حالات وأحوال
بين المطرقة والسندان
حالة قديمة ……….. وأحوال جديدة ……..
هو فلاح، أمى، مصرى جدا له اسم عادى جدا (حسن / مثلا)، واسم شهرة – بلا شهرة – (محمود / مثلا) وسنة 45 سنة، الابن الأكبر لوالد توفى منذ عشرين سنة وله أخ واحد أصغر وليس له أخوات
وهو يعيش – بالكاد – فى عزبة صغيرة فى محافظة الفيوم، فى منزل يختلط فيه الناس بالبهائم، ناس المنزل والزوار الطيبون.
وهو متزوج وليس له ولد ولا بنت، متزوج منذ ثلاثين سنة بالتمام.
جاء – بل جئ به – يشكو من :
- “ركبى وجعانى شوية، وتعبانى، أعصابى محلولة شوية، النوم قليل جدا .. وباصحى بدرى.
ثم * أن امبارح كان متهيألى انى أقدر أقف قدام البلد وأفوت فيهم كلهم وحتى البلد اللى جنبهم).
هذا كان كلامه شخصيا، أما أبن عمه (وأخرون) ممن أحضروه للفحص فالعلاج فقد قالوا :
“بدأ التعب من حوالى جمعة بعد ما كتب كتابه على واحدة ثانية، بدأ يتكلم كلام مش مفهوم، وحركته كترت، مش على بعضه، من هنا لهنا، ما بينامش الا تخطيف، يقعد يقول اسم مراته، والجديدة، بصوت عالى وبطريقة مش مفهومة “فهيمة ذكية، فهيمة ذكية …” .. على طول كده (من غير ما يقول دى ايه ودى ايه)، امبارح كان عايز يهج فى الشارع ومنعناه من الخروج بيعيط ساعات بدون سبب ظاهر”.
ملاحظة :
نقف هنا قليلا قبل أن نستطرد لنلفت النظر الى :
1 – ان بداية شكوى المريض – وسط كل هذا الوضوح السببى هى : من ركبه التى هى تؤلمه وأعصابه المحلولة.
2 – ان المصاحب النفسى لذلك هو شعوره بقوة هائلة “هرقلية” تسمح له أن يتغلب على أهل البلد والبلاد المجاورة.
3 – ان الأهل قد لاحظوا مرضه من خلال كلامه غير المفهوم (مع انه مفهوم تماما كما سنرى، وخاصة حينما يتلاحق ذكر اسم الزوجتين) وكذلك هم يشكون من فرط حركته وعدم استقراره ورغبته فى أن “يهج للخارج”.
4 – أنه والأهل : أقروا صعوبة النوم وقلته.
5 – أن هذا الشخص رغم شعوره أنه يستطيع أن “يفوت فى البلد كلها” هو هو الذى يبكى بدون سبب.
ونحب أن ننبه هنا الى بعض ما تعنيه هذه الملاحظات فى مثل هذه الحالات عادة مثل :
- أن هذا النوع من المرضى كثيرا ما يسهل عليهم أن يشكوا من أعراض جسمية كبديل للحالة النفسية.
(ب) أن كثيرا من الشكوى الجسمية تكون دالة على معان شائعة فى بيئة بذاتها، فحكاية اعصابه محاولة قد يكون فيها اشارة ضمنية لبعض القصور الجنسى الطارئ، وتعبير الركب “السايبة” أو “بتوجعنى” يشير أيضا الى خور ما (أن ركبه مش شايلاه) مما له علاقة بالاحساسات المصاحبة للجنس (لحظة القذف خاصة) وكذلك له علاقة بالتعبير البلدى والريفى الشائع عن “الركب السايبة” بمعنى الضعف، والخوف (ركبه بتخبط فى بعضها) بما يمتد الى اهتزاز الفحولة.
(جـ) أن الشعور بالقوة المفرطة هكذا (وهو من أعراض الهوسى بالذات) يسير جنبا الى جنب مع الشعور بالخور (أعصابى محلولة)، مع نوبات بكاء تكاد لا تتفق مع التحدث عن هذه القوة الهائلة والثقة التى تسمح له أن “يفوت فى البلد” وهذا الخلط هو شائع فى الاضطرابات الوجدانية الجسيمة من نوع الهوس والاكتئاب (1)خاصة، وهو أحد مبررات أن نجمع هذين الوجهين فى مرض واحد.
(د) أن اضطرابات النوم بالذات هى من أهم المقاييس التى تعلن الاضطراب النفسى، والأرق بالذات قد يكون ارهاصا لقدوم نوبة جسيمة وقد يكون دالا على نشاط داخلى عنيف، وقد يكون خوفا من فقد الوعى الظاهر لحساب نشاط جنونى متحفز.
هذا، وبمجرد التقاط خيوط جذور هذه الحالة تم الانصات الى معنى ذكر اسم زوجته القديمة وزوجته المقبلة فى تلاحق هكذا، ونحن نعجب أن أهله يلتقطوا معنى هذا المأزق، فاننا يمكننا أن نضع هذا الفرض المبدئى القائل :
“ان هذا الرجل فى صراع بين الوفاء لزوجته الأولى : 30 سنة وبين رغبته فى الانجاب، وأن هذا الصراع هو المسئول عن هذه الأعراض، بهذه الصورة”.
الى هنا، والحكاية قديمة قديمة حتى نكاد نقول أنها لا تستأهل النشر بذاتها فى هذه الحدود.
لكننا حين رحنا نستقصى أبعاد هذا المريض بالذات، وجدنا بها من التفاصيل والخصوصية ما يستأهل العناية والقراءة هكذا :
ولنبدأ بذكر تطور مرضه الحالى تأكيدا للفرض السابق ثم نرجع الى معالمه الخاصة :
“بدأت الحالة من حوالى جمعة (أسبوع)، قبل أن يكتب كتابه على زوجته الثانية”، “قبل ما يروح لكتب الكتاب بدأ يقول ان مراته الأولانية حتخرب بيته، بعد كده بكام يوم حركته كترت، ويهب فينا على أهون سبب، وماينامش، ويقول انه يقدر لوحده على البلد كلها والبلاد اللى حواليها”.
وأهمية تحديد هذه البداية أن التوقيت يتناسب مع الفرض المتقدم، لكن علينا أن نلاحظ أن المسألة “بدأت” قبل كتب الكتاب وليس بعدها، وهذا يعلن الصراع وليس الندم – كأساس لما جرى بعد ذلك، والصراع قد يظهر على السطح فى شكل هذه الحركة القلقة المفرطة، أما الندم فقد يظهر فى البكاء والحزن – ثم يأتى الشعور بالقوة الكاسحة ليتخطى به – تعويضا خياليا – هذه الهزيمة الداخلية والخور أمام هذا الاختيار الصعب.
