2 – من رسالة زميل شاب[1] شجاع جداَ
بدأ الزميل رسالته بذكر خبرة شخصية، عميقة، قوية، وغائرة، أضيف إليها ممارسة عامة وخاصّة (فى الطب النفسى) ثم لحقتها قراءات فى كتاباتنا بما فى ذلك هذه المجلّة. بعث إلينا الزميل الشاب بعض التساؤلات التى نورد مختارات منها مع الرّد فى ما يلى:
يتساءل الطبيب الشاب الشجاع:
إذا كان الجنون اختيارا كما ذكرتم….، فإنّه اختيار إجبارى (مجبر أخاك لا بطل)….
(و) إذا كان الدين لا يحاسب المجنون وكذلك القوانين الوضعيّة، فذلك لأن المجنون مجبر، وإذا كان هناك رأى آخر فاجب ان أعرفه.
( قد يكون) الجنون فى بدايته اجباريا، ثم ان تخف العوامل المسببة للمرض يوجد هنا الاختيار بين الاستمرار فى الجنون أو الرجوع، مع العلم بأن سيادتك ذكرتم استحالة العودة….. فإما أن يخرج (المريض) من التجربة الذهانية افضل أو أسوا، وهنا لا أفهم أفضل من ماذا أو أسوأ ماذا لأن الزمن لا يتوقف بالإنسان عند مرحلة يمكن ان نقارن فيها بالأسوأ أو بالأفضل، أنه أسوأ فى نظر الناس عن الأول، أم أفضل فى نظر الناس عن الأول.
ملحوظة: لا أفهم معنى” الاختيار بأثر رجعى”.
فنبدأ بالرد فقرة فقرة:
يا صديقنا الشاب الطبيب اليقظ:
لقد لمستّ ـ ربمّا من واقع تجربتك أكثر منه من واقع مهنتك – أصعب المناطق واكثرها إشكالا، ليس فى المرض النفسى فحسبّ وإنما فى الحياة برمتّها، وصدقنى يا أخى أنا ما ذكرت هذه المقولة (إن الجنون اختيار) أمام أحد من طلبتى، ومن الناس العاديين إلا انزعج منها ورفضها، فى حين يقبلها، ويحترمها، ويشفُى من خلالها من نقول عليهم مجانين.
وأنما أعذرهم (العاديين) وأعذرك، فنحن نشك فى اختيار الشخص العادى ونقول إنه مجبر أن يسلك هذا الطريق نتيجة لضغط الظروف، وقهر المجتمع الخ، ويمكن أن تراجع بعض رسالة الزميل أ.د أسامة الشربينى لتعرف كم وضع ثقله على المجتمع وكاد يلمح باستحالة النمو الفردى، وبدالى انه يريد أن يعفى نفسه – ويعفينا – مما أملتُه فيه يوما، ومع ذلك سوف احاول أن أوجز لك ردّى فيما يلى:
عن القول بأن المجنون يختار جنونه هو احترام لإرادة الجنون ،أكثر منه اتهام بالهرب فى الجنون.
إن الحديث عن هذا الاختيار لا يجوزإلا بعد الجنون، وكأن المريض يختار بجزء غائر منه، جزء لا يعلم عنه شيئا وقت اختياره،وقت صدور قرار الانسحاب – مش لاعب – أو الثورة المرّضيةّ – واللى عاجبه – او حتى التحطيم والتناثر ـ علىّ وعلى اعدائى – يصدر هذا الجزء القرار (بالجنون) دون أن يدرى صاحبه انّه أصدره “هكذا” ولا لماذا.
بعد تنفيذ القرار، أى بعد بداية الجنون، يطل فى دائرة الشعور العادّية هذا الجزء الذى أصدر القرار، ذلك لأنه بعد الكسر، يصبح الداخل – فى كثير من الاحوال – فى متناول الخارج، فهنا قد يدرك المجنون الجزء الاختيارى فى قراره السابق (وهذا اعنيه بتعبير: الإختيار بأثر رجعى) وهو تعبير غير دقيق، فعذرا، وقد يكون من الأفضل استعمال تعبير : الانتباه إلى حدوث سابق، (أو سبْق الاختيار).
