تكريس الفوضى أم استبدال البناء
حديث الحداثة
وليد منير
ربما صار” حديث الحداثة” فى الآونة الأخيرة مبتذلا من كثرة ما لاكته ألسنة الشعراء والنقاد والمهتمّين، بل إننى أكاد أشعر – شخصيا – بمزيد من السأم والضجر
“الحداثة” بوصفها مائدة الطعام الأثيرة فى هذه الأيام، ولكن لا بأس من عودة أخرى إلى الموضوع (القديم/الجديد) ما دام الصديق” أحمد زرزور” مصرا على مدّ الخيط إلى أقصى تطرفه دون كبير حساب للنتائج التى تفضى إليها مقدماته، حريرا كانت أو شوكا (مقال أحمد زرزور بعنوان: الحداثة بين حرير الانفراد وشوك المشاركة)
إن التناقض الأساسى فى كلام زرزور عن الحداثة يمكن دائما فى هذه الثنائية: “المغايرة الكلية/ إعلان التواصل مع الماضى” وفى مرواغة ساذجة تبقى الثنائية المزعومة فى حالة تجاور استاتيكى بين عنصريها دون أن يتجادل هذان العنصران فى حركة دائبة قط ، فالجدل يعنى – فيما يعنى – نسبية ما، تحكم صيغة التفاعل بحيث لا يصبح واحد من العنصرين المتفاعلين كلياأو مطلقا.
يقول زرزور: وسط المهاترات الفجة، تجاهد رحم الإبداع الشعرى الطليعى الشاب من أجل ولادة هذا الاشتباك المريب ، وحسم الموقف برمته فى اتجاه المستقبل انطلاقا من الحاضر ودون قطيعة مع الماضى – وفى نفس الوقت دون الوقوع فى براثنه( ص105،104من العدد الماضى).
ويقول فى الفترة ذاتها:
…. يتكتل كل من حراس القصيدة التقليدية فى نزعها الأخير، وورثة القصيدة
“الصبورية/ البياتية/السيابية” فى مواجهة تجربة مغامرة مقتحمة تبحث عن التفرد والتميز وضخ دماء جديدة فى شرايين شجرة الشعر(ص 105أيضا).
ولا أظن أن ورثة قصيدة التفعيلة” الصبورية/ البياتية/ السيابية” قوم آخرون سوانا نحن، إذا ماكان لنا ماض حقيقى لا نريد القطيعة معه، وإن ظللنا لا نشاء الوقوع فى براثنه.
ويرادف أحمد زرزور بين قصيدة الحداثة، وقصيدة السبعينات، وهكذا:” القصيدة السبعينية/ قصيدة الحداثة” – ص 105 أيضا – ، ولست أدرى بم أسمىّ إذن قصيدة الحداثة الستينية التى كتبها كل من “أدونيس” ، و”أنسى الحاج ” و” محمد الماغوط”
و” محمد العفيفى مطر ” ……….وآخرون !!!
إن مقدمات من النوع الذى يتبناه ” أحمد زرزور”( حيث قصيدة الحداثة هى انقلاب جمالىّ على قصيدة التفعلية( الصبورية/ البياتية/ السيابية) ومجاوزة حادّة لكتابات الستينات من هذا القرن) أو يتبنّاه أمجد ريان( حيث قصيدة الشعر الحر: الصبورية/ البياتية/ السيابية) ما هى إلا أعلى بلورة ممكنة للقصيدة الرومانسية التى كتبها ناجى وشكرى ومحمود حسن اسماعيل والشابى وأبو ماضى وتلاميذهم)، لا بد أن تفضى بدورها( أى هذه المقدمات) إلى مفهوم” القطيعة” بماهو انفصال كامل عن” التراث الشعرى القريب” وخروج ناتئ على منجزاته، وفى الحقيقة أن مصداقية هذا المفهوم تكاد تبدو معدومة عند التطبيق العملى على نص السبعينات الشعرى، إذ هناك نوعا من جدلية الانفصال/ الاتصال بينهما.
أود الآن أن أحدد إطاراً لمفهوم الحداثة بما هو مغايرة فى النقاط التالية:
1 – هناك عدة” حداثات” فيما يبدو، حيث تمثل بين آيدينا أنماط متعدد للكتابة الجديدة، أبرزها:
- كتابة تحاول أن تجعل من فاعلية النثر فاعلية للشعر بصفة أساسية (القصيدة الشامية والقصيدة المغربية).
- كتابة تحاول أن تجعل من الشعر تجربة” ثقافة” ذهنية بالدرجة الأول ( وبعد أدونيس – فى تقديرى – أول روادها)
ج) كتابة تحاول أن تتمثل شبكة من الإمكانات الجمالية المختلفة التى قامت بإنتاجها مدارس عديدة وتوجهات متنوعة( قديمة وحديثة) وهى كتابة تحقق ثراءها فى تضافر وسائلها (ويعد محمود درويش وسعدى يوسف – فيما أرى – مثالين بارزين عليها ).
