أصداء لأصداء
السيرة الذاتية لنجيب محفوظ
حدْس الكلمة
يحيى الرخاوى
مقدمة:
لا أميل إلى المبالغة فى قيمة شخص فرد مهما تميز وأعطى، كما لا أحب تسمية عصر باسم شخص مهما كان هذا الشخص، وحتى كلمة عبقرى هى عندى كلمة تحتاج إلى تعريف دقيق، واستعمال حذر.لكن ماذا أفعل فى شيخنا نجيب محفوظ هذا الذى يضطرنى إلى أن أفرح أننى أعيش زمنا أفرزه، ويجعلنى أكاد أخالف القاعدة لأقف أمام شيخنا منبهرا، داعيا، فخورا متعلما ،بلا حدود
أرجو أن يكون هذا اعتذارا لبعض المبالغات الذى اضطرتنى إليها فرحتى بهذا العمل الذى لم يكتمل بعد: “أصداء السيرة الذاتية”.
وهذه المقدمة التى لم يتسع العدد إلا لها هى مغامرة بحق ، لأنها تتناول عملا مسلسلا لم يكتمل، ينشر فى عدد أسبوعى فى صحيفة يومية، وأنا لا أحب (ولم أحب) أن أقرأ قصة طويلة أو رواية مسلسلة فى أى صحيفة أو مجلة، وبالذات لنجيب محفوظ، اللهم إلا أولاد حارتنا فى الستينات التى اضطررت لقراءتها مسلسلة حين رجحت أنها قد لا ترى النور مكتملة،
لكن هذا العمل ليس قصة قصيرة، وليس رواية طويلة ، وليس مسلسلا، بل هو عدة روايات متداخلة، هو أصداء فعلا لوجود متعدد الأبعاد غائر الأعماق، تجد فيها ذكرى عابرة تبدو عادية، لكن حين يحكيها شيخ – بفرحة طفل – تبدورائعة وخاصة ومتميزة، وتجد فيها رواية طويلة طولها سبعين سنة يكتبها محفوظ فى أربعة أسطر وكأنه نشال انقض على وعيك فنشل غفلته حين أضاء بسطوره الأربعة مساحة لم تكن منتبها إليها، فإذابك أنت مؤلف هذه الرواية التى طولها سبعين سنة بالتمام.
ثم ما حكاية العنوان (أصداء) ؟ ثم العناوين الفرعية؟
وقبل أن أتناول العنوان تذكرت بعض ردود نجيب محفوظ حين طلب منه أن يكتب سيرته الذاتية فعقب بما بدا أنه تواضع ، وهو ما استقبلتـه على أنه يقظة من يخاف على كنزه الخاص الذى لا يعرف قيمته إلا هو: أن يوضع فى غير موضعه، قال ما أذكر معناه: إنه رجل مصرى من عائلة قاهرية متوسطة ليس فى حياته الخاصة ما يستأهل الانتباه والتسجيل فيما هو سيرة ذاتية، ثم تذكرت كيف تزوج سرا تقريبا ، ولم يعرف بعض أصدقائه نبأ زواجه إلا حين اكتشف أن فتاة فى مدرسة ابتدائية إسمها أم كلثوم نجيب محفوظ، وأخيرا تذكرت ألمه الذى كاد يصل إلى ثورة (وهو نادرا ما يثور فى أحاديثه) حين عقب على نيله جائزة نوبل أنها كانت – أيضا- سبيلا إلى انتهاك خصوصياته الخاصة ، كل ذلك يعلن بشكل أو بآخر أن نجيبا لا يريد ولا يقر وربما لا يستطيع أن يتكلم فيما يقال له سيرة ذاتية.
لكننى عدت أسترجع علاقتى بكل أعماله التى لم أر فيها إلا نجيب محفوظ شخصيا، ليس فقط كمال عبد الجواد (الثلاثية) كما يزعم البعض، وليس ما أشار إليه إحسان عبدالقدوس حتى كادت تحدث القطيعة بينهما ، وليس ما استشهد به جمال الغيطانى فى “نجيب محفوظ يتذكر”، وإنما أنا أراه فى كل أعماله، كل أعماله بلا استثناء (بلا استثناء: حتى ليالى ألف ليلة ، ورأيت فيما يرى النائم) ، وحين كتبت عن الشحاذ تلك الكتابة الباكرة التى نسختـها بعد ذلك ، قلت إنه وصف ما هو اكتئآب وصفا يستحيل أن يعرفه إلا من كابده، وإلى درجة أقل:قد يعرفه طبيب نفسى قديم حاذق .
