن لا أعرفهم، ولا أحب أن أعرفهم، فناسى أنا هناك فى المونمارتر، والجوبلان، ووسط باريس فى سان ميشيل، أما هؤلاء الناس فهم تبع النظام العالمى الجديد حتى قبل أن يصبح جديدا.
قمت كالملسوع من المقهى قبل أن يأتى النادل، وهو لابد قريب البنت إياها بتاعة النقود، تلك الجميلة التى تحولت إلى ريا باريسية بحسبة بسيطة، قارحة وبنت ستين، قمت زاغرا له وهو مقبل على، هكذا تصورت، ولم يكن ينقصنى إلا أن أتصور أن الناس تشير على أن العبيط أهه “اتخـم” مرتين بين المرة والأخرى سنتان والذى لا يشترى يتفرج، وانطلقت ألوى على شيء.
أخذت أتأمل الموتوسيكلات التى تملأ أرصفة الشارع، وأرى وأقرأ أرقم اسطوانات محركاتها، والخوذات الملقاة بجوارها مربوطة إليها، وأقارن كل ذلك بموتوسيكلى الجديد الذى لم أركبه بعد، وخوذتى التى اشتريتها من مونتريه، كل ذلك لأشغل نفسى وأنسى ذاك الذى اخترقنى منذ دقائق، وزاد لسع الخازوق من سعة خطوتى، قدماى لم تؤلمانى بعد، وركبى شرفت حتى الآن، وآلام الخازوق تتلاشى، تتلاشى تدريجيا، وأتذكر أن أرعب ما كان – وربما ما زال يرعبنى من وسائل التعذيب هو أن يدخلوا فى خشبة غير مشذبه (بها شظايا جانبية) حتى أعترف، وكنت أتصور أننى يمكن أن أقاوم الصعق بالكهرباء، والضرب، والتعليق من الأرجل ولكننى حتما سوف أضعف أمام هذا الخازوق الخشبى غير المشذب، وقررت أن أعترف لهم إذا اكتشفوا نقطة الضعف هذه، ولكن المصيبة أننى حين كنت أطاوع خيالى حتى هذه المرحلة، أننى لم أكن أدرى بماذا أعترف، فلا أنا محرض ثورة، ولا أنا سياسى معارض، ولا أنا شيء، بل إننى متهم بأننى إصلاحى جبان، ثم إنه ليس لى أحد إطلاقا، فعلى من أعترف، فكنت أتمنى الموت حتى لا أضر أحدا، وحين أفيق من خيالى ولا أجد فى كل تاريخى ما يبرر أيا من هذا أصلا ، أطرد تفسيرات فرويدية تتعلق بهذه المنطقة من جسدى، وأشخط فى فرويد أن يبعد عنى، وحمدت الله أن خازوق تبديل النقود فى الشانزلزييه لم يكن خشبيا أصلا، بل كان ناعما مثل بنت الفرطوس (لا أعرف معنى هذ الكلمة لكن القارئ يعرف طبعا ما أقصد، وإن كان التعبير العربى يقول : فرطس الخنزير مد فرطوسته لأن فرطوسة الخنزير أنفه، يا حلاوة، والله كانت مثل ذلك بعد أن اختفى جمالها وراء نافذة صرف النقود !!).
…ومن الكونكورد إلى شاطئ السين، ولست أدرى ما الذى جعلنى وأنا أواصل السير هذه المرة أسأل عن “الشاتليه” بالذات، وأنا ليس لى أية علاقة بالشاتليه تحديدا، لكن “هكذا”، وقال لى العسكرى الظريف إن أقصر طريق هو كذا وكيت، فقلت له: أنا لا أسأل عن أقصر طريق ولكن عن أجمل طريق، فابتسم. وتفتحت من جديد ، ونسيت البنت إياها، أنا الذى استأهل كل ما جرى، قال أنتقم قال ، وممن ، من خواجاية ناعمة تمثل النظام العالمى الجديد وشركات الدواء فى آن.
هذا هو السين الصديق، وسوف أصل إلى الجسر الجديد (بون نيف) و هو له شأن معى بكل ما يعنى ما قدمت، واستبدلت بسؤالى عن الشاتليه سؤالى عن الجسر الجديد، وأغلب من سألت كان سائحا لايتكلم الفرنسية بطلاقة، لكن كم توقف، وكم نظر فى خريطته ونحن فى عز الليل (المغرب يؤذن هنا بعد العاشرة)، وقال، وسمعت، وأشار، وفهمت، وأعاد، وصدقت ومشيت، وقالت، ومشيت ومشيت، وقالوا، ومشيت، ووصلت إلى الجسر الجديد، بعد أن مررت بما يقرب من خمسة كبارى، ولم أكن أتصور كل عدد الكبارى هذه، وعلى الجسر (كل جسر) وقف الشباب يرقصون ويغنون من كل جنس ولون، يارب لم مصر لا، لم مصر العظيمة لا؟
وكنت قد لاحظت أن القبل والأحضان والذى منه فى الشوارع أقل بشكل واضح من المرات السابقة، أهذا صحيح أم لأننى لم أقض هنا سوى نصف سبت ويوم أحد فقط، لكن الأحد هو الأحد، ويوم السبت هو يوم السكارى الملقين على مداخل المترو، ولم أكد أصل إلى هذا التعميم السخيف حتى وجدتها فوق الجسر الجديد، وقد جلست القرفصاء فوقه، وهو ممدد الساقين تحتها، وقد أسند ظهره على حاجز الجسر، وهى تمسك برأسه بين يديها، وهو مستسلم لها، كل هذا تبع النصف الذى فوق، ماشى، أنا أعرف من “أيام الهايد بارك” أن النصف الذى فوق مسموح له بالحركة دون غيره، لكن مسألة القرفصاء هذه وفوق ساقيه الممددتين جلوسا على الأرض، هذا وذاك يمثلان وضعا جديدا على يسمح للفتاة أن تعبطه عبطة ذكرتنى بهند عمر ابن أبى ربيعة، وقلت لابد أن ابن أبى ربيعة هذا كان يتمنى أن تستبد به هند كما تستبد هذه المقرفصة بذاك الممدد، ثم إن نصفها التحتى بدأ يتحرك فى إقدام مثابر منتظم ، نصفها هى، وهو فى حالة استقبال جدا، وحاولت أن أبعد نظرى عنهما فأنا معتاد بعض ذلك، لكن هذا ليس بعض ذلك، هذا هو “كل ذلك”، فرحت أبحث بنظرى عن شرطى يحوش، ولكن يحوش ماذا، وتذكرت قصيدتى عن مثل هذا فى المترو بين “النيسان” الإتوال، كما تذكرت تعجبى كيف يمكن أن يستمر فتى وفتاة فى كل هذه القبل والتحسيس والتحضين ثم ينصرف كل واحد فى حاله هكذا دون كذا، أما هذا المنظر فأنا لم أره أبدا، وتذكرت أن علاقتى بهذا “الجسر الجديد” كانت علاقة نهارية جدا، كنت أحضر كتابى، وأختلى بأريكة مجانا فوق الجسر أو تحته حسب المطر، وهات يا قراءة فى الشمس، ولا أذكر أننى مررت به فى هذا الوقت المتأخر هكذا، فلعله كان هكذا طول الوقت وأنا ليس عندى خبر، ولكن هذا “الهكذا” زاد وفاض، لم أشعر برفض أخلاقى أو ما شابه، بل تزايد عندى حب الاستطلاع لدرجة مخجلة، والدنيا ظلام، ولا أحد يمكن أن يرى خجلي; أعنى حب استطلاعى وأشياء أخرى ربما من بينها الحسد، وهات يا هكذا، والوقت يمر، والهكذا لا ينتهى ، قلت أقوم أواصل السير مادمت لم أنجح أن أحول النظر، قال ماذا، قالت ركبتى إنهما تعبتا، إشمعنى لم يحل عليهما التعب إلا بعد أن حدث لى هذا الذى وأنا أطالع الهكذا، ومادام الأمر قد وصل إلى هذا الوصف، فقد كنت أود أن أراهن -خاسرا- أنه لو كان معى أربعة شهود عدول لأثبتنا الفاحشة، ولكن يا رب: كيف؟ … وكل شيء، هه، ثم أفيق بلا غيظ: لأتساءل: وأنا مالى ؟؟
قمت، وواصلت السير، ووصلت لمحطة المترو، أذهـب المنظر الهكذا كل آثار الخازوق، وكانت خسارتى فى تغيير الفلوس برغم لبس الخازوق أقل بكثير من خسارتى فى شرب بارد على قهوة باهظة لا أحبها، وحولى ناس أكرههم، أضـبـط!! ثانيا؟!! حسابات؟ ثانيا!!؟ وأنا الذي..
