حالة بينية(1)
الجزء الثانى:
المسار والـمتابعة
تمثيلية نفسية
[على: الخائف، والمطمئن، والعنيد، والجدع..إلخ].
موجز ما سبق:
”علي” طالب فى كلية الطب البيطرى جاء يشكو من أعراض بين الوسواس القهرى والفصام المبتدئ، وهو من أسرة متوسطة، أصغر إخوته. جاء بعد بنت سبقها أربعة ذكور، وقد كان رغم وساوسه وسوء تأويله يرى نفسه جميلا محبوبا، مما يشير إلى احتمال تكوين رد الفعل، وهذا يطور الفرض أن صورة الذات الداخلية هى مشوهة فقط، فقد رآها عكس ما أعلنتها أعراضه، كما كان من أهم ما شرحناه قبلا ما أسميناه تعرية الانفعالات البدائية، واختلاط الوجدانات، وغير ذلك مما لا غنى عن الرجوع إليه فى العدد الماضي.
وفى هذا العدد سوف نعرض بعض لمحات من المتابعة وبعض زوايا التفاعل الذى تم فى العلاج الجمعى خاصة، وخاصة التمثيلية النفسية. وأهمية ذلك أن تتبع الحالة بهذه الطريقة ليس مألوفا فى النشر برغم أنه من أهم المناهج المفيدة، بل والضرورية
ونحن نأمل أن نزيل بعض الغموض حول نوع من العلاج ومن المسار يفهمه العامة (وكثير من الأطباء) فهما محدودا، وهو العلاج الجمعى خاصة، كما أننا نأمل كذلك أن نظهر بعض المقاييس التتبعية وكيف تغيرت من خلال هذا العلاج.
المسار والمتابعة:
أولا: رؤية من العلاج الجمعى، (فإعادة التقييم):
1) كان حضور على جلسات العلاج الجمعى أقرب إلى الانتظام، وإن كان قد راح- فى أكثر من نصف الجلسات، الأولى – يعلن أن حضوره اضطرار من استنفد كل ما دون ذلك، كما كان يعلن ابتداء فشل المحاولة مهما بذل من جهد، ويظل يقاوم من حيث المبدأ (بالألفاظ، وفى بداية الجلسة العلاجية بوجه خاص)، ولكنه سرعان ما كان يشارك: تفاعلا، وحضورا، وانتباها وحوارا.
2) اعتبرنا أن المقاومة المعلنة، جنبا إلى جنب مع التفاعل الجاهز، والحضور النشط أمرا أقرب إلى التسوية النشطة بين قوى (ذوات ) متنافسة، ولم نتعجل ترجيح كفة على الأخرى .
3) بالتدريج، بدأت الدفاعات تتراجع، والمشاركة تعمــق، بما يشير إلى أن هذه التسوية لم تعد بالصلابة نفسها، كما لم تعـد تقوم بدور الإعاقة نفسه الذى كانت تقوم به فى البداية.
4) ظهر ذلك لنا من خلال تغير طبيعة النقاش العقلى الذى كان المريض يلجأ إليه كدفاع جاهز فى كثير من الأحيان، كما ظهر أيضا بناء على ملاحظة انفراج تعبيرات الوجه خاصة، وكذا تغير وضع الجسم حسب مقطع التفاعل وحدته، مما اعتبرمن المؤشرات المرجحة لتزايد انتمائه للمجموعة بانتظام (وإن تذبذب أحيانا).
5) كانت تدور مناقشات بين المعالجين والمشاهدين والباحث عقب كل جلسة علاجية، واعتبرنا هذا جزءا لا يتجزأ من مصادر الملاحظة بالمشاركة، وأخذت حالة على نصيبا كبيرا من الحوار، حتى لاحظ المعالجون حرص الباحث (الذى يرصد الحالة طوليا وقياسيا) على السؤال عن تفاصيل التفاعلات، بل حرصه على شفاء على خاصة، ربما على حساب اهتمامه بباقى المجموعة، وبعد مقاومة يسيرة، أقر بذلك، مما اعتبر من العلامات الطيبة للحماس للبحث دون الإخلال بالموضوعية
6) لم نستطع أن نختزل ذوات ” علي” الحاضرة، والمطلة، والكامنة، والمتبادلة إلى ما هو والد ( حالة الأنا الوالدية parental ego state )، وطفل (حالة الأنا الطفلية Child ego state ) وناضج (حالة الأنا النامية adulte ego state) بحسب مقولة إريك بيرن، بل إن مسيرة العلاج، وتعدد أنواع المقاومة، وكذلك تعدد أشكال التفاعل، جعلنا نواجه هذا الكم من التعدد برحابة مرنة، دون الالتزام بنظرية معينة، برغم الالتزام بقواعد المجموعة العلاجية معظم الوقت (مثل قاعدة الهنا والآن، أو الأنا/ أنت إلخ).
وحين وصل هذا الفرض (= تعدد الذوات بتعدد المواقف) إلى قمة نضجه، وكذلك حين اطمأن المعالج ( المعالجون) إلى اقتراب هذه الذوات من بعضها البعض، ومن أفراد المجموعة، معالجين ومرضي، سنحت الفرصة لاختبار بعض ما وصـل إليـه العلاج من منظور تركيبي، وذلك بعمل تمثيلية نفسية محورة، (سيكودراما)، حسب التقاليد المتبعة فى هذا النوع من العلاج فى هذه المدرسة، وهى تقاليد تبيح، وأحيانا تدعو إلى، المشاركة الفعلية من جانب المعالج (المعالجين)، وفى هذه الحالة بوجه خاص، تضمنت هذه المشاركة التلقائية المسؤولة، تضمنت الأغراض التى بررت ممارستها نظريا فى هذا النوع من التفاعل وهى: الكشف الفينومينولوجى للملاحظ، والملاحظ معا، ثم محاولة الوصول إلى التشخيص التركيبى المحتمل، والتفسير العملى من واقع التجسيد، والتقارب الذواتى المتعدد، بالإضافة إلى هدفالتعليم الضمني. وأخيرا كانت بهدف احتمال تحقيق فرض تعدد الذوات فى هذا البحث الخاص.
