تـواصـل
مصطفى الأسمر
بحياد استوعبت حواسه كل الأشياء المحيطة، بينما ظل تركيزه الأساسى على الجانب الآخر من الشارع . بدوره كل متوجدا هناك، وكانت الأشارة الحمراء تفصل بينهما.. وبالرغم من انحشاره بين الجموع العديدة التقطته عيناه، كأنه ينتظر مثله تغير اللون ليتبادلا الأمكنة، أو يلتقيا .. طال به الانتظار والأشارة كما هى جامدة على لونها الأحمر .. فكر أن يغامر وينتقل الى الجانب الآخر متخذا طريقا ملتويا بين العربات والدواب كبهلوان قبل أن يختفى عن عينيه ويتلاشى .. لكن الشرطى نهره .. جمد فى مكانه وأن ود لو أعترض .. آرتجف جسده من قسوة الصقيع، ومسح قطرات المطر العالقة بعدستى منظاره الطبى . .أبصره هناك على الجانب المقابل يصنع نفس صنيعه، فأرجع الأمر للمصادفة وحدها ولم يعط له أهمية.. داهمة ألم فقرات الظهر .. تمللت قدماه تعبا .. ثنى ساقه اليمنى كطائر البشاروش ووقف جامدا على ساقه اليسرى كالآشارة وقد رفع رقبته ومد رأسه الى الأمام يتأمل العربات وهى تزحف أمامه ببطء متقاطرة .. ازدادت الآمه فبدل من وضع ساقيه وهيأ عموده الفقرى لانتظار قد لا ينتهى بينما نظراته كعهدها منذ البداية مشدودة الى هناك .. وصله الصوت مألوفا واضح النبرات فاستكان له وأوجده لمقعدته مكانا بين غابة السيقان المنزرعة ثم جلس على أفريز الرصيف المبلل… مد قدميه الى نهر الشارع ليريحمها من عناء الوقوف ..
( لمح الشرطى ساقيه المدلاتين فى نهر الشارع فجاءه على عجل .. حرر المخالفة وتقاضى قيمتها بالآضافة الى رسم التمغة ثم سامه الايصال .. أخذه فمزقه الى قطع صغيرة ألقى بها أرضا .. على الفور عاد إليه الشرطى وأمره أن يجمع كل هذه القطع ولا يترك منها على الأرض قطعة واحدة، وبعدها يذهب بها كلها غير منقوصة الى سلة المهملات المشدودة الى عامود الاشارة الحمراء أو فليتحمل غرامة جديدة عن هذا الفعل.. رضى بتحمل الغرامة حتى لا يصرفه نقاش عن تركيزه الأساسى عليه.. كانت نظراته كالمألوف مشدودة الى هناك خوفا من أن يضيع منه بين الجموع .. سحب رقبته ورنا الى الأشارة أملا أن يتحول لونها الأحمر لينجو من جمود أخذ يغزوه .. ثم استطال برفيته كزرافة فأبصره بدوره يدفع مثله الغرامة الجديدة للشرطي.. )
******
لم يحل ألم الاحساس بالتبول بينه وبين التركيز على الجانب الآخر عابرا بنظراته نهر الشارع .. كانت ساقاه تتحركان فى مكان وقوفه حركة نشطة فى محاولة من جانبه للتغلب على هذا الاحساس الموجع … رفرف بذراعيه كعصفور ذبح لتوه، لكن الألم ظل على حاله .. أرجع قسوة الألم وضراوته الى امتصاص الحذاء لماء المطر فتشبع الجورب تماما بهذا النشع المائى ولتتأثر فى النهاية أصابع القدمين .. لم يخفف هذا الاكتشاف عنه الألم .. انتهز فرصة اقتراب الرجل الوقور منه وسأله متى يتغير اللون.. أشار الرجل بسبابته حيث المظلة المرتفعة وأخبره أن الأمر يتوقف على الجالس داخلها .. كاد أن يقول أن لو طال الزمن باللون الأحمر فسيجد نفسه لا محالة مضطرا أن يبول فى نهر الشارع حتى لو أوقعو عليه كل الغرامات المعروفة وغير المعروفة .. تصاعد الألم رهيبا الى نحو الرأس فأنفلتت الصرخة من صدره رغما عنه .. جاوبته نفس الصرخة قادمة من هناك..