ثم ننتقل الى معالم الحكاية – كما ذكرنا – لنكتشف الأبعاد التى جعلت هذا الصراع يظهر بهذه الجسامة، وبأشكال غير مألوفة هكذا :
فقد ثبت لنا أن أرضية تاريخ “عم حسن” (هكذا كنا نسميه فى المستشفى) تحمل بعدين متوازيين لابد أنهما أثرا غاية التأثير فى توقيت ومحتوى مرضه هذا : الأول : علاقته بوالده وبمعنى “الخلف” والثانى : علاقته بزوجته وبمعنى “الوفاء”.
أما والده فقد كان فلاحا بسيطا، توفى منذ عشرين سنة (وكان عمره 58 سنة) بعد أن أصيب بضربة مباشرة فى رأسه أثر مشاجرة عادية، لكنه لم يعد بعد هذه الضربة قادرا على الكلام، وقد كان يهتم بعمله وبمظهره الشخصى، ويلجأ الناس اليه وهو لم ينجب لمدة عشرين سنة بعد الزواج، ثم أنجب حسن (مريضنا هذا) ثم أخاه ..، وعلاقات الوالد كلها ودودة، بأولاده، وزوجته (الطيبة النظيفة) – أم حسن -، وكل الناس.
لكن هذا الوالد (الطيب) الذى لم ينجب الا بعد عشرين سنة من الزواج خطف من حياة ابنه بعد حادث ذى دلالة، وكان نوع الموت – وما قبله – ذا دلالة أيضا.
ذلك أن هذا الوالد مات بعد اصابته فى رأسه فى مشاجرة (يبدو أنها كانت عادية) ففقد النطق لمدة ثلاثة أشهر، ثم مات متأثرا باصابته دون أن ينطق ثانية.
فما كان من هذا الابن المسالم الا أن قتل قاتل والده، بلا ثأر متصل، أو تاريخ، أو تقاليد تلزمه بذلك، فالعائلة شديدة التواضع، وحكاية الثأر هذه غير مطروحة فى وعيهم بالصورة المألوفة فى الصعيد، وليس لها تاريخ سابق فى العائلة، ثم ان قصاصه هذا لم يكن له أثر لاحق فى هذا الاتجاه، وموت الوالد نفسه لم يكن مقصودا لذاته وانما جاء بالصدفة.
فما الذى دفع هذا الابن المسالم، لهذا القتل شبه الثأرى؟ ثم ما أثر هذا وذاك فى صراعه هذا، وما لحقه من مرضه هذا؟
نرجح أن تقمص حسن بوالده كان شديدا وعميقا، فهو الابن الأول الذى جاء بعد عشرين سنة من العقم، وبالتالى فلابد أنه لقى من الترحيب والمكانة ما جعل والده يصيغه متوحدا به بكل وسيلة (وهو نفس الموقف الذى أعلنه هذا الابن – حسن – حين سئل عن علاقته بالخلف .. انظر بعد) ورغم أن الابن (حسن) كان قد بلغ الخامسة والعشرين عند وقوع الحادث، الا أن موت والده بدا له خطفا غير متوقع، وبفعل فاعل، ثم ان اللغة الصامتة المحتملة والتى دارت بين أب أبكم – بفعل الاصابة – وحتى الوفاة، وبين ابن مجروح محتاج (رغم سنه) لابد أنها حوت ما تصاعد بالموقف النفسى حتى دفع هذا الانسان المسالم الى القتل، ونتصور أن الموت – بهذه الصورة – ثم الثأر، قد زاد من تقمص الابن للأب حتى أصبح هو هو.
فاذا اضفنا الى ذلك أنه – بدوره – لم ينجب، فهو يكرر دور أبيه تماما، وحين أمضى عقوبة القتل لمدة عشر سنوات، أكمل – تقريبا – العشرين سنة التى أكملها أبوه قبل أن ينجبه، وكأن النص script الزمنى قد ضبط التوقيت وهيأ قرار الانجاب فور خروجه لكنه خرج ثم راح ينتظر العام تلو الآخر حتى مرت عشر سنوات أخرى، وهو لم ينجب، فكسر النص، وكان لزاما عليه أن يقرر قرارا يعفيه من الانتظار الى ما لانهاية، وخاصة وان زوجته قد قاربت ان لم تكن قد بلغت (مما لم نستطع تحديده نهائيا) سن انقطاع المطث (2)فاتخذ قراره بالزواج.
وحين قرر غير ما كان لوالده اختلت تركيبته التقمصية بالوالد وبدأ الخلل، بهذه الصورة الجسيمة ذات الدلالة الأعمق.
ولكن قبل أن نقول كيف اهتزت هذه التركيبة، دعونا نخطو أقرب الى رؤية عميقة لطبيعة هذه العلاقة الزوجية بما فيها من علامات مميزة لهذا الزواج فى ريفنا هذا فى وقته هذا :
“القديمة مش مزعلانى فى حاجة، أبويا اللى جوزنى، وجه واحد عمل له الضربة اللى فى دماغه، بعد ما اتجوزت بــ 7 سنين، أبويا اللى خطبها لى وهو عايش”.
لاحظ هنا تأكيده على دور الأب فى الزواج، ومن قبل فى الخطبة، وكأن الوالد هو الذى تزوج، ثم لاحظ كيف أنه اتى بالجملة الاعتراضية بين الزواج – والخطبة (بغير مناسبة اطلاقا حيث ما هو دخل اصابة الوالد بقرارى الخطبة والزواج؟) مما يرجح لنا أن التقمص الذى أشرنا اليه هو شديد القوة، بمعنى احتمال أن والده هو الذى تزوج – فهو لم يكمل مشوار زواجه بنفسه، فأكمله هو (بعد أن أكد استمراره فيه بقتل قاتله).
ومع ذلك فالكلام اللاحق يشير الى أن هذا التأكيد ليس هو كل الحقيقة، بل لعله عكسها، فأبوه كان – فى واقع الأمر – معارضا لزواجه، هو – لا أبوه، (وعكس الشائع فى هذه البيئة) – هو الذى رآها وأحبها وخطبها بالرغم من عدم رضا والده!! يقول :
“… شفتها قبل ما أخطبها، هيه قاعدة معايا فى العزبة، حلوة، وكانت عاجبانى، كنت رايدها هى بالذات قلت لعمى وهو قال لابويا – قلت عليها، خطبتها ست شهور- المرحوم ابويا مارضيش يروح ولا مرة غير ساعة دفع الفلوس – أنا كنت بأغفل كده وأروح مرة كدة كل شهر أو كل شهرين”.