وقبل أن نقتطف من التمثيلية النفسية ما يوضح الأبعاد التركيبية قيد البحث، نعيد صياغة قراءتنا للحالة بالألفاظ المناسبة للسياق الجديد، فنقول:
إنه من واقع المراجعة النظرية للتراث لما سمى حالات بينية ، ثم ما أظهرته معظم النتائج الكمية لهذا البحث حتى هذه المرحلة، وكذلك من واقع قراءتنا للحالة إكلينيكيا من خلال شكوى المريض، وأعراضه، واستجاباته على مختلف الاختبارات، فإننا نرجح حتى الآن، الآتى:
إن هذه الحالة البينية إنما هى كذلك ليس فقط لوقوع حالة صاحبها بين تشخيصين لا يمكن الحسم إلى أيهما تنتمي، وإنما هى كذلك نظرا
أولا: لتفككها التركيبى المتعدد دون تباعد شديد،
وثانيا: نظرا لسرعة تبادل وشحن مكوناتها بقدر متقارب من الطاقة، ثم
ثالثا: نظرا لنجاحها المؤقت فى تحقيق ما يسمى بالتسوية Compromise، وهذه التسوية هى التى تمنع التمادى إلى ناحية بذاتها فى اتجاه تشخيص محدد متميز،
رابعا:إنها كذلك لأنها أيضا تقع بين السواء والمرض.
من التمثيلية النفسية:
ولتوضيح ثانيا، وثالثا (وإلى درجة أقل: رابعا) نقتطف من التمثيلية النفسية (التى جرت بعد وقت كاف من بداية العلاج: التاريخ 86/12/31) ما يلي:
( سوف نطلق على المعالج الأساسى اسم زيد والمعالج (ة) المساعد (ة): هند).
ابتدأ هذا التفاعل حين تعدد ظهور / حضور عدة حالات لعلى (حالات أنا ego states) فى تلاحق حث المعالج أن يفض الاشتباك، ويدعو إلى مواجهة تمثيلية بين كل من:
1- على العنيد.
2- على الخائف.
3- على اللى بيتخلى عن العند ( الصابر مثلا: هكذا أضاف المريض وصفا لهذه الذات).
4- على المطمئن ( اقترحت هذه “الذات “الطبيبة المعالجة المساعدة، وقامت بتمثيلها).
5- على اللى نفسه يتخلى عن العند، بس خايف ( وقد وافق المريض على القيام بتمثيل هذا الشخص بالذات، برغم تكثيفه وغموضه).
6- على الجدع، وقد استبعده أحد المرضى الذين عرض عليهم القيام بدوره، إلا أن المعالج ” زيد” أصر على احتمال وجوده، فأقرت ذلك إحدى المريضات، و اقترحت هى أن تمثل هذا الدور.
7- على المنطوى، وقد اقترح هذا الشخص مريض آخر إلا أن الطبيب اعترض- دون رفض- على وجود هذه الشخصية (حالا) بالقدر الذى يوحى به ظاهر بعض نواحى السلوك.
وقد استقر الأمر على الاكتفاء بأربع شخصيات يقوم بها: المعالج، ومساعدته، والمريض، والمريضة التى تبرعت ووافقت على وجود ما هو على الجدع. وكانت الأدوار التى اتفق عليها هى: الخائف، والمطمئن، والعنيد، والجدع بهذا الترتيب. على أن الباب ظل مفتوحا لـ:
”اللى يحس بعلى كمان، يخش من غير ما يستأذن، ويقول أنا على الـ “كذا”، أو اللى يحس إن فيه واحد بيمثل الدور وحش يقول أنا على المطمئن بصحيح، مثلا، ويخش معاه أو بداله”.
وبعد بداية سريعة: تداخل العنيد مع الخائف ليصبحا واحدا (الخوف المحتمى فى العند) بعد إصرار المعالج (زيد) أنهما واحد، وإنكار على لذلك دون تمسك شديد ثم استجابته تلقائيا ثم انطلاقه لتكملة التمثيل.
ثم واجه هذا الشخص -(على المكثف من العند والخوف)= ذاك الكيان المسمى المطمئن، وسارت التمثيلية فى اتجاه أن المطمئن “خايب وصغير، وما عندوش فكره بشر الناس”.
فى مقابل أن العنيد/الخائف هو: جبان، ومتوقف، وفاشل ومبرر.
وأخذ العنيد يستنجد بالخائف ويقويه، وبالعكس .
فى حين ظل المطمئن يعلن ضرورة الأمان والثقة بالمستقبل وأنه سيكسب الجولة الأخيرة .
وفى محاولة التفاف، حاول المطمئـن أن يسرق العنيد لصالحه.
وفى محاولة جدلية من بعد آخر، ظهر المطمئن يحاول أن يصالح الخائف بمعنى أن الحذر واجب ليكون الاطمئنان على أساس واقعى صل.