(أقبل الشرطى على الصرخة ، بهمة حرر له مخالفة الازعاج المتعمد .. دفع المطلوب منه ثم أقتسم مع الشرطى كل ماتبقى معه من نقود تحت حساب أية غرامة مستجدة)
****
تأمل سيل الماء القادم من أعلى الشارع فأيقن أنه بعد حين سيجرف كل ما يعترض طريقه .. خشى أن يفقده وسط السيل فاستمات بنظراته عليه غير مهتم بأصوات الموسيقى والأغانى المنبعثة من داخل المتاجر، كونت الموسيقى بدورها سيولا، تنفس بصعوبة كما لو كان سمكة أخرجت لتوها من الماء .. تراقصت الأضواء المتحركة على واجهات المتاجر بينما ثبتت أضواء (الفترينات) فى توهج شديد لتكشف عما يذخر به داخلها من معروضات .. ارتفع منسوب الماء المنساب فى نهر الشارع ففكر أن يلجأ الى واحد من هذه المحال يحتمى به حتى مع كونه ليس من زبائنه ..بدوره كان هناك على الجانب المقابل .. وتعبيرات وجهه توحى بنفس الخاطر استغرب، ولكنه لم يشأ أن يستسلم لهذا الاستغراب حتى لا يغفل عنه .. على غير ما توقع ماتت أصوات المطربين والمطربات وانطلقت صفارات التحذير وعندما توقفت اتضحت الاستغاثة المنبعثة من المتجر المواجه للاشارة .. رددت الاستغاثة من خلال مكبر الصوت النداء( امسكوا اللص، اقبضوا عليه.. لا تدعوه يفلت).. جاهد كى يحتفظ برأسه مرتفعة فوق الرؤوس التى كانت تتحرك كأفرع نخيل غير مثمر..
( أبصره الشرطي، فأيقن من نظراته أنها تشى بشئ خفى لا يطمئن .. وقف أمامه وطالبه بأن يحتضن رأسه ويخفضها الى أسفل والا كبده غرامة التستر على متهم وحجبه عن عين العدالة ومساعدته على الفرار..)
******
أبصر الحمار وهو قادم من أسفل متجها الى أعلي.. صاعدا منحدر الشارع وهو يجر وراءه العربة الخشبية المكتظة بالاحمال .. كانت حركة الحمار بطيئة ومملة.. خشى أن تحجب الحركة البطيئة عنه عندما تصل العربة وتصبح أمامه تماما رؤيته له فقد كان حمل العربة المرتفع كفيلا بأن يصنع حجابا بينه وبين تركيز النظر عليه .. وقد يطول ويمتد بفعل الخطوة البطيئة للحمار .. ود أن لا تسد أمامه كل الطرق فلا يبق له من سبيل الا الانبطاح على بطنه كسحلية زاحفة ليمكن نظراته من أن تصل اليه مارة من بين قوائم الحمار وعجلات العربة.. وصل الحمار وأصبح أمامه تماما وهو يلهث ويجاهد فى نقل خطواته .. أبصر حبات عرقه على ضوء اللون الأحمر للاشارة كدماء تنبثق من جسده وتسيل فى غزارة .. رثى له.. ثم قاوم حتى لا ينسى نفسه ويستغرق فى تأمل المنظر.. بأن الاجهاد واضحا على وجه الحمار فانزلق، ثم وقع وقد انثنت قائمتاه الأماميتان تحته وبرك بكل ثقل جسده على ركبتيه فتبعثر حمل العربة وتناثر فى نهر الشارع.. ابتدأت العربات تتلمس طريقا بين الأحمال الساقطة والحمار فى رقدته مشدودا الى العربة عرضة للاختناق بفعل لجامه الجلدي…
(أقبل الشرطى نحوه.. أخرج دفتر المخالفات من جيبه.. كان واضحا أن صبره عليه قد بدأ ينفذ وأنه لم يعد يكفى معه مجرد فرض غرامة مالية يدفعها وينتهى الأمر)
*******
ظهر الموكب فخما كالعادة .. الدراجات البخارية فى المقدمة ورتل العربات الفاخرة اللامتناهى يتتابع والملصقات تظهر بوضوح على الزجاج الخلفى لكل عربة.. كان كل ملصق يحتوى على الصورة، وكان الجند على الجانبين متقاربين وبطول امتدادهم اتخدوا شكلا مميزا، جندى وجهه الى نهر الشارع وجندى وجهه الى الرصيف.. خلق هذا التلاحم بين الجند المدجج بالسلاح قلقا شديدا له، وأثر على دقة التركيز عنده.. كاد يغيب عنه ويفقده .. ازداد التوهج باللون الأحمر كمرجل يتهيأ للانفجار .. وعلى الصخب وآرتفع الضجيج .. ومن الشرفات تابع العديد الموكب بعيون كالزجاج.
