قراءة فى الخطاب العربى للحداثة
الحداثة والجسد
د. رمضان بسطويسى
يواجه المرء الذى يريد أن يكتب عن الحداثة الآن كمـا هائلا من الكتابات العربية والمترجمة، ويشعر الباحث بصعوبة بالغة لأن معظم ما كـتب يرجع إلى المصادر نفسها تقريبا، واختلاف الكتابات لم يكن اختلافا فى القضايا التى يمكن إثارتها، ولكن فى صياغة بعض القضايا، هذا باستثناء بعض المحاولات القليلة التى قدمت اجتهادا حول إشكاليات الحداثة، ونحت العرض جانبا لتكون ذاتا فاعلة فى طرح الإشكالية، و لا تكرس للتبعية فى الفكر، وإنما تسعى إلى التحرر من التبعية من خلال الوعى بالإشكالية وتطورها التاريخى فى الغرب، ومن هذه المحاولات دراسة أدونيس “صدمة الحداثة”، الجزء الأخير من كتاب (الثابت والمتحول)، ودراسة كمال أبو ديب: “الحداثة ، السلطة، النص”، وقد حاولت كل منهما أن تقيم حوارا تصادميا ومفجرا للحداثة فى الغرب، والحداثة فى الواقع العربى. والمجال لا يتسع هنا لتقويم ولتحليل هذه الدراسات التى كـتبت عن الحداثة، فهذا موضوع مستقل يصلح للكتابة للكشف عن الخطاب الترديدى والنقدى للثقافة الغربية فى كتاباتنا العربية، لاسيما بعد توافر هذا الكم الهائل من الكتابات عن الحداثة فى جانبها النظرى وجانبها التطبيقى. وكان لابد من الإشارة إلى هذه الكتابات دون الدخول معها فى حوار، حتى لا نقع فى تكرار ما سبق ذكره فى هذه الكتابات، وحتى لا ندور فى الدائرة التى تدور فيها هذه الدراسات التى تبدأ من مفهوم الحداثة فى الغرب كما صاغه شاتوبريان (1840) وبودلير (1860) والفرق بين الحداثة والمعاصرة على أساس أن كلمة Modern مشتقة من اللاتينية Modo وتعنى (الآن) وتفيد معنى المعاصرة.
وأزعم أن الحداثة فى الواقع العربى لدينا تتصل بقضايا وإشكاليات مختلفة تماما عن الحداثة فى الحضارة الغربية ، التى بدأت كمشروع حضارى واجتماعى وسياسى، مرتبطة بفترة تاريخية محددة، فالحداثة فى الغرب مرت بمرحلتين: الأولى بعد عام 1923، وارتبطت الحداثة بالسريالية، والحديث عن أزمة الفرد واغترابه متعدد المستويات، وهذا ما نجده فى كتاب “هيدجر”: (الوجود والزمان) 1927، والمرحلة الثانية، ويطلق عليها ما بعد الحداثة وهى تبدأ بعد عام 1945، وهى مهتمة بخلق صورة للحياة اليومية تقاوم الصورة السائدة التى تعمل أجهزة الإعلام على تصديرها إلى الفرد، وما بعد الحداثة يعنى هنا الثقافة المضادة لكل ماهو آنى وسائد من خلال إعادة بناء وترتيب أولويات الإنسان المعاصر.
ويرتكز مفهوم الحداثة فى الغرب على فكرة القطيعة المعرفية التى تنحدر إلى أصل لغوى ، فالفرنسية المعاصرة مختلفة عن الفرنسية القديمة، وبالتالى فالقطيعة هنا تفرق بين نمطين مجتمعين متغايرين كل التغاير، وهذا يبين لنا اختلاف الحداثة هنا عن الحداثة هناك، لأن اللغة العربية لا تزال – بفضل القرآن الكريم- تمارس تواصلها، برغم ظهور لهجات عديدة تنقطع مع الأصل فى بعض جوانبه، وقد فهمت الحداثة لدينا على أنها خطاب يتشكل فى صورتين: الدخول إلى محارة الذات، والتعبير عن الاغتراب الذى تعانيه نتيجة لاغترابها عن العالم الاجتماعى الذى تنتمى إليه، فالصراع الخارجى ينتقل إلى حلبة الذات، وهذه الصورة تلتقى مع المرحلة الأولى للحداثة فى بعض السمات، التى تتجاوزها المرحلة الثانية لأنها تتجاوز الحديث عن وضعية الفرد واغترابه إلى نقد الثقافة المعاصرة، وثقافة المؤسسات والثقافة الاستهلاكية.