ولم تنجح المحاولات (التى قامت بها المعالجة تلقائيا وبإصرار) إلا أنها هزت المواجهة حتى أعلن المريض بصفته أنه هو الذى يقوم بدور العنيد، وبصفته المريض أصلا، أعلن بصراحة أنه:
على ( المريض بصفتيه الخائف/ والعنيد) :
– ” أنا تايه بينكم أنتم الاتنين.
الخائف: أنا الأصل، أعرف الواقع، وأعرف الناس وسفالتهم، ما فيش حد يطمن، (وحين تيقن المطمئن إلى أنه هز العنيد) قام بمناورة ابتعاد محسوب المطمئن: أنا حاسيبك معاه، ولما هاتعوزنى هاتلاقيني.
وقد تلقى المريض (على العنيد) الرسالة، واعترف بحاجته ضمنا إلى الطمأنينة برغم الوعى ببالغ الصعوبة، كما أعلن أن تلك الحاجة زادت عن مبررات الخوف فأعلن المريض (مخاطبا المطمئن): - بصراحة إنت صعب قوي.
فبادر الخائف متدخلا:
- ده ما بيفهمشى حاجة خالص، متطمن على إيه، لو يفهم أى حاجة ما يطمنشى من أصله، هوه العيل اللى إتولد فى اللفة ما هو متطمن للفة طول ما هى خانقاه، أول ما يفك ياكلوه .
فتراجع العنيد (مازال المريض هو الذى يلعبه ) قليلا .
فتمادى الخائف، يشكك فى العلاج، ويبرر الفشل، وينفى المرض، ويدعو للانسحاب من العلاج الجمعى والاكتفاء بقراءة القرآن هربا من العلاج، فإذا بعلى المطمئن يذكر بعدا آخر لقراءة القرآن وهو الطمأنينة، فيقره المريض على ذلك:
العنيد (المريض) للمطمئن:
- أنا باحس بيك لما بقرا القرآن.
فيقفز الخائف مبادرا ملوحا بالهرب إلى دفاع دينى بديلا عن العلاج الذى قد يكشفه.
طب خلاص، مادام حا تقرا قرآن ما تجيش هنا.
وحين يصر المريض على مواصلة العلاج، يهدده الخائف بأنه سوف يجننه إذا أصر:
- وحياة النبى أجننك، أجيبلك انقسام شخصية يعنى فصام، تبقى تلاتة، أربعة، سبعة، لو صدقته (المطمئن) حاننقسم .
فيهتز المريض، ويحاول إزاحة الخائف قليلا حتى يتعرف على المطمئن، فيلجأ الخائف إلى مهرب آخر لطمس الرؤية:
الخائف: طب ناخد دوا.
(المريض) العنيد: ماجابشى نتيجة.
ثم يشكك المريض فى قدرة الخائف أكثر، فيقفز المطمئن فى محاولة للولاف (وليس لصالح التسوية).
المطمئن: بس لو اتلميتم معايا وكبرتوني، إنت والخايف والعنيد.. والجدع……
فنلاحظ الاعتراف بالضعف جنبا إلى جنب مع إعلان الحاجة إلى هذه المواقف (الذوات) الأخرى كجوانب حامية، وليس كاستبدالات دائمة، فيرعب الخائف من احتمال التلاشى فى الكل الجديد المقترح: الخائف: أنا أكبرك علشان أموت أنا ؟ ما هو إنت لو كبرت أنا أموت.
المطمئن: إنت موجود عشان تخدمني، لو أنا ماكبرتش إنت ما يبقالكشى قيمة . ويمضى الخائف يشكك فى العلاج من جديد، ويقتل الأمل حتى يقول له المريض:
- إنت مش معترف بحاجة اسمها أمل؟
فيهدده “الخائف” بعواقب التخلى عنه:
- هايتخلى عنك، هاتشخ على روحك، الجنون حايبص.
فيبادر المطمئن فى محاولة أن يفصل بين العنيد والخائف:
- أنا حاحميه، وعناده حايحميه.
فيسارع الخائف برفض التزحزح (مخاطبا العنيد/ المريض ):
- أنا وانت واحد .
فيبدأ المريض فى التراجع (للخائف):
لأه ..إتزحزح انت شوية.
فيهدد الخائف:
- لأ ما فيش، شوية شوية، مش حاتلاقينى: حاتتجنن
(نلاحظ أن جرعة التخلى الفجائى هنا هى السلاح الذى يبرر بقاء التسوية المتذبذبة إلى ما لا نهاية، لأن التخلى عن الخوف الدفاعى يعرى الداخل فجأة بلا دفاعات كافية، فهو الجنون).
فيرد المريض:
-بس انت تاعبنى من زمان.
الخائف: حاتتنكر لى علشان الدكاترة النفسيين، حاسيبك تتجنن وتتسوح.
المريض: أنا طول عمرى ناجح.
الخائف: طول عمرك ناجح بيا، ودخلت الجامعة بيا.
ينتهى هذا المقطع من التفاعل بهزة شديدة تزعزع الالتحام المفروض بين العنيد والخائف، ويتراءى بزوغ احتمال آخر: هو أن المطمئن -على حداثة عهده – قد أثبت أنه قادر على الاستمرار، عارض للبديل، محكم لحسابات الوقت، مستعد للتعاون، وبصفة عامة هو يولد بموضوعية جديدة فى هذا الجو العلاجى الجديد.