وصلت بيتى الجديد، الفندق الجميل النظيف، أبا نجمتين.
وقالت لى: باريس حمدا لله على السلامة، فقلت لها بصوت مسموع وأنا أدير مفتاح الحجرة :الله يسلمك ويسلم مصر.
الاثنين: 28 / 6 / 1993
كنت أكتب هذا الصباح فى الكتاب إياه عن كيفية تقييم اضطراب الزمن عند المريض كأحد الأعراض التى لابد من النظر إليها بالجدية نفسها التى ننظر بها إلى اضطراب الكلام أو اضطراب التفكير، ووجدتنى فى بؤرة المسألة – هكذا تكتب الكتب يا سيدى، وليس كما بدأ هذا الكتاب أيام أن كان عبئا سخيفا- ، “الزمن”: من منا نحن الأطباء النفسيين انتبه بالقدر الكافى إلى هذه الحكاية؟ ذات مرة سألت هذا الصديق الزميل حين كان صديقا، وكنا ننظر فى مسيرة الإنجاز، وطموح كل منا غير المعلن والمعلن، قلت له مذكرا: “ثم ماذا”؟( ثـم هذه حرف عطف غير الواو والفاء)، وكاد يضربنى، ” رافضا الإجابة لأنه فهمها ( لم يعد يفهم الآن أى حرف عطف غير الواو ) وثم” هذه هى من مقاييس الزمن الفاسدة، لأن استدارة الزمن ألغت عمل ثم، مثل بعض قواعد النحو يلغى بعضها بعضها، وأنا الآن فى حالة زمنية جعلت الأسبوع دهرا، واليوم عمرا، والساعة فرصة، واللحظة إعادة، والكل إحاطة، ثم نظرت فى الساعة فإذا هى الواحدة ظهرا، والنهار هنا يصل إلى ست عشرة ساعة أو يزيد، ووجدتنى مازلت أكتب الكتاب، وجب الخروج فورا. أليس هذا ما كنت أفعله منذ ربع قرن، هو هو، إذن فهو أنا.
خرجت واتجهت دون خارطة إلى شوارع لم أطرقها من قبل، ولكن أحسب أنها فى اتجاه حدائق اللوكسومبورج، هكذا حدسا (تم التحقق مصداقه) وبعد ثلاث دقائق فى هذا الاتجاه وجدت نفسى أمام الجامع، المسجد الكبير لباريس، إذن فأنا هنا ولا أدرى، وابتسمت غير فرح ولا منوم، ماذا فعلتم بنا نحن المسلمين أيها المسلمون، لماذا جعلتمونا نطأطئ الرؤوس هكذا بلا مكسب ولا جريرة، لم لا نقود العالم – ياعالم- بعلم جديد، ورأى مفيد، وقوة اقتصادية حقيقية، لم أكن أذهب إلى هذا الجامع حين كنت فى باريس إلا لصلاة الجمعة، فانتويت أن أصلى صلاة عادية أناجى فيها ربى وألوم أهل دينى وأستغفر لهم ولنفسي.
كان كل من بالمسجد بضعة أفراد فى حالة عبادة صامتة حزينة، يتدارسون بعض الآيات، ويبدوا أنهم ليسوا مثلى، فقد يئسوا من إصلاح حالنا، ومن ثم: الحزن والخفوت، دعوت الله بعد ركعتين أن “كفي”، فأوصانى بنا خيرا.
هناك أغنية أمريكية عنوانها “أسـيـر “مـصـريا” (لم أسمعها لكن سمعت عنها) تشير إلى تلك المشية المتراخية التى لا تهتم بالوصول، تقمصـتها راجعا، الوصول إلى أين؟ عندنا -نحن المصريين- حق طبعا، لو حددنا الهدف لأسرعنا الخطى، لكننا ننتظر خطاب التعيين بالست سنوات، فعلام العجلة؟ ولم أكن تناولت غداء، ولن أفعل، عادت ريما إلى عادتها بعد عز وقهر الانضباط الغذائى فى مونتريه، فلمحت محلا صغيرا تقف فيه سيدة صغيرة، ذات وجه صغير، تضع على رأسها “إيشاربا” صغيرا وتحمل فى بطنها (رحمها) جنينا صغيرا، كل ما فيها صغير متناسق، لكنها مشمرة عن ساعديها حتى فوق الكوع، وعن ساقيها حتى تحت الركبة، وأخذت تفاحة واحدة (بصراحة هى تفاحاية وليست تفاحة، والفرق ليس فى الحجم ولكن التفاح حين يكون جمعا تصلح له الفصحى، أما حين تصل المسألة إلى واحدة فالكلمة تبنى على العامية!!) وثلاث مشمشات وعددا من الكريز، وبسرعة وزنتهم لى السيدة المنمنمة، وحسبت حسبتها بالآلة الحاسبة وطلبت مبلغا زهيدا، ودفعت، وتمنيت مثل ذلك عندنا، لماذا نشترى ثلاث برتقالات ونحن نحتاج برتقالتين، لماذا نشترى كيلو خيارا ونحن نحتاج خيارة واحدة؟ سوف يرتفع الدخل حتما لو انتبهنا إلى ضبط معنى الكم والحاجة. وسألتها عن جنسيتها وأنا أتوقع الإجابة، قالت بالفرنسية: “تونس”، فداعبتها كيف تلبس الحجاب وذراعاها عاريتين هكذا، فقالت بطيبة وديعة: إنه العمل، ولم تنزعج لتدخلى، أظن أن سنها لم تتعد الواحد والعشرين عاما، وقلت لها: “منذ متى وأنت هنا؟” قالت: “من ستة أشهر، لكن زوجى هنا من قديم وهو صاحب هذا الدكان”، وقبــلت حجابها، ودعوت لها، وعرفت أننا يمكن أن نتحجب دون أن نتعصب، وأن نتميز دون أن نتحيز، وأن نسلم دون أن نكفر..إلخ.
لم أنم ظهرا، ولماذا النوم، لكننى مددت ظهرى مثلما يفعل عمر صديقى الحفيد، حين يكبس عليه النوم فيقاومه متمددا منكرا النوم مرددا قول أمه فى الأغلب أنه إنما يمدد ظهره، وانتظرت حتى الرابعة، وقلت أنزل مبكرا أشترى ماكينة حلاقة من التى تلقى بعد استعمالها، وأدخل محلا من الذى كنت قديما أحب أن أدخله، وهو ما يسمى بالسوق الأعظم (السوبر ماركت)، وقد كثر هذا النوع فى مصر وتنوع حتى عاد الدخول إلى مثله ليس من طقوس رحلاتى كما كان قبلا، أخرجت الخريطة، وقررت أن أذهب إلى الساماريتان، وهو قرب الجسر الذى أحبه، جسر أمس إن كنت ما زلت معنا منذ أمس. (بون نيف).