والصورة الثانية من الحداثة ترى أن أزمة الفرد تنشأ من تبنى المجتمع نمطا وصورة من الحياة، وبالتالى فإن الأزمة هى أزمة مجتمع له رؤية للعالم وتصورات عن نفسه ينبغى نقدها، وهذه الصورة لا تنطلق من وضعية المثقف والمبدع الذى ارتبط عضويا بالدولة، ولا يستطيع فكاكا من الصورة المرسومة له مسبقا، وإنما تحاول هذه الصورة من الحداثة لدينا أن تستحدث صورا جديدة للتفكير والسلوك والكتابة للخروج من أسر الاستهلاك والتشيؤ، وتفهم الحداثة هنا بمعنى الكشف عن المكبوت والمقموع، بحيث تتحول الحياة اليومية إلى سلوك إبداعى يعنى التحقق الوجودى والتحرر من أسر السلطة والذاكرة.
ويمكن من خلال تحليل النصوص التى تدعى الحداثة، أن نفهم الخلفية الإبستمولوجية (المعرفية) لمعنى الحداثة لديها ، وهذا يكشف عن رؤيتها للوجود الإنسانى فى أشكاله السياسية والاجتماعية أيضا، ولكن نلاحظ أن هذا المصطلح “الحداثة” قد اكتسب مشروعيته فى الأدب والنقد والفكر الفلسفى، ولكن لم يتم مناقشته فى ميادين الحياة الأخرى، مثل الطب النفسى، السياسة، الاقتصاد، بينما يتعدى مصطلح الحداثة نطاق الأدب والفكر النقدى ليشير إلى صيغة فى الحياة، وفهم للحضارة، ومعنى للتطور يعارض بها صيغة التقليد الثقافى الذى لا يتسع لتفتح إمكانات الفرد ورغبته فى تحقيق حياة يحقق بها ذاته، ولا يكون أداة فى خدمة الشركات الكبرى والسلطة بكل أنواعها.
والحداثة من حيث هى تعبير فلسفى هى أن نتخلى عن أن نجعل من الماضى معيارا للحكم على الأشياء، وهى مرتبطة فى الحضارة الغربية بإنجاز اجتماعى يتمثل فى الديمقراطية، والشرعية الدستورية، وحرية الفرد، فهذه العناصر هى الأسس التى تقوم عليها الحداثة، وقد بدأت على المستوى الفلسفى كما يؤكد هابرماس فى كتابه (الخطاب الفلسفى للحداثة) منذ هيجل الذى جعل من كتابه (فينومينولوجيا الروح): وثيقة لولادة الوعى الأوروبى، وبداية عصر جديد مرتبط بالتحول من مجتمع له سماته الإقطاعية إلى المجتمع الرأسمالى، لكن الإنسان الغربى برغم ما حققه من ثورات على المستوى الاجتماعى والسياسى والاقتصادى قد شعر (بخيبة أمل) فى الدولة، مما حدا بينتشه إلى إطلاق صيحته المشهورة بالعودة للأسطورة ، نتيجة للفراغ الروحى الذى يستشعره، ويعمق شعوره بالاغتراب، مما جعل الفكر المعاصر فى النصف الأول من القرن العشرين يرصد ظاهرة الاغتراب والاستلاب وتشيؤ الفرد.