ونبدأ من هنا ملاحظة تداخل العلاقة بين البعدين السالفة الذكر / والده X زواجه – ثم نلاحظ بمنظار مكبر كيف تبدو لغة المادة فى مثل هذه الظروف الشديدة الاملاق كرمز دال على، واشارة مؤكدة الى، “العواطف الغرامية / الزواجية” (3) فبداية نرى أنه هو الذى أحبها، وهو الذى ضغط على والده للزواج منها، وهو الذى قام بالواجب – بقدر الجهد ازاءها، كل ذلك وهو شديد الفقر، فكان يهادى، وينقط، بعافيته وعرقه :
“ماكنتش باروح عشان جيبى فاضى، كنت اروح أشتغل معاهم بعرق جبينى – لا حساب ولا عقاب …”.
ويبدو أن علاقة والده بزوجته كانت لها وضع خاص بالنسبة له.
“أبويا عاش كتير وقليل ماشتمهاش غير مرة واحدة، قالها يا بنت المحروقة (4)
ثم يحدث التهديد بالانفصال المؤقت الذى يريد من استعداد الابن للتقمص بوالده بعد وفاته.
“قالت له الله يسامحك ..، وطفح عليها العياط، طبعا لما طفح عليها العياط أنا زعلت ما بينى وبين ربنا، قلت لها فى نظير ما أبويا شتمك وقال ليكى كده، انشاء الله أنا وانتى على الزمن، سابت البيت ومشيت، وأنا رحت جبتها تانى”.
وتستمر الحياة على هذا المنوال، لا الوالد قبل تماما، ولا الابن استقل تماما ولا الزوجة آمنة تماما – ثم فجأة يقتل الوالد بالصدفة وفى مشاجرة عابرة، فيقتص له الابن، ويحدث عمق التقمص على مرحلتين : بعد الاصابة فالبكم ثلاثة أشهر، فالموت، ثم بعد القتل قصاصا وكان الذى قتل القاتل هو الوالد يكمل المشاجرة لينتصر فى صورة ابنه، ويتجمد الموقف تجمدا دالا بدخول الابن السجن.
“انسجنت 104 شهر(5)
… قعدت فى سجن البلد ورحت سجن الاستئناف بتاع مصر، ورحت السجن بتاع منشية القناطر ورحت طره، وبعد طره رحت سجن القطره تبع محطة امبابه… (6)
كل عشرة خمستاشر يوم يجينى جواب ان “فهيمة” كويسة وبتسلم عليك لغاية ما كتبت جواب ما بينى وبين ربنا أنا عاوزها تجينى – جتنى هى وأخوها وابن خالتها “…” كان لابس عسكرى .. بس ساعة حسيت ان هم جم فى ضميرى برضه زعلت – كنت عايز، كان نفسى أشوف حد من أهلى – ضميرى – بس برضه على ده كله فرحان، وقلبى انفتح عشان جت تزورنى”.
فنلاحظ وصفا من أرق ما يمكن لعواطف سجين متألم وحيد، يريد رؤية زوجته / حبيبته، ويخشى أن يصرح بذلك فكتب “جوابا” ما بينه وبين ربه، (ولا نعرف ان كان معنى ذلك انه دعا ربه فأجابه، أم أنه أملى رغبته على سين يكتب، وكان الله شاهدا على صدقه وخجله، ونرجح الاحتمال الأخير) – ثم تأتيه زوجته حسب طلبه فيحزن صامتا (فى ضميرى برضه زعلت) – وعمق حزن اللقاء بديلا عن طفرة الفرحة هو أثر تعبيرا عن الحاجة الصادقة، وعن دقة العلاقة، وهو أشبه باحتجاج الطفل الرضيع قبل سن الستة أشهر على عودة أمه بعد هجرها له دون اذن مما يسمى Analytic depression وكأن زوجته (الام هنا) هى التى هجرته، وليس السجن هو الذى حال بينهما، ثم بمنتهى الدقة والرقة يختلط حزن العتاب الصامت، بفرحة اللقاء المطمئن (قلبى انفتح عشان جت تزورنى).
“زارتنى فى السجن تلات مرات (7) وما تعرفش أكثر من ان واحد من أهلى يروح يجيبها ويقول لها حنروح لحسن، وهو شهيد… أهلى اللى كانوا بيروحوا يجيبوها لكن هى ما كانتشى عاوزه …”
ولا ندرى لماذا كانت تعزف عن الزيارة، هل كانت تتجنب المها والمه، هل كانت تحتج ضمنا على أنه هو الذى ضحى بنفسه دون أخيه (8) قصاصا لأبيهما؟ هل كانت تخجل من الزيارة؟ هل كانت تتسلح بالصبر وتتجمل بالحياء حتى تنقضى الأيام … كل ذلك وارد حتما – وحسن لم يستقبل عزوفها هذا بأى حساسية سلبية أو تفاعل محتج، بل ظل يعترف لها بفضل صبرها وحفاظها على نفسها انتظارا له :
“هيه استحملتنى وأنا فى السجن، مفيش حد قال عليها حاجة”.
الخروج الى امتحان الآمال :
ثم يخرج حسن من السجن بعد أن تجمد – متقمصا أبيه – لعشر سنوات، وقد مضغ الحرمان، وازداد دينا لزوجته الوفية (مع تباعد زياراتها الثلاث مما قد يثبت العلاقة أكثر، ويعقدها أكثر، فى نفس الوقت حيث يلعب الخيال فى غياب المحبوب بحرية أصعب!!) – يخرج حسن ليحقق الآمال التى احتواها وأنضجها يوما بيوم، من سجن لسجن بين يقظة وحلم، لكن ما كان ينتظره كان شيئا آخر.
“… لما عرفت انى خلاص حاطلع بقت خايفه”.
لماذا تخاف؟ أحسب ان هذه المشاعر هى أصدق من مشاعر الفرحة الساذجة، والخوف بعد هذه الفرقة هو أقرب الى ما هو انسانى، اذ من يدرى ماذا حدث بعد عشر سنوات لم يريا بعضهما فيها الا ثلاث مرات، ومن يدرى ان كان هذا الخروج هو استمرار لقديم؟ أم بداية جديدة؟ أم امتحان لحلم؟ أم تعويض لصبر؟ ام عتاب خفى .. كل ذلك جائز، وقد رصد هذا الفلاح العظيم لدقائق عمق هذه المشاعر الأعمق، وهذا الوصف هو من اهم ما يمكن أن نتعلم منه ضرورة تجنب تسطح مشاعرنا حتى نلصق اللقاء بالفرحة، والهجر بالحزن الى آخر هذه المعادلات المبسطة المضحكة التى تطل علينا بين الحين والحين من أعمال تدعى الابداع أو الدرامية.