أنه بقدر ما يعترض الطلبة (الأطباء الأصغر) والشخص العادى على هذا الرأى، يستمع لى المريض المجنون، متى ما أطمان إلى أنّ الحديث عن اختياره للحل الهروبى بالجنون هو خال من الاتهام، بل هو اقرب إلى الاحترام.
إن هذا الافتراض (أن المجنون قد اختار جنونه، أو دعنا نقول قدسبق ان اختار جنونه ثم اكتشف ذلك الان) هو السبيل إلى عمل بداية علاجية تبدا باحترام هذا الاختيار، ثم بحث أسبابه، ثم عرض اختيارات بديلة، وهذا يكشف فشل خدعة الإصرار على إعادته إلى سابق عهده (تماما) لأنه ما جُنّ إلا لأن سابق عهده هذا كان لا يطاق، فضلا عن انّه لم ينفع، وإصرار المريض أنه يريد أن يرجع كما كان، هو إصرار شريف لكنّه نابع من رعب الجنون وضياعه، أكثر من أنه ينبع من الرغبة الحقيقية فى العودة الفعلية إلى الحياة العادّية التى كانها وكأنه يقول: “لقد كنت أحسبه حلاّ لكن لا ياعم، ليت ماجرى ما كان، وسأرضى بكل ما رفضتّه بالجنون لوأمكن أن تساعدنى أن أ رجع” كما كنت” وعمل الطبيب الحاذق هو أن يلتقط هذه الرغبة فى التراجع، ولا ينميها بفرط الإخماد الدوائى، ولكن على الطبيب أن يطرح اختيارات بديلة – بالعلامة والتأهيل – اختبارات لا هى عودة إلى سجن الرتابة، ولا هى استسلام لمهرب الجنون.
وبأسلوب آخر، تعالى نتصور هذا الحوار الرمزى:
” قال: إيش رماك عالجنون؟
قال: الضياع ( العادى).
قال: إيش رجّعك للضياع؟
قال : خيبة الجنون”
فهل يرضيك ان تكون وظيفتنا أن تسهل لمرضانا طريق الاختيار بين الجنون، والضياع، والخيبة؟ ألستَ معى أن الجنون دفاع ما، وإن كان دفاعا فاشلا إلا انه فى البداية لا يبدو كذلك.
وهذا يبدو واضحا فى تساؤلك التالى:
يقال أن العصاب عملية دفاعية ضد الذهان، فالأمراض النفسية إما جنون وإما دفاع ضد الجنون(فالجنون داخلنا)، وأنا أود أن أضيف أن الجنون دفاع عن كيان الانسان..وأن الجنون ما هو إلا دفاع عن تحطم خلايا المخdefense against brain cell destruction
فنسارع لنقول:
هانت قلتها، وعلى مستوى أخطر، فما معنى تعبير” دفاع ضد” ومن الذى يدافع، ومن الذى يختار هذه المصبية الأهون من تلك، أليس هو بعضنا، داخلنا؟ هذا هو ما أعنيه بالاختيار، ثم إنّك حللت لى مشكلة بافتراضك هذا، فحين غلب علىّ الفكر القائل بأن الذى يحافظ على الحياة – على أى مستوى وعلى كامل متدرج الأحياء، إن الذى يحافظ على الحياة هوالهدف، هو المعنى، حينذاك كنت أشاهد مريضا عندى مزمنا لا يتكلّم إطلاقا إلا بضع همهمات، ولا يطلب، ولا يشارك، ولا يعمل، ولا يزعجنا فى نفس الوقت بهياج أو مقاومة صريحة، فكنت أتساءل بينى وبين نفسى، فلماذا هو مستمر، وما الذى يحافظ على وجوده حياً، وكيف وهو قد جُنّ ليحافظ على خلاياه حيّة على أى مستوى لا نعرفه، خلايا مخه أولا ثم خلايا جسده عموما، ولكن لماذا؟ ربما لأن الحياة فى ذاتها هدف رائع يستحق أن نحافظ عليه حتى بالجنون ،فشكرا.
