حول الحداثة
وعى الذات لا تكريس الفوضى
أحمد زرزور
إلتباس مدهش يقع فيه الصديق وليد منير وهو يعتقد بوجود” تناقض” أساسى فى هذه الثنائية: المغايرة الكلية/إعلان التواصل مع الماضى، وذلك فيما يتعلق بالولادة الشعرية الجديدة، ذلك أن السعى لاجتراح مشروع طليعى فى الشعر ـ وهو الكدح الآنى لما اصطلح عليه بشعر السبعينات، لا يعنى القطيعة الكاملة مع المنجز التقليدى سواء التقليدى القديم أو التقليدى القريب، فالأسد هو مجموعة من الخراف المهضومة ويفترض وعى الذات – كما يقول أدونيس – أن نعترف بأن ما أنتجه أسلافنا فى مختلف الميادين ليس كله قادرا على الإجابة عن مشكلاتنا الجديدة الراهنة، أو على إفادتنا فى تحقيق كشوف معرفية جديدة ولهذا يتحتم علينا أن نقاربها بطرق مغايرة… خصوصا فى هذا العصر الهائل من انفجار المعرفة، إن بقاءنا فى إشكال المعرفة ذاتها، ذلك أن الأصالة ليست نقطة محددة أو موقعا ثابتا فى الماضى، وإنما هى الطاقة الدائمة فى الانسان والمجتمع على الحركة والتجاوز فى اتجاه المستقبل…. اتجاه عالم يتمثل الماضى ويتملكه معرفيا يما يستشرف مستقبلا أفضل، إن ما ينبغى أن نتمسك به ونحاكيه هو بالأحرى، ذلك اللهب الذى حرك أسلافنا، لهب السؤال والبحث والمعرفة، من أجل أن ننتج ما يكمل نتاجهم، برؤية جديدة للإنسان والكون، وهذا يقتضى تفكيك معارفهم ونظراتهم وتمثلها نقديا، بحيث يبدو الجديد كأنه طالع من القديم، لكنه فى الوقت نفسه شئ آخر مختلف كليا، وفى هذا سر التواصل العميق الخلاق بين القديم والحديث…..
ربما تسطيع هذه الاقتباسة الأدونيسية فض هذا الالتباس الذى وقع فيه الصديق وليد، فليس من المتصور إطلاقا أن ينشأ تناقض ما: بين حقبة إبداعية وحقبة أخرى على ما بينهما من تباين” زمكانى” تاريخى حضارى، وذلك إذا تعاملنا مع هذا المنجز أو ذاك فى إطار ظرفه التاريخى والملابسات الثقافية والاجتماعية والإقتصادية التى أُنتج بين ظهرانيها، وهناك فرق شاسع وجلى بين إطلاق النار على الماضى(بعيده وقريبه) وهو موقف سلبى وغير حضارى – وبين استيعابه وتمثله والحوار معه نقديا ثم تجاوزه وفق سياق الحضور اللحظى المحتدم، وبخبرات معرفية هائلة مُطالبة بالأضافية التغييرية، وهى إضافة لا تفرضها الرغبة المحض للمبدعين، بل يفرضها التغيير فى الواقع، بمعنى أخر، على الشاعر أن يكون ممتدا فى كل العصور وأن يكون ابن عصره، وأن يؤمن بأن تراثه سلسلة متتابعة من الولادات والتجارب المؤسسة للأحوال والخارجة عليها لتأسيس أصول جديدة، وعلى القصيدة أن تتقدم باتجاه المستقبل/أو تدفن نفسها فى ضريح التاريخ وتتحول إلى ذكرى!