ثم يخرج حسن، فاذا به كأنه يتزوج من جديد – اذ تترى الطلبات والمطالبات باعتبار أنه يواجه ضرورة اثبات اختياره لها :
“… قالوا عايزين ننجد لها الفرش، طبعا، أنا راجل فقير خدت من ده 10 ج ومن ده 5 ج لغاية ما جمعت 45 ج،
ولا د عمى قالوا : نجيبهالك.
قلت لهم لا ، أروح لها واجيبها أنا وأنصفها، وبعد ما اديت لها 45 ج كتبت لها ربع فحلة العجلة وربنا وضع فيها البركة – بقت تولد، بقيت أصرف عليها قد ما صرف، وأقولها حقك أهو، ماكلتش منه تعريفه واحد، ما بينى وبين ربنا أحكم الحاكمين”.
وابتدأت الحياة من جديد بمهر جديد، وعقد (ضمن) جديد وأمل جديد.
لكن الأيام تمضى، والأمل لا يتحقق.
وتمر – حوالى – العشرين سنة زواج فعلى (مثل العشرين التى مرت على والده قبل أن ينجبه).
الا أن الأمل لا يتحقق –
فتبدأ هى فى التغير
أو يبدأ هو فى رؤيتها متغيرة، ربما تبريرا لا شعوريا للخطوة التالية، وهو يعيد النظر فى موقفها بشكل أو بآخر.
“كان الحال كويس وعاجبها، بس برضه ما كانتش مديانى، ضميرها .. أصل دى شهادة حتسبقنى على قبرى – مافيش حاجة حتنفعنى … ولا مال ولا بنون”.
ورغم أن الجملة الأخيرة قد جاءت لتأكيد صدق حديثه (ماكنتش مديانى ضميرها) الا أننا نلاحظ كأنه ينعى حاله ( لا مال ولا بنون) أكثر منه يؤكد أهمية الآخرة عن الدنيا ليقينه بملاقاة ربه صادقا.
وهو يحدد بداية هذا التغيير، أو رؤيته لهذا التغيير بثلاث سنوات
“… ضميرى متحول من يمتها من 3 سنين”
“… مابتطلعنيش على الصراحة”
“ضميرها متحول، مابتدنيش ضميرها زى الأول، مش صافية زى الاول”.
لكنه لا يستطيع أن ينكر الأساس الباقى رغم كل مزاعمه هذه :
يبدأ فى ملاحظة الخلافات، حتى يبرر – أيضا – ما انتواه بعد مضى المهلة فيعلق على العلاقات الأسرية الداخلية، قائلا :
“… كان فيه خلافات ما بين أمى ومراتى، … طبعا النسوان من بعض، مرأتى ومرات أخويا حصل خلاف”.
وبديهى أن منزلا بهذا التكوين فى هذه البيئة لابد وأن ينبض بهذه الخلافات، لكن استقباله لها (للخلافات) ظل يتضخم، حتى فاض به، أو قل، سمح له أن يغمره :
“جيت فى يوم، وصعب على نفسى، ودورت وشى مبحر ومقبل، وقلت يارب، وأنت رب أشكى لمين، صدرى ضاق، وطفح على العياط”.
وأعتبر أن هذه هى البدايات الاولى المتسحبة لحالته التى أعلنها المرض بعد ذلك، ويرتبط بضيقه هذا، وحزنه، وبكائه، يرتبط بكل ذلك شعور بالوحدة وأن أحد لا يعنيه فعلا :
“ان عزت ولا مؤاخذه أترب (9) الدار، تفضل وحله لغاية ما اتربها (10)، وان عزت أى طلب ان ما كنتش أنا اللى أتقدم وأجيبه مافيش حاجة سايره – كتم معايا – سامت أمرى لله – قلت الحمد الله – الحمد الله – أطلع له بسلم؟..”
وهذه بداية أخرى تفسير كيف تجتمع “الوحدة” مع الشعور بعدم التقدير والافتقار للمشاركة، وبالتالى القيام بالعمل – كل العمل – منفردا، بما يمتد تعميمه الى لوم زوجته، وأخيه على حد سواء، ثم انظر تعبيره “كتم معايا” – فما هو الذى كتم معه؟ هو كل هذا، وتعبير كتم معايا هو أدق من تعبير “كتمته” لأن المادة المنفعلة المؤلمة هى التى تكتم وكأن لها طاقاها الذاتية دون فعل من جانبه، أو حتى من جانب لاشعوره، وهذا من أروع ما سمعت من تعبيرات لعملية الكبت الجارية على جانب الشعور (وليس : اللاشعور)، ثم لاحظ التعبير “أطلع له بسلم” لما يعلن الوحدة حتى فى الالتجاء الى الله … وكم هو – هذا التعبير – تأكيد للوحدة أكثر منه أمثل فى رحمته، ويأتى هذا التعبير بعد الحمد، وكأنه تنبيه الى نوع الحمد المتألم.
ورغم صدق كل هذا، فان ظهور هذه المشاعر فى هذا الوقت – منذ حوالى 3 سنوات قبل المرض، وبعد انتهاء فترة انتظار الخلف بلا جدوى – أقول ان ظهور هذه المشاعر “هكذا” كانت : مرة أخرى : تبريرا للخطوة التالية.
فيقدم عليها وحده، وبمغامرة أكيدة، متذكرا حق زوجته الحالية طول الوقت.
“كانت قامت ولا مؤاخذة عندى حريقة، وحرقت السرير اللى أنا اتجوزت به، لسه عندى الطبلية(11) بتاعته موجودة لغاية النهارده – بالعربى كده رحت قلتلها أنا عاوز اتجوز قالت لى، على الطلاق بالتلاته زى الرجالة ما أنت جايبها، أنا عارفه هم عايزين قرشين، عفشايه زى دى (وعملتلى كدة) ما هاتتباع، قلت لها أهه زى بعضه، جيت مدور من الناحية الثانية وعطيتها قرشين، جيت طلعت من بيتى وبصيت لقيت دماغى انقلبت رحمتك يا رب”.
ومن هنا نبدأ فى التعرف على الوجه الآخر لهذه الزوجة الطيبة المسالمة (حتى حينذاك) – كذلك نلاحظ ترجمة لغة الاحتياج، والاحتجاج، والعواطف الى مقابلات مادية عيانية.