انطلقت سائرا دون استئذان ركبتى، فقد قطعت عندهما اشتراكا (أبونيها) حتى نرجع، و”كل واحد يعمل بأصله” كما كانت تقول خالتي.
حسب الخريطة: اتجهت شمالا فى اتجاه شارع المستشفى (اسمه هكذا يا أخى، إشمعنى شارع قصر العيني)، ومنه إلى السين، وكان قريبا، ما لباريس قد صغرت هكذا ؟ أم أننى صرت أكثر نشاطا من ربع قرن مضى، كنت أتعجب فى قريتى لصغر المسافة حين أعود فأسير مشوارا كنت أسيره صغيرا فأحسبنى أعبر ما بين، بيتنا الكبير فى بلدنا يقع فى وسط البلد، وحديقتنا التى هجرنا إليها والدى قسرا غير معلن، تقع أمام المقابر مباشرة ، فكنت أقطع هذه المسافة صغيرا فيما أحسبه يوما أو نصف يوم ، وحين عدت إلى بلدنا-كبيرا- فى عزاء أو ما أشبه، وجدتنى أقطع المسافة نفسها فى بضع دقائق، تفسير ذلك سهل إذا راجعنا معنى الزمن وطزاجته عند الأطفال، أما الآن فى باريس ما بين سن الخامسة والثلاثين وسن الستين، فالأمر كان ينبغى أن يتغير، ألا تذكرون أحجية الأعرابى الكهل الذى سئل ما حال البعيد؟ قال أصبح قريبا، فما حال الاثنين؟ قال أصبحوا ثلاثة.. إلخ، كان يعنى قصر النظر، ثم استعانته على قدميه برجل ثالثة هى العصا..، وكنت أحسب أننى سأجد ذلك كذلك بعد مسألة ما أصاب ركبتى وتصلب شرايينى، لكننى لم أجده هكذا، بل عكس هكذا (هكذا هذه غير” “هكذا” على الجسر الجديد أمس : انظر قبلا). ووصلت بسهولة إلى “البون نيف”، بعد سؤال عدد من الناس ليس لأننى لا أعرف الطريق تحديدا ولكننى استحليت تلك اللعبة الطريفة التى يتبادلها الغرباء أمثالى مع بعضهم البعض ائتناسا ودفئا أكثر مما يتبادلونها مع أهل البلد، فأنا أسأل عادة غير الفرنسى، وأميزه بأشياء كثيرة، منها أنه يمسك خريطة فى يده، وما إن أسأل حتى يتوقف باسما مرحبا، وينظر إلى الخريطة أو لا ينظر، هو وشطارته، ثم يحاول ويشرح بفرنسية مختلطة بلغته الأصلية أو بالإنجليزية، إذا لمح منى ما يفيد ذلك، ويشير إلى العبد لله بما تيسر، وحين وصلت إلى الجسر الجديد قلت هكذا أتممت السعى من (الإتوال)، إلى الجوبلان على مرحلتين، وكان هذا من ضمن أسباب بقائى فى باريس، أن أتم طقس السعى الطويل هذا دون أن أشفق على قدمى زوجتى داخل الحذاء الضيق، ودون أن آخذ فى الاعتبار مزاج بناتى، هأنذا أفعلها وحدى بفرحة متفردة.
كنت مصمما أيضا على أن أصرف نقودا والسلام، آكل أكلة من التى هى، والتى كنت أشتهيها منذ ربع قرن ولا أجرؤ على التفكير فيها أصلا، أو أشترى شيئا لم أكن أجرؤ على الاقتراب منه قديما، ولم يكن فى ذهنى شيء محدد، وإنما كان الهدف أن أثبت لنفسى أن نعمة الله على قد أتاحت لى مساحة أخرى من الحركة تحت مظلة أمان مادى لم أعتده، وحين كنت فى الشانزلزييه مساء أمس، قلت: يالله يا شيخ اعملها وبر نفسك، آن ألأوان، لكن ذلك الشيء الذى أصابنى وكاد يخرج من وسط صلعتى (لن أكرر اسمه فكفى أمس) كان قد غير مزاجى، لكنه رحمنى من أن أتصنع التلذذ بجلسة لا أحبها، فى مكان أكرهه وسط ناس ليسوا هم، فقلت ها أنت يا ولد فى الساماريتان شخصيا، وعندك محل واحد (1) ومحل اتنين (2) ومحل تلاتة (3)، ولكل محل تخصصه كما أعرف من قديم (دون أن أحفظ أى منها لأى من ماذا)، قلت لنفسى : هيا يا عم، وسوف تجد ما تصرف فيه مما أفاض عليك الله من فضل، لعلك تصدق أنك لست فقيرا حريصا كما كنت من قبل – وعلاقتى بهذا الساماريتان متعدد المحلات الواحد بجوار الآخر علاقة أقل بكثير من علاقتى بالجسر الجديد، فأنا -كما ذكرت حالا- لم أستطع أبدا أن أحفظ تخصص كل محل، وبرغم أننى أعرف حاجتى الشخصية فى هذه اللحظة تحديدا، (وهى موسى حلاقة بيد بلاستيكية ألقيها بعد الاستعمال) إلا أن الإصرار على مبدأ ” الشراء للشراء” (مثل الفن للفن) كان واضحا بلا تحديد موضوع الشراء،
دخلت -إذن- وكلى حسن نية شرائية، ووجدت المحل هو المجال المناسب لمثل هذا التوجه المناسب – مساك الله بالخير يا زوجتى العزيزة- ها هى الحاجات على حاجات، لكن الناس ليسوا لحما على لحم،، وأظن أننى أشرت إلى طقوس زوجتى فى هذه المسألة من قبل ولا مانع من تكرارها وهى أربعة (ا) فالحاجات على الحاجات، (ب) والناس لحم على لحم، (حـ) وهى تشترى شيئا كانت المرأة الواقفة بجوراها تريد شراءه لكنها اقتنصته منها وفازت به دونها، و (د) وأن وجهها قدم سعد على المحل والبائع فما إن تشترى الشيء وهو جالس ينش حتى تقبل الزبائن على الرجل أو على الركن الذى اشتريت منه، يقبلون من كل صوب وحدب، وابتسمت من جديد ذاكرا إياها بالخير، وجذب نظرى الشماسى والعصى، وقررت ألا أشترى شمسية بدل فاقد إلا من الإسكندرية (حبيتها فى الشتى يا فيروز) فنادتنى عصا جميلة، وكانت الحسابات قد بدأت تعمل، عصا بمائة وثلاثين جنيها تساوى فى الحسين