التعليق:
ومن واقع ما قدمنا، وبرغم قيام المعالجين بالمشاركة المباشرة، إلا أننا نستطيع أن نخلص من هذا المقطع، وخاصة ما حدث من تدرج دور المريض واستجاباته من ناحية تجاه احتمال آخر، إلى ما يلى:
اعتبارات أساسية:
1) إن الصفات، وما يسمى بالسمات، يمكن أن تكون كيانات قائمة بذاتها، قادرة على الاستقلال، فالحوار، وهذا يؤكد بشكل أو بآخر معنى تعدد التنظيمات أو التركيبات فى الكيان البشرى Approach Multi organizational.
2) إن التركيب الذى يصبغ هذه الحالة التى يمكن أن نعتبرها فى مرحلة التعتعة هو الذى سمح بهذه الحركة الصعبة، وجعل التسلسل يغير الاتجاه بالطريقة التى لا حظناها.
3) إن هذه الوفرة فى ” حضور ” الذوات القابلة للتقمص فالتمثيل، ليست دائما كذلك فى تشخيصات أخرى، مما يؤكد أننا فى حالة تعدد كامن على الأقل، ومع كمونه فهو متعتع بمتحاور قابل للفك بهذه الحيلة العلاجية، لكنه فك مؤقت محسوب، فهو ليس اغترابا أعمى ولا تفسخا مخلا، إذ إنه ليس انفصاما بعد .
4) إن هذ التفاعل لم يحاول أن يختزل التركيب المستوياتى أو المتعدد إلى ما هو والد، وناضج، وطفل، برغم الإغراء بأن الخائف هو الوالد، والمطمئن هو الطفل، وهكذا، فإن الأرجح -كما بدا لنا- أن الخائف يخدم الهرب الطفلى والجمود الكهلى سواء بسواء، والعناد يجمد حركة النمو، كما أنه من صفات الطفلية عادة فى الوقت نفسه، وحتى الطمأنينة إذا لم تلتحم بالحذر وتسير على أرض الواقع (فتصبح أقرب إلى مشروع الناضج كما بدا ) فإنها تصبح إنكارا طفليا أكثر منها مسؤولية واثق .
والمهم هنا هو تأكيد التعدد، وإظهار مدى التعتعة، وإثبات أن الشخصية لم تتجمد فى اتجاه بذاته ( اتجاه تسوياتى، أو ذهانى مغترب، أو نكوصى راجع ) .
تطبيقات:
قد يكون من المناسب فى هذه المرحلة أن نعيد النظر فى التشخيصات المقترحة لهذه الحالة، وما ظهر فى البداية من استجابة على الاختبارات السابق الإشارة إليها.
فنذكر أن التشخيص الوصفى لم يستطع أن يفى بأى بعد له دلالة تطبيقية كما شاهدنا من خلال هذا التفصيل التركيبي، بل إن التشخيص الوصفى، قبل أن نتناول الحــالــة، اختزلهــا فى ســابق التنــاول العلاجــى إلى ما هو فصام، وعالجها بعقاقير انتقائية لهذا المرض بالذات، فكأنه باعد بين الحالة وبين حقيقتها، ولم تستجب الحالة لهذه العقاقير أصلا، وحتى حين فضلنا الاسم البينى (بين الفصام والوسواس) لم تزد كثيرا فى كشف أبعادها، وحين أتيحت الفرصة لاقتراب أعمق من بعد تركيبى مباشر كما ظهر طوال جلسات العلاج وربما تجسد بعضه فى هذا المقطع المقتطف من التمثيلية النفسية، بدا أن الأمور أكثر وضوحا، بما ترتب عليه من آثار عملية مثل:
أن الحالة لم تعد تتناول عقاقير أصلا، كما أنها انتظمت برغم المقاومة ،
فضلا عن تعمق بصيرتها واختلاف كثير من معوقاتها المرضية (انظر بعد).
وإن كان لا بد لنا فى هذه المرحلة أن نعترف أنه من الصعب نقل روح التفاعل كله كتابة، كذلك من الصعب قراءة دلالاته إلا فى السياق الكامل للمسيرة العلاجية.
وفى محاولة لتحديد أبعاد ما وصلنا إليه حتى هذه المرحلة، نستطيع القول:
أولا:
إن الحالة ليست فصاما أصلا، بمعنى أن التركيب الذى قدمناه أظهر كل ما هو ليس فصاما، أو بتعبير أدق: ” ضد الفصام” antischizophrenic من حيث:
1-” مرونة التبادل “plastic alternation لا “تذبذب التضاد “.opposing hesitency
2 – قصر المسافة بين التراكيب المختلفة، بحيث تسمح بالعبور فيما بينها فيما يشمل التكامل فى كـل أكبر، (على نقيض الفصام الذى تتباعد فيه أجزاء الشخصية وتراكيبها بحيث يصبح العبور من كيان إلى كيان، أو من كيانين لكيان واحدى أكبر أقرب إلى الاستحالة، أو مهددا بالهياج أو الموت) .
3 -حيوية الحضور . وحدة المواجهة، بحيث نطمئن على أنه: حتى التركيب الهروبى، كان ملتحما بوجدانه، مما يستبعد الانسحاب العاطفى والتبلد المميزين للفصام.
4- سهولة الحركة تجاه الآخر وبعيدا عنه فى وعى مناسب، لكل تركيب على حدة، ولها مجتمعة، حين يتلبسها المريض جميعا فى لحظات عابرة، (لم تظهر مباشرة فى المقتطــف المكتــوب هنــا وإن كانت محــل نقاش فيما بعــد الجلسة وهذا ينفى ما يسمى انعدام العلاقة الحميمة والاقتراب lack of rapport الذى يميز الفصام عادة .
