ملحق
هذا الملحق هو محاولة لتخفيف جرعة التنظير، الذى وردت فى
المتن المتعدد المستويات الثنائى اللغة، وقد رأينا إضافته تأكيدا
لاحترامنا لحاجة القارئ إلى معلومات عملية محددة فى هذا الصدد
الصحة العقلية وعصر المعلومات
ماذا ينبغى أن يقال عن الصحة العقلية فى ظروف العصر الجديدة، لقد شبعنا حديثا عن مسائل التوتر، والقلق، والسرعة، والضغوط، كلام كثير معاد، وصحيح (للأسف) لكنه أبدا لا يصل إلى مسئولية المواجهة التى ينبغى أن نتحمل مسئوليتها أمام ضمائرنا باعتبارنا بشرا نعيش معا سنة 2001، ومطلوب منا الآن أكثر من أى وقت مضى، أن نساهم فى صناعة التاريخ بوعى قادر وإلا ….
والسؤال الصدمة الذى لا ينبغى أن يغيب عنا أبدا يقول:
هل الإنسان معرض للانقراض؟
والاجابة المسئولة هى:
نعم !!
هذه هى الصيحة الحقيقية التى يمكن أن تكون موضوع هذا الحديث عن الصحة العقلية، وهى الصيحة المختصرة والخطيرة فى آن، وهى التى يمكن أن تساهم فى المسيرة حقيقة وفعلا – وقد تعمدت أن أستعمل لفظ الصحة العقلية، وليس الصحة النفسية، لأن مسألة صحة العقل هى محور الوجود البشرى، والعقل ليس عضوا جسديا، بقدر ما هو وعى كلى، صحيح أن محور نشاطه هو الدماغ، إلا أن كلية حضوره تشمل كل الجسد، وتمتد إلى دوائر التواصل حوله، أقول إن الإنسان المعاصر، وقد غمره فيضان المعلومات قد أصبح فى حاجة إلى إعادة صياغة وجوده من الأساس.
لم تعد المسألة مسألة توازن داخلى، وتكيف خارجي.
لم تعد المسألة إنجاز عمل أو تحقيق منفعة.
لم تعد المسألة شكوى من ألم نفسى أو قلة فى راحة البال، تصل إلى حد الرخاوة المسماة الرفاهية.
الإشكالة الحديثة التى تواجه إنسان العصر، لتحقيق ما يسمى الصحة النفسية هى إشكالة جوهرية تبدأ بحاجته لتعريف معنى لوجود الفرد البشرى فى الظروف الجديدة، وكذلك هدف لاستمراره، وسبل بقائه، وكل هذا أصبح يحتاج إلى شكل آخر من الوعى، وشكل آخر من العلاقات، وشكل آخر من الانتاج، الصحة النفسية بمقياس الذى يجرى الآن إنما تتحقق:
ليس بدرجة التوازن الآمن، وإنما بدرجة التناسق الحركى المناسب،
وهى لا تتحقق بالخلو من الأعراض، وإنما بالقدرة على استيعاب معنى الأعراض، لإعادة تشكيلها فى قوة دفع جديدة.
وهى لا تتحقق بالسكون الآمن، وإنما بالحركة المتعددة التوجه.
***
هذه مقدمة لابد بعدها من بعض التفصيل أو التحديد، وإن كنت أشعر أن المقال كله لا يعدو أن يكون مقدمة.
وفيما يلى رؤوس مواضيع تمثل المواقف، والقيم والقياسات التى يمكن أن نعيد من خلالها النظر فى الصحة العقلية لإنسان عصر المعلومات.
أولا: يكون الانسان المعاصر صحيحا نفسيا، بقدر ما يستطيع أن يوفق بين تلقى المعلومات على وفرتها الآن، وبين تأجيل القفز إلى تسطيح العلاقات بينها، لم يعد مناسبا أن نفكر بالطريقة الخطية السببية: السبب (واحد) يؤدى إلى النتيجة (واحد) – هذا لا يحقق الصحة النفسية إلا لأطفال مدارس ضعاف العقول، وإنما تتحقق الصحة الآن، بالقدرة على تلقى عشرات المتغيرات المرتبطة بعشرات النتائج، ثم يتحمل الإنسان العادى – بقدراته الجديدة – استيعاب حركية هذه العلاقات معا، كل ذلك مع استمرار الفعل المنتج اليومى البسيط!
ثانيا: يكون الانسان المعاصر صحيحا نفسيا، بقدر ما يتعلم أن يحب نفسه بالمعنى الجديد للحب، الذى يشمل الوعى والمسئولية، وأن يصب هذا الحب لنفسه فى خير الناس دون إدعاء فروسية العطاء أو زعم التضحية، إنه الذكاء الجديد الذى يجعل المصلحة البادئة بالذات، هى هى المصلحة التى تعود على المجموع.
ثالثا: يكون الإنسان المعاصر صحيحا، بقدر ما يحافظ على مرونة الحركة بينه وبين الناس، وبينه وبين الموضوع، وليس بقدر ما يقترب من الآخرين بزعم التفانى فيهم أو حبهم أو الحاجة إليهم، ومرونة الحركة تفرضها وفرة المعلومات الحديثة، إذ لا يستطيع الإنسان أن يحيط بهذه المعلومات – باعتبارها مثيرات موضوعية – إلا إذا كانت ‘المرونة’ وليس الاقتراب هى القيمة التى تحدد نوع الادراك وحيوية المسافة.