عشرين جنيها أو أقل، ولو كانت زوجتى معى لأقنعتنى أن هذه “حاجة ثانية”، وأنا أحاول دائما أن أقنعها بأننى مهتم أصلا بالحاجة الأولانية (الأولي- راجع قاعدة تفاحاية)، ونسيت أننى كنت مصمما على الصرف والسلام، ثم إننى قررت أن أكسر أحد طقوس مشترياتى (عصى ومطواة من كل سفرة) واكتفيت بالمطواة من سويسرا، ولم أجد طبعا بغيتى (ماكينة الحلاقة) ، وخجلت أن أسأل، فى محل بهذه الفخامة فيه حقيبة السامسونايت بألف جنيه ومائة (ثمن الحقيبة خالية يا سيد !!!) والعصا الخيرزان بمائة وثمانين، وأنا بجلالة قدرى أشترى موسى بلاستيكية واحدة. قلت قد أجد ضالتى أسهل عند الباعة على الرصيف خارج المحل، خرجت مهرولا وأنا أتذكرعلاقتى بالأرصفة أيام كانت هى الأصل لا المحلات التى وراءها، وأخذت أبحث بسرعة هنا وهناك ولم أجد إلا قمصان التاء (T Shirt)، وثمنها الشيء الفلانى، (غير زمان حتى تصورت أن الرصيف قد أصبح امتداد للمحل الفخم بصورة سرية) تقدمت من أحدهم وسألته: “أين أجد هذا الموسى العنيد”، فأجابنى باستغراب مشيرا إلى المحل الفخم الضخم، “فى الساماريتان يا سيد”،!!!!! وتماديت مخفيا دهشتى وكأنى أعلم، لكن أريد التفاصيل، تماديت سائلا: ، أى محل 1 أم 2 أم 3؟ فقال محل (1) الدور الأرضى، وكان برغم سمرته يتكلم لهجة باريسية لا تدل على أنه جزائرى، والساعة تقترب من السابعة، ولابد من الحلاقة وإلا استجبت لخاطر مر بى أن أطلق لحيتى وأعود مسايرا الموجة، لولا أننى اكتشفت بعد ثلاثة أيام من افتقادى الموسى أنها كلها بيضاء من غير سوء، وهذا يعلن سنا حقيقيا فى شهادة الميلاد، لا بد أنه كذب صريح، ومن لا يصدقنى أكثر من شهادة ميلادى يأتى يلاعبنى الذراع الحديدية (براديفير)، أو ما يرى، أو ترى !!! شكرتــه ودخلت بسرعة فوجدتنى حيث كنت، لكننى تشجعت وسألت أحد رجال الأمن الذين يتهيأون لإغلاق المحل، ولم أكن أعرف ما أطلبه بالفرنسية، فلم يسبق لى شرف شراء مثل هذه الموسى من مثل ذاك المحل، كنت أقضى حاجتى من هذه الأمور من على عربات اليد المفتوحة دون حاجة إلى أن أسميها، المهم أشرت إلى ذقنى وأنه عيب كده، وكدت أقول له إنه لو يعرف من أنا فى بلدنا لأسرع بالاهتمام بأن أكون حليقا، ففهم، وقال الاسم بالفرنسية “رازوار” فتذكرت أنى كنت أعرف الاسم قديما، لكننى تماديت فى الإشارة إلى أننى أريد أن ألقى به بعد استعماله، فنظر الرجل فى ساعته وأشفق على وقال لى ما تعنيه كلمة يلقى بعد الاستعمال” رازوار أجوتابل”- قلت: هكذا زادت مفرداتى، وأسرعت إلى حيث أشار ووجدته، لكنه بحوالى خمسة وعشرين جنيها وهو ماكينة وليس موسى، ..إلخ، وقفز إلى مخى أنها عندنا بكذا، وكدت أكسر رأسى احتجاجا على استمرار الآلة الحاسبة بلا توقف، أهذا هو الشخص الذى يريد أن يصرف والسلام، إخص عليك وعلى خيبتك القوية، وبسرعة اشتريت ماكينة عادية من ماكينات زمان، وقلت أضع فيها موسى “لورد” عندما أرجع، لأتحقق من كلمات الإعلان الذى يلاحقنى فى بلدنا مع العيال الذين يتقافزون رقصا من كثرة نعومة ذقونهم بفضل السيد لورد، وكانت ماكينة جميلة بثمن الماكينات الأحدث نفسها، ومعها عدد من الأمواس، والأهم أنها كانت موضوعة فى كيس مكتوب عليه “ساماريتان”، قلت: سوف أحتفظ به لأثبت لكل من ألقى فى بلدنا أنى ذهبت إلى هذا “الساماريتان”،( على وزن “رامتان” لعمنا طه حسين رحمه الله وغفر لزوجته التى كادت تـكرهنى فيه وفى الفرنسيات يا شيخ، وهل هذا وقت تذكرها).
انتهت كل مهمة التسويق طول الرحلة عند هذا الحد، وابتسمت، فهذه الرحلة لابد أن تدخل عالم الأرقام القياسية، لأن كل ما تم شراؤه فيها من باريس بجلالة قدرها هو ماكينة حلاقة بلاستيك وخمس أمواس، ومن أين؟ من ساماريتان شخصيا!!
ركبت المترو وقفلت راجعا وفى ذهنى تقسيمات جديدة عن كيفية فحص الزمن عند المريض النفسى ، بل الشخص العادى ، وترجمة ذلك إلى أعراض فى حالة الاضطراب.
واشتريت فى طريقى “آيس كريم”، وكان بالبسكويت، وأنا أحب البسكويت أكثر من محتواه، وكنت زمان أحب فى باريس أن أتلذذ بأنواع بسكويتاتها المتعددة، لكن مصر والحمد لله قامت بالواجب، وأصبح فيها مالذ وطاب حتى البسكويت (إلا ذلك الشيء المسمى الشمعدان الذى اتخذت منه موقفا رافضا حتى الآن لأننى لا أريد منه أن يحبنى كمان وكمان، أعوذ بالله، كل شيء بالخناق إلا البسكويت والحب، فهما بالاتفاق ).
رجعت وتأكدت أن الفندق ذا النجمتين وراعيه الطيب أحسن مائة مرة من خمس نجوم، وتيقنت أن معى الحق فى تفضيلى بهذه الأماكن المليئة بالدفء البشرى لا بالثريا الباردة ، إذن فالمسألة ليست مسألة توفير، وطالت بى الكتابة حتى بعد الثانية عشرة،
ذهبت إلى السرير، ومعى المتحكم عن بعد،(الريموت) واستدعيت النوم.