5- التأكيد – من واقع التمثيلية – على أن الجنون أمر مهدد، مقترب، محتمل، إذا ما تخلى المريض عن دفاعاته، وبالتالى فهو ليس حادثا ” بعد ” والفصام فى صورته الصريحة، هو جنون قائم، ( متماد أو مستتب، لكنه قائم) فنحن هنا فى هذه الحالة لم نبدأ رحلة الفصام بعد، وإن كنا على أبوابها ما لم يتحول المسار، وهــذه هــى وظيفــة هــذ ا العــلاج.
ثانيا:
إن الحالة ليست وسواسا ( الطرف الثانى لما هو بينى حسب التشخيص )، ولو أن مجرد فض الاشتباك بين الذوات كما حدث فى التمثيلية النفسية يفكك التركيبة الوسواسية حتما، فاختفاء الوسواس هنا فى التمثيلية ليس كافيا لاستبعاد تشخيص الوسواس، إلا أن رجوعه ثانية بعد التمثيلية (وخاصة بوقت قصير) يصبح دليلا على التشخيص، وهو أمر لم يحدث أصلا فى هذه الحالة، وأحيانا ما تكون مثل هذه التمثيلية بمثابة البرء التام من الوسواس إذا ما كانت عميقة وجوهرية بدرجة كافية.
فنفى التشخيص الوسواسى الصريح عن هذه الحالة يرجع إلى عدة أسباب معا، من أهمها:
1- لم نقابل فى البداية ما نـتوقعه من المريض الوسواسى من حيث البدء بالمقاومة الشديدة بمجرد أداء التمثيلية، أو محاولة التعتعة لفصل الذوات، لأنه فى الوسوسة تكون التسوية شديدة الصلابة والتماسك فى أجزائها مع بعضها، ويكون الفصل بينها مهددا لدرجة إظهار المقاومة حتى الانسحاب بعكس ما تم هنا.
2- افتقرنا كذلك إلى فرط العقلنة التى يتصف بها الوسواسى فى مثل هذا التفاعل (يظهر ذلك فى المنطقة، والإثبات بالدليل النقاشى، وما أشبه) .
3- حتى الذات التى تجسدت فى العناد (على العنيد)، كانت أقرب إلى تحويل اتجاهها إلى الطمأنينة وعدم التمسك بدفاع الخوف، وهذا لا يميز الوسواسى عادة .
4- كذلك ظهر الخوف أقرب إلى الخوف الدفاعى ضد التهديد بالتناثر منه إلى الخوف المزاح إلى ما لا يخيف، وإن كان هذا هو المنتظر فى الفحص السلوكى التقليدى (المقابلة العادية لفحص الحالة) أكثر مما نلقاه فى التعتعة العلاجية كما هو واضح هنا، ولذلك فلا نعتبر هذا دليلا على ضعف احتمال التركيب الوسواسي، اللهم إلا إذا ربطناه بضعف النمط الوسواسى عامة فى الصورة الإكلينيكية .
ثالثا:
لم نتبين ما يقابل احتمال الاكتئاب – وخاصة بهذه القيمة القصوى كما ظهرت فى مقياس الشخصية MMPI – (اختبار الشخصية المتعدد الأوجه) بل لعل العكس قد ظهر حين أصر المريض على الاحتفاظ بالأمل فى العلاج ضد تخويف الذوات الأخري: المجمدة، والمعوقة، والمشككة.
أما من الوجهة التركيبية، فيمكن اعتبار هذه القوة المتكافئة بين الذوات أقرب إلى المواجهة الاكتئابية منها إلى التسوية التلوثية (=اضطراب الشخصية)، وهذا الدليل التركيبي، يساير أكثر ماظهر فى اختبار الشخصية المتعدد الأوجه مما لم يظهر فى الفحص الإكلينيكى التقليدى، ولعل حيوية تركيب الشخصية (المريضة فى آن) تشير إلى نوع حيوى من الاكتئاب ( الاكتئاب النشط/الولافى /الجدلى ..) وتنفى فى الوقت نفسه الاكتئـاب الطفيلى، النعـاب nagging {وهو النوع الذى أطل بصورة مباشرة باعتباره اكتئابا فى الصورة الإكلينيكية السلوكية، فكان مما يطلق عليه النوع غيرالنموذجى atypical بما يحمل الصفات السالفة الذكر}.
أى أن هذه القراءة الأعمق للحالة قد رجحت نتائج القياس السيكومتري، أكثر من الفحص الإكلينيكى التقليدي.
رابعا:
لم تظهر الصورة الهوسية بالبعد المرضى المألوف، وإن كنا نستطيع تبين الجانب الإيجابى المقابل للهوس فى صورة قوة الذات النامية (الطفلــية/ الفطرية/ النامية معا) فى مواجهة الكيانات الأخرى، وقد ظهر ذلك أيضا فى مرونة التلقائية، ومثابرة الحفاظ على الأمل، وقبول احتمال الطمأنينة الواعية فى النهاية، وهذا أقرب إلى ما شاهدناه فى الصورة الإكلينيكية مما اعتبرناه تنشيط وعي، وفرصة نمو، وقد يكون هذا وراء بعض الثقة المفرطة التى ظهرت فى الشكوى والتى تستأهل أن نشير إليها هنا والتى اعتبرناها مجرد تكوين رد الفعل reaction formation، وقــد آن الأوان لنراجــع الأمــر، ونفترض أن جزءا منها على الأقل هو حقيقة موضوعية مرتبطة بجانب النمو إذ يتنشط هكذا، وعلى النقيض من ذلك فإن الانخفاض الشديد فى المقياس الهوسى فى اختبار الشخصية المتعدد قد يوحى أن المقاس بهذا المقياس هو الجانب الهوسى المغترب الصريح دون سواه، كما ألمحنا سابقا.
