مقتطف وموقف
قال رحمه الله، وجعل الجنة مأواه
المقتطف(1)
’للفيلسوف الألمانى الكبير ‘كانط’ كلمة مأثورة أحب أن أقدمها فى ختام هذه الجولة. قال رحمه الله وجعل الجنة مأواه ‘أمران يستثيران اعجابى :السماء ذات النجوم من فوقي، والقانون الأخلاقى فى قلبي’.
الموقف:
ورد فى هذا المقتطف فى بداية جزء مستقل من الفصل الخامس لكتاب (فلسفة) الجوانية – لمؤلفه الدكتور عثمان أمين – أما الفصل فهو: فى رسالة الأمة العربية، أما الجزء فهو بعنوان استئناف أشواط جديدة، وعنوان فرعى هو ‘الدين هو البعد الجوانى للانسان’.
وحقيقة الأمر أن هذا المقتطف يحتاج منا أن نتخذ موقفا من المصدر الذى اقتطفناه منه، فنشير أولا الى هذه الفلسفة – كما أسماها صاحبها فى تعميم وأضح (انها عندى فلسفة، وخير من هذا: طريقة فى التفلسف ولا أقول أنها مذهب ص 113) وهى اذن تذكرة عنيدة من عالم طيب بأن ثمة بعد للأنسان أعمق من ظاهر منطقه، يحكمه ويوجهه ويهديه وقد كنت دائما أردد أننا لا نعرف فيلسوفا عربيا / مصريا / مسلما .. الخ معاصرا سوى ‘محاولا’ وحدة المعرفة لمحمد كامل حسين (2))، ‘وتقسيمات’ التعادلية لتوفيق الحكيم، ولكن هذا العالم الجليل أستاذ الفلسفة المتخصص قد غامر باعلان فلسفته الجديدة، فاذا بها مجموعة رؤى، ومقالات متفرقة، بعضها بحث لغوى جميل، وبعضها تاريخ محلى جيد، وبعضها لمحات صوفية ذكية، وبعضها مراجعات نقدية طبية – لكنها والعيب قد يكون فى عى فهمي، ليست فلسفة، ولا طريق للتفلسف، بل وصلتنى أنها تذكرة شجاعة، ولمحة تأملية محلية متواضعة.
والشكر واجب لأى محاولة.
وفى كل عمل مخلص جاد فائدة أخرى غير ما قصد اليه، اذا أخلص القاريء الوقوف بين يديه.
وهذا المقتطف الذى أوردناه هنا هو من الفوائد الثانوية التى أرسلت لنا رسالة طيبة من مؤلف طيب.
وموقفنا تجاهه يقول:
مات كانط العظيم،
فترحم عليه أستاذنا الجليل، وطلب له أن يسكنه الله جناته الرحبة.
وكانط مثله مثل العقول الوجدانية المضيئة على مسار البشرية يحتاج أن نقف منه موقف اجلال وشكر، ولا أقل من أن ندعو له بالرحمة. وقد مات فى نظر أغلبنا كمسامين (مثلا) كافرا بديننا، رغم أنه لم تنقصه وسائل معرفة ديننا، الا أنه يستأهل من أى قلب مؤمن ذكى أن يتمنى له الجنة، على الأقل لنلقاه هناك فتصبح الجنة ملتقى رائعا للوجدانات الشريفة التى أفرزها الله بفضله عبر تاريخ البشرية ..، وقد يسعد الوعى النقي، والقلب التقي، أن يوعدا بجنة يلتقيان فيها بسقراط وهيجل، وابن رشد وسبينوزا، والنفرى وبرنارد شو، نلتقى بهم لا لنكمل نقاشا ممنطقا بدأناه فى هذه الدنيا، وانما ليحترم الواحد منا دقيق وعيه بمشاركته نبض حسهم، ولينير جوانب عقله بتقشفهم الكشفي، ووعيهم المجاهد، فليس كثيرا على عالمنا الفيلسوف المؤمن الفاضل أن يدعو لكانط ومن مثله بأن يسكنه الله جناته، لتحلو الجنة بالعقول الحلوة، وأنا لا أحاول أن أستدرج القاريء لمناقشة من الذى سيدخل الجنة ومن الذى سيدخل النار، فالنصوص صريحة فى كل دين، والله وحده هو العادل فوق كل عدل والبصير قبل وبعد كل بعد، لكنى أفتح آفاقى وآفاق عقل القراء معى ألا يحرموا أنفسهم من الدعاء بالرحمة والجنة لكل كافر – بحسب نص دينى – أعطى الحياة ما أعطي، وأجهد بالفكر ما اجهد، وأنار العقل ما أنار، واكتشف الوعى ما كشف – أقول أن ندعو لهم بكرم صادق أن يرحمهم الله وأن يدخلهم الجنة، فمن حقنا أن ندعو بما نشاء، فلم توضع أمامنا شروطا للدعاء، ومن فضل الله أن يقبل ما يشاء، فلم يضع سبحانه حدودا للقبول.