ثم أنت تقول:
تقتلنى كلمات كبيرة مثل الديالكتيك – أزمة وجود – تطور – ولاف أعلى – حيث أننى أومن أن التعبير غير الواضح هو نتيجة لفكرة غير واضحة فى ذهن قائلها.
ونقول لك:
عذراولكن، ليكن فى علمك أنت والدكتور الشربينى وكل من يتهمنا بالغموض، أن هذه الألفاظ( الديالكتيك – التطور – الولاف الأعلى) ظهرت بعد أن عجزنا عن ممارسة محتواها فعلا تلقائيا، فرُحنا نذكر انفسنا بها بهذه الصورة غير المألوفة، واسمح لى ان أقول لك أن هذه الألفاظ تصف أساسا عمليّة حيوية أساسية لا تحتاج إلى وصف رمزى بالألفاظ والتنظير، وللأسف فكلمة مثل الديالكتيك إذا ترجمت إلى جدل مثلا تصوّرنا أننا سنتناقش حول مسألة من المسائل، ولعلمك فإن مجرد الحديث عن الديالكتيك (ناهيك عن الكتابة عنه) هو ضد الديالكتيك، فهل علمتّ من أين تأتى الصعوبة؟ إنها لا تأتى لأن الفكرة غير واضحة فى ذهن صاحبها وإنما تأتى لأن اللغة المستعملة هى تزيدّ اضطرارىّ بعد أن تشوهت مسيرتنا بالمفاهيم الاختزالية المبسترة، فأصبح كل ماهو مختزل، بمنطق حسابى يقال إنّه واضح، وأصبح كل ما يحتاج إلى استيعاب إجمالى تلقائى، يقال إنه غير واضح، فالتشويه قد ستر وعينا إلا من مقولات فكرية لم تعد تصلح إلا للسير فى المحل، فإذا وجدتّ هذا الشرح غير واضح، فاقرأه من جديد، ثم انسةْ ولسوف تكتشفه من جديد فى نفسك، لو أنّك قاومت الاستسلام لحل جاهز، ألست صاحب تجربة على قولك؟
لم يتبلور فكرى على اى اتجاه، وخاصة بعد أن تبين لى أن الذين يبحثون فى الظواهر الغامضة، أو البديهية والمبدعين والعباقرة وأصحاب نظريات التطور وكل الأطباء النفسين بما فيهم أنا بهم خبرات ذهانية جنونية. فى حين أن البشر العاديون لا يفكرون فى البديهيات (إن أكثرهم لا يعلمون/ لايعقلون).
فأرد فى انزعاج هذه المرّة قائلا:
اسمح لى يا صديقى أن أتحفظ على حكاية” كل” الأطباء النفسين هذه، ثم أسمح لى أن أتساءل عن وصفك للعاديين بأنهم لا يعقلون، فهل معنى ذلك أنكّ تقبلنا إذا تكلمنا فى البديهيات باعتبار أن هذا هو عين العقل،وأخيرا فاسمح أن أؤجّل الإجابة عن أسئلة أخرى حول كيفية معرفة أين يقع المريض أو الشخص العادى على سلم التطور، وعن تساؤلاتك عما ورد فى روايتى المشى على الصراط بجزأيها، لأن ذلك قد يطول بما لا يحتمله هذا الحيز المتاح، ولعل لنا عودة قريبة أو بعيدة حسب ما ترى.
[1] – طبيب نفسى أرسلها للدكتور سيد حفظى ليبلغها لى ولم يكن يقصد النشر فى الأغلب وقد حجبنا اسمه بالرغم منا حتى يأذن مؤكدا، كما امتفينا بمختارات محدودة من خطابه لعلها داله على شمول تساؤلاته وعمقها.