- فقد ربط حسن ربطا مباشرا ومتلاحقا (12) (بلا رابط منطقى) بين قيام الحريقة التى حرقت السرير الذى تزوج به، وبين اعلان رغبته فى الزواج (ققد كان هذا نص كلامه(13)، ونص ترتيب الفاظه) فهل كان يعلن حرق سرير الزواج الأول كرمز الى انهيار هذا الزواج الأول بما يسمح له بالخطوة التالية؟
(ب)الدور الجديد فى وضوح، دور الرجل (أو الأب) قسما وتهديدا ووعيدا.
(جـ) ثم هى تفسر الزواج تفسيرا ماديا (أنا عارفه هم عايزين قرشين) وتربط ذلك ببيع عفشها (الذى لم يعد له وجود فعلا بعد الحريق السالف الذكر).
(د) ثم ها هو يرضيها بقرشين طلبا لهدنة مؤقتة.
(هـ) لكن هيهات، فقد تقدمنا فى المرض خطوة جديدة :
(3) “دماغى اتقلبت”
(الخطوتين السابقتين هما : (1) أشكى لمين، صدرى ضاق وطفح على العياط
ثم (2) … مفيش حاجة سايرة – كتم معايا).
لكنه يواصل اتصالاته، وتبدأ المفاوضات، والشروط، ومحاولات الارضاء، والتراضى … الخ.
“رحت للحاج (أحمد / مثلا) وقلت له طبعا انت ابن عمى وفى مقام أبويا، انت والحاج “محمد” وعايزك تساعدنى .. قالى بس عن شرط روح هات أخوها : (ويكاد يتم الاتفاق بالشروط المحددة التالية 🙂
- … والحاجة اللى هاتعجبها هاتخدها.
- … بس مراتنا مش هانسيبها
(جـ) .. ماكلش الا من تحت ايدها.
(د) .. قلت على الطلاق بالتلاته لاجيب سرير خشب ليكى، وهى (الزوجة الجديدة) تنام على اللى يجيبوه.
(هـ) .. لو ماخلفتش (الجديدة) هاشحتها (بتشديد) الحاء وفتحها – كما يتبرع الشخص بملابسه القديمة) وأتجوز غيرها، ها أطلقها ومش ها طلق القديمة.
(و) .. أنا وهى (القديمة) على الزمن، وأنا وهى ناكل الحلوه والوحشة مع بعض.
(ز) … مايلزمنيش من الجديدة الا الخلف.
وبعد اعلان نصوص المعاهدة بهذه الصورة، كان عليه أن يعطى الضمانات المادية مسبقا.
“… رحت نصفتها برضه، رحت بعت بقرة، لا مؤاخذة وعجل برضه ورحت عاطيها حقها خاصة..
وجه الحاج “أحمد” شارى لها كنبه وسرير خشب زان بطبلية”
“اديتها خمستاشر جنيه وقلت لها هاتى لنا قياس، وقلت لها الأودة اللى تخشى فيها تختارى لك أوضه أحسن أوضه خديها”.
وفى مقابل ذلك فقد راح “يكتب” (يعقد قرانه) على الأخرى بفلوس القطن.
“الفلوس بتاعة القطن ماشفتهاش الانهار ما كتبت بالضبط”.
وحين وقع الفاس فى الراس، وبعد هذا العدل، وافقت الزوجة القديمة لكن يبدو أنه – من داخله – لم يطمئن الى موافقتها، إذ راح يعد أكثر فأكثر، ويستعطف أكثر فاكثر، ويقسم أكثر فأكثر :
“.. على الطلاق بالتلاته (14)مافيش قرش هايخش خالص الا وأكون ناصفك لتالت مرة.
“… قلتلها يا فهيمة أنا ناصفك 3 مرات، تالت مرة دى، يا وليه أنا وقعت من الأرض(15) وانتى استلقتينى لله تعالى – أنا يا فهيمه قبضت فيك مهر أول مرة، ومرة بعد ما طلعت من السجن – ومرة السنة دى – النهارده أهه”
وهكذا نرى مدى تعلقه بزوجته القديمة، بكل سبيل، بحيث أنها حتى بعد موافقتها – لم يطمئن الى هذه الموافقة، وفى نفس الوقت كان يبدو كأنه يؤكد كل هذه التأكيدات لنفسه وليس لها، وقد استغرقت محاولات اتخاذه القرار بالزواج الجديد طوال ثلاث سنوات – وكلما طالت المدة ثبتت فى داخله خطورة الخطورة من ناحية، والشعور بالذنب من ناحية أخرى، وقد كان حرصه طوال هذه المدة على أن يتزوج برضاها، بل وبمباداة من ناحيتها،
“… بقالى 3 سنين نفسى أتجوز، نفسى انها تيجى منها ..، استنظر أنها كانت تقولى اجوزك …، (لكن) أول ما تعرف واحد هايشرع فى موضوع الجواز كده ولا كده، تحط حيطة حمراء ما بينى وبينه، أفوت من جنبه زى العمى على عنيه ..”
وهكذا تبدو قوة الزوجة القديمة، وتأثيرها عليه لدرجة أنه ينسى حتى “لا يرى” صديقه أو قريبه الذى يجرؤ أن “يمشى له” فى هذا الموضوع، لا يراه أصلا … “زى العمى على عينه” لكنه – فى خبطة اندفاع – عملها، بعد اذنها الظاهرى (الذى لم يصدقه فى أعماقه).
“… قالت لاخوها يجوز، وهو برضه ربنا يخليه راجلى ..”
نعم وافقت، ولكن بعد أن كان قد استهلك – من داخل – طوال سنوات ثلاث :
“.. وافقت بعد ماسقته لى من تحت كيعانى أزرق – زريق، كرهت أهلى
“.. وافقت بعدما خربت الدنيا
“… وافقت بعد ما أمر الله نفذ”
وهو اذ يدرك – بكل هذا العمق – طبيعة هذه الموافقة الاضطرارية، أخذ يشعر بعدم الأمان لها، عدم أن تنقض عليه بقبضتها القوية، أو أن تهجره بضربة احتجاج :
“………. ماكنتش مآمن لها
“…. أبقى متهيأ لى لو رحت الغيط انها حتطير فى طيارة، ومش عايز اسيبها من قدام عينى خالص”.