أخذت أغير المحطات حتى آتى بشيء لا أفهمه ،وليس مسلسلا أو بوليسيا، وتصبحون على خير، ولكن فجأة وعلى قناة رقم (6) وجدت الذى منه، إذن فهذا هو، وكنت قد سألت زميلى الذى استقبلنى عن أفلام الجنس، وأنى أريد هذه المرة أن أشترى فيلما، وذلك لأننى أسمع عنها من بعض مرضاى، وبما أنى طبيب نفسى، وفى هذه السن، فلا يصح أن أتلقى معلوماتى سماعا هكذا، وأيضا من باب حب الاستطلاع، وخاصة أننى كونت فكرة مسبقة عن أن هذه الأفلام شيء مقزز، ولا معنى له ولا فائدة منه، فوافقنى بعض الشيء، ثم قال عن هذه الأفلام تحليلا لم أفهمه كثيرا، تحليلا يفسر إقبال الناس على هذه الأفلام، وكيف أنها (الأفلام). تحل أو تؤكد (لا أذكر) عقدة الخصاء عند النساء (فقلت فى نفسى: فوت هذه) المهم شرح لى زميلى ما أكد تصورى المقزز عنها، فعدلت عن رغبتى التى جاءتنى فى كل سفرية، والتى لم أحققها أبدا، ليس خجلا تماما، وإنما قرفا سماعيا فى الأغلب، ثم ها هى قناة (6) تتحفنا بما كنت أود رؤيته (على فكرة قال لى زملائى فى فندق “المنصور” فى كازابلانكا، وكذا فى الفندق الكبير (جراند هوتيل) فى باريس، إنهم يشاهدون هذه الأفلام بعد الساعة كذا فى قناة كيت، ولم أهتم ساعتها بها دون ادعاء فضيلة، لكن هذه اللقطة التى أراها الآن فى قناة (6) لم تكن جنسا مقززا بالمعنى الذى سمعت عنه أوتخيلته، اللقطة هكذا: “… المرأة تقوم بدور إيجابى تلقائى نشط، (أهذا ما يعنيه زميلى من أنها تغالب عقدة الخصاء؟)، امرأة عارية الثديين والفخذين والشيئين، تتقدم إلى رجل نصف نائم، تنحنى عليه بنهديها تلوح بهما فى وجهه أو حول أنفه، فانقلب الرجل طفلا رضيعا، لكن يبدو أنه كان قد امتلأ بطبق فول مهروس من قبل، لأنه كان يغفو بين الحين والحين، وقامت وقعدت وتثنـت والتفـت، بلا فائدة، ونظر رجل أسود اللون من النافذة للمنظر، ويبدو أنه أشفق على المرأة النشطة، فدخل بعد قليل، بعد أن كاد صاحبنا الآخر أن ينام، والست لا تهمد، فاقترب من خلفها، فشعرت به ولم ترفض، بل استطابت لمساته، ثم مد يده …، فاستجابت فى دون تردد… والآخر نائم أو كالنائم، لكنه انتبه فجأة، وقامت معركة، وخلاص….” هذا ما كان، ولم أجد فيه عملية جنسية ولا يحزنون، وقد كان مثيرا فعلا والحق يقال، وتذكرت كتاب (رجوع الشيخ إلى صباه) الذى نسخته بيدى شخصيا وأنا فى الخامسة عشرة من عمرى (لم تكن هناك آلات تصوير للمستندات)، وأن وظيفته حسب عنوانه هى أن يثير من ماتت شهوته شيخا، ولما ذكرنى زميلى أن هذه الأفلام ممنوع إذاعتها قبل الثانية عشرة، وأنها فى الأغلب تذاع برمز معين واشتراك معين، تصورت أن لها وظيفة ما فى هذا المجتمع الملتزم بسد كل الاحتياجات لكل مراحل السن وكل أنواع الغرائز -خلقة ربنا- فقلت: بدلا من أن تسمى مثل هذه اللقطات أفلام الجنس، يمكن أن يسموها مثلا المشهيات (مثل الطبق الأول قبل الطبق الرئيسى، وهم شطار فى ذلك)، أو “يسمونها التذكرة بالحيوية النائمة” لمن يريد أن يتذكر..اسم رقيق هكذا بدلا من التنفير بوصف الجنس عاريا، (وأظن أن لها اسما ناعما من هذا القبيل سمعت عنه فيما بعد) وبحثت بعد ذلك فى الليالى التالية عن قناة (6)، فلم أجد شيئا، قلت: لعله كان فيلما عاديا وإن هذه كانت مجرد لقطة، حيث لم أتابع ما بعد الضرب، أو لعل البوليس يبحث عن البنت المخطوفة وكلام من هذا(!!) (على فكرة المسلسلات هنا فى فرنسا على أذنه، وهى بالسطحية نفسها، وكثير منها بوليسى، وموضوع اغتصاب النساء يتكرر فيها بشكل جعلنى أقول : إذا كان هذا دليل على ما يحدث فى المجتمع فعلا، وقد كنت سمعت مثل ذلك فى لوس انجيلوس، فضلا عن الإحصاءات التى ترد إلـى من موقع علمى من هنا وهناك، فأين العلاقات والسهولة التى يتحدثون عنها فى هذه المجتمعات، وما الذى يضطر رجلا فى مثل هذا المجتمع المفتوح أن يغتصب سيدة أو فتاة وهو قادر أن يعلقها أو يعلق غيرها (استعملت التعبير العامى هذا وهو عربى فى الوقت نفسه برجاء النظر فى تعميمه – وتذكرت به قول الشاعر: علقتها عرضا وعلقت رجلا غيرى وعلق أخرى ذلك الرجل ..إلخ).
أقول: مادام التعليق هنا (والذى منه) على أذنه، هكذا، فلماذا الاغتصاب هكذا بهذا التواتر؟
الثلاثاء: 29 / 6 / 1993
اليوم يوم جديد، الإيقاع يتناغم، فكرت مرة أو اثنتين أن أغير تذكرة السفر، كنت قد حددت موعد عودتى منذ كنت فى جنيف حتى لا أسمح لنفسى باستعجال العودة لأسباب داخلية أو خارجية، الأيام تسير هادئة وكافية، والطقوس رحبة، وتأتى وحدها بلا جدولة أو تخطيط، وما وعدنى به هذا الهاتف الخفى يكاد يتحقق حرفيا، وما بقى على إلا أن أفى بوعدى أنا الآخر.
هذه الرحلة غير، (هكذا يقولها إخواننا العرب ولا يكملون) فلا أنا ألهث لأتمم طقوس السفر، ولا أنا حريص على رؤية جديد، ولا أنا أضايق أحدا، ولا أحد يزعجنى بأن يعمل حسابى أكثر مما أرجو..، ولا ولا. ولا ولا، ، ومن فرط ما شعرت برحابة الوقت وكرم الطبيعة تمنيت أن تتاح لى فرصة حقيقية أن أكرر التجربة نفسها فى بلدنا، ألا يمكن أن أعمل فى مصر رحلات داخلية هكذا، الجمال فى مصر موجود موجود موجود (رأيته رأى العين من أسوان إلى الغردقة إلى رأس الحكمة إلى دهب إلى رفح إلى الخارجة ياناس، وسمعت عنه أكثر مما رأيت فى سيوة وغير سيوة ) موجود، والناس طيبون، والحال مستور، وهذا المكمتر هو هو، فلماذا لا أكون هناك مثلما أنا هنا الآن ؟ خطر ببالى ضد حساباتى أن أذهب إلى بلدى، لأكمل هناك. فقفزت أقول لهذا الذى خطر ببالى : نعم ؟ نعم؟ ليس فينا من هذا؟ نسيت أنت أم ماذا جرى لك؟ وسارعت أجرجره قبل أن يعملها :لتكن المسيرة هذا اليوم ضحى ، ولأتمكن من المرور على المونوبرى (سوق أعظم = سوبرماركت متواضع على قدري) أتذكر مشاعرى لمآ كنت أدخله فقيرا أتفرج، وربما فتح الله على واشتريت شيئا ، من يدري.
وشددت الرحال إلى المونمارتر.