(أقبل الشرطى نحوه وأكد له أنه منذ البداية وهو منتبه اليه جيدا ويقظ تماما.. أكد له بدوره أن الأمر غير خاف عليه وأنه قد أصبح على ثقة من أنه يتصيد كل حركة تصدر عنه كأنه لم يعد يوجد أحد فى الوجود غيره.. لم ينكر الشرطى الملاحظة بل أضاف أنه فعلا يحصى عليه منذ البداية الصغيرة قبل الكبيرة جادله مدافعا عن نفسه واثقا من سلوكه وأنه ليس هناك ما يثنيه ولا يوجد ما يضيره وأنه منذ جاء لم يبدر منه ما يسئ وفوق كل هذا فقد دفع كل ما وقعه عليه من غرامات، فمن الصواب أذن أن يترك وشأنه.. اشتعلت أذنا الشرطى غضبا ونظر اليه مستنكرا ما يقوله .. تماسك وقد استقر عزمه أن يتصمم عن كل ما يقوله مستقبلا).
****
طرأ له الخاطر كملاذ أخير للخلاص من المأزق ..فماذا يضير لو كسر الآشارة الحمراء وانتقل الى الجانب المقابل حيث يبدو بدوره وكأنه ينتظره ليتحداه.. مهما شوشر الموكب بطقوسه العديدة على محاولته الجديدة الدءوبة لترتيب الأشياء فى فهمه وصياغتها من جديد… ضاق بجمود الأشارة وبثباتها على اللون الواحد مقيدة بهذا حركته المرجوة فى العبور والتلاقي… اختلس نظرة خاطفة للموكب فاستلفتت نظره العربة ذات الجرم الهائل، كان عرضها مساو تماما لعرض الشارع.. وكانت تحرث بمقدمتها الحادة أرضه كما لو كانت تبحث عن شئ محدد. انتهز فرصة انشغال الشرطى عنه فقذفها حجرا عساه يعرقل تقدمها واكتساحها للأشياء المتواجدة أمامها، لكن المقدمة الحادة سحقت الحجر سحقا فما تركته الا وقد أحالته الى حفنة من تراب ناعم.
(أقبل الشرطى ليتقاضى منه غرامة وضع العوائق أمام موكب رسمى وأثناء سيره واتلاف منافع عامة.. تجاهل يده الممدودة بالايصال.. نفخ الشرطى فى صفارته ليستدعى زملاءه.. صنع صوت الصفير نوعا من الاختلال فى الموكب… انتهزها فرصة فضم أصابعه الخمسة وصنع منهم قبضة، ثم سدد اللكمة الى بؤرة الشعاع الأحمر وقد وضع فيها كل طاقته…
أحاطت به فورا عشرات الأذرع الحاملة ايصالات .. ثم صنعت من كثرتها سياجا… وقبل أن يحكم السياج حوله تماما انفلت من ثغرة به قافزا إلى نهر الشارع مادا ذراعيه أماما تجاه الجانب الآخر .. غير ملتفت للحركة المكتسحة للكيان الضخم ذو المقدمة الحادة الساحقة).