ثم يعود يلومها فى مرارة عاتبة:
“مابتقدرش البلا قبل وقوعه، هيه بتاعة وقتها وبس، نسيت زعلى عشان الخلفه. وسابتنى محتاس – سيدنا أيوب أتمحن (يقصد امتحن أى اختبره البلاء) 7 سنين، وأنا امتحنت كذا سنة”
وكان حين يعبر عن حاجته للولد يعلن المعنى التطورى والوجودى والنفسى لوظيفة “الولد” بشكل شديد الدلالة، ويبدو أنه بعد قصاصه لوالده وتقمصه اياه، كان أحوج ما يكون لولد يعنى استمراره، وفى نفس الوقت يعنى حمايته، ولم يختلف تعبيره فى هذا الأمر عن التعبيرات الشائعة، الا أنه حمل عمقا وشحنة أشعرتنى بتضاعف هذه الحاجة للولد بمسألة علاقته بأبيه، بما تشمل : عقم أبيه لعشرين عاما، ثم انجابه هو، ليقتص له (لأبيه) فمن الذى يمكن أن يقتص له بدوره اذا ما اعتدى احد عليه وهو دون ولد، والاعتداء عنده قد أصبح يعنى القتل – العدم؟؟
“الخلفة بقت عقده –
أنا أقعد كده مش مستريح، عايز اتجوز، عاوز تذكارات عيال
“.. والواحد معهوش تذكار
“.. حاسس انى وحدانى
“.. اللى مش من حزامى مايجريش قدامى – هو ابن اخويا مثلا هاينفعنى؟… لأن فى الغلاوة غالى بس مش هايجرى ويدينى.
“.. من ضهرك ومن صلبك هو اللى هايديك انما ايش الفايدة، ولد غيرك هايديك منين؟”
“أنا قلبى مشفشف بس ربنا يراضينى بعيل، اثنين، اللى يديهولى ربنا
“… حاسس انى أقل من الناس عشان ماعنديش عيال، وحاطط بوزى فى الأرض، وباكل طين
“.. ويبقى عندى عيال، قدام العدو والصاحب
“… اللى من دورى معاهم رجاله وجوزوهم وخلفوا”.
وحين يصل الصراع الى هذه المنطقة العميقة الغور – الحياتية – الكيانية، لا يعود صراعا بين زوجة وزوجة، أو بين وفاء ولذة، وانما هو صراع بين وجود ووجود، وجود آنى يتمثل فى الحاجة الى ما تعنيه هذه الزوجة بالذات (القديمة) ووجود مستقبلى يتعلق بما يعد به الامتداد فى آخر بما هو.
ثم يتضاعف هذا الصراع حين ينكسر تقمصه بوالده، اذ يفاجأ أنه غير قادر عن أن يكرر والده فى هذه المسألة، رغم أنه دفع ثمنا غاليا لتقمصه أياه فى غير ذلك من مسائل (القصاص فالسجن).
لذلك فأن الكسرة جاءت ذهانية، (اضطراب وجدانى جسيم) Major Affective Disorder حيث اختلط الاكتئاب المجسدن Somatized depression بالهوس التعويضى (بالشعور بالقوة الخارقة، والنشاط الزائد).
لكن الصورة المرضية وشكوى الأهل لم تربط بين الأعراض وبين أسبابها كما بينا، ولم نجد شعور بالذنب بصريح العبارة تجاه “عقد القران” الذى تواكب مع ظهور الأعراض وحين رحنا نستكشف باستبار محدد مسألة الشعور بالذنب (16)
أجاب عن سؤال يقول :
- حاسس – كده – كانك عامل عاملة / زى ايه؟ / يمكن ايه؟
“على حكاية الجواز، ولكن غير كده والله ما اعرف عنها حاجة، والله ما أعرف، دى حاجة، والله ما أعرف، دى حاجة ربنا، مش عارف، أنا ضميرى سالك مع ربنا، ضميرى مافيه أى حاجة.
وبسؤاله سؤالا مباشرا عن الذنب
- بتشعر بذنب معين، يكون زيادة حبتين، يعنى غلطة كبيرة، أو أذية حد لدرجة بتشغلك وتفكر فيها كتير؟
أجاب :
قلبى بيقوللى فيه غلط، انما ضميرى أبيض.
وحين سئل تعقيبا على هذه الاجابة
- تفتكر ايه اللى يكفر عنها؟
- أجاب :
الرضا مع بعض، مع مراتى ومعاها (17)
ثم عن سؤال فرعى لاحق :
والناس عارفه كده ولا انت بينك وبين نفسك؟
أجاب :
- بينى وبين ربنا.
فنلاحظ من هذه الاجابات أن المسألة ليست – ببساطة – مسألة شعور بالذنب نحو زوجته (الوفية) بقدر ما هى مواجهة كيانية شديدة العمق أثارت حاجتين فى مواجهة لم تجد لها حلا الا بهذا التمزق الذهانى الشديد.
وهو يستعمل كلمة ضمير بمعنى “الداخل الخفى”(18) (راجع قوله عن زوجته :
“ماكانتش مديانى ضميرها”، أو تعبيره عن علاقته بها “ضميرى متحول من يمتها” (ص : 20) وأيضا عند زيارة السجن “… وفى ضميرى برضه زعلت”
وهو يلح على تصالح حقيقى، وليس موافقة اضطراريه كسبب جوهرى للخروج من هذا المأزق.
ثم أن هذا الصراع (الوجودى هكذا) كان دائما أمرا ذاتيا أكثر منه شكوى مذاعة للآخرين.
المواجهة العلاجية :
وبعد أن وجدنا أنفسنا أمام كل هذا الوضوح فى العلاقة بين السبب الظاهر والباطن، وبين النتيجة المرضية، رحنا نتقدم على عدة محاور علاجية فى نفس الوقت :
- فقد كان لزاما أن نساعد “عم حسن” أن يستعيد قواه البيولوجية الطبيعية من خلال نوم جيد، وتهدئة منتقاه بالمنظمات الكيميائية (19) المناسبة، واعادة التناغم الفيزيائى التناوبى بالمنظمات الفيزيائية (20)
- وأن يشعر – فى نفس الوقت تماما – بقبول مزدوج آنى لكلا من جانبيه، حاجته الوجودية لزوجته القديمة الأم / الأب / (العشرة) وحاجته الوجودية الاصيلة لزوجة جديدة (الابن / الدعم / الامتداد / الخلود (تذكار).
(وقد حاولنا فى كل “الوسط العلاجى” (21)أن نقوم بهذا الدور بشكل أو بآخر، فلم يكن يكفى أن يقوم به معالج واحد، أو أن يغنى عن القبول الحياتى بالصحبة الفاعلة، أى اقناع منطقى، بل كان ينبغى أن نمارس الاحترام المشارك لشقى الصراع معا، نمارس ذلك بأمانة داخلية، ومعظم الوقت.
(جـ) وأن نسمح له ببعض النكوص الراقص والطفلية الأليفة فى حضن الوسط، وفى نفس الوقت نقتحم عليه تردده بالزامه باتخاذ قرار فورى قابل للتنفيذ حالا وتحت كل الظروف بمنتهى المسئولية الناضجة المستقلة “اما أن يطلق الزوجة الجديدة الآن ونهائيا، وأما أن يتزوج فور خروجه حالا ودون التفكير فى أى عواقب بالنسبة لزوجته القديمة مهما كانت مخاوفه”.