فهذاالرجل الذى رفض أن يكتب سيرته الذاتية ، هو هو الذى لم يكتب – كما استقبلته طوال رحلته – إلا سيرته الذاتية ، وها هو يخرج علينا فى سن الواحد والثمانين، وقد ثقل سمعه وكاد يكف بصره، يتكلم وكأنه يهمس فى هدوء ، لكن همسه يظل يتردد صداه متصاعدا فى وديان غفلتنا يهز جبال الصمت، ويتعتع الوعى المتجمد مما يحتاج إلى وقفة مناسبة.
وهذه هى: وإن كنا سنكتفى فى هذه “المقدمة” بوقفة عند اختيار عنوان العمل “أصداء; وكيف قرأنا حضور حدس هذه الكلمة فى وعى هذا الرجل بما يذكرنا بموقع الكيان اللغوى للمبدع كمستوعب لتاريخ حى يتمثل فى حدس فائق فى لحظات بذاتها.
أصداء ، جمع صدى،
حين قرأت العنوان وقبل أن أتحسس طريقى فى وديانه ، وأيضا قبل أن أتوكأ على أدواتى فى مصاعد دروب جباله، حضرنى وعى خاص لا يحضرنى إلا وسط الجبال، أذكر أننى استشعرت مثل هذا الوعى لأول مرة بوضوح كاف ، فى فالورسين قرب قمة مون بلان فى جبال الألب، ثم عدت أستشعره أعمق وأرق فى شتاء سانت كاترين حيث الثلج الهش يذكرنى أن مصر هى “كل الدنيا” وليست فقط “أم الدنيا”، حين أنفرد بنفسى هناك ، أبدأ بنداء أن ” ها ” فأرد على أن “ها” “ها” ها” ، ثم آه ثم آه. آه ..آه ثم يحيى يحيى يحيى يحيى ، ثم يا رب ، وحين أصل إلى يا رب ، لا يتردد الصدى أن يا رب يا رب يا رب ، وإنما يرد الصوت نعم ، فأدعو بما يتيسر، وأطمئن أننى حى أرزق (فهذا أمرليس مؤكدا طول الوقت).
هذه هى علاقتى بالصدى
وقبل أن أقرأ أصداء محفوظ تردد فى وعيى إيقاع دورات “الحرافيش”، وهمهمات “حكايات حارتنا” ، وصور”المرايا” متبادلة متلاحقة متصاعدة مجسمة.
إذن فهى أصداء حضورنجيب محفوظ فى سيرته، وترددات جنبات ذاكرته، لكنها أبدا ليست سيرته أو ذاته المحدودة بوجوده الفردى البشرى، هذا هو صوت شيخنا يتردد ، فتـردده جنبات الحضور المصرى، التاريخ: غائرة فى وجداننا المحيط بوعينا ،
ليكن،
ولكن: هل يا ترى كان يعنى بالصدى ما يصلنى الآن من الكلمة ؟
وهل يا ترى كان يعرف ما ذا يمكن أن تثير فى واحد مثلى كلمة أصداء (جمع صدى)؟ وما هى حقيقة وتاريخ وتقاسيم وتفريعات ما احتوته كلمة صدى و”أصداء” هكذا، ما حتوته من نبض وإيحاءات ورؤى؟ صدى السيرة، صدى التاريخ، صدى الأحداث ، نعم ما اخترت يا شيخنا؟
ثم رحت أقرأ الحلقات الأولى الثلاث(1)، فلا أجد – لأول وهلة – فى الحلقة آلأولى ما يشدنى، وتهزنى الثانية أكثر قليلا، أما الثالثة فقد جعلتنى أقفز وأنا أدعو له بطول العمر، وأتصور فقده فلا أستطيع ثم إننى لن أفقده حتما إذ سيظل صوته وأصداؤه معنا حتى نلتقى هناك إن سمح من بيده الأمر من قبل ومن بعد (ترى هل سيستمر فى الكتابة هناك، وما معنى الجنة إن لم يكتب فيها محفوظ وأمثاله؟) أقول حين وصلت إلى الحلقة الثالثة فهمت أكثر معنى أنها أصداء فعلا لما هو سيرة ذاتية ، إنها نبش فى ذاكرة يعاد تخليقها،وليستسردا لأحداث يراد ترتيبها.