قلت فى الجزء الأول من هذا العمل – على ما أذكر- إننى سكنت فى المونمارتر (أو على عتبته ) عاما كاملا دون أن أدرى إلا فى نهاية العام، وحين تعرفت عليه بما هو، أحببته أكثر، وبعد أن كنت أحبه بلا اسم، أحببته، فعلا، وجدا، وأنا لا أصعد إليه فى مواجهة كنيسة القلب المقدس، وإنما أحب أن أنزل فى محطة لا مارك كولانكور، اسم الشارع الذى كنت أسكن فيه، شارع كولانكور، أنزل فى المحطة ، ثم أخذ المصعد، ثم أصعد بضع سلالم ثم طريقا حجريا جميلا غير مرتفع جدا، وأجدنى هناك ينتظرنى، وفعلا وجدتنى أنتظرنى، وتبادلنا التحية، والأمور تتأكد أكثر فأكثر أنها مختلفة، اشتريت بطاقة تذكارية وأنا أمر، وأخرى صغيرة جدا، لفان جوخ، ووجدت مجموعة فان جوخ كلها أو أغلبها موجودة فى حجم دقيق، لكن الألوان هى الألوان ساطعة جدا، والأضواء هى الأضواء (قال يعنى شفت الألوان والأضواء الحقيقية !!!)، وجلست فى المقهى الكبير، يعرضون على أن يرسموا لى بروفيلا، أو بورتريها، أو كاريكاتيرا، على فكرة لم أنس أبدا أننى أريد أن أصرف نقودا لأشعر أن المسألة مختلفة، لكننى لم أنجح حتى الآن، وخفت أن آكل -لمجرد الصرف- وأنا لست جوعان، فأكره نفسى، وقلت إن احترام نفسى هو أن أفعل ما أريد، وأظن أننى الآن أفعل ما أريد، وهل يمكن أن أستعيد عاما كاملا كان فيه القرش قرشا، والناس ناسا، والطبيعة طبيعة، والفقر فقرا، والأمل أملا، أستعيده بأن أتصنع ما لا أريد الآن، لمجرد أن أبلغ نفسى أن معى نقودا تكفى لإشعارى بالأمان، هذا تصنع سخيف قد يفسد كل شيء، فهل تدركين يا زوجتى العزيزة، ويا أبنائى وبناتى، أن المسألة ليست كما تتصورون، بل هى أرحب وأعمق.
وجاءنى الرسامون، اعتذرت، متذكرا آخر مقلب0 أو هو المقلب الوحيد الذى أخذته هنا حين رسمنى أحدهم فحدث ما لا يحمد، لكن اعتذارى هذه المرة كان دمثا وليس طردا مما تلاحظه زوجتى وتؤاخذنى عليه خوفا من أن يظن الناس بى الظنون، نعم يبدو أننى حين أحرج أطرد، وأنست بكل الناس، لكن باريس هى باريس قبل وبعد كل الناس، أم يا ترى هى الناس، أنا لا أزور متاحف كما قلت، ولا أذهب لنواد ليلية بمحض إرادتى أو حر مالى، الليدو عزمنى مرة عليه ابن عم لى كان يعمل فى الجزائر جاء يزورنى فى باريس وأصر أن أصحبه، ومرة أخرى طفحنا فيه عندما كنا ضيوفا على شركة الدواء إياها فى المؤتمر إياه. الشركة تعزم ونحن نهييص والمرضى يدفعون. (سبق الكلام عليه)، وأنا لا أعرف أين يسكن جورج الرسام المصرى الشقى فى باريس، ودائما أتذكره حين أكون فى المونمارتر، برغم أنه يفوق طبعا كل الذين هنا، وأنا لم أقابله شخصيا أبدا، ولا أحب أن أقابله حتى فى المونمارتر، ثم إنى اكتشفت (أو اكتشفت زوجتى فى ونبهتني) أننى لا أحب مقابلة المصريين فى غير مصر، هاهى باريس المونمارتر، أشعر بك يا باريس أكثر هنا، لكل بلد عندى علامة ترمز اليها، برغم أنها قد تكون أبعد ما تكون عن حقيقة البلد.
رحبت بى، وحنت على، ودعت لى، وطمأنتنى أننى لم أنس، لأنها لم تنس، قالت كلاما كثيرا كنت أحسب أنه انقطع (على فكرة لم أذكر أو أتذكر مهمتى فى مونتريه طوال إقامتى هذا الأسبوع هنا، وفى الوقت نفسه لم أنس شيئا ولا أنكرت لحظة- فهل لهذا دلالة ما؟) ، أهلا وسهلا، حللت سهلا، هل تعرفون كيف يحل الضيف سهلا، لا تذكرونى بما آذينا به ضيوفنا من السائحين الذين كانوا يحلون سهلا فى نن عيوننا، كلما تبادلت الحديث مع أحد هنا الآن، وأعطيته بطاقة ودعوته إلى مصر، وافقنى شاكرا ثم نظر إلى كأنه يقول: “ولكن…”، فأنظر إليه معتذرا كأننى أهمس خجلا: “…ربنا يسهل”!!
عادت باريس تقول لى على لسان المونمارتر: حللت سهلا، فحللت سهلا، وأنا لا أعرف السهولة عادة، وأقر وأعترف أن زوجتى وابنتى الكبرى تعرفانها، الأولى كثيرا، والثانية أحيانا، ودائما أشك فى السهولة وأربطها بعدم المسؤولية وكلام من هذا الكلام الكبير السخيف الذى يفسد كل سهل، أحفظ الدعوة التى أتوجه بها أحيانا إلى ربى ” أنه لا سهل إلا ما يجعله سهلا، وأن الحزن يصير سهلا بفضله” فلماذ أصر أنا دائما أن أفعل العكس، ياباى ياأخى، لكن باريس حين قالت لى هنا فى أعلى قممها أنى حللت سهلا، وعدتها – وربنا يقدرنى – أن أحاول فيما تبقى لى من عمر أن أحل سهلا حيثما استطعت.
أما أهلى وناسى هؤلاء فهم كل الناس، أى والله، وهم هم من أبحث عنهم فى نويبع ودهب، وموفنبيك جولى فيل الهرم، ومينا هاوس، وصنعاء، وثلا باليمن، وسوق اللاذقية، وإبثيا وبونيار فى شمال إسبانيا، هم أهلى وناسى ومن لا يصدق يرانى الآن وسوف يصدق.
أهلا باريس، وسهلا حللت.
أجلس على المقهى الخالى دون خيار، فأكتشف أنه أجمل المقاهى ،ويمر المغنى الأسمر يمسك عوده ويرطن بلغة لابد أنها برتغالية أو إسبانية، ويبدو أنه قد زودها حبة أو اثنتين لأنه كان مرحا فرحا، يرقص بقدميه تك تتك تك تك، ويقبل خد جارتى (أظنها أمريكية ) دون استئذان، ثم يقبل مؤخر رقبتها الطويلة مثل رقبة نفرتيتى، وتطول القبلة حتى أحسب أنه نام على قفاها الممتد مثل وسادة مشرعة، وأنا لا أرى إلا خلفها، وكانت عندى فكرة عن القبلة، أو اللثم وراء أسفل الأذن، أما على القفا ،..وهكذا، فهذا أمر جديد على، ولا أرى وجهها ولا وجه من معها، فلا أعرف إن كانت قد رضيت بهذا البوس يعنى، وأتذكر شعرا حلمنتيشيا قرأته فى “البعكوكة” منذ نصف قرن يكمل بيت قيس بن الملوح الذى يقول:
بربك هل ضممت إليك ليلى قبيل الفجر أو قبلت فاها
فيكمل شاعر البعكوكة الحلمنتيشى قائلا:
وهل رضيت بهذا البوس يعنى أم التقبيل كان بلا رضاها
ويأتى البيت التالى للشاعر الحلمنتيشى القديم: ليصلح لمصر دون المونمارتر:
لنفرض أن بوليس الآداب رآك وأنت منبسط معاها
فبهدلكم بتلطيش وزغد أو افرض أن والدها رآها …. إلخ.
أتذكر كل ذلك فأقرض شعرا مناسبا لهذا المنظر بالذات يقول:
لنفرض أن ملتحيا غليظا رآك وأنت مفترش قفاها
فزمجر ثم حوقل ثم أفتى وكفرك البعيد ومن معاها.