وقد واكب الأدب العالمى هذا، وعبر عن نفسه فى الأعمال الأدبية التى تعبر عن العالم الداخلى للإنسان مثل أعمال كافكا، وجويس، وجرييه، وساروت ، ولكن نلاحظ أنه بعد الحرب العالمية الأولى اشتدت الدعوة للعودة إلى المقدس، وقد تم هذا فى حضارة حددت دور الدين- بإضفاء الطابع المقدس على المكان والزمان، كوسيلة جديدة يلجأ إليها الإنسان، وبدأ الانتقال من عالم الإنسان الداخلى إلى عالم المكان وجمالياته كمرحلة يمكن أن نطلق عليها ما بعد الحداثة.. ويمكن أن نلاحظ أن الحداثة كمشروع غربى لم يكتمل بعد- ومن وجهة نظر هابرماس- هو مشروع محكوم عليه بالفشل فى ظل تسلط الدولة والثروة من خلال الشركات والمؤسسات كما يرى فوكو وأدورنو، ولكن يمكن أن نقرأ لدى كل من وجهتى النظر أن الحداثة تعبير عن القلق الذى يعترى الذات الأوروبية على مصيرها، ومصير الإنسان فى الأنظمة المعاصرة التى تعتمد على المعلومات والاتصال والتكنولوجيا، وتولدت نظرة جديدة للمقدس، فأصبح لا يماثل الخرافة كما كان الحال فى التفكير الوضعى، وإنما بعد آخر من أبعاد الوجود الحى الفعال، وأن السيطرة السياسية للغرب هى المسؤولة عن الهيمنة الثقافية لدى شعوبنا، (نقصد بالغرب هنا السلطة الرسمية، فالغرب ثقافات متصارعة، وليس ثقافة واحدة)، وجعلنا نشعر بالدونية لما نحمله من موروث أسطورى وموروث ثقافى، بل لقد غالى البعض منهم- مثل جارودي- ورأى فى هذه الثقافات المقدسة أملا فى الخروج من خيبة الأمل التى تكتنف المشروع الغربي.
وإذا تأملنا تاريخية الحداثة فى الغرب، وتاريخية الحداثة لدينا، فسنجد – دون تعميم- أن الحداثة كمشروع حضارى لم تطرح نفسها كموضوع للفكر العربى ، وإنما طرحت نفسها كمشروع للإبداع والنقد، والحكومات العربية فهمت الحداثة بمعنى التحديث التقنى للأدوات المستخدمة فى إنتاج الحياة اليومية وتحولت التكنولوجيا إلى غاية فى حد ذاتها، بدلا من أن تصبح وسيلة، وتحولت بالتالى لإيديولوجيا للحكومات العربية، رغم أن التكنولوجيا لها جوانبها المعرفية، التى تحول الإنسان إلى شئ، وتنقله إلى الثقافة الغربية، لأنه لايقوم بإنتاج هذه التكنولوجيا وبالتالى فهو غير قادر على تعديل التكنولوجيا لتتفق مع إمكاناته الإنسانية والروحية، وصار موضوع التكنولوجيا والتقنية من المستحسنات البريئة من (سوء الظن الهدام !) التى تدافع عنها الحكومات العربية، لأن التكنولوجيا تقوم باختصار الوقت والجهد الإنسانى لمن يملك ثمنها، فصارت الجماهير العربية تشعر بالتعاسة لأنها لا تستطيع امتلاك هذه التكنولوجيات، التى تتعدد صورها وتتجدد ، والتى يوهمنا الغرب بأنه لايمكن إنتاج أية حياة بدونها.
وبدأت الحكومات العربية، حتى الفقيرة منها، تستدين لتستورد هذه التكنولوجيا التى تراها ضرورية (وهل هى كذلك؟!) وأصبح التحديث مرادفا للحداثة، وهو ليس كذلك، لأن هذه التكنولوجيا لاتصنع ديمقراطية أو حرية للفرد فى ممارسة حق النقد، ولأن التحديث هو استحداث أدوات تعين الإنسان، وكلما كانت الأدوات من إنتاج من يستعملها كانت قدرته على تطويرها المستمر ممكنا بما يتلاءم مع حاجاته المتجددة والمتغيرة أما إذا كانت التكنولوجيا من إنتاج الآخر، فهذا يجعل الأنا تابعة بشكل مطلق للآخر، مادمت لا أملك ثمن هذه التكنولوجيا التى تستخدم الاتصال للسيطرة وإعادة صياغة الوعى اليومى من خلال هذه الأدوات.