وتساءلت عن بعض معلوماتنا الهزيلة عن الذاكرة والتذكر، وكيف يتناولها علم النفس والطب النفسى تناولا يسطحها لدرجة المسخ، وتذكرت ما تعلمناه فى الطب النفسى والباطنى معا ، وكيف يؤثر السن على الذاكرة بالذات تأثيرا هو كذا وكيت، وكيف يؤثر تصلب الشرايين بالذات، وكيف يسرع المرض السكرى (الشهير بالبول السكر أوالسكر) بتصلب الشرايين ومن ثم تدهور الذاكرة، ثم ماذا يحدث للذاكرة حين يقل التواصل عبر السمع والبصر جميعا فى العقد التاسع من العمر؟ ودعوت ربى أن يرى زملائى معى ما يؤكد لهم أن كل هذا كلام لا ينبغى أن يؤخذ على علاته، وأن العقل البشرى، مثل عقل محفوظ، يحفظ الشرايين ولا يخضع لها، وأن الذاكرة تظل رائقة وحادة طالما أن الإبداع نشط وهادف، كل هذا يؤكد أننا ينبغى أن نقف أمام الظاهرة البشرية -خاصة للمبدعين – نتعلم من عطائها لا نفرض عليها قصور ما نتصوره عنها ينبغى احترام تعدد مصادر المعارف، فالعلم لا يفسر الأدب بقدر ما يستلهم أعظم معارفه منه، وهذا هو نجيب محفوظ يقدم لنا بعمله هذا فى سنه هذا، بكل مرضه بالسكرى، وصعوبة سمعه، وبصره، وتصلب شرايينه، يقدم لنا ما يعلمنا عن الذاكرة ما عجزت كل تجارب ديدان البلانوريا وفئران التجارب وغرور بعض العلماء وضيق أفقهم أن يـعـلموه أو يتعلموه أصلا، ناهيك عن أن يعلمونا إياه، وقد حضرنى تصور للذاكرة وأنا أكتب “الناس والطريق” فرحت أتحدى به تصنيفات الذاكرة التى علمونا إياها (الذاكرة القريبة،العاجلة، الآجلة، اللحظية إلخ) وذلك أننى اكتشفت وأنا أعيش (حالة كونى كاتبا) تجليات أخرى للذاكرة، مثل: الذاكرة التى تشرق فى الوعى، والذاكرة التى تدور، والذاكرة ذات الرائحة، والذاكرة التى تنتقى، والذاكرة التى تبدع ..إلى آخر ما لا أذكر، كذلك تذكرت آلة الذاكرة التى ابتدعها جارثيا فى مائة عام من العزلة يسخر بها على ما نسميه ذاكرة.
إذن فهذا هو شيخنا يعلمنا من واقع الممارسة ما ينبغى أن نعلم، فاتقوا الله يا من تقيسون الأدب بالعلم، ناهيك عن قياس الدين بالعلم !!
ثم فعلت بعد ذلك ما لا ينبغى أن أفعل ، وما حاولت إثناء نفسى عنه طويلا، وما أوقعنى فى أخطاء ليست قليلة، وبعد أن كتبته فى المتن فضلت أن أجعله هامشا أرجو أن يعزف القارئ عن قراءته:
ذلك أننى رحت أستفتى المراجع حول ماهية الصدى، وأنا حين أستفتى المراجع لا أبحث عن تعريف للكلمة بقدر ما أعيش تقاسيمها، وتاريخها، وصدى رنينها، وكان أستاذى محمود شاكر قد أوصانى ألا أكتفى بلسان العرب، وأن أستشير معه تاج العروس من جواهر القاموس للزبيدى، وقلت أتعرف على الزبيدى هذا- لأول مـزة- من خلال أصداء محفوظ، ونبهت نفسى من البداية أن محفوظ حين انتقى كلمة أصداء لم يستشر معجما، بل لعله لم يستشر نفسه بل سمع الكلمة قبل أن يختارها، كما أننى حين استقبلتها لم أستقبلها بتعريف أو تحديد وإنما سمعتها بدورى تتردد فى تضاريس وعيى، فلماذا المعجم، ولماذا أصر على تكرار هذه العادة الخاطئة أبدا؟ ذلك الإصرار الذى أدى بى ذات يوم إلى أن أحاول تفسير إسم كامل رؤبة لاظ بطل السراب، وأنا أبحث عن مادة كل من “رأب” و “لاظ”، ورغم عتبى على محفوظ فى تعمده الرمزية فى انتقاء كثير من أسماء أبطال رواياته (الأمر الذى تورطت فيه بدورى فى روايتى الأخيرة) إلا أننى هذه المرة كنت متأكدا أنه لم يقصد إلى أى من ذلك ، ومع كل هذا فقد ذهبت أستشير الزبيدى لأصاحب الكلمة أكثر وأعمق مـغـفـلا – مؤقتا- علاقتى بها بين الجبال فى فالورسين وسانت كاترين، وفى نفس الوقت مستبعدا تعمد نجيب محفوظ اختيارها لأسباب معجمية أو رمزية.