ولكننى لا أرى من الذى يجلس معها كما قلت، وأقول: يا ترى هل يسكت من معها على ما يفعله هذا المغنى الظريف الأسمر الذى يمزج بين ضرب العود والتصفيق، ذلك التصفيق الذى يرن رنة تجعله مثل صفق الصاجات، وأنا لا أعرف كيف ترن أكف الإسبان (أو أهل جنوب أمريكا) هكذا بهذه المهارة أكثر من غيرههم، وحكاية الإسبان مع الرقص حكاية:
حين كنت مع ابنتى فى مدريد، وكانت هى سبب تعرفنا بإسبانيا بعد أن قضت شهرا من تدريب سنة الامتياز هناك مع عائلة إسبانية، صادقـتـها حتى حضروا ضيوفا فى منزلنا فرادى وجماعات، ثم صار التبادل بين عائلتينا، ومن ذلك هذه الزيارة التى أشرت إليها تخفيفا لإثم الرحلة المؤتمرية الباريسية الدوائية وما حولها، كنت أسمع كثيرا عن الرقص الإسبانى الفلامنكو وغيره، وأنا لا أفهم كثيرا فى فن الرقص (برغم أنى أحب الرقص “التنطيطي” تبعنا، وأمارسه مع مرضاى حين كانت ركبتاى تسمحان، لكن يبدو أن فن الرقص غير الرقص)، أصرت ابنتى ومضيفتنا التى تعتبر ابنتها ابنتى أصرتا: “إلا”….، قلت: إلا إلا، متى ؟ قالوا: الليلة، قلت: وجب (حتى أخلص وأرى ثم يدعونى أنطلق إلى طبيعتى حرا غدا دون انتظار لـ”إلا” أخري..). كان ذلك فى “ألكالا” بجوار مدريد كما ذكرت، ونظرت فى الساعة، كانت حول العاشرة فقلت: “سوف نذهب الآن. لكن السيدة المضيفة قامت بنا واصطحبتنى مع ابنتى بهدوء مطلق إلى السوق فى مدريد وأنا تابع أمين، ثم عدنا، فتصورت أننا سنذهب إلى الرقص أو الملهى ، لكن أبدا، ذهبنا إلى المنزل من جديد فى “ألكالا” (أظن أن أصل اسمها “القلعة”) وأنا أنام فى التاسعة، والساعة قاربت منتصف الليل، وقلت: “هل عدلتم”، قالت مضيفتنا: “أبدا، نأكل لقمة”. لقمة؟ يا حاجـة، كلها كام ساعة ونفطر، قلت لنفسى صبرك ياولد لعلك لا تفهم الفرنسية بالدرجة التى تتابع بها ما يجرى من خطط، وكانت مضيفتى تتقن الفرنسية المأسبــنــة (يرفض الإسبان الآن تعلم أى لغة أخرى غير لغتهم، ومن يعجبه !!!!)، لكن عقربى الساعة ليس لهما لغة، أكلنا لقمة بدلا من الجلوس، ثم حضر ابن الست بعربته، ونزلنا بعد منتصف الليل؟ نسهر، أم نتصبح يا جماعة؟ دخلنا المرقص، الدنيا تضرب تقلب، والجلوس وقوفا، والوقوف نياما وهات يارقص، وهات يا موسيقى، لم تكن فرقة ولكن الناس يرقصون طاخ طيخ، ويشربون ويفرحون، ويقفزون، كل ذلك جدا جدا جدا، وأنا منبهر لا أجرؤ أن أسأل عما يجرى، وقلت أعتبره فلمنكا (وأنا لا أعرف إلا أن الفلمنك نوع من الجبن)، ولاحظت أن سيدتين قد تخطت إحداهما الأربعين لتوها والأخرى أكبر قليلا، نازلتين رقصا طول الليل، أعنى طول ما تبقى من الليل، وكدت لا أصدق أنهما سيدتان وليستا رجلا وامرأة، فكثيرا ما يربى الرجل الأشقر منهم شعره حتى لا تستطيع أن تميز هذا من تلك، ولكن الأثداء المترجرجة لا تكذب، أم ماذا يا مضيفتنا العزيزة، قالت: “ولا يهمك”، فعرفت أنهما سيدتان، ومن كثرة العرق والقفز خفت أن يجرى لهما أو لإحديهما شيئ، وأخيرا تجرأت أن أطلب الانصراف وقد كاد الصبح أن يطلع، وحين خرجنا-بالعافية- كان ينتظرنا البوليس، فخفت باعتبار أننا عاملين عملة، لكن حضرة الضابط تقدم وكان يجعل قائدى السيارات يتنفسون فى كمامة ليعرف مقدار الكحول الذى يخرج من رئة أى منهم، فإذا زاد عن الحد منعه من القيادة غيرالمخالفات والذى منه، قلت: والله معقول، هكذا الضبط والربط، ولكن ضبط وربط ماذا، متى يعمل هؤلاء الناس، بقدر ماتنام نيويورك، وبوسطون، ونيس فرنسا، من العشاء، بقدر ما يسهر هؤلاء الناس، بل لست أدرى ماذا أسمى هذا: سهرا أم سوبر سهر، متى يعملون إذن ، متى يزرعون ومتى ينتجون ؟؟، وقد تأكد لى هذا الانقلاب بين الليل والنهار فى إسبانيا حين عاودت زيارتها وأنا عائد من زيارة الصباحية لابنتى هذه التى كلفتنا صباحيتها الشيء الفلانى فى لوس أنجيلوس، فأردنا أن نعوض المسألة بهذا المرور السريع على أسبانيا، كان الجو فى مدريد حارا لا يطاق، ذلك الحر الرطب، وكنت قد رفضت أن أنزل إلى الجنوب، ، فأنا لا أحب الأرض المنبسطة، مايوركا والأندلس والحديث عنهما يصلح لتزجية الوقت مع من زاروها ممن لا يسافرون مهما سافروا، هم ينتقلون ويتكلمون، ويشترون ويرجعون، وخلاص، قلت لمضيفتى فى إسبانيا: بل إلى الشمال الشمال، حيث الجبل والقرى الصغيرة، ووافقتني.
وكان لابد أن أترك مدريد عدة أيام فأنا لم آت هناك لأخرج الروماتيزم من ركبى بهذا الحر الخانق، أعطانا إبن السيدة المضيفة سيارة نصف نصف على سبيل السلف (جدعنة من الإسبان، مثلنا أحيانا)، وانطلقنا زوجتى ومضيفتنا وأنا، وكانت ابنتى الأصغر قد انفصلت عنا تعمل رحلة بمعرفتها، وتوهتنا المضيفة عدة مرات ونحن متجهون شمالا، وأخيرا قلت لها: خل عنك وأعطنى الخريطة، ففرحت وقالت إن عندها ثقة فى حدسى المكانى، وقيادتى وراحت فى نوم عميق.
وصلنا إلى إبثيا فى الجبل فى الشمال (حيث لمضيفتنا بيت عتيق، ولأختها بيت رشيق) وقضينا هناك أياما كما توقعت، كنا ننزل كل ليلة إلى بلدة أكبر قليلا: بونيار، نشارك فى كرنفالات الشوارع وهيصة الميادين وصخب المقاهى، وتنقلنا بين شعاب الجبل، وزرنا امرأة كهلة مقعدة وزوجها، لم يكونا قد رأيا مضيفتنا منذ ثلاثين عاما، ورحبوا بنا ترحيبا مصريا قديما جيدا، وعلمت أنه فى الشتاء تسد هذه الطرق بالجليد وتصبح الخدمات الطبية الإسعافية بالهليكوبتر (كل شيء محسوب رغم الرقص والسهر) وكانت كل القرى فى الجبل وحوله (مهما صغر عدد قاطنيها) ترقص وتغنى كل الوقت.