وغاب موضوع التكنولوجيا وجوانبه الإيديولوجية من الخطاب العربى للحداثة مثلما غاب موضوع الشرعية الدستورية، وكل ما نجده بهذا الصدد بعض الكتابات التى تحول هذه الموضوعات إلى شعار، ولاتتجاوز هذا لبحث التفاصيل المرتبطة بهذه الموضوعات لدينا، وهذه الكتابات تمارس بذلك نوعا من التطهر من الإثم، بينما هى غارقة فيه، لأنها تخون القاريء بادعائـها الوعى بأهمية هذه الموضوعات، وتخون الكتابة لأنها تحول هذه الموضوعات إلى شعار وكلام عام، لا قيمة له إلا على مستوى الوعى فحسب، وهذا يجسد أن هناك أسئلة صعبة، يهرب منها المفكرون والنقاد إلى الكتابة الحداثية عن الأدب والإبداع بمختلف صوره، ليساير اللغة النقدية المعاصرة، بدلا من أن يسأل عن حقوق الإنسان ونظام التعليم والطب النفسى، وكيف تؤسس للحداثة فى مجتمعاتنا العربية.
فالحداثة لدينا تحولت لأفق معيارى للانفلات من أسر السائد فحسب، دون أن تؤسس لشيء ما، والحداثة فى مفهومها الفعال قد تتعدد صورها، نتيجة لتعدد الثقافات المتصارعة فى المجتمع الواحد، فالثقافة الرسمية السائدة فى المجتمع قد تبعد المثقف عن مناقشة تفاصيل الموضوعات الحداثية، باتخاذها الحداثة فى الأدب والفن تعبيرا عن الأفق الذى تنشده فى التطور، بينما الثقافات الأخرى المتصارعة هى التى تتخذ صيغا أخرى فى التفكير والسلوك فى تعبيرها عن الحداثة ، والحداثة هنا يمكن أن تفهم فى طبيعة العلاقة بين أنماط التغاير بين هذه الثقافات فى المجتمع الواحد ويمكن أن تفهم فى داخل كل بنـية كل ثقافة على حده..
فالحداثة لدى (رجل الشارع) هى السلوك اليومى الحى، الذى لا يعبر عن نفسه فى أعمال مكتوبة، وإنما إبداع حى للسلوك اليومى ونمط الحياة اليومية، التى تقدم مفهوما للحياة والموت مختلفا عن الأفق السائد، فرجل الشارع يهتم بالاعتقاد الذى ينعكس فى السلوك اليومى، ولايهتم بالحديث النظرى الذى تطرحه أجهزة الإعلام ويشعر أنه يضاد وجوده الحى الضرورى، ولذلك يمكن أن نرصد – من خلال موضوع الحداثة – انفصالا بين ثقافتين فى المجتمع العربى والمصرى، وهو نتيجة للانفصال بين طريقتين فى التفكير والسلوك اليومى، والسلوك اليومى لدى رجل الشارع هو حياته لأنه عين وجوده، وتتوحد فيه الوسيلة والغاية، ويغيب الفرد بأوجاعه العصبية ليفسح مكانا للكل فى أزمة الوجود، ولذلك لابد من التسليم بأن هناك إنشطارا ثقافيا فى الأمة نتيجة لغياب الجماهير فى صياغة القرار السياسى والاجتماعى.
وتبين لنا من ذلك أن هناك نوعا من التمايز فى استخدام هذا المصطلح بين الفكر الغربى والفكر العربى، فبينما يستخدم هذا المصطلح لتوصيف تطور وعى الذات الأوروبية بنفسها، يستخدم هذا المصطلح لدينا كحكم معيارى على النصوص الإبداعية فحسب، دون أن يمتد لمجالات أخرى، وهذا فرق بين التوصيف والحكم، وهو فرق بين أن ندع النصوص تعبر عن نفسها ونرصد تطور مسيرة الإنسان، بمستوياتها المختلفة، وبين ممارسة شهوة التسلط بإصدار الاحكام.