حالة بينية، أم مفترقية؟:
سبق أن أشرنا كيف أن استعمال تشخيص ” بينى ” لا يكون لما هو “ليس كذلك”، أى أنه ليس تشخيصا بالاستبعاد، فلا يكفى بالتالى أن نقول-من هذا المنطلق التركيبى كما ظهر فى العلاج الجمعى، وكما تركز فى هذا المقطع من التمثيلية النفسية – إنه ليس كذا وليس كيت – فيكون بينيا، لكننا يمكن أن نرى أن هذا الاصطلاح قد استعمل فى هذه الحالة باعتبار أنها حالة مفترقية، فى المفترق ما بين التميـز إلى ما هو مرض له بالتالى عدة إتجاهات محتملة، وما بين الانطلاقة إلى ما هو تجاوز المرحلة القائمة من الوجود بطفرة نضج محتملة .
ونحن فى هذا المقطع من العلاج الجمعى إذ نلتقى بهذه المرونة من ناحية، وذاك التعدد من ناحية أخرى، فإننا نمضى قـدما نحو ترجيح هذا الاحتمال فى هذه الحالة، وهو أن هذه الحالة البينية هى ( كنموذج لما يمكن أن يسمى بينيا)، هى بشكل ما حالة مفترقية على أكثر من مستوي، ونحن لا نستطيع التعميم من خلال هذه الحالة، لكن ما وصلنا إليه من ملاحظات حتى الآن يسمح لنا بأن نقترح أنه ينبغى أن نفرق بين ما هو حالة بينية، بمعنى الحالة التى استقرت فى “وضع وسط بين هذا وذاك المرض”، أو حتى بين السواء والمرض ، والتى يمكن أن تسمى أيضا حالة التسوية compromise، أو حالة المرض المجهض المتجمد consolidated aborted بين أكثر من اتجاه، نفرق بين ذلك وبين الحالة المفترقية، التى تدل على حركية نشطة متعددة المستويات، وكذلك متعددة احتمالات العلاقات التى لا تستبعد العلاقة الولافية، وهى الحركية الجدلية للبسط النموى إلى مستوى أكثر تقدما على مسار النضج .
وهذا الاحتمال الأخير هو الذى يرجحه فى هذه الحالة ما ذهبنا إليه وما يمكن إعادته فى ألفاظ أخرى إذ نقول:
1- إن الفصام المزعوم هنا – فى هذه الحالة- ليس فصاما، ولكنه بداية ما، نحو الفصام، كأحد احتمالات مسيرة المرض، وهو إنما يسمى كذلك ( فصاما) لتوقى أخطر المسارات بالتنبيه بتقديم .
2- إن الوسواس – فى هذه الحالة- وهو الذى يقع فى الجانب الآخر لم يستقر فيما هو تسوية نمطية ثابتة: بالتكرار، فالبصيرة، فالمقاومة، فالتنفيذ، فخفض التوتر، فالإعادة، 00وهكذا، أى أنه لم يصبح حركة فى المحل فحسب، وإن تبين لنا أنه حركة حتما .
3-إن الاكتئاب الذى ظهر فى اختبار الشخصية، وترجح نوعه فى التفسيرالتركيبى من خلال العلاج الجمعى، هو إعلان وعى متألم، وبصيرة تسعى إلى الموضوع، وتسير على شوك الواقع، ومن ثم لم يظهر فى صورة “أعراض نعابة” nagging، وإنما فى صورة “ألم سعي”، إن صح التعبير.
4- إن الوجه الآخر للهوس هو الذى أدى بالمريض إلى جسارة الإعلان أو المطالبة بحقه فى ” أن يحب “، وأن ينظر إليه، وأن يستمر، فى مواجهة القوى الأخرى، حتى لو اضطر فى هذه الاندفاعات إلى عبور حاجز السواء إلى ما هو مرض أو إرهاصات بمرض، من خلال تحقيق هذه الاحتياجات عن طريق إطلاق الخيال باعتباره واقعا . ( البنات بتحبنى …إلخ).
5- و أخيرا: فقد بدا لنا، من كل ذلك، رغم التشخيص السابق والعلاج السابق، ورغم التشخيص البينى بما يوحى به – لفظا- من جمود واغتراب، بدا لنا أن التكامل الولافى محتمل، والعلاج الذى يتعهده ممكن، ومساره واعد( وهذا ما حققت بعضه مسيرة العلاج كما ظهر فى التتبع: انظر بعد) .
المتابعة البعدية:
ظل على يتردد على العلاج الجمعى، بعد أن أوقف تعاطى العقاقير نهائيا، بناء على توصية الطبيب، وقد ظل الأمر كذلك طوال مدة تردده، برغم أن الطبيب قد وضع احتمال الرجوع إلى العقاقير متى لزم ذلك، الأمر الذى لم يحدث:
ويمكن تلخيص ما وصل إليه المريض بعد سبعة أشهر كما يلى:
1- انتظم على أكثر فأكثر فى حضور جلسات العلاج الجمعى .
2- تخلص من الاعتماد على العقاقير نهائيا.
3- انتظم نومه، ولم يعد يتحدث عن محتوى شاذ لأحلامه، وإن كان لم يشك مباشرة من انعدامها أو هجماتها .
4- تحسنت علاقته بالمجموعة العلاجية، وقل ماكان غالبا على تفاعله العاطفى وهو ما يسمى تناقض ( ثنائية) الوجدان ambivalence .