ولم تستطع المضيفة أن تواكب حركتنا ونحن ننتقل فى اليوم عدة مرات بين إبثيا وبونيار وما حولهما، ولا ونحن نتوجه إلى الشمال لنصل إلى أقصى الشمال الغربى أستورياس، كنت قد زرت الشمال الشرقى حيث سان اسباستيان أثناء إقامتى فى فرنسا، وأثناء هذا التجوال الأخير اعتدنا، زوجتى وأنا، على هذا الكم الهائل من الكرنفالات، والهرج، والرقص فى الشوارع والسهر للصباح، لكن مشهدا خاصا يحتاج للتسجيل:
ذلك أننا شاهدنا عددا من الشباب يعزف ويرقص وهو يلتف حول فتى قد ارتدى لباس الجندية، وراح الشباب يدقون باب أهل قرية صغيرة كنا نمر بها وتوقفنا فى أحد مقاهيها، راحوا يدقون الأبواب، واحدا واحدا وهم يغنون، فيخرج صاحب الدار، ويبادلهم بعض الحديث ثم يدخل ويرجع يعطيهم شيئا أو أشياء وهكذا، وتوقفنا، وسألت، عما يجرى ولم أفهم، فسجلت فى ذاكرتى التفاصيل، وحين عدت استفسرت من مضيفتى، فعرفت أن هذ الشاب (وكل شاب) حين يكون على أهبة أن يذهب إلى التجنيد، يمر على أهل البلدة مع أقرانه وأصدقائه يجمع “المعلوم” (شيء أشبه بعادات رمضان قديما : إدونا العادة ربى خليكم، لقمة وزيادة ربى خليكم) وأنه بناء على ذلك يجمع نقودا وأشياء تكفى للصرف عليه وربما على من يعول حتى يخرج من الجندية، وعار على من يمتنع عن هذا التكافل الاجتماعى، لأنها باقية له،
تظل كل الشوارع فى طول إسبانيا وعرضها ترقص وتغنى حتى الصباح فمتى يعملون؟
وأنتبه فى جلستى فى المونمارتر إلى المغنى بالإسبانية وهو يجمع المعلوم بعد أن أنهى غناءه وتقبيله وتصفيقه، وترقيصه، وأتساءل السؤال الذى لا يكف عن الإلحاح على دون انقطاع:
كيف تتطورالشعوب دون رقص وغناء جماعى، دون تفكير وحركة، دون عبادة حقيقية وإبداع، دون دون دون.. المسألة أخطر من أى استسهال أو خطابة أو مثقفين.
شبعت أهلا، وحللت سهلا.
ونزلت على السلالم المقابلة للساكركير، ولاحظت التليفريك الجديد (أولعله كان موجودا ولم يعننى فى شيء من قبل) فأنا لا أحب غير المشى إلى كل مدى، نزلت إلى الأنفير تحت أقدام الساكركير، وكنت قد نسيت اسم محطة بلانش لبعض الوقت، فسألت عن محطة أبيس، فدلونى عليها فلم أجدها، وكنت أنوى أن أزور البيت الذى كنت ساكنا فيه منذ ربع قرن فى اليوم التالى، فأنا أزوره فى كل مرة رغم أنى أعلم أنه مغلق، وأن السيدة كومباليزيه صاحبة الشقة التى سكنت عندها، والتى كانت مشلولة فى آخر مرة زرتها فيها، لابد أنها سبقتنى إلى هناك إلى الجانب الآخر من الدنيا، وتصورت أننى هناك – فى الجانب الآخر-حين ألحق بها سوف أسأل عنها بالطريقة نفسها، كما توقعت أنها ستسأل عنى هى أيضا هناك، ترى سنكون معا أم … كيف سيكون الحساب وهو أعدل العادلين ؟
واصلت السير حتى وصلت إلى الشارع، فالمنزل، ورننت الجرس، ولم يفتح أحد كما توقعت، فالمسألة لم تعد جرسا كما كان الأمر قديما ، ولم يعد بوابين، ولكنه رقم كودى يعرفه السكان فقط، وسألت فتاة المخبز، فى العمارة نفسها على الناصية، عن السيدة كومباليزييه فرفعت حاجبيها أدبا، وفقط. وقفلت راجعا مارا بمطعم فخم جدا كنت دائما أتعجب من وجاهة رواده، وأنا – كما قلت – أريد هذه المرة أن أصرف نقودا كثيرة، ثم إن صورة الأمريكانى السريع” ماثلة على باب المطعم، ونظرت من خلال الزجاج فوجدت البكوات أو اللوردات أنفسهم يأكلون، أو هم لا يأكلون، فالأفواه مغلقة دائما تحوى قضمات صغيرة لا تجعلك تعرف من يأكل ممن يبتسم، هممت أن أدخل فإذا بصورتى تنعكس على الزجاج فاكتشفت ذقنى التى لم أحلقها رغم ماكنية الحلاقة التى اشتريتها أمس، ورأيت حذائى المطاط، وتشتت ملابسى، ثم إننى أريد أن أشترى فرخة مشوية بأكملها وأجلس على الأريكة فى الشارع فى مواجهة الطاحونة الحمراء فى محطة بلانش كما اعتدت قديما، وسأشترى معها رغيفا، من خبز الباجيت الطازج، هذا ما جئت من أجله، وشكرا لذقنى وحذائى الكاوتش أن ذكرانى بى، ما المسألة؟ هل هو قهر لإنفاق النقود والسلام ؟ نقود نقود نقود، عرفنا أن معك نقودا فاسمح لنا بأن تكون أنت، من هؤلاء الذين عرفوا؟ ولماذا تكالبوا على هكذا، كان واحدا فأصبحوا كثيرين، حاضر حاضر، وسارعت الخطى إلى محطة بلانش، ووجدتها تغيرت قليلا إلى أسوأ، ودخلت المونوبرى ،السوبر ماركت الذى كان يبهرنى من ربع قرن، فى مصر الآن ما هو أرقى منه وأرخص ، ولم أجد شيئا يشترى من أصله، وخرجت، جلست قليلا على الأريكة دون ربع فرخة مشوية أو خبزا أو باردا(كما كنت معتادا أن أتناول غذائى كذا هناك لأنه هكذا أرخص )، لم أجد ما كنت أرجو، كان أمامى محل “اخدم نفسك”، أعرفه وكنت قديما أجده غاليا على نسبيا، فقلت هذا معقول، لكننى لست جوعان أصلا، فقفلت راجعا،
أهو لزاما على أن أجوع بالعافية، لمجرد أن معى نقودا هذه المرة،
أهو لزاما على أن أجلس مع من لا أحب فأكون من لا أريد،
أهو لزاما على أن أكتب مالا أريد لمجرد أن غيرى كتبه أسوأ مما أستطيع؟
أهو لزاما على أن أحضر مؤتمرا يقال له مؤتمر علمى عالمى (إلخ)، وأن أحتمل ما يجرى به وحوله (مما يعرفه من أتى الله بقلب سليم)، أحضره لمجرد أننى أستاذ جدا؟
رددت ردا طيبا على كل هذا، (بالنفى طبعا).
وقد تيقنت من الرد أن الذى صالحنى فى مطار شارل ديجول كان ينتظرنى فى المونمارتر، وأنه قبل على رأسى، وأننى صـدقته …
سهلا حللت فعلا ..السهولة ليست عيبا حين تكون صادقة رحبة ، وقد شئت فجعلت الحـزن سهلا ، فحمدته حمدا كثيرا، ووعدته وعدا مناسبا، ورضيت بكل ما لم أفهم.