والخطاب الأدبى فهم الحداثة بمعنى التجديد، ولذلك ردها إلى كل المحاولات التجديدية فى الشعر العربى القديم والوسيط والمعاصر، ابتداء من أبى تمام حتى الآن، وهذا يعنى أنه فهم الحداثة من خلال بنية فكرية تعتمد على التواصل مع التراث النقدى والجمالى، وهذه الإحالة التواصلية هى آلية من آليات الفكر النقدى لدينا فى بعض جوانبه، فهى تحيل النص إلى الذاكرة التراثية، دونما محاولة فهم خصوصيته الآنية، وبالتالى فإن هذا المنهج يتعارض مع جوهر الحداثة، ولابد من استحداث آليات مختلفة ومناهج تتيح أدوات لتحليل النصوص، ولذلك فإن ما يميز هذا العصر فى الغرب هو ثورة المناهج على الجوانب التقليدية فى الإدراك والتفكير ولعل أهم ما يميز هذا هو نقد العقل الإنسانى لذاته، عبر مسيرة تطوره، حتى ينجو بنفسه من خداع الوهم الذى تصدره إلينا مؤسسات الاتصال، فهناك صور مختلفة للعقل، وليس هناك عقل واحد، وإنما عقول مختلفة حسب الدور الذى يقوم به العقل فى التاريخ.
ولذلك ظهرت مفاهيم مثل “العقل التواصلي”، كفعل مضاد “للعقل الأدائي” الذى يتخذ من صور العقل وإمكاناته أداة للسيطرة والهيمنة على الإنسان فى المدنية المعاصره والعقل هنا مرتبط باللغة، واستخداماتها، والبعد اللغوى جوهرى فى إدراك خصوصية الحداثة فى الإبداع بين الأنا والآخر، فليست اللغة هنا أداة، وإنما هى فعل التفكير ذاته، وتجسد بمفرداتها وسياقاتها رؤى العالم، والحداثة فى الإبداع هى الفعل المضاد للترابط المفاهيمى الجاهز للعقل الأداتى فى تسيير شؤون الحياة اليومية، وآلياتها هى التفكك واللانظام والتفتت كفعل مضاد للنمط الصناعى الذى يقوم بإضفاء الطابع التقنى والآلى على كل الأشياء، من أجل إسباغ صفة القانون على الظواهر والأشياء، مما حجم من دور الفن التقليدى، وأصبحت مقولة هيجل عن (موت الفن) واقعة حقيقية حيث أضحى الفن يستخدم وسيلة لتقديم عالم الصناعة والتقنية الآلية والحروب والاستهلاك، ولذلك كان لابد للفن أن ينهج نهجا مختلفا ليمارس حرية الإنسان المفتقده فى عالم التقنية والاتصال والمعلومات، وبدأ التراسل بين الفنون يبدو واضحا، فبدأ التفكير البصرى يغزو القصة والرواية، كأن الفنون تتعاون معا لمجابهة غزو الآلية لكل شئ.
وبدا لدى الكثيرين أن الحداثة هى آلية من آليات الكتابة والبناء فى العمل الفنى بحيث تشكل آليات مضادة للصورة الشكلية للحياة المعاصرة، التى تطرد وفق نظام ما، فبدأت تظهر أنماط اللا بطل فى مقابل البطولة المطلقة والوحيدة فى الفن التقليدى، وأصبح العادى والمألوف، حتى من أحاديث الحياة اليومية، هو مجال الفن، بدلا من المفارقة والحدث والبؤرة المركزية، وأصبحت جوانب الإنسان العميقة فى اللاشعور فى اندياحها المتمازج هى الحاضر، فى مقابل الوعى الذى يجسد آلية التبادل فى السوق، وبدلا من أن يجسد الفن موقف الجماعة من خلال التجربة الذاتية، أصبحت الكتابة، أو ممارسة الفن – فى ذاتها – نوعا من التحقق الوجودى، وممارسة للحرية بمستوياتها العميقة نظرا لغياب الحرية بشكل ظاهر أو خفى فى دولة المؤسسات، وهذا ينقل المبدع والقاريء من مجال الزمن المتراتب إلى الزمان الحر.