رابعا: يكون الإنسان صحيحا نفسيا، بقدر المساحة التى يتحرك فيها، وليس بقدر الإنجاز الذى يحققه منفصلا عنه، وهذه المساحة متصلة من ناحية بمرونة الحركة، ومتصلة من ناحية أخرى بتحمل وفرة المعلومات، لدرجة تسمح بالحركة منها وبها، لا بالغرق تحتها أو بإنكارها.
وهذا كله يحتاج إلى تغيير جذرى فى طرق التعليم، وتنمية الخيال فى الواقع اليومى، وتنظيم العلاقات بشكل حيوى متجدد.
خامسا: يكون الإنسان المعاصر صحيحا نفسيا، بحسب قدرته على مواجهة قضايا التلوث، والحديث الجارى الآن يغلب عليه مفهوم تلوث البيئة، بالمخلفات، والعادم وما شابه، ولا يجرى الحديث بقدر مناسب أو كاف عن تلوث الوعى، مع أن ملوثات الوعى الحديث كثيرة، ومرعبة، ذلك لأن أى معلومة تقتصر على مخاطبة مستوى من الوعى دون الآخر، هى معلومة كالجسم الغريب، وهى ملوثة لأنها معوقة للتناغم، أو مخدرة وليست مفجرة.
سادسا: يكون الإنسان المعاصر صحيحا نفسيا، بقدر حركته فى ‘الزمن’ بالمعنى الآنى والموضوعى والممتد ‘معا’, والامتداد هنا ليس بمعنى التأجيل الآمل، أو الخيال المحتمل، وإنما بمعنى حرية التعامل مع الزمن ذهابا وجيئة، وعلى مستويات مختلفة، وهذه قيمة لم تعد خاصة بموجة حديثة فى الأدب أو الإبداع وإنما هى قيمة تصف – أو ينبغى أن تصف – الإنسان المعاصر الذى أصبح قادرا على أن يرصد ويتحرك فى الكون الأبعد، فيرحل إلى القمر ويخاطب المريخ ويرصد المشترى، وبالتالى فلابد أن يتناسب ذلك – حتى يكون الإنسان صحيحا – مع قدرة مماثلة للتحرك فى طبقات الوعى (دون تحليل تفسيرى أو فك عقلانى للرموز), وهذه الحركة فى طبقات الوعى، هى البعد العرضى لطبقات الزمن، التى كنا نتصور أنها ماض وحاضر ومستقبل، ثم ها نحن نستقبلها جميعا فى واقع الحال مع اختلاف بعد المسافة والمساحة.
سابعا: يكون الانسان المعاصر صحيحا نفسيا، بقدر ما يصبح الجنون جزءا من وجوده، وفى نفس الوقت لا ينفصل عن كل الوجود، ليقوده إلى التناثر أو التدهور، حين يحدث ذلك نكتمل به – بجنوننا – فى نفس اللحظة التى ننتصر فيها عليه، وهكذا فإن الإنسان المعاصر الصحيح إنما يكون صحيحا ليس بفرط التعقل، وإحكام ضبط الداخل، وإنما بحجم التكامل والسماح والتناوب المرن والامتداد المتعدد الحلقات.
ثامنا: يكون الإنسان المعاصر صحيحا نفسيا، بقدر ما يصاحب الموت الواقع حالا فى داخله، فالموت – بالمفهوم الأحدث – ليس سلبا كله، وليس نهاية مغلقة، وإنما هو حقيقة موضوعية آنية، وحتمية، وحين تتضح هذه الحقيقة فى وعى الإنسان المعاصر بنفس درجة وضوح الحياة، ووضوح الإنجاز المادى المحدد، ووضوح القوة السلطة، حين يحدث ذلك، تحضر ظاهرة الموت فى حجمها الموضوعى فى بؤرة الوعى، مما يعطى لكل هذه القيم معنى آخر أقوى وأبقى، مما يجعل قوة الحياة قادرة على الانتصار المتكامل، ما استمرت الحركة المبدعة.
فالإنسان – المعاصر – ومع تحقيق وجوده بقدرته على الإحاطة بالمعلومات الموضوعية المعاصرة – لا يكتمل إلا إذا أدرك وعايش كلا من الموت الشخصى، والموت الحتمى لأفراد النوع، بحجمه الموضوعى فى مكانه المناسب من الوعى الآني.
تاسعا: يكون الانسان المعاصر صحيحا نفسيا، بقدر ما يتمكن من الحفاظ على نشاطه الذهنى، ليتحمل مسئولية موسوعية المعرفة (التى لم تعد فى حاجة أن نزحم بها أدمغتنا، بعد أن وجدت لها مكانا فى الأشرطة والاسطوانات المضغوطة والممغنطة), بما يتيح فرصة حقيقية للعقل البشرى، أن يتفرغ لإعادة ترتيب المعلومات دفعا إلى التوازن الخلاق.
عاشرا: يكون الإنسان المعاصر صحيحا نفسيا، بقدر ما يرعى ما وصله من معارف كقاعدة إنطلاق إلى ما لا يعرف (الذين يؤمنون بالغيب).
حادى عشر: يكون الإنسان المعاصر صحيحا نفسيا بقدر ما يتمتع به من حرية واعية، وذلك بعد أن أتاحت وسائل الاتصال فرصا أكبر لحرية أصدق، وكل هذا أصبح تحديا حقيقيا; إذ أنه يتيح الفرصة للإنسان العادى أن ينتقل عبر عشرات الآلاف من الأميال باللعب فى بعض الأجهزة والضغط على مفاتيحها عن بعد، فالحرية هنا أصبحت فرصة رائعة للتوازن، وهى أيضا امتحان خطير للاختيار، بقدر ما هى تحد مرعب لما يصاحبها من مسئولية..