وهكذا تحقق لدى فرض يقول:
إن محفوظا (مثل يحيى حقى) إذ ينتقى كلماته إنما يتخير ما يفيض به كيانه اللغوى دون علم محدد بكل أبعاد اللفظ، لكن اللفظ يتفق مع ما يراد منه بكل دقة موضوعية حين لا يكون ثمة فاصل بين الكيان الذاتى والكيان اللغوى للكاتب، وفى هذه الحال يحدس المبدع تاريخ لغته بدقة شديدة الإحكام دون أى مرجعية رمزية، وقد ذهبت أحقق هذا الفرض هكذابكل تداعياته وتعسفاته الظاهرة والخفية حتى وصلت إلى ترجيح أن هذا العنوان قد حدسه نجيب محفوظ -دون قصد محدد- ليستوعب كل تلك المعانى: من أول أن نجيب هو الرجل اللطيف الجسد حتى صوت ذكر البوم يخرج من قبر المقتول يطلب الثأر مارا بما يردده الجبل على المصوت فيه(2)
ثم ننتقل فى العدد القادم إلى ما هو أهم لننصت إلى نبض الأصداء نفسها.
****
[1] – كتبت هذه المقدمة ولم تكن قد صدرت إلا الحلقة الثالثة.
[2] – هامش رجاء ألا تقرأه:
يقول الزبيدى فى مادة صدى ، وللصدى اثنا عشر وجها:
الأول: الرجل اللطيف الجسد (أليس هكذا محفوظ الآن ؟)
والثانى: الجسد الآدمى بعد موته (نشرمحفوظ فى الأهرام مؤخرا قبل هذا العمل مباشرة أيضا قصة قصيرة لا أذكر إسمها الآن كدت أقرأها باعتبارها صادرة بعد موته من فرط ما كان فيها من رثاء ذاتى)
والثالث: حشوالرأس ، وفى الجمهرة حشوة الرأس ويقال لها الهامة (فهل هذا العمل هو هامة نتاجه، وهو ما ينبغى أن نحشو به أدمغتنا)
والرابع: الدماغ نفسه (لا تعليق)
والخامس: طائر يصربالليل ويقفز قفزانا، (والقارئ اليقظ لا بد وأن يعرف معنى صرير طائر بالليل وهو يتلقى قفزات نجيب محفوظ فى هذا العمل هكذا من غصن إلى غصن، من فرع إلى فرع، بل أحيانا أراه يقف على حافة وريقة صغيرة لم تبرز بعد من حضن سابقتها).
والسادس: طائر يخرج من رأس المقتول إذا بلى (لا تعليق، لأن المعنى الممكن واضح فى ظروفنا هذه)
والسابع: فعل المتصدى، وهو الذى رفع رأسه وصدره يتصدى للشيء (هل يعرف أحدكم شخصا تصدى لكل شيء بكل لغة مثلما فعل شيخنا هذا عبر كل حياته، حتى تلك السطور المسطحة ظاهرا التى ينشرها كل خميس فى الأهرام، هل فيها غير التصدي؟)
والثامن: العالم بمصلحة المال، …وخص بعضهم به العالم بمصلحة الإبل ( لسنا إبلا بالطبع، لكن يبدو أن شيخنا عالم بمصلحتنا ، أطال الله عمره وعلمنا بمصلحتنا مثله)
والتاسع: العطش، وقيل شدة العطش، يقول الشاعر: ستعلم إذا متنا صدى ، أينا الصدى (فهل هناك عطش نعيشه أكثر مما نعيش هذه الأيام حتى نخشى أن نموت صدى الحرية والوعى المبدع والمعرفة الحقة)
والعاشر: ما يرده الجبل على المصوت فيه (وهذا ما أشرت إليه وهو المعنى الشائع الصحيح المباشر وقد كان ينبغى أن أكتفى به لولا هذا القهر الذاتى)
والحادى عشر: ذكر البوم ، وكان يقال إذا قتل قتيل ولم يدرك به الثأر خرج من رأسه طائر كالبومة ..والذكرالصدى ، فيصيح على قبره اسقونى اسقونى ، فإن قتل قاتله كف عن صياحه ( لا تعليق لأن عندى تعليق مناسب جدا ، خاصة بعد مجزرة الحرم الابراهيمى يا شيخنا سنأخذ بثأرنا مهما طال الزمن، وسوف ندعو لك بطول العمر حتى لا تكف عن الصياح ‘صدي’ لايتوقف لأن ثأرنا لا ينتهى)
والثانى عشر: سمكة سوداء طويلة ضخمة ، وقيل التى لا تشرب الماء ، ‘صوادى ما صدين وقد روينا’ (وهنا يشير الصدى إلى نوع قاس من الضخامة والجفاف، وهو تصورته ضد الرفاهية المائعة والرى الكاذب).