وبدأت تظهر لدينا مغالاة فى الإيغال فى أعماق الذات، مما يبشر بظهور نزعة تقديسية للذات، وترتكز هذه الذات على صورة للعمل الفنى تهييء وتوحى بدلالات ، باطنية، من خلال تناص مباشر أو غير مباشر مع نصوص التصوف الإسلامى لدى ابن عربى والسهروردى وجلال الدين الرومى، وفريد الدين العطار والنفرى وابن الفارض، ويقوم الحوار بين النص الغائب (النص التراثى) والنص الحاضر (نص الكاتب الآن) عبر آلية يحاول خلالها الكاتب المعاصر أن ينتج ذاته من خلال الحوار مع النص القديم، سواء بالاختلاف أو المشابهة، وبعضهم يلتقى مع هذه النصوص على إيمان بأن كليهما يعبر عن تجربة خفية ومبهمة، ويستحيل على أية لغة أن تحتويها، فتصبح اللغة علامة أو إثارة للتعبير عن الأغوار المختلفة.
هل يمكن أن نقول إن الحداثة ممارسة يومية، وكتابة لقراءة الواقع المعاش، وإن المحاولة لتنظيرها يمكن أن تجعلها وهما من الأوهام، ذلك لأن الخطاب النظرى فى جوهره هو البحث عن الأنساق، بينما الحداثة فى مرحلة التكوين تكون ضد كل نسق جاهز يسعى لتكوين معرفة مستقرة، أى اكتشاف الــ “لا معرفة” التى لا تدخل فى إطار المتسق الجاهز المتجانس، ولذلك يبدو خطاب رجل الشارع فى مقابل خطاب الصفوة خطابا لا معرفيا، ولا يرتكز إلى أساس علمى وفق تصورات العلم لدى ثقافة النخبة، (لاحظ موقف الثقافة الرسمية من الممارسات الشعبية للتصوف مثلا)، والمبدع الذى تتفتح حواسه لقراءة مستويات ثقافة رجل الشارع، أى صورة حياتها اليومية، فإنه يكشف عن الصمت المكبوت، فى حضارتنا المعاصرة، ويكشف عن الــ “لا معرفي” والــ “لا متجانس”، وحين ينقل ذلك يقترب من الحداثة بمعنى الاكتشاف والدهشة الثرية، بينما حين يدخل محارة الذات، فإنه قد يعتمد على دور التصورات المجردة كبديل عن قراءة الواقع المعيش فى بناء عالمه.
ويمكن رؤية الانشطار الثقافى بين ثقافة النخبة وثقافة رجل الشارع من خلال تحليل موضوع “الجسد، فالنخبة تتحرك فى الصيرورة اليومية من خلال “الوعي” بالجسد، كأداة حينا، وكغاية حينا آخر، بينما رجل الشارع يعيش من خلال علاقته العضوية بالجسد، والجسد لديه يتعامل وفق شروط الممكن، ويتعارض مع القانون الوضعى، بينما الوعى – لدى النخبة – بالجسد إمكان مجرد، لا حد له، الجماهير ترى فى النفس سجنا للجسد، من خلال فرض إرادة النفس التى تتأثر بالدعاية والإعلانات والثقافة الاستهلاكية، فتسخر الجسم لمصلحة صورة وهمية للحياة، فتقمع الحواس، وتجعلها لا ترى إلا ما تريد أن تراه أو تسمعه أو تلمسه، ولذا قد تبدو مسيرة تحرير الإنسان لا تبدأ من الوعى بالضرورة، ولكن تبدأ بسلامة الحواس وتفتحها على العالم: ولعل القرآن الكريم قد تناول هذا المعنى فى كثير من السور ليـبيـن أن سلامة الحواس شرط لإدراك حقيقة الوجود، فالخطاب القرآنى لمن كان يسمع، أو يرى، أما من ماتت حواسه، أو وقع فى التوهم، والتأليه الذاتى، فإنه يقبع فى مرحلة تعوقه عن هذا المستوى من الوجود الذى يدعو إليه القرآن..