2- يعُد” التميُّز” فى كل الأحوال تمايزا، دون أن يعد بالضرورة” ميزة” أو “قيمة” يعتُد بها، فكثير من الكتابات التى تتخذ من الحداثة تكأة” مجّانية” تخلو تماما من مظهرى الجمال والدلالة، ولا تعدو كونها عجزا صارخا عن تشكيل العالم وإعادة إنتاجه عن طريق اللغة،إنها توسّل بـ” المعاظلة” كما يقول الأقدمون بدلا من التخفى فى غلالة ” الغموض الشاف الباطنى”، الذى يميز أنفس الشعر بتعبير شيخنا عبد القاهر الجرجانى، فيجعل للقصيدة مستويين من المعانى، معان أول، ومعان ثوان.
3- كل كتابة” حداثية” لا يمكن أن تكون بمعزل تام عن شرطها التاريخى ، بالرغم من استقلالها الجمالى البادى، فالحداثة مقابلة للـ”قدم” وثنائية القديم/الجديد،أو الجديد/القديم، فى جوهرها ثنائية لا يملك انفلاتا مطلقا من فضاء الـ” إجتماعى” والـ” سياسى” والـ” أخلاقى”.
الحداثة، إذن، فى هذا الإطار الثلاثى ليست بحال تكريسا للفوضى – كما يظن البعض، أو يحب أن يظن – وإنما هى استبدال للنظام بنظام يحتوى على أفضل ما فى القديم، وأضوئه وأشده فاعليّة فى زماننا، إضافة إلى” الجديد” “والمستشرف” و”المغاير”. إن الحداثة بهذا المعنى “فعل جدلى” دائب فى الزمن، وليست طريقة مقطوعة الجذور من طرائق المعرفة والممارسة.
ولا ضرر إذن ما دمنا نعى هذا أن نضرب صفحا عن حركة نقدية عجوز لم تعد بحكم انتهاء دورها التاريخى بقادرة على التواصل مع أنواع جديدة من الرؤى والصياغات، فعلى كل حركة مغايرة أن تلد مبدعيها، وأن تلد نقادها معا، وعلى كل حال، فإن نقادا كبارا من جيل الوسط لا يعدمون سبل التواصل الحقيقى مع الحركة الجديدة، لعل أبرزهم، أو من أبرزهم: عبد المنعم تليمة وصبرى حافظ، واعتدال عثمان، ثم إن رعيلا من النقاد الشباب قد بدأ يأخذ دوره الفاعل فى ساحة الفكر، ويطرح فهما مختلفا للإبداع المغاير وقد يحضرنى من أسمائه اسمان لامعان هما شاكر عبد الحميد ومحمد بدوى، فهل من الضرورى بعد ذلك أن نتعلق بأذيال النقاد” الكبار/ الصغار”، الذين بدأوا حياتهم بنقد التخلف، وهاهم ينهونها بـ”تخلف النقد”، فيكتبون عن انعدام المعنى أو غموضه فى الصورة الشعرية الجديدة. أو يتكلمون فى بلاد البترودولار عن كفر البنيويين وإلحادهم!!!
وأخيرا كم وددت ألا يخلط أحمد زرزور الموضوع الجمالى والموضوع الأخلاقى، فيتحدث عن الغيبة والنميمة فى المقاهى والغرف المغلقة،أو عن الإطاحة بالأغيار الذين هم شركاء التجربة، فمن طبيعة البشر، ومن طبيعة الحركات الأدبية فى تاريخ العالم كله أن تتسم بمثل هذه النقائص والسلبيات مع تفاوت فى الدرجة، وتراوح فى المستوى، وكم وددت أيضا ألا يخلط زرزور مرة أخرى بين” الإعجاب بالأنا” و”مقولة سارتر”:الجحيم هم الآخرون، فسارتر – على النقيض من ظن زرزور – كان يتحدث فى صميم موضوع الحرية بمفهومها الوجودى الاجتماعى، ولم يخطر بباله قط أن يؤخذ كلامه على هذا المحمل النفسى الذاتى الغريب.
ولأن أبا تمام والنفّرى وأبن المعتز ماثلون حلما وفعلا فى روحنا، ولأن رامبو ومالارميه وسان جون بيرس قادرون على الحياة والامتداد بالرغم من موتهم، ولأن الحداثة بيان إبداعى” يتجاوز” التنظير” و”الثرثرة” و”العراك” ولأن الصيرورة بتعبير” دانييل” بيل هى المنطق نفسه للثورة، ولأننا رغم اختلافنا ونقائصنا ونقاط ضعفنا نؤمن جميعا بكل هذا، فلن تتكسر العصى فرادى.