(د) وقد بدأ حسن باتخاذ قرار حاسم رفض به الزواج الجديد بعض الوقت، فشجعناه على ذلك بحماس وصدق حتى تمثلت أمامه الحقيقة كاملة بلا نقصان، وفجأة انطلق مندفعا متحديا يعلن قراره باتمام الزواج الجديد تحت كل الظروف وضد كل العقبات.
وهنا اختفت أعراضه تماما (بمساعدة العقاقير والمنظمات الفيزيائية).
(هـ) انتظرنا عودة اهتزاز البندول الى الجانب الآخر – مرة أخرى – فلم يحدث، ولم يتردد فى قراره الأخير، حتى بعد زيارة أهله له، بما فيهم زوجته القديمة (وقد تبينا فيها فلاحة عجوز – كما تبدو – طيبة قوية مستسلمة متألمة متحفزة فى صمت).
(و) خرج من المستشفى شاكرا، فرحا، هادئا، مقررا، أن يدخل بزوجته الجديدة فى نفس يوم خروجه أو بعد ذلك بيوم واحد (وقد تأكدنا – ضمنا – من الموافقة الشعورية لزوجته القديمة على قرار زواجه الجديد).
خرج، ونحن واثقون من كفاءة دورنا، غير واثقين من الخطوة التالية، أو من المضاعفات المنتظرة.
اذن فقد خرج وأيدينا على قلوبنا، نشارك الزوجة ألمها، ونشاركه أمله وشرف حاجته ولا نعرف ماذا ينتظره وينتظرنا.
(ثم عاد بعد ثلاثة أسابيع للاستشارة )
دخل العيادة الخارجية مرحا، مرتديا ملابس جديدة أو نظيفة، ثابت النظرات، واضح التعبير، ففرحت به فرحا مناسبا.
هم بشد يدى يقبلها فشددتها منه وتحاضنا فى تعاطف متوسط.
قال لى – واقاربه فى نفس اللحظة – أنه ألف مبروك، فقد نفذ التعليمات بالحرف وربنا أكرمه آخر كرم، اذن فقد تزوج الجديدة بالفعل.
فرحت فرحة أخرى، لكننى كنت أنتظر ما لا أعرف.
قالوا “لكنه لم يفعلها، دخل ولم يدخل” فما هو الرأى؟؟
وهنا امسكتنى قبضة غائرة، فقد قدرت أن الصراع قد انتقل من مستوى الأعراض الوجدانية المختلطة الى لغة العجز الجنسى المزدوج، فهو لم ينجح لا مع الجديدة (22)، ولا مع القديمة، لا قليلا، ولا كثيرا، وسلاماته التى يرسلها لزملائى الأصغر بالمستشفى، كانت كلها لا تتناسب مع ما ننتظره فى مثل هذه الظروف، وهو أن يعانى من خجل نتيجة هذا العجز الجنسى المزدوج مع الزوجتين – وكأنه، وبطريقة سحرية (مرضية) قد وجد التسوية التى تعفيه من التردد، ومن الاضطراب الذهانى، ومن الصراع الوجودى، ومن الشعور بالذنب، ذلك أنه بهذا :
- قد تزوج فلم يقصر فى حق نفسه من رغبة فى الانجاب ولم يتراجع عن قراره الذى يلغى به شعوره بالنقص عن أقرانه.
وفى نفس الوقت فهو لم يفرط فى زوجته القديمة أصلا.
- لكنه لم يتزوج أصلا (فى واقع الأمر)، لأنه زواج مع وقف التنفيذ الفعلى، بل وقد امتد وقف التنفيذ بأثر رجعى الى زوجته الأولى، فأراح واستراح (اذن، فهو تزوج، ولم يتزوج، فأرضى جميع من بالداخل!!!)
وقد انتهينا من كتابة هذه الحلقة ونحن لا نعرف ما هى الخطوة التالية، وقد قللنا من العقاقير التى كان يتعاطاها لدرجة أنها ستتوقف فى خلال أسبوعين، ورضى، ورضينا بالانتظار :
ثم رحنا، ونحن ننتظر، رحنا نتوقع عدة احتمالات أهمها :
1 – أن يتبين من واقع الممارسة الواقعية – أن الصراع لم يكن فى خارجه بل هو فى داخله، وبالتالى تخفف ممارسة مواجهة الواقع الفعلى من حدة التناقض، فينجح أن يتخطى، بمبادرة شخصية، هذه الاعاقة الجديدة.
2 – أن يتعمق رضا الزوجة القديمة، اذ تطمئن الى أن الجديدة لم تأخذ منها زوجها، بل انها قد أمنت مخاوفه، وأحيت أمله، فيصل هذا الرضا الحقيقى (وليس الرضا الاضطرارى السابق) الى الزوج، فينجح هنا، ثم ينجح هنا!!
3 – أن ينجح الزوج – جنسيا – مع القديمة دون الجديدة، وبالتالى تحدد اللغة الجسدية الجنسية اختيارا أشد دلالة من الاختيارات العقلية المحسوبة، وكذلك من الاختيارات الخيالية المعوقة.
4 – أن ينجح الزوج – جنسيا – مع الجديدة دون القديمة وهذا هو أبعد الاحتمالات القريبة من واقع حدة احتياجه القديمة وما تعنيه، الا أنه فى المدى البعيد قد يتبين أن احتياجه ليس للزوجة القديمة بلحمها ودمها، بل لما تمثله مما يمكن أن يجده فى الزوجة الجديدة رويدا – من يدرى؟
5 – أن يستمر فشله واستسلامه لهذه التسوية المرضية التى تعفيه من مواجهة شطرى الصراع وتستمر الزوجتان فى الرضا بهذا الحل السلبى المزدوج.
6 – أن تضجر أحدى الزوجتين من الوضع، فتنفصل، فتطلق، فينجح مع الأخرى (أو لا ينجح!! بحسب مثول الأخرى فى داخله) – وهذا القرار سيتوقف على عوامل اقتصادية واجتماعية شديدة الأهمية .. لا يمكن اغفالها أو اعتبارها فى المقام الثانى.
ولسوف نرى
(ونخطركم ان أمكن)
وبعد
فنحن نرجو بتقديم هذه الحالة أن نكون قد بينا بشكل ما :
1 – أن كلمة “الصراع” هكذا لا ينبغى أن تؤخذ باعتبارها حيرة اختيارات عقلية أو تعارض ميول داخلية بقدر ما هى “تصادم وجودات حيوية” – تصادم مواجهى لحد تفكيك التركيب الحيوى، واطلاق نشاطات كامنة، بجرعات غير مأمونة.