والثقافة المعاصرة كما تتجسد فى صورة الحياة اليومية فى المدنية هى سجن للجسد الذى يسعى إليه الانسان، حين يستخدم الجسد كأداة لتحقيق ما يريد من طموحات استهلاكية، ولذا فقد يبدو تركيز الفنان المعاصر على الجسد رد فعل من أجل إثبات الهوية، هوية الإنسان العربى التى تتمزق بين الوعى والجسم، الوعى الذى يسخر الجسم لتحقيق أغراضه، هذه الهوية التى تحاور القوة العاتية (كما تتمثل فى السلطة والدعاية)، والقوة المرنة (كما تتمثل فى ثقافة رجل الشارع)، والهوية فى صراعها مع هاتين القوتين، فإنها تتلقى دفعات من الحيوية، والقوة العاتية تتمثل أيضا فى الصفوة المثقفة، ذات الصوت العالى، والقوة المرنة التى تتمثلها ثقافة الجماهير فى رحلتها اليومية حيث يتم صياغة وعيها من خلال الأدوات، من أجل أن تتحول عقولها إلى أدوات للتنفيذ. ولذلك يمكن أن تتساءل من الفاعل الحقيقى فى حياتنا اليومية؟
ففى الواقع مراكز عدة للاستقطاب مضادة للهوية، والفهم التقليدى كان يبين لنا أن السلطة هى مركز الاستقطاب كما تتمثل فى الدولة بوصفها مجسدة للقانون وتنفيذه، وهذه رؤية مضللة، ذلك لأن هنالك مسافة بين الدساتير النظرية والممارسة الفعلية للحياة اليومية، والحداثة هى التى تكشف – من أجل النفى – عن هذه المراكز الاستقطابية الأخرى، غير المنظورة، بشكل مباشر، وهذه المراكز تكشف عن نفسها فى العلاقة بين الخطاب السلطوى وبين الجسم، فالسلطة تقوم بترحيل ممارسة القوة ضد كل أشكال المقاومة للفرد ذاته، ليقوم هو نيابة عنها بقمع المقاومة.
والسلطة لكى تستمر لابد أن يكون هناك رد فعل، وهى القوة المضادة، وهذه القوة المضادة تبدو لدى الأفراد كنوع من التموجات بين ضاغط ومضغوط، و أشكال السلطة التى يسعى الإبداع للتحرر منها هى سلطة الذات الفردية على الجسم، أى السلطة التى تنبع من الداخل وليس من الخارج، ولذلك فإن تقديس الذات، واضفاء الطابع الكلى عليها، كما يحدث فى بعض نماذج إبداعنا العربى التى اكتسبت مشروعية، هى محاولة للهروب من تحرير الجسم، ولم تتحرر هذه النماذج من أشكال السلطة الكامنة فى العقل الأداتى، ولم تصل لتحرر وهى تناضل ضد أشكال تاريخية تنتمى للماضى، وليس الحاضر، وهى تبدو فى صورة من يحارب معاركه الخاصة والوهمية.
ولايزال المبدع العربى حائرا بين الجملة النحوية والجملة المنطقية، بين التراكيب الصورية، والحكم المعيارى القيمى، فهو لا يزال يبحث عن الفاعل فى الجملة النحوية الذى يمثل السلطة، بين الشعر التفعيلى والشعر المنثور، وهذا ما لم يساعده فى إنتاج خطابات لا اسمية، يختلف فيها الفاعل ويتعدد بتعدد مراكز الاستقطاب .. وهذا قد يعنى أنه يدور فى المفاهيم والقيم نفسها التى يريد الثورة عليها ويحاول استحداث صياغة مختلفة تعبر له عما يريده.
