سقوط حر
أحمد زغلول الشيطى
(1)
قبل خروجه من كشك التذاكر، اعتزم أن يصعد – عبر الطريق الرئيسى – جبل الحجارة. فتح الحاجز الخشبي. صدمته رائحة الليل، و دخان الحفلة الأخيرة. سار تحت الآبطال والخيول. سلم الايراد وبقية التذاكر.
كان الأسفلت باردا، والنساء واقفات سماء مسدودة، يتابعن السيارات الملاكى لزبائن آخر الليل. كان النيون لم يطفأ بعد، ومزيكا الراقصات تأتى من بعيد، عبر الحدائق والأسوار. فكر أن وقت التراجع قد مضي، وأن عليه الذهاب، ربما كان ممكنا ألا يصعد، قبل أن يراها مذبوحة فى الصالة، ودمها مختلط بقشر اللب والسوداني.
لف الشال حول رقبته، وراح يصعد نحو الجيل، مخلفا وراءه رائحة الكبد المقلى والسجق، والنساء.. النساء خاصة، يرتدين معاطف صوفية مهترئة فى عز الصيف، تحتها لا شئ، سوى صدورهن وأفخادهن المتورمة. يقفن أمام شباك التذاكر.يصطدن تلامذة يوم الخميس بعد صفقات محسوبة بمرور الوقت عرفنه، كن يقلن أكل عيش. وكن يصادفنه فى المترو فيقطعن له، وكان برفض فيحلفن، ويوم علم صاحب السينما بأنه يبعدهن، سألت بسمته على الحاجز، قال: مرة ثانية أكرهك. وأشعل سيجارة، قرب النار من عينه قال: كده لأ يا شاطر.
كأن بحر من النور يتراجع، فيما يصعد نحو جبل الحجارة مثلث الأضلاع، كان وحده يمشى ملفعا بشاله. من فوقه الكشافات الساخنة، وحوله رياح صحراوية وصفير. حاول أن يحدد وسط شلالات الضوء، فى أى مكان تقع حجرته، وأين ترقد أمه الآن فوق السرير، منتظرة أن يدق الباب ويدخل، باردا وليليا. حاملا البرتقال ونصف فرخة، ومن أين.. تأتى النساء، فى معاطفهن المهارئة، وعطورهن الرخيصة، يفتشن عن الأولاد يوم الخميس، بينما يسيل منهن دم الحيض؟
ضرب قبضته فى زجاج الليل، أنفتح لحم يده. لم يستطيع زحزحة الجبل عن كتفيه.
قال فى التحقيق: أعرفها .. قطعت لنصف هذه المدينة تذاكر… لكنى أعرفها. كانت ضفائرها محلولة، وفى عينيها جوع وقسوة.
ومن خلفه كان جبل يصعد. حجريا قديما نحو سماء صلبه، وكان يجرى حول الجبل. فى رأسه جيوش نمل، كانت المدينة ابتعدت. اختنقت فى التور، فى الآف التذاكر، وأفلام الأبطال، وهوى ليلى مراد.
صرخ: أعرفها… أعرفها.
وكان المعلم يصبح: عندنا دراما وأكشن وشكس. هندى وعربي.. وكنت حملت الكتب وقذفتها من النافذة. سألتنى أمي: مش هتذاكر؟
قلت: ماليش نفس.
وكنت أرجع اخر الليل، أجدها صاحية، تحت سقف عال. وحدها تنتظرني. كنت أتساءل ما فائدة أى شئ.. كانت رغم ذلك تضحك.
كنت أعرف فى بطنها مرض، وأنها تقاوم لأجلي.. وكانت سوف تموت ذات ليلة، وأنا أقطع التذاكر، لكل هؤلاء الناس الذين لا أعرفهم ولا يعرفونني، وكنت أشعر كل يوم أننى أغرق فى الدم الفاسد.
ـ 3 ـ
وقف أمام المدخل، صغيرا فى ملابسه، مندهشا وغريبا، عند القاعدة الراسخة، وهبات الريح محملة برائحة البول، آتية من الفجاج، من تاريخ الأجداد…. أنطفأت بسمة على شفتيه… أجداد؟!
شعر بمعدته حمضية. رفض أن يتقيأ. كان عليه أن يصعد، مضى وقت التردد. كان ذلك يطاردني، ويغلق السكك فى وجهي، بعد أن ذبحوها فى مقاعد الحفلة الأخيرة، بنفس التذاكر التى سامتها لهم. كانت صغيرة وجديدة، بشعرها دبابيس ووردة، وكانت صعبة وجريئة، وكنت خلف الحاجز. اراه يلوح بيديه الصخريتين، مشيرا لصور الممثلات خلف الزجاج، وكان يزعق فى وجوه الزبائن، دراما وسكس، هندى وعربى، وكان أطل على بسحنته الصفراء وبسمته اللزجة تسيل، قال لو مش عاجب يابيه ورينا عرض كتافك.
أنكسر على ذراعى زجاج الليل. بقيت شظايا فى اللحم. أعطيتها نصف جنيه، وطلبت منها أن ترجع. حذرتها وهددتها. قذفت كوب الماء فى وجهي، واختفت، وكان محتما أن أطلع فوق جبل الحجارة هذا، الصاعد نحو السماء. بعد أن سمعتها فى ظلام الترسو تصرخ كبقرة، عارية فوق البلاط، وفخذيها غارقين فى الدم، ويدها تعتصر سندوتش الفول وكيس اللب، وكان الأبطال على الشاشة يشربون الويسكى فى حوض السباحة، كنت هناك، أسفل المدينة أجرى فى سكك مغلقة.
ـ 4 ـ
لف الشال حول رأسه. حمل نفسه. رفع قدمه. تشبث بالحجارة. وصل الى مقدمة التدرج. قفز درجات السلم القصير. رأى كتابة ونقوش ومدخل مغلق. قفز قفزات قصيرة مضطربة. انزلقا قدمه. تعلق بأعلى الحجر. طوحت جسمه الرياح. رأى من تحته فراغ، ومن فوقه فراغ، وسماء سوداء، وكان كل شئ يبدأ وينتهى عند يديه، وكان الله عاليا، وكان وحده، داست قدمه فى الهواء.
شعر بوزنه يخف، كأنه ريشة سابحة، تصعد من تلقاء نفسها، وكان لا ينظر خلفه، وراءه كانت العفاريت، وخفافيش الليل، كانت السكاكين والمطاوي، تلتمع فى ظلام الحفلات الأخيرة، وكانت امرأة تموت تحت سقف عال، ورغم ذلك تضحك، وكانوا ذبحوا طفلة فى الترسو.
شعر كأنه من يومه الأول يصعد، صعودا حرا خافتا، فوق.. فوق، وكانت قدمه تلمس الصخور لمسا سريعا، كأنها تمنح القبلات. أنفتح صدره للهواء. جلس فوق القمة، ابتسم، رأى السماء تتفتح ألقى شاله وحذاءه، وقف عريانا خفيفا.
همس: لست خائفا، وكان جسمه ارتاح فاستلقي، وكان نفسه يتردد هادئا بلا صوت.
ـ 5 ـ
حاول أن يضع قدما بين صخرتين، انزلقت يداه المتشبثتان، وكان كل شئ يبدأ وينتهى بيديه. ترك نفسه للفراغ، الفراغ الفسيح…. بلا عوائق ولا أضواء.. بكل جسمه نحو الأرض المنبسطة. أمام مدينة تطفئ أنوارها لتنام.