2 – أن عمق تداخل أبعاد النفس يحتاج الى رؤية متعددة الأعماق تعفينا من تسطيح فهمنا للنفس البشرية بالاستسلام للعلاقات السببية البسيطة.
3 – ان الصراع مهما بدا مفهوما وواضحا، فانه قد يكون المظهر الأعلى لتركيبات بيولوجية أرسخ وأكثر تكثيفا وتداخلا.
4 – أن مظاهر المرض قد لا تكون الترجمة المباشرة لمتطلبات الصراع كما تظهر على السطح وانما قد تكون اعلانا لجدل بيولوجى غائر يحتاج – فيما يحتاج – لاعادة تنظيم بيولوجية باستعمال المساعدات الكيميائية والفيزيائية.
5 – ان الفرحة بالاختيار الحاسم لأحد شقى الصراع دون حساب لاحتمالات انتقال الصراع لمستويات أخرى، هى فرحة متعجلة، ينبغى أن يحذر منها الاطباء ومسئولو التربية والعلاج.
6 – ان المعانى التى تغلف العلاقات الأسرية، والبنوية هى معانى ذات دلالات وجودية أهم من مجرد ارتباطات الدم أو صفقات وراثة الممتلكات.
7 – أن لمجتمعنا الخاص جدا، المصرى جدا، الفلاحى جدا، بصماته المميزة تماما.
حاشيتان :
- لم يكشف المريض اصلا على نفسه من الناحية التناسلية باحتمال أن يكون هو سبب العقم، وهو احتمال وارد لأكثر من 50% ولم يقبل نصيحتنا بذلك.
(ب) لم يذكر المريض – ولا أهله – احتمال أن يكون مربوطا من الزوجة القديمة أو أقاربها كتفسير للعجز الجنسى الذى أصابه.
[1] – الهوس Mania : هو مرض يتصف (سلوكيا) بالنشاط الزائد فى الفكر والوجدان والحركة، والاكتئاب Depression يتصف بعكس ذلك تماما (حسب الشائع السلوكى) والعامة تقول ان فلانا مهووسا بمعنى خفيف، أو مختل، أو متسرع ولا يصح الخلط بين استعمال العامة والاستعمال العلمى المحدد، وفى خبرتنا فان هذا الفصل السلوكى بين نقيضين نابعين من اضطراب اعمق واحد قد يخل بالفهم الحقيقى لوجهى هذا المرض كما سيبدوان فى هذا العرض.
[2] – وهو ما نرفض تسميته سن اليأس – الا أنه فى هذه الحالة هو سن اليأس فعلا، وأى يأس، وأنا لم أقبل هذه التسمية فى كل خبرتى بقدر ما قبلتها فى هذه الحالة.
[3] – وهو المعنى الذى يؤكده المثل الصعب “الراجل عيبه جيبه”.
[4] – ولم يظهر هنا هل كانت هذه الشتمة نتيجة لحادث معين لصق بأمها فعلا وهو الأكثر احتمالا فى ريفنا المتربص بالأسماء الجديدة حسب الحوادث الدالة، أم أنها مجرد سباب عابر.
[5] – لاحظ أنه حسب المدة بالشهور وليس بالسنوات!!
[6] – تحديد أسماء السجون بهذا الترتيب (وبلا داع من السؤال) يشير الى عمق خبرة السجن وارتباطه بالتنقل فانتظار الافراج المستمر مع كل نقله.
[7] – لاحظ أنه مكث فى السجن 104 شهرا.
[8] – يستدل ذلك من اشارات متكررة عن فداء حسن لأخيه محمد بما فعل، بمعنى أنه تولى مسئولية القصاص دونه.
[9] – بتشديد الراء وفتحها – وهى عملية وضع التراب على روث البهائم لصنع السباخ، والوحلة: هى الأرض المبللة لتصبح طينا طريا، وفى هذه الحال، هى وحلة بروث البهائم وبولها ثم لاحظ أنه قال “أترب” الدار ولم يقل “أترب” الزريبة، بما قد يدل على توحد المكان فى عمق وعيه أى أن الدار والزريبة هما واحدا بشكل ما.
[10] – انظر هامش صفحة 20.
[11] – كلمة الطبلية هنا لا تفيد طبلية الأكل، وانما تفيد جماع هيكل السرير (انظر بعد).
[12] – مشيرا بيده ضاما سبابته الى ابهامه لاظهار حجم العفشايه.
[13] – كلامه هذا مسجل تسجيلا صوتيا بالحرف الواحد وبهذ الترتيب وهذا السياق – وكان التسجيل مبكرا فى فترة نشاطه المرضى وليس بعد تحسنه الشديد، قام بكتابة المشاهدة الاولى، والتسجيل الصوتى الزميل الطبيب : أشرف الشعراوى.
[14] – لاحظ التناقض الضمنى، اذ أنه يحلف لها بالطلاق منها، الأمر الذى قد يكون هو هو ما يخيفها، بمعنى أن حنثه لليمين سوف يخلصه منها من ناحية، ويميل بالكفة نحو الجديدة من ناحية أخرى.
[15] – لاحظ أنه لم يقل “من السما” بل هذه هى الفاظه : وقعت من الأرض.
[16] – قام بهذا السؤال الزميل الطبيب : رفيق حاتم.
[17] – ولم يشر الى “معاها” من، وان كان المفهوم أنه يعنى الجديدة.
[18] – وهو استعمال أقرب الى المعنى اللغوى العربى الأصيل المشتق من لفظ أضمد الشئ : أخفاه.
[19] – نستعمل كلمة المنظمات الكيميائية للعلاج بالأدوية الخاصة ليس بقصد التجميد والتهدئة، وانما بقصد الضبط الانتقائى لمستويات المخ النشطة معا.
[20] – نستعمل تعبير المنظمات الفيزيائية بعملية ضبط الايقاع بالتيار الكهربائى التى يسميها العامة الصدمات الكهربائية تسمية خاطئة.
[21] – نعنى بالوسط العلاجى Therapeutic Milieu ذلك المجتمع العلاجى الذى يشترك الجميع فى خلق روحه القادرة من خلال الممارسة علىتوصيل الرسالة العلاجية للمريض مكثفة ومحيطة به بشكل متكامل معظم الوقت، بلا مسئولية محددة لفرد بذاته، بل هى مسئولية الجميع
[22] – حين سألته ان كان لم يأخذ “وش” الجديدة (يفض بكارتها) أصلا، أجاب أنها “عزبة” (مطلقة) ولها ولد من طليقها يعيش مع أمها، فهى مجربة ومضمونة أصلا!!