المبدع العربى ينظر للصياغات بوصفها تقنينا لتجارب معينة، بينما الصياغة هى إعادة إنتاج لهذه التجارب وفق مجال تناثرى، يعتمد على الانتقالات والتحولات، وهو يريد الخروج من اللغة من خلال الأشكال البصرية للطباعة إلى لغة أخرى، تعبر عن تراسل الفنون ونشوء علاقة عضوية بين الحوار فى الكتابة والقراءة من أجل البحث عما قبل اللغة المتعارف عليها، لكن البحث عما قبل اللغة وهم، وهو يريد بذلك تأسيس تاريخ خاص، غير موجود أصلا، لأنه ليس هناك ما قبل اللغة، أيا كانت، لأنها هى التى تتيح التواصل، وتراكم الوعى بمستويات الوجود.
ولا يزال النقد متخلفا عن الإبداع فى الحداثة العربية ، فالناقد لم يكتسب مشروعية الحضور داخل النص، لكى ينتج ذاته من خلال إعادة بناء وتركيب العمل الفنى من خلال المساحة المحددة له، ذلك لأن حضور المؤلف كسلطة ، يطغى على حضور الناقد ، ويجعل حضوره هامشيا بالقياس للمبدع، لأن العقل والوجدان العربى لم يستوعب التعدد ، فكما يبحث عن الفاعل فى الجملة النحوية ليجعله مركزا للهوية، كذلك يرد النص إلى مؤلف واحد، دون أن يشير إلى الناقد، ولهذا فليس لدينا التعدد الإبداعى للنص الواحد، (هل أبدو شارحا لفكر الرخاوى، أم أضيف إليه بقدر فاعليتى فى قراءته؟) من خلال التناثر، ولم يتحول هذا التعدد إلى بنية شعورية وعقلية، فالناقد قد يرضى بدوره فى رد النص الحداثى إلى ذاكرته، دون أن يقيم عملية معايشة للنص، قد تكون نصا مضادا، يسخر من كل ما فى النص الأصلى، وهذه السخرية قد تهز الطابع المقدس الذى أضفاه (المؤلف) على الأشياء، ويريدنا أن نغرق فيه. ولذلك لابد أن يواكب الإبداع النقدى النصوص أيضا، كى نتحرر من استنطاق أى نص بما ليس فيه.
وبعض النقاد يستخدم مصطلح الحداثة كسلطة يقطعها على بعض النصوص دون النصوص الأخرى هل يمكن القول إن الحداثة هى نوع من الهوية ليست جديدة، وإنما هى عملية خلق داخلى، تنزع نفسها عن الأطر الجاهزة، لأنها ممارسة حية، تجعل من الاختلاف وقبول التناقض حقيقة للواقع الثقافى، وهذه الرؤية قد تكشف عن الطبيعة الازدواجية فى فهمنا للحداثة فى النقد والإبداع ، فلا تزال هنالك قيم لا تزال تؤثر فى فهمنا للحداثة ، ترتبط بالنزوع إلى صياغة كلية لنسق مفاهيمى عن الحداثة، فلا تزال الهوة واسعة بين الخطاب النظرى للحداثة العربية وممارساتها الكتابية فى الأعمال الإبداعية، والخطاب النظرى يسعى لإدخال اللا مألوف فى سياق متسق، والإبداع يسعى إلى لغة جديدة للتعبير عن هذا العالم المتشظى والمتناثر، وهذا يعنى تقدم الإبداع وخطابه الجمالى عن الخطاب النظرى، وهذا قد يرجع إلى أن الخطاب النقدى النظرى لا يزال يفهم أن النص منتج الدلالة دون إقامة علاقات متداخلة بين النص وكل الأشكال الثقافية فيه، ينبغى للنقد أن يتحول إلى نقد ثقافى ليتحرر من الدلالة الجاهزة والعلاقة الثنائية بين الدال والمدلول، ليطرح أسئلة تتجادل مع مختلف العلوم الإنسانية، من خلال انفتاحها على الأفق الجمالى والبيولوجى والاجتماعى للإنسان.. أما إذا أصر الخطاب النقدى على التجزئة والتفتت فى خلق أنساق متسقة منطقيا، فإنه لا يخلق مساحة مشروعة يتحرك من خلالها، وإنما يكرر ما سبق فى منعطف تاريخى يطمر المكرر والمجازى، ويدعو للنقد الإبداعى الذى يعيد إنتاج النص وفق منطق آخر وعلاقات مختلفة.