وقد سمعت أحد الشباب يقول أن هؤلاء العظماء قد نالوا جزاءهم فى الدنيا فلم يعد لهم بقية حساب يدخلهم الجنة فى الآخرة (نقلا عن الشيخ الشعراوى جزاه الله عنا خيرا) فان صح النقل، وحتى أن صح الرأي، فان هذا أيضا لا يكفى أن يحرمنا من رغبة صادقة أن نلتقى بهذه العقول فى الجنة باذن الله وفضله، وعلى الانسان العادل مع نفسه والواثق بربه ورحمته ولطفه، أن يراجع هذه المقولة ويعرف ما عاناه هؤلاء فى الدنيا من أول سقراط حتى نيتشه مارين بجاليليو وكوبرنيك، ليتراجع أمام القول بأنهم نالوا جزاءهم فى الدنيا وحتى لو صح هذا .. (راجع الفقرة … الخ).
وأخيرا، فاذا جاز لنا أن ندعو لكل من ألقى السمع وهو شهيد، ومن فتح الوعى فهو بعيد، ومن جاهد الفكر فهو مكافح، ومن صارع الجمود فهو مضيء، ومن حطم الأصنام، فهو كاشف .. لكل هؤلاء جاز لنا أن ندعو لهم بالجنة، فمن باب أولى أن نحذو حذوهم بكل الايمان والجهاد داعين لأنفسنا بالجنة – واثقين – طول الوقت – فى عدل الله ورحمته سبحانه وتعالى عما يصفون.
ثم نأتى بعد ذلك الى محتوى المقتطف، فأشهد لكانط باعجابه بالسماء ذا النجوم وربطه ذلك بالقانون الأخلاقى فى قلبه، وكأنه يعلن أن التوازن والتناغم (الهارموني) فى كل من المستويين هو أصل الوجود وغايته فى آن، لكننى أشعر بخوف حذر بعد القراءة الثانية، فالسماء ذات النجوم ‘هكذا’ تبدو لى ساكنة بشكل ما، فى حين أنى لا أنبض مع النجوم الا اذا عشت حركتها بحدسى الشخصى بالزمن الأعمق، وأشعر بخوف حذر من نوع آخر حين أفكر فى ذلك القانون الأخلاقى فى القلب، فنحن ننبهر به ونخضع له حين نطمئن أن القلب مازال قلبا، أما وقد أصبح القلب رهينة اغارة الاعلام وألاعيب الدعاية الرفاهية، فكيف أضمن الاطمئنان اليه، ومن أين لى أن أعرف ان كان هذا الذى بين ضلوعى هو قلبى الذى خلقه الله فأطمئن لقانونه، أم قلب بديل صنعه التليفزيون والأكاذيب الوالدية، وبألفاظ أخرى: ما العمل اذا تشوه القلب فسكن فيه قانون أخلاقى يبرر الشطارة ويعلى من شأن السعى اللاهث الى الأمان الكاذب، واذا تمادى الخداع حتى حل ‘الجيب’ محل ‘القلب’ دون أن ندرى وحلت الآلة الحاسبة محل الرؤية الحاسمة، اذا حدث كل هذه فهل نظل نحترم قانون القلب الداخلي، وما الضمان؟
ثم أتذكر بعدا حركيا أعمق لهذه العلاقة بين النجم، والنفس، علاقة حركية تهزنى كلما وقفت أمامها هزا عميقا أظن أنه يتجاوز اثارة الاعجاب التى قال بها كانط وذلك عند وقوفى أمام التنزيل الكريم يقول ‘النجم الثاقب، ان كل نفس لما عليها حافظ’ فأشعر بهذا الربط الأعمق بين اندفاعة الاختراق (الثاقب) وبين قانون الحفاظ (حافظ) وأرى التزاوج والتكثيف والحوار بين هذين المستويين بمختلف تسمياتهما: الكون والذات، النجم والنفس، الثقب والحفاظ، فأتمنى أن أحاور كانط فى ‘حركية التناغم’ مقابل ‘سكون الصورة’، فأدعو له بالرحمة، وآمل فى لقاء به فى الجنة نكمل الحوار، ليحكم الله سبحانه بيننا ‘أن الله يحكم ما يريد’ ‘لا معقب لحكمه’ ‘وهو خير الحاكمين’.
[1] – المقتطف من : الجوانية: أصول عقيدة وفلسفة ثورة، للدكتور عثمان أمين (1964) دار القلم ص 253 .
[2] – أشرت فى العدد الماضى إلى محاولة تيسير شيخ الأرض المجهضة، وآراء نظمى لوقا التوفيقية.