– 2-
بهذا المنظور كانت – وتظل – رؤيتى الخاصة لسيرورة القصيدة نحو صيرورة الحداثة،هى سيرورة جدلية باتجاه خلق إبداع مغاير تماما، ومن المؤكد أن أحدا لا يستطيع أن ينكر امتناننا لذلك التراث الكبير ابتداء بالمعلقات السبع مرورا بعطاء الشعر العربى فى شتى فترات النهوض والإحياء وصولا إلى قصيدة التفعيلة الصبورية/ البياتية/ السيابية، والنص الأدونيسى وسواه من التجارب الكبيرة التى ترصع سماء الإبداع العربى، فنحن ورثة كل هذا لكن فارقا كبيرا بين أن تكون وراثا تقديسيا لميراث فنى لا تحكمه قيم ثابتة ونهائية، ومن ثم تتبنى منطقا” انسحانيا” يضع للإبداع نظاما خالد الخصائص، وبين أن تكون وارثا نابها يدرك مسئوليته فى التهيئة لولادة لا تتشابه ولادة كالنهر تجرى مثله ومعه نحو البحر، لتعبر مثله ومعه عن إخلاصها لمنبعه الحقيقى….. وأظن أن القصيدة التفعلية – إلا قليلا جدا – وصلت إلى أقصى إمكانيات عطائها الإبداعى ــ ممارسة التجريب” رهن بالرؤية المتكاملة التى تتبلور وتسير نحو التناسق كلما تصرمت حقبة من حقب ممارسة الكتابة الإبداعية، مما يعطى التجريب مشروعية الوجود والاستمرار”….
هذا يقودنا مباشرة إلى البديل المطروح للقصيدة التفعيلية وهو” قصيدة النثر” التى وصفها” وليد منير” بأنها انقلاب جمالى ومجاوزة حادة لكتابات الستينات ،ولا أدرى مبررا يكرس – تبعا لذلك – لما أسماه منير منزعجا:
بالقطيعة والانفصال الكامل عن التراث الشعرى القريب والخروج الناتئ على منجزاته، خصوصا ونحن نؤمن بضرورة التقاطع لا القطيعة ليس بين القصيد السبعينى والستينى فقط، بل بين القصيد السبعينى والتراثى القديم، وإلا ما الذى يجعل للنص النظرى – مثلا – مثل هذا الحضور البالغ – لا يزال – فى فضاء القصيدة الحداثة ابتداء بالنص الأدونيسى الستينى وصولا إلى النص الحداثى الشاب؟؟!!
ثم إننا نعتقد أن منجزات النص الستينى لا يمكن اختزالها فى الإيقاع التفعيلى فقط، ومن ثم فإن دعوتنا لمجاوزة النص تعنى الحوار النقدى معه، “فالحوار هو أعلى مرحلة من مراحل قراءة النص الغائب إذ يعتمد على، أو يتوسل بـ: النقد المؤسس على أرضية عملية صلبة تحطم مظاهر الاستلاب مهما كان نوعه وشكله وحجمه، لا مجال لتقديس كل النصوص الغائبة مع الحوار، فالشاعر او الكاتب لا يتأمل هذا النص وإنما يغيره، يغير فى القديم اسسه اللاهوتية، ويعرى فى الحديث قناعاته التبريرية والمثالية، وبذلك يكون الحوار قراءة نقدية عملية علمية، لا علاقة لها بالنقد كمفهوم عقلانى خالص، أو كنزعة فوضوية عدمية”…..
– 3-
وبديهى أن القصيدة الجديدة التى نطمح إلى إنجازها هى” قصيدة” ترفض القبول بأشكال وصيغ مسبقة جاهزة مكتملة التشكل وتبحث عن تجاوز مستمر لها وإبداع مستمر لأشكال وصيغ جديدة ومتجددة وتنقى وحدانية الحقيقة بكل اشكالها، وتؤمن بتعددية جوهرية فى الوجود وتلغى الحدود الفاصلة بين الأشياء، وتطرح رؤيا تواشجية متجاوزة إلا بتجاوز جميع القواعد والنظريات الجمالية ليصنع عملا أدبيا أصيلا بقواعد ونظريات جمالية جديدة، وعلينا – فى هذا الصدد – أن نتذكر أن الصراع الذى دار فى الماضى بين المحافظين من جهة وبين أنظار الجديد من جهة أخرى، قد تحول فأصبح يدور بين المجددين أنفسهم، حيث يقف أنصار ” الجديد” إزاء القصيدة” الأجد” نفس موقف المحافظين إزاء القصيدة الجديدة، مثل سعدى يوسف، وشوقى بغدادى، تمسكا بالوزن والموسيقى، حيث لا يرون فى التخلى عن الوزن مجرد انقطاعا عن الشعر ذاته، فى حين أننا نعرف أن لقصيدة النثر مشرعيتها الجذورية، ابتداء من نشيد الانشاد، حيث ذروة الكمال الشعرى الفنى بما قدمه من تناسق الصور الفنية وظلال الشعور، والإيقاع الداخلى، بالإضافة إلى الأثار الإبداعية لابن عربى والنفرى والجنيد وغيرهم من المبدعين الذين حرروا النص اللغوى من عبودية الخطابة والمباشرة……، ثم إن قصيدة النثر تتسلح بحتمية حضورها النوعى من حيث كونها الشكل الأكثر طليعية وحداثة فى الشعراء، هى فى هذا الخصوص فسحة حرية، وفسحة هدم وتحول وعلى الشعراء ان يدركوا – قبل النقاد – أن القصيدة العربية – ابتداء من أول القرن – قد قفزت من مرحلة تثوير الشكل التعبيرى، ومن المرحلتين معا إلى مرحلة التثوير العام، أى إلى مرحلة يتساوق فيها التثوير، ويتوافق فى كل من الشكل والمضمون، ومن ثم – ووفق هذا التصور – فإن غياب الموسيقى التقليدية ضرورة يحتمها هذا التساوق ويقتضيها الاختيار الجديد والاستيعاب التام لفكرة قصيدة النثر التى هى شكل من أشكال” النص الشعرى” بدلا من القصيدة البيتية أو القصيدة الموضحة أو القصيدة التفعلية.