5- قل الحديث عن أعراضه، وإن ظل يدور حول شكوكه فى العلاج، ويأسه من التغيير، ويبدو أن إعلان هذا لفظيا كان حاميا له من الوعى بالتغيير، وبالتالى احتمال إعاقته بفعل الجانب السلبى فى وجوده .
6- تقدمه فى دراسته (حيث نجح لأول مرة دون مواد تخلف أصلا).
الاختبارات اللاحقة:
هذا، وقد أجريت له إعادة للاختبارات السابقة فكانت نتيجتها على الوجه التالي:
أ – اختبار وكسلر للراشدين WAIS
حدث تغير فى معظم المقاييس إلى أعلى، وإن كان تغيرا غير دال على كم الإفاقة، فإنه يؤكد حتما أن الحالة العقلية لا تتدهور، وأن جزءا من قدراته فى بداية الحالة كان معاقا دون الأداء الأكمل، وإن كنا لا نستبعد أن تكون مجرد الإعادة، وكذلك استتباب العلاقة مع الباحث ( الفاحص) قد أثرا فى هذا التقدم.
ب – اختبار الشخصية متعدد الأوجه MMPI:
اختفى النمط المتقلب للصفحة النفسية بصفة عامة، ليحل محله نمط متقارب ( فيما عدا مقياسى الاكتئاب والهوس ( كل فى اتجاه).
3- اعتبرنا اختفاء الهبوط الحاد على مقياس البارانويا، وكذا النزول إلى مستوى أقل السيكاثينيا، اعتبرنا هذا وذاك مؤشرا مؤكدا لاستنتاجنا لما حدث فى المجموعة بوجه خاص، فمن ناحية لم يعد إخفاء ما هو بارانويا يمثل أمانا دفاعيا ضروريا بعد أن سمحت المجموعة بفعلنة العدوان out acting فى شكل مباشر، كما أن الدفاع الوسواسى / الرهابى (السيكاثينيا ) قد انخفض بما يدل على مواجهة أشجع للداخل، تدعمت بالقبول العلاجى والمشاركة، فقلت درجات هذاالمقياس كما هو مبين .
4- تقلص الاضطراب المتبقى فى استقطاب غير مألوف: ارتفاع شديد على مقياس الاكتئاب يقابله انخفاض شديد على مقياس الهوس، ويمكن أن نطرح تفسيرا لذلك عدة احتمالات:
(أ) يظل التفسير الذى أوردناه لطبيعة الاكتئاب هنا، من حيث إنه إعلان عن ألم الوعى أكثر منه اكتئاب النعابة المجسدن قائما، وخاصة لعدم مصاحبة هذا الارتفاع بارتفاع خاص على ثلاثى العصاب، وعلى مقاييس الجسدنة بوجه خاص (مقياسى التوهم المرضى هـ س والهيستيريا “هـ ي”).
أما الهوس، فقد ألمحنا إلى احتمال أنه لا يشير إلى فرط تنشيط الحركية والتلقائية، بقدر ما يختص بأعراض النشاط الهوسى السلوكى المعلن، وهو ماظل مقهورا على مستوى الفعل، حتى بعد التحسن.
(ب) أنه ربما قلت بعض أعراض الاكتئاب الخاصة باليأس، والعزوف، والهمود، ليحل محلها أعراض الاكتئاب الخاصة بالألم، والوعى بالصعوبة، واستمرار المحاولة برغم عدم ملاءمة الظروف، وهذا الإحلال لا يمكن قياسه بهذاالمقياس بداهة .
(جـ) ربما يكون هبوط درجات مقياس السيكاثينيا، واعتدال درجات مقياس البارانويا قد تم على حساب مزيد من ضبط الاندفاعات الهوسية ضبطا مباشرا بما لم ينقص الاكتئاب كثيرا، وفى الوقت نفسه حافظ على المستوى المنخفض لما هو هوس .
5- لوحظ انخفاض ملحوظ على مقياس الانطواء الاجتماعى، وبرغم أنه ليس مقياسا إكلينيكيا فى ذاته، إلا أن دلالة هذا الانخفاض فى هذه الحالة هامة ومباشرة، ويمكن إرجاعها مباشرة إلى التدريب المباشر على المواجهة والمصارحة والتعبير عن الذات من خلال المجموعة العلاجية.
جـ – اختبار الأمثال:
احتفظ الأداء الكمى بتفوقه، دالا على اضطراد الابتعاد عما هو تشتت فكرى مميز للفصام بوجه خاص.
وبالنظرة الدقيقة، مقارنة بالأداء الأول قبل العلاج، تسمح بأن نورد هذه الملاحظات:
1- إن المريض كان أقل استجابة لتوارد الخواطر وتعدد الاستجابات مما قد يشير إلى تهدئة النشاط الفكرى بشكل أو بآخر.
2- إن كثيرا من الاستجابات حوت المحتوى الأول نفسه، مما قد يعنى أن التغير تدريجى ونوعي، لم يؤثر كثيرا على محتوى الفكر بقدر ما قد يكون قد أثر على جوه العام، ولعل هذا التدرج هو الذى سمح بالحركة المضطردة فى الاتجاه الأسلم .
3- إن جرعة التركيز على الذات، وعلى الأداء الامتحاناتى بوجه خاص، مازالت هى الغالبة.
4- إنه استطاع أن يضرب أمثالا متشابهة أكثر من المرة الأولى .
5- إنه أصبح أكثر تحديدا، ففى المرة الأولى كانت استجابته للمثل (اللى ما تعرفشى ترقص تقول الأرض عوجة ) إن الإنسان الفاشل يقول فى سبب فشله حاجات تانية ( لم يحددها )، لكنه هذه المرة يحددها بقوله: الخايب يقول ; الناس السبب، الظروف السبب، ما يجيبشى الفشل على نفسه .