– 4 –
الحداثة – إذن – وفق هذا الطرح ليست تكريسا للفوضى، كما يظن الصديق وليد منير، وإنما هى استبدال للنظام بنظام مغاير لكن هذا النظام المغاير لا تكمن مغايرته فى احتوائه على أفضل ما فى القديم وأضوئه، وأشده فاعلية فى زماننا – كما يقول الشاعر الصديق – ولكن مغايرته تكمن فى اتخاذ موقف نقدى تجاوزى للقديم برمته – بعد تمثله وهضمه – والنظر إليه – بغثه وسمينه – فى إطار ظرفيته التاريخية ، وهو ما يشارإليه فى أدبيات الحداثة بالانفجار أو التفجير الشامل، انفجار ينال بنية الثقافة والمجتمع، ويعبر عن تحول عنيف ومتواصل من مجتمع تقليدى كان قادرا – بدرجة تطور معينة – على صناعة بيوته وشعرائه وبضائعه، إلى مجتمع عاجز عن صناعة أى شئ، أى مجتمع الاغتراب المزدوج، هذا يفترض بالضرورة حتمية الفعل الحداثى الكاشف الذى هو – فى الشعر – قراءة الجسد الذى يمتد فى المكان العربى والزمان العربى ، وعلى أساس هذه القراءة يمكن أن يقوم جدل التأسيس، قراءة الجسد – هنا – تعنى أن يحيا النص الشعرى الحديث الذى هو مشروع تجديد للرؤية والرؤيا، معا أهمية تاريخية تؤدى إلى تحويل القداسة من الماضى إلى المستقبل،أى تحويل حساسية الإبداع وتحويل لمجالاته وإمكاناته بعد أن” انخرقت” الحساسية لشدة التصاقها باجترار نمطية لم يعد لها ما تضيفه لعصرنا الحاضر…….., وبديهى أن حركة شعرية طامحة لتأكيد ذاتها – على اختلاف” حداثاتها”، مطالبة بحضور “جبهوى” ناصع، تماما مثلما علت حركات التجديد الإبداعى على ساحة العالم الأدبى والثقافى، وهو ما دفعنى – ويدفعنى – على التنادى بالاحشاد والتراص مع الاحتفاظ بالخصوصيات بل وبالطموحات الفردية – الصغيرة، ثمة ضرورة إذن” للموضوع الأخلاقى” مواكبة تماما للموضوع الجمالى،و لنا أن نتساءل عن المصير الذى كان يمكن أن تصل إليه طموحات حركات إبداعية طرحت حلمها التجديدى كجماعة”شعر”أو “السورياليين” من قبل لو لم يحدث لها من اختراقات داخلية أولا؟!!
لكل هذا، أجدنى أردد مع وليد منير فى ختام هذا الحوار النبيل:
“ولأن الصيرورة – بتعبير دانييل بيل – هى المنطق نفسه للثورة، ولأننا برغم اختلافنا ونقائصنا ونقاط ضعفنا – نؤمن جميعا بكل هذا، فلن تتكسر العصى فرادى!”