6- كذلك فى المثل الثالث (الشاطرة تغزل برجل حمار)، أضاف بعد “الاستمرار”، ففى حين عمم فى المرة الأولى: ” تحت أى ظروف “، حددها هذه المرة بالصعوبة، وأضاف الاستمرار (قائلا: الواحد مهما كانت ظروفه صعبة، يقدر يستمر)، وكأن الاستمرار فى ذاته هو الشطارة الحقيقية التى تتغلب على العوائق، وهذا بعد واقعى، لم يظهر فى الاستجابة الأولى كما ذكرنا، يؤكد عليه هذا النوع من العلاج بوجه خاص الذى يعلم أن الاستمرار بعد تكاملى حاسم، وأن الزمن متغير فاعل مرتبط بالتوجه الأصلى .
7- وبالنسبة للمثل الرابع (ضربوا الأعور…) أشار فى استجابته الأولى إلى أن الرسوب فى مادة تانية سبب خارج عن الإرادة (انطرد من اللجنة أو حاجة) فى حين أنه هنا عزا الرسوب إلى ظروف طبيعية محتملة (تجيله مادة تانية ما يقدرشى يحل فيها)، مما يشير إلى اقترابه أكثر فأكثر إلى ماهو واقع محدد بمسؤولية مباشرة بدلا من الاستمرار فى وضع اللوم على الآخرين blame putting th.
8- وفى المثل الأخير كانت إجابته عن المعنى أكثر تجريدا، فلم يكرر الألفاظ مثلما فعل فى المرة السابقة، وإن كان قد أخطأ فى الاتجاه العكسى خطأ المرة السابقة نفسه مما قد يؤكد احتمال أنه يفهم كلمة “اتلفع ” ( إن حبتك حية اتلفع بيها ) فهما خاصا، لم نتمكن من إعادة سؤاله بشأنه، إذ نستبعد أن يكون هذا خطأ حقيقيا، أو بالصدفة مادام قد تكرر بهذا الإلحاح مع كفاءة قدرته على التجريد بصفة عامة كما ظهرت فى مواقع ( واختبارات) أخري.
وهكذا نجد أن استجابته الكلية لم تتغير، فى حين أن العلامات البسيطة التى أوردناها فى التحليل النوعى الأعمق قد تشير إلى حركته الحثيثة والهادئة نحو السواء على أرض الواقع، وإن كنا لا نستطيع فى هذه المرحلة أن نجزم إن كانت هذه الأزمة المفترقية تتجه إلى إعادة التنظيم على مستوى أعلى أم أنها سترجع به إلى مستوى السلامة السابق فحسب، وفى الوقت نفسه لا نملك إلا رؤية علامات تسمح لنا بالأمل أنه إذا توفرت ظروف مناسبة فإن فرضنا السابق لا يتحقق إلا إذا تجاوز مستوى الصحة السابق إلى مستوى أكثر ولافا وأقدر إبداعا .
ثالثا: الاستخلاصات العامة:
ثم نجد أنفسنا الآن فى موقف يمكن أن نخلص فيه إلى الاستنتاجات الآتية:
1- إن صعوبة تشخيص الحالات البينية ناتجة من الاهتمام المفرط بلافتة العنوان على حساب النظرة الأشمل.
2- إن تعبير الحالات البينية ليست تشخيصا بديلا، وإنما هو تعبير عن أزمة تشخيصية محددة .
3- إن الحالات البينية ليست واحدة، ويجدر التفرقة بين الحالات المفترقية الحركية وبين الحالات البينية التسوياتية:
حيث تعنى الأولى ديناميا ونمائيا: موقع الحالة فى مفترق طرق بين احتمال استكمال النمو وبين احتمال تدهور أو تفسخ أو جمود تسوياتي.
فى حين تعنى الثانية موقع سكوني(استاتيكي) بين تشخيصين سيكاتريين محتملين، علما بأنه فى المرحلة الحالية من اتجاهات التقسيم (Nosology) لا توجد أية تفرقة محددة المعالم .
4- إن الفروق الفردية لها أهميتها القصوى فى التمييز بين الأفراد، تتضاعف أهميتها فى هذه الحالات التى هى فى حالة بين بين، لم تنضم إلى مجموعة تشخيصية بذاتها، مما يستدعى فى نهاية الأمر أخذ كل حالة على حدة.
5-إنه بالتالى لا يمكن الاعتماد بشكل مأمون على التقييم الكمى إلا لأغراض إحصائية محدودة، مشكوك فى جدوى تطبيقها على كل حالة على حدة .
6- إن العلاج المتناول للأبعاد الطولية لمسار الأمراض والبدائل الصحيحة لهذا المسار قادر على مواكبة المسيرة، بحيث يمكن أن يكون هو البديل الصحيح عن العلاج الكمى المرتبط أساسا بلافتة تشخيصية من ناحية، وبتنظير كيميائى كمى من ناحية أخري.
7- إن الدراسة التتبعية الدقيقة للحالات الفردية، قادرة على فحص الأبعاد المناسبة لكل حالة على حدة، وعلى رصد الفروق الدقيقة بشكل يسمح بتعديل المسار، بل وتوجيهه إلى ما هو وقاية بشكل أو بآخر .
[1] – جمع المادة (ورقة المشاهدة) وأجرى الاختبارات: الباحث أحمد ابراهيم، وأجرى المناقشة والتعليق والصياغة أ.